رواية غرام الذئاب الفصل السادس وعشرون 26بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل السادس وعشرون 26بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_السادس_والعشرون
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت_علي
كنتُ أظن أن الحب يثبت بالتمسك، فتمسكت حتى خنقته.
كنت أطارده بحجة الشوق، وأنا في الحقيقة أطارده بهواجسي، بخوفي، بضعفي الذي ظننته غيرة مشروعة.
كم صرخت لألفت انتباهه، وكم بكيت لأستدر حنانه، حتى أرهقته دموعي وصراخي معًا.
لم أنتبه أن الرجل حين يُرهق، لا يرحل بخطوات صاخبة، بل بصمت مهيب يشبه الموت.
ترك لي وراءه كرسي بارد، وأبوابً مغلقة، وصدى صراخي العالق بين الجدران.
أجلس الآن بين أنقاض كبريائي، أتساءل
هل كنتُ زوجته، أم كنت وجعه؟
لم يعد في يدي سوى الندم، والندم نار تأكل القلب ببطء لا يُميت ولا يُبقي.
أخاف أن أستيقظ غدًا فلا أجد في عينيه مكانًا لي، وأخاف أكثر أن أكون أنا من دفعه إلى ذلك المكان البعيد، حيث لا يعود الحب مهما ناديته.
دنيا العمري
غفا على الأريكة داخل مكتبه الفخم، وقد أرهقته الأيام الماضية حتى بات يهرب من منزله هروب الملهوف من الضجيج والضغوط النفسية.
فمنذ أيام لم يذق طعم الراحة مع زوجته ذات المزاج المتقلب، تصرخ في وجهه تارة، وتبكي بغير سبب تارة أخرى، توقظه من سباته مذعورًا، فيحسب أن مصيبة قد حلت، ليكتشف في النهاية أنها فقط تشعر بالملل، فأيقظته كي لا تبقى وحيدة.
وكانت هرمونات الحمل تلعب بأنوثتها لعب الريح بالنار، تُثيرها عاطفيًا وجسديًا في أغلب الأيام، حتى أثقلته، وشتتت ذهنه، وبات يتلمس السكينة في أي موضع بعيد عنها، ولو كان على أريكة مكتبه الباردة.
وفي صباح باكر مفعم بالريبة، تركت صغارها مع المربية، وانطلقت إلى مقر عمل زوجها، وقد امتلأ صدرها بالظنون. كانت تظن أن تغيبه يومين أو ثلاثة لا يخلو من خيانة أو سر خفي، وربما امرأة أخرى اقتطعت نصيبها من قلبه.
وما إن وطئت قدمها مكتب المساعد الخاص بزوجها، حتى اكتشفت أنه استبدله بفتاة يافعة فاتنة، رشيقة القسمات، ذات صوت ناعم ينساب في الأذن كنسمة دافئة.
رفعت الفتاة رأسها تقول بأدب مصطنع
"أهلاً وسهلاً يا فندم؟"
رمقتها دنيا بعين حادة تموج بالغيظ، وارتسم في داخلها حوار صامت ينضح بالوعيد
«بقى هي دي يا سي كنان اللي بقيت تسيبني بالأيام عشانها!، ماشي والله لأوريك»
انتبهت إلى صوت الفتاة المساعدة تسألها بنبرةٍ/ مترددة
"هل حضرتك أخدتي ميعاد قبل ما تيجي؟"
فصاحت دنيا، ترمقها بنظرات حادة كالسهم
"ميعاد مين يا بت أنتي؟!، أنا أجي وقت ما أنا عايزه، أنا مرات ولي نعمتك كنان بيه العمري"
ابتلعت الفتاة ريقها بتوتر واضح، وحمحمت بحرج قائلة
"آسفة يا فندم اعذريني، أنا أول مرة أشوف حضرتك، عن إذنك هدخل أبلغ كنان بيه بزيارتك، عشان هو من ساعة ما قاللي إنه هينام ومش عايز حد يزعجه"
اقتربت دنيا منها بخطوات متوعدة، ثم دفعتها بخفة من كتفها لتجلسها على الكرسي خلف المكتب قائلة بحدة ساخرة
"اقعدي يا حلوة يا كتكوتة مكانك كده، وأنا اللي داخلة أصحيه، مش محتاجة إذن عشان أدخل لجوزي"
رمقتها الفتاة بامتعاض مكتوم، فتركتها دنيا ودلفت إلى مكتب زوجها.
كان الكرسي خاليًا، فبحثت بعينيها المتقدتين حتى وجدته ممددًا على الأريكة الجلدية، يغفو بطمأنينة غريبة، وأزرار قميصه مفتوحة.
اقتربت منه وهمست بصوت خفيض تختلط فيه الغيرة بالعتب
"بتهرب مني عشان تيجي تنام هنا؟!، لا وكمان جايبلي حتة بت عيلة عشان تدلعك"
اتجهت نحو البراد الصغير، تناولت منه زجاجة مياه مثلجة، ثم عادت إلى ذاك النائم في أمان، فتحت الزجاجة وسكبتها على وجهه دفعة واحدة.
هب من نومه مذعورًا، وصاح بفزع
"إيه فيه إيه؟!"
مسح الماء عن وجهه وصدره، وما إن استوعب ما حدث حتى فوجئ بزوجته أمامه، فحاول أن يتمالك غضبه، لكنها سارعت لتبرير فعلتها، قائلة بابتسامة متصنعة
"معلش يا حبيبي، أصل لما دخلت عليك لاقيتك بتصوت، شكلك كنت شايف كابوس وحش، فقولت أدلق على وشك ميه عشان تصحى"
رمقها بامتعاض، وأطلق زفرة طويلة كمن يستدعي الصبر، ثم قال ببرود حانق
"إنتِ إيه اللي جابك هنا؟"
اتسعت عيناها دهشة وقالت بلهجة متصنعة للعتاب
"أخص عليك يا كينو، هو ده استقبالك ليا برضه؟!، أنا جيت أطمن عليك، بقالك يومين ما بتجيش، قولت لنفسي بت يا دنيا، روحي شقري على جوزك، ليكون تعبان ولا حاجة"
ضحك ساخرًا وهو يردد كلمتها
"تشقري؟!"
ثم رفع زاوية فمه باستهزاء وسألها
"أنتِ والولاد كويسين؟"
أجابته وهي تضم ذراعيها على صدرها
"إحنا بخير، مش ناقصنا حاجة غير وجودك، ليه بتتهرب منا وتيجي تنام هنا؟، ومين البت اللي بره وشبه البرص دي كمام؟!"
ضحك على غير إرادته وقال بصراحة ممزوجة بالسخرية
"آه أنا هربان منك ومن عمايلك معايا، ما بقتش عارف أنام ولا أقعد في هدوء في البيت، يا دوشة الولاد، يا إما كل ما تلاقيني نايم تصحيني مفزوع، وفي الآخر قال إيه هرموناتك طالبة معاكي دموع ونكد، يا طالبة معاكي حاجات تانية، والحاجات دي عايزة راحة نفسية وجسدية أنا بقيت محروم منهم من قلة النوم والراحة"
عقدت حاجبيها ثم أجهشت بالبكاء، فزفر هو بتأفف واضح قائلاً
"يوه، أهو ابتدينا وصلة النكد، أنا بتكلم معاكي بصراحة عشان دماغك ما تفسرش هروبي منك لحوار خيانة، أصل أنا فاهم دماغك"
أخرجت من حقيبتها محرمة ورقية، تمسح بها دموعها قائلة بنبرة متقطعة
"أنت خلاص ما بقيتش طايقني ومش عايزني، خلاص، أنا هريحك مني، طلقني"
مسحت سيل أنفها، وأصدرت صوتًا أثار اشمئزازه، كما أثار طلبها الأخير غضبه الكامن، فنهض صارخًا
"إنتِ فيه إيه مالك؟!، كل شوية طلقني، طلقني، بقت على لسانك على طول وكأن جوازنا لعبة في إيدك، ولما يجيلك الشوق تقولي حقك عليا يا كنان، أصلي نفسيتي زي الزفت، ما أنا نفسيتي بتبقى أزفت منك وما بتكلمش، وبستحمل مزاجك عشان مقدر إنك حامل، لكن أنا في النهاية بني آدم، وليا طاقة تحمل، وكلمة طلقني دي لو طلعت من بوقك تاني، هاطفش من الشقة والشركة، ولو دورتي عليا في الكوكب كله مش هتعرفيلي طريق نهائي"
تلعثمت بين دموعها، واقتربت منه بخطوات مرتجفة لتعانقه وهي تقول
"حقك عليا"
أبعدها برفق ووجهه ما زال متجهم، وقال بغلظة متعبة
"ممكن تسيبيني في حالي دلوقتي؟، عشان مش طايق نفسي"
ابتعدت بحرج وخجل من إعراضه عنها، ورمقته بعين دامعة متهدجة الصوت
"يعني أنا لو كنت سيلينا، كنت هتعمل معايا كده؟"
أجابها بفتور وهو يلتقط سترته
"أنتي مصرة تخرجي أسوأ ما فيا و تخليني اسمعك كلام هخليكي تكرهي نفسك و تكرهيني... بس أنا مش هعمل كده ، هاقولك على حاجة أحسن أنا ماشي في ستين داهية تاخدني، عشان ترتاحي مني علي طول"
ثم اتجه نحو مكتبه، التقط متعلقاته، أغلق أزرار قميصه بعشوائية، وما هي إلا لحظات حتى صفق الباب خلفه بقوة اهتز لها قلبها قبل الجدران.
ارتجفت من الصدمة، وسقطت على الأريكة تبكي بصدق هذه المرة، وقد غمرها يقين موجع بأنه لم يعد يحتملها بسبب تذكيره ولومه علي الماضي، وربما بدأ ينفر منها حقًا.
❈-❈-❈
تفتح عينيها في غياهب العتمة، والظلام يُطبق عليها ، لا يبدده سوى خيط ضئيل من ضوء خافت يتسلل من أعلى، فيسقط في منتصف المكان كوميض شمعة تحتضر.
حاولت أن تتحرك، فإذا بها تجد يديها وقدميها مكبلتين بأصفاد باردة ، حاولت الصراخ بعدما أدركت أن فمها مكمم، وكل ما يخرج منها ليس سوى أنين مكتوم.
وما لبثت أن سمعت صرير الباب يُفتح ببطء ليظهر في عتبة المكان رجل طالما خُيل إليها أن الشيطان استعان بملامحه يوم صاغها، وجهه المغلف بابتسامة تنضح بالشر والغرور، تلك الابتسامة التي طالما كرهتها بعمق يوازي خوفها منه.
تقدم بخطوات واثقة، وخلع قميصه ببطء متعمد، بينما نظراته تلتهمها كما تلتهم النار الهشيم
"وأخيراً يا حبيبتي، بقيتي ليا... شوفتي بقى، كان عندي حق لما قولتلك إنك بتاعتي، ومحدش في الدنيا دي يقدر يبعدك عني"
ارتعدت أوصالها، وصرخت من خلف كمامها، لكن صراخها ارتد إليها كطعنة في صدرها، تتوسل الهواء أن يحمل أنينها للخارج، دون جدوى.
أخذ يقترب منها أكثر، وملامحه تزداد وحشية كلما تقلصت المسافة بينهما، فيما جسدها ينتفض من الهلع والعجز.
و فجأة انمحى المشهد، فتحت عينيها على شهقة مبحوحة، لتدرك أن ما عاشته لم يكن سوى كابوس مرعب، وأن الجدران من حولها آمنة، التقطت أنفاسها بصعوبة، تحسست وجهها المرتجف، ووضعت يدها على صدرها تستجدي نبضها أن يهدأ.
لكنها لم تكد تلتقط أنفاسها حتى دوّى جرس الباب كصفعة من الواقع، فانتفضت واقفة والذعر ما زال يسكن عينيها.
"ماما؟... ماما؟"
نادت بصوت مرتجف، و سرعان ما أن تذكرت أن والدتها ليست في المنزل.
تقدمت نحو الباب بخطوات مترددة، وفتحته دون أن تُلقي نظرة من خلال الفتحة الزجاجية، فإذا بوجه تعرفه جيداً يقف أمامها، وجه خرج للتو من كابوسها، كأن الحلم قرر أن يتجسد لها في الحقيقة.
شهقت مرددة
"باسم!"
وحاولت أن تغلق الباب سريعاً، لكنه وضع قدمه في الفتحة ومنعها قائلاً بابتسامة ماكرة
"هي دي حمد الله على السلامة اللي المفروض تقوليها لخطيبك؟"
نظرت إليه بتوتر، تتحامي خلف الباب كأنه درعها
"عايز إيه؟، مش أنا اتنازلتلك عن القضية وانت خرجت خلاص؟"
ضحك بخفة مقيتة قائلاً
"وبالنسبة لموافقتك على جوازي منك... نسيتيها؟"
ابتلعت ريقها بصعوبة، وأدركت حجم ما تورطت فيه، لكنها حاولت أن تبدو ثابتة أمامه.
"آه وافقت... بس لسه ليا شروط، هقولك عليها"
"وناوية تقوليها لي على الباب؟"
"ماما مش هنا"
فاجأها بابتسامة ماكرة
"عارف إنها مش هنا... عشان كده جيتلك نتكلم على راحتنا"
اتسعت عيناها من جرأته، وهزت رأسها رفضاً وهي تقول بحزم مرتجف
"وأنا مش هاينفع أدخلك وهي مش موجودة"
ابتسم من جانب فمه ابتسامةً باردة
"يبقى روحي غيري هدومك وتعالي معايا نقعد في أي مكان"
"لاء، مش هاينفع"
مد يده محاولاً دفع الباب
"يبقى نتكلم جوه"
ارتعشت أطرافها، وصور الكابوس تعاودها كوميض مؤلم يلسع ذاكرتها، فصاحت بصوت مرتجف
"خلاص، خلاص، انزل إنت استناني تحت... وأنا هاروح أغير هدومي وأنزلك"
أغلقت الباب في وجهه بإحكام، وأوصدته بالقفل، أسندت رأسها إلى الخشب، تحاول أن تستعيد أنفاسها التي تسارعت كمن يهرب من موت محتوم، ثم هرولت إلى غرفتها.
وبعد قليل من الوقت...
كان ينتظرها في سيارته الفاخرة أمام المبنى، يعبث بهاتفه في انتظارها، حتى رآها تخرج من فناء العمارة بخطوات متوترة، ترتدي ثوب أحمر قاتم، وتخفي ملامحها بنظارة داكنة.
فتحت باب السيارة وجلست جواره، تنظر للأمام بصمت حذر.
أدار رأسه نحوها يتأمل ملامحها بشغف لم يُخفه، فيما هي تشعر بوخز نظراته في عنقها، فابتلعت ريقها وقالت بحدة جافة
"يلا نمشي من هنا وانجز بسرعة، عشان عايزة أرجع قبل ما ماما تيجي متلاقينيش في البيت"
ضحك بصوت خافت، وقال بلهجة مليئة بالغرور
"إنتي خارجة مع خطيبك يا فجر، مش مع حد غريب... وكلها أيام وهاتبقي مراتي"
رمقته بنظرة مقتضبة وقالت دون أن تخفي ضيقها
"طيب، ممكن تتحرك من هنا لو سمحت؟"
"حاضر"
ثم أدار المحرك وانطلقت بسيارته
❈-❈-❈
في قسم الشرطة، جلس كل من چيهان وزوجها، ومعهما قصي ومصعب، فيما وقف يونس وآدم وطه إلى جانب الجدار، يتبادلون النظرات الصامتة، بينما يوسف كان غائباً منذ يومين، كأن الأرض انشقت وابتلعته.
بينما في داخل غرفة الضابط، فكان ياسين يجلس وإلى جواره محاميه، في الجهة المقابلة يجلس رحيم متأففاً، ينظر في ساعة يده كل حين، يراقب عقاربها كمن يترقب ساعة الخلاص، منتظراً قدوم ياسمين التي أُخذت صباح اليوم لإجراء الفحوصات والكشوف والأشعة اللازمة لتأكيد حالتها الصحية.
قال المحامي بصوت رسمي رزين، وقد شبك يديه أمامه فوق المكتب
"أظن يا فندم، بعد ما أنكرت مدام رودينا إدعاء الدكتور رحيم اللي ذكره في المحضر، يبقى كده موكلي براءة"
أجابه الضابط باقتضابٍ وهو يقلب في الأوراق أمامه
"آه"
عندها التفت ياسين إلى رحيم، وحدق فيه بابتسامة استفزازية تفيض سخرية، ثم أخرج طرف لسانه في حركة طفولية مستهزئة أثارت حنق خصمه.
زفر رحيم بضيق، وهز رأسه يسأل بسأم ظاهر
"وبالنسبة لوضع أميرة؟"
رمقه ياسين بنظرة نارية وقال بغيظ مكتوم
"اسمها ياسمين، وياريت ما تنطقهاش على لسانك... لأحسن أزعلك"
رفع الضابط رأسه نحو ياسين بصرامة وقال بحدة تقطع الهواء
"شكلك مصمم تشرفنا هنا علي طول"
تدخل المحامي سريعاً بابتسامة متوترة ليهدئ الموقف قائلاً
"موكلي ما يقصدش حضرتك، هو أكيد بيهزر"
ثم مال نحو موكله هامساً بصوت خافت
"اهدى يا ياسين بيه، خلينا نخرج من هنا على خير"
وفي تلك اللحظة، دوى طرق خفيف على الباب، فقال الضابط وهو يرفع رأسه
"اتفضل"
فُتح الباب ببطء، لتطل ياسمين من خلفه، شاحبة الملامح، تتبعها الملازم أول المشرفة على الإجراءات الطبية التي أُجريت لها اليوم، تحمل بين يديها ملف ورقي أنيق.
تقدمت بخطوات واثقة وقالت باحترام مهني
"تمام يا فندم، خلصنا كل الإجراءات من فحص وكشف وأشعة، ودي التقارير الطبية عن حالة مدام ياسمين، اللي كلها بتفيد إنها فعلاً فاقدة للذاكرة"
ناولته الملف، فأخذه الضابط وبدأ يُقلب صفحاته بعناية، حتى استقر على الصفحة الأخيرة، ثم رفع رأسه وقال لكاتب المحضر بنبرة رسمية واضحة
"اكتب يا بني عندك...
بالفحص والاطلاع على التقارير الطبية الخاصة بالمذكورة/ ياسمين إسماعيل البنهاوي، تبين أنها تعاني من فقدان بالذاكرة طبقاً لما ورد بالتقرير الصادر عن الجهة الطبية المختصّة.
وبناء عليه، وعملاً بأحكام القانون، فإن الحالة المرضية للمذكورة تُعفيها من المسؤولية الجنائية في واقعة تعدد الأزواج محل البلاغ، لانتفاء القصد الجنائي لديها وقت الواقعة.
وبذلك تُعد المذكورة غير مسؤولة قانوناً عن الفعل المنسوب إليها، ويُوصى باعتبارها بريئة مما نُسب إليها، مع جواز عودتها إلى زوجها الأول السيد/ ياسين عزيز حكيم البحيري وفقاً للثابت بالأوراق"
ساد الصمت للحظات كأن الهواء نفسه امتنع عن الحركة.
تقف ياسمين وتستمع إلى ما يُقال عنها، وعيناها متسعتان بين الدهشة والذهول، تتنقلان بين الضابط ورحيم الذي كان يرمقها بنظرة مثقلة بالوجع، كأن الكلمات سكاكين تمزق صدره.
تلاقت نظراتهما للحظة خاطفة، لكنها كانت كافية لتغمر المكان كله بصمت دام؛
نظراتها اعتذار مبعثر لا يقال، ودموعها التي انحدرت رغماً عنها كانت أقوى من أي تبرير.
وهناك ياسين الذي يراقب كليهما ولم يغفل عن دموعها، ابتلع ما يراه في صمت لاسيما بعد أن استمع إلي قول الضابط عن إخلاء سبيله هو أيضاً.
"اتفضلوا، كل واحد فيكم يمضي هنا"
وما إن انتهيا من التوقيع، حتى التفت ياسين نحو الضابط وقال بنبرة ماكرة
"ممكن بعد إذن حضرتك آخد صورة مع المدام بالمناسبة السعيدة دي؟"
رمقته ياسمين بدهشة لا تخلو من الامتعاض، بينما أجابه الضابط بابتسامة روتينية
"اتفضل، وألف مبروك عليك رجوع المدام"
قال ياسين بابتسامة مصطنعة
"الله يبارك في حضرتك يا فندم"
ثم استدار نحو ياسمين وجذبها من يدها برفق متعمد، وأخرج هاتفه وفتح الكاميرا الأمامية على وضع التصوير، رفعه قليلاً وهو يلتفت بنصف وجهه نحو رحيم بنظرة جانبية تحمل كل ما في الدنيا من تحد واستفزاز، ثم احتضنها بذراعه وقال بنغمة لاهية، والدهاء يقطر من كلماته:
"يلا يا ياسمينتي، ناخد واحدة سيلفي بوز الأخص"
و نظر إلي رحيم المقصود بالكلمة الأخيرة ثم عاد ينظر إلي شاشة الهاتف و ألتقط الصورة الثنائية.
❈-❈-❈
تجلس على ضفاف النيل، وهو يلتزم الصمت، يمعن النظر فيها كما يمعن العاشق في صورة لنجم تاه عن سمائه، يُرغم نفسه على حفظ تفاصيل وجهها.
تهز قدمها تحت المنضدة ، فإذا بقدميه تستديران، لتحاصران قدمها، فتقشعر أوصالها وترتجف.
"إيه اللي إنت بتعمله ده يا باسم؟!، ابعد رجليك عني"
نادت بصوت منخفض، تكتمه خشية أن ينتبه لها أحد من حولهما .
ضحك هو بوقاحة وقال لها
"إنتي يا فيجو من ساعة ما قعدنا ما نطقتيش كلمة، وقاعدة تهزي رجلك كده ليه؟، مش قولتي موافقة على جوازي منك لكن بشروط؟، قبل ما أسمع الشروط، قوليلي إيه اللي غير رأيك بعد ما كنتِ رافضاني وبعدتي عني... غير اللي عملته فيكي لما حاولت أقتلك؟، ليه وافقتِ على عرض بابا؟"
رمقته بامتعاض، وفي صدرها سبب عميق لا تقدر أن تبوح به، فأجابت بحدة تخفي خلفها توترها
"مش أنت كنت عايز كده؟، بتسأل ليه؟"
ابتسم بسخرية واخبرها
"لأني عارفك وحافظك كويس... ولما بتعملي حاجة عكس رغبتك يبقى فيه سبب تاني دفعك لكده"
اقترب بجذعه وحدق صوب عينيها يسألها
"مش ممكن تكوني وافقتي تتجوزيني علشان تنتقمي مني؟"
تجمدت لوهلة كمن تلامس جمر سؤال مفخخ، عقبت الكلمات من فمها كصفعة باردة
"وهانتقم منك ليه؟، إزاي عايزة أؤذيك وأنا اللي داخلة النار برجليا؟!، لو كنت عايزة أانتقم منك كنت سيبتك تتعفن في السجن"
شقت ثغره ابتسامة بالغة فقال بنبرة غارقة في الدلال
"طول عمرك قلبك حنين يا فيجو يا حبيبتي، غير أني واثق أنك بتحبيني زي ما أنا بحبك و بموت فيكي"
زفرت بضجر يختلط فيه التعب بالخوف، قالت بلهجة قاطعة
"ممكن تخليني أقولك الكلمتين اللي عايزة أقولهم لك عشان ألحق أرجع قبل ما ماما تيجي وماتلاقينيش؟"
رد دون تردد وهو يمد أذنه
"اتفضلي قولي، سامعك"
ترددت ثم نطقت بهدوء فيه وقار من توازن وحسم
"شرطي الأول هاكمل دراستي لحد ما أتخرج وأشتغل"
ارتسم التعجب علي ملامح وجهه، فقال مُداعباً
"موافق... ما أنا معاك في نفس الدفعة، يعني هنذاكر مع بعض، والشغل في شركات بابا موجود... اقترحي بس على أي فرع وهاخليهم يعينوك مديرة المكان، وأنا طبعاً معاكي"
غمز بعينه، في حين تجاهلت هي رعونته واكتفت بالبُعد عن التباهي
"لاء، هاشتغل في مكان بعيد عن شركات والدك، أنا بحب أعتمد على نفسي"
تغيرت تعابير وجهه؛ تنهد وقال
"ربنا يسهل، سيبيها لوقتها، ها وإيه تاني؟"
"جوازنا يبقي علي ورق، يعني كل اللي هايبقي بيني و بينك كل ود واحترام"
ألقت كلماتها وانتظرت رد فعله، لا سيما بعد أن ظل ينظر إليها في صمت و لا تدرك ما الذي يفكر فيه، تتوقع أن يرفض أو يثور، لكن رد فعله كان مفاجئاً، اعتدل في جلسته واستند بذراعيه علي الطاولة ليخبرها
"موافق"
رمقته بتعجب، فامسك بيدها وقام بتقبيل ظهر كفها واردف
"كفاية إنك هاتكوني مراتي، هاننام و نصحي علي وش بعض، وهاكون معاكي زي ضلك، وبابنا مقفول علينا"
واختتم حديثه بابتسامة جعلت قلبها يرتجف، فهي تخشي مضمون كلماته.
❈-❈-❈
وقف الجميع أمام قسم الشرطة،
اقتربت السيدة چيهان من ياسمين بخطوات يغلفها الحنان، واحتضنتها بحرارة أم طال فراق ابنتها، وقالت بصوت يقطر مودة
"حمد الله على سلامتك يا حبيبتي، وأهلاً برجوعك للعيلة من جديد"
ابتسمت ياسمين بخجل خفيف، وردت بصوت متردد
"تسلمي حضرتك"
ضحكت الأخرى وقالت وهي تمسح على ذراعها برفق
"إيه حضرتي دي؟!، ناديني زي زمان، يا ماما چيچي... أو حتى چيچي بس"
هزت ياسمين رأسها موافقة
"حاضر"
لكن عينيها لم تلبثا أن انزلقتا ناحية رحيم، الذي وقف على مقربة منها، يُلقي نحوها نظرة طويلة، تفيض بوداع مؤلم، كأنها ختام فصل لن يُعاد.
أحست بتلك النظرة تخترق سكونها، فابتلعت غصتها وتوجهت نحو ياسين الذي كان يدير حديثاً جاد مع أشقائه، وظهره مواجه لها.
قالت بصوت متردد
"ياسين... لحظة من فضلك"
استدار نحوها سريعاً، وامتدت يده تلقائياً نحو يدها، ممسك بها بحنو ممزوج بغيرة حادة
"إيه يا روحي؟، مالك؟"
تلعثمت الكلمات على شفتيها، ثم تمتمت بهدوء حذر
"بعد إذنك... ممكن أروح أتكلم مع رحيم؟، والله هاتكون آخر مرة"
حدق فيها بتمعن ثم حول بصره إلى رحيم الذي كان يتحدث في هاتفه، وعاد إليها بنظرة مشتعلة
"لاء... وكلمة كمان هاروح أسويلك وشه بالأسفلت"
نظرت إليه برجاء واضح، وصوتها يتهدج برجفة خافتة
"عشان خاطري... دي أول مرة أطلب منك طلب"
كانت والدته تقف قريباً منهمت تتابع المشهد بعين الأم الحكيمة، فتنفست بعمق وتدخلت بهدوء وحزم
"ياسين، سيبها تروح تكلمه، إحنا واقفين قدام القسم وكلنا هنا، يعني مش هياكلها"
جز على أسنانه وهو يشيح بوجهه غاضباً
"إيه تروح تكلمه دي!؟، شايفاني رافع قرون ولا لابس حلق؟!"
رفعت السيدة چيهان حاجبها بنظرة صارمة وقالت بنبرة لا تُخالف
"ولد، أنا أمك، واللي أؤمرك بيه تنفذوا علي طول، اعملها اللي هي عايزاه"
تنهد ياسين بضجر شديد وأطلق زفرة طويلة، ثم نظر إلى ياسمين بنفور مكتوم
"غوري يلا، دقيقتين بس، دقيقتين وثانية هتلاقيني جرك قدامه زي المعزة"
صرخت فيه والدته
"لم لسانك يا ياسين أحسنلك، بدل ما آخدها منك وأخليها تعيش عندي هي والبنت"
صمت المكان لحظة، كأن الزمن انحنى احتراماً لتلك الأم التي ما زالت تملك سلطة الكلمة.
بينما تقدمت ياسمين بخطوات خجولة نحو رحيم الذي أنهى مكالمته فور أن لمحها تقترب.
وقفت أمامه وقد انعكست على وجهها ملامح التردد والحزن، بينما في الخلف كان ياسين يستند على السيارة، ذراعاه معقودتان أمام صدره، يرمق المشهد بحدة صقر يراقب فريسته.
قالت ياسمين بصوت متهدج تغلفه المروءة
"أنا حبيت أشكرك على كل حاجة قدمتهالي... وعلى وقفتك جنبي... عمري ما هنسى مشاعرك ولا الأيام اللي جمعتنا، بس اللي بنتمناه حاجة... والواقع حاجة تانية للأسف"
خفض رحيم رأسه، كأنما الكلمات طعنة يعرف أنها قادمة، ثم رفع عينيه نحوها وقال
"وأنا عمري ما هنسى أي لحظة عيشتها معاكي... هتفضلي جوا قلبي أميرة... البنت الجميلة اللي القدر جابهالي وخدها مني... هحاول أتقبل اللي حصل... بس هتفضلي في نظري أميرة اللي عرفتها... خدي بالك من نفسك"
نظرت إليه بأسف، رفعت يدها ببطء، وخلعت الخاتم والسوار والقلادة، وقد انزلقت الحُلي من أصابعها كدمعة ثقيلة ، مدت إليه يدها وقالت بهدوء
"اتفضل شبكتك... أظن خلاص ما بقتش من حقي"
مد يده إليها، لكنه لم يأخذها، بل وضع كفه على يدها وربت عليها بحنان مؤلم وقال مبتسما بمرارة
"دي هدية مني ليكي... والهدية لا تُرد، ولا إيه؟"
وما إن أنهى كلماته حتى ظهر ياسين فجأة كالعاصفة التي تقتلع ما أمامها. جذب يد زوجته بعنف وهو يقول بصوت جافٍ يقطر غيرة وغضب
"ابعد إيدك عنها لتوحشك، و خد حاجتك، مش عايزين من وشك حاجة يا روح خالتك، مراتي الدهب والماس كله تحت رجلها... بس من فلوس جوزها اللي هو أنا!"
ثم ألقى بالحُلي أسفل قدمي رحيم، وتابع بسخرية لاذعة
"خدهم واديهم للعروسة اللي أمك تختارهالك... ونصيحة مني متختارش بنفسك تاني... أصل اختياراتك كلها مدمرة حياتك"
التفت نحو زوجته التي وقفت مذهولة، كأنها فقدت النطق، وقال لها بصرامة يدفعها أمامه بحنق
"يلا قدامي على العربية"
❈-❈-❈
انطلقت السيارات في طريق القصر، وفي داخل سيارة ياسين، يغني ويدندن بسعادة، وهي تجلس بجانبه تبكي في صمت .
رمقها بطرف عينه قائلاً لها بسخرية حادة
"أنا شايف الفرحة مش سايعاكي، أخيراً رجعتي لحضن جوزك حبيبك"
مد ذراعه حول ظهرها محاولة للاحتواء والسيطرة معاً؛ فدفعته بعيدًا بيد مرتجفة، قبل أن تتفوه كلمة كان من شأنها أن تثير فتيل المواجهة.
و إذا بسيارة رحيم تسير خلفهما، فأطلق ياسين سبة بذيئة، فشهقت ياسمين ورمقته بازدراء.
فقال بوعيد
"هو الواد ده مش ناوي يجيبها لبر، ولا هو مهزأ وعايز يتعمل معاه الصح؟!"
ثم مال على التابلوه وفتح درج السيارة؛ ظهر السلاح الناري ، صاحت ياسمين وتمسكت بيده برجاء ملؤه الخوف
"ارجوك بلاش، إحنا خلاص مروحين، وهو في حاله و إحنا في حالنا"
رفع حاجبيه بتعجب ساخط وسألها بنبرة خشنة
"للدرجدي خايفة عليه؟!، اتعدلي يا بت بدل ما أعدلك، أنا ساكتلك من الصبح وبعديلك بمزاجي"
"أنا مش خايفة على حد، بس مش هسمحلك تأذي حد أو تأذي نفسك"
تلعثم للحظة ثم تظاهر بالهدوء وهو يبرر فعلته
"لا والله، وأنا المفروض أصدقك كده بقي؟!، أنا أصلاً مكنتش هاخد المسدس، أنا حاطط فلاشه كنت هاخدها"
أمسك قرص صلب ووضعه في المسجل، ثم ضغط على زر في لوحة التحكم؛ فانخفض سقف السيارة وأصبحت مكشوفة.
خفض السرعة حتى صار على مستوى سيارة رحيم بالتوازي، فصدحت الموسيقى في الفضاء، وبدأ ياسين بالغناء بصوت مدو لإغاظة غريمه، وهو يهتف بكبرياء
"اللي أنت نفسك تعمله ياض .. أنا عملته وبطلته... واللي أنت لسه في أوله ياض .. أنا خلصته وقفلته... والحلم اللي أنت بتحلمه ياض .. قبل ما أحلمه حققته...
أنا مين أنا بابا... على مين مش على بابا
أنا مين ياض .. أنا بابا... على مين مش علي بابا"
نظر بين حين وآخر إلى رحيم ثم إلى ياسمين؛ كانت ترمقه بامتعاض من جنانه، فيكون رده عناق وقُبلة على خدها، فتدفعه عنها ليفعلها معها من جديد.
واصل المشهد حتى وصلوا أمام بوابة القصر، قبل أن يعبر سيارته إلى الداخل، ألقت ياسمين نظرة أخيرة من النافذة على رحيم، الذي وقف يرمقها بنظرة وداع ؛ فإذا بزجاج السيارة يعلو وحجب الرؤية، و انتبهت إلي صوت ياسين، يأمرها بحدة
"بصي قدامك لأزعلك"
فتحت باب السيارة دون تردد ونزلت، وتركت خلفها صدى من خطوات سريع تندفع نحو القصر.
هب ياسين من مكانه وأمر أحد الحراس أن يأخذ السيارة ويقودها إلى المرآب؛ وهو يحاول أن يتحكم بغضبه المتوهج.
بينما ياسمين خطواتها أسرع، تتهرب منه فإذا به قد لحق بها، يمسك يدها ويجذبها إلى الوراء قائلاً بحدة وغضب كامن
"ابقي كرري اللي عملتيه ده تاني، وشوفي هاعمل معاكي إيه"
سألته بسخرية
"هاتعمل إيه؟، هاتضربني؟!"
ضحك بتهكم لاذع كأنها رغبة في إذلال لا يعرف الحدود
"فيه حاجات تانية غير الضرب أحسن بكتير، هاتعرفيها بنفسك، فياريت تبقي هادية وعاقلة واللي أقولك عليه تنفذيه من غير أوف وهوف، وبلاش بوز البومة اللي انتي ضربهولي من وقت ما كنا في القسم، ابتسمي، العيلة مستنينا جوه"
❈-❈-❈
كان الجميع ينتظر قدومهما بشغف ممزوج بالترحاب؛ فحين عبرا العتبة، استقبلتهما القلوب قبل الأعين، وتعانقت العبارات . غمرت القصر موجة من الحفاوة والتهنئة، تماوجت فيها الأصوات وضحكات الأقاء وزوجاتهم، وامتزجت فيها رائحة العطور بالدفء العائلي.
كانت ياسمين تشعر بتوتر خفيف يتسلل إلى أوصالها، فمدت يدها دون وعي نحو ياسين، تُمسك بيده كمن يبحث عن الأمان، أحس بلمستها فارتسمت على شفتيه ابتسامة خبأها في طيات ملامحه حتى لا تنتبه، فتسحب يدها من خاصته وتعيد المسافة بينهما.
اقتربت السيدة چيهان بخطوات رشيقة ووجه يفيض بالسرور، وقالت بصوت مفعم بالحيوية
"تعالي بقى لما اعرفك على العيلة واحد واحد"
وأشارت بيدها نحو رجل وقور يجلس إلى مقعد فخم في صدر المكان
"ده عابد جوزي، وبابا صبا مرات قصي، أخو ياسين الكبير"
ابتسمت ياسمين بأدب ظاهر وقالت بنغمة مهذبة
"أهلاً وسهلاً بحضرتك"
ثم التفتت إلى صبا وقصي اللذين تقدما نحوها بابتسامات ودودة، فقال قصي بنبرة عميقة يغلب عليها الود
"حمد الله على السلامة يا ياسمين"
بادلتهم التحية بابتسامة، لا تزال تحتفظ بظل الحذر، لكن دفء الموقف لم يمهلها وقتًا للتفكير، إذا شعرت فجأة بشيء خفيف يجذب طرف ثوبها من الأسفل.
نظرت إلى الأرض، فوجدت طفلة صغيرة ذات ملامح ملائكية وعيون واسعة كنجوم الشتاء تقول ببراءة محببة
"وأنا زينب، بنت بابي قصي ومامي صبا، وأخويا مالك اللي قاعد جمب جدو عابد"
ابتسمت ياسمين بصفاء عفوي ودنت من الصغيرة تمسح على شعرها الحريري قائلة بلطف أمومي
"إنتي قمر أوي يا زينب، ما شاء الله عليكي"
وفي تلك اللحظة تقدمت شيماء بخفة ومرح تعرف به، وقالت بصوت مرح تُغلفه العفوية
"وأنا شيماء، مرات طه ابن عم جوزك، طبعاً انتي يا عيني ناسية كل حاجة، بس هاتفتكريني... ده إحنا ياما عملنا مع بعض أحلى أكل، وحلل المحاشي تشهد علينا"
تعلو الضحكات أرجاء القاعة، وابتسمت ياسمين بخجل لطيف وقالت وهي تضحك بدورها
"أهلاً بيكي يا شيماء"
وتتابع الحضور بعد ذلك في التعريف بأنفسهم والترحيب بها، وفي خضم هذا الازدحام من الوجوه والأحاديث، مالت السيدة چيهان نحو ابنها ياسين وهمست له بصوت خفيض لا يسمعه سواهما
"اطلع جيبلها البنت بنفسك، واعملها للبنت مفاجأة... خليها تسامحك وتتحسن علاقتكم"
❈-❈-❈
نفذ أمر والدته بصدر رحب، وقد بدت عليه ملامح الامتثال الممزوج بالرهبة والرجاء.
صعد إلى الطابق الأعلى بخطى متئدة، هناك لمح سميرة تفتح الباب وتخرج من الغرفة حاملة كوب عصير يبدو أن الصغيرة قد رفضت أن تتذوقه، وقد ارتسمت على وجهها أمارات الحرج.
تناول الكوب منها في هدوء وأشار لها أن لا تُصدر صوتاً، ثم ولج الغرفة وأغلق الباب خلفه، فوقع بصره على صغيرته الغارقة في عالمها الصغير، ترسم وتلون، وكأنها تُفرغ وجعها على الورق.
حمحم بخفوت ووضع كأس العصير على المنضدة
"ممكن أقعد معاكي؟"
من دون أن تلتفت إليه، جاء صوتها الصغير حاداً كخنجر من براءة مجروحة
"لأ، مش عايزة أكلمك."
اقترب منها بخطوات بطيئة وجلس جوارها، محاولاً أن يخترق أسوار الصمت التي شيدتها بينهما
"أنا عارف إنك زعلانة مني، وعندِك حق، عشان كده جاي أقولك... حقك عليا يا قلب بابي... وهاعملك اللي نفسك فيه دايماً"
لم ترفع عينيها، وما زالت تُمسك القلم وتلوّن
"مش عايزة أي حاجة، غير إن نفسي مامي ترجع، وأعيش معاها هي وبس... لكن إنت لاء، ورودينا لاء... مش بحبكم"
كانت كلماتها سهام نافذة إلى صدره، طعنت فؤاده فارتج لها كيانه.
لعن رودينا في سره ألف مرة، لما جلبته من آلام لابنته البريئة، ثم ابتلع غصته وسألها بنبرة حانية مغلفة بالرجاء
"ولو جيبتلك مامي... هتسامحيني؟"
رفعت رأسها نحوه، في نظرة امتزج فيها الامتعاض بالحيرة
"هتجيبها إزاي وهي راحت عند ربنا!، واللي بيروح عند ربنا مش بيرجع تاني"
ابتسم بوجع مكتوم، ونهض يمد يده إليها قائلاً
"هاتي إيدك وتعالي معايا، عاملك مفاجأة"
ترددت، تطالع كفه كأنها تقرأ فيه صدق نيته، فتلطف صوته وأردف
"عشان خاطري... مش أنا بابي حبيبك، وإنتِ ياسمينا حبيبتي وروحي؟"
عقدت حاجبيها الطفوليين وقالت في وجوم أعمق من عمرها
"إنت بتحب رودينا بس، ومكنتش بتسأل فيا، وبتسيبني لوحدي كتير... عشان ما بقتش بتحبني"
كادت دموعه تفضحه، لكنه تماسك، جلس على ركبتيه أمامها، احتواها بين ذراعيه بحنو يائس، وقبل رأسها، ثم ربت على ظهرها يخبرها
"أنا عمري ما حبيت حد غير مامتك وإنتِ، أنتم حياتي كلها، ومقدرش أعيش من غيركم، أي كلام رودينا قالته غلط، دي واحدة شريرة ووحشة، كانت بتأذّيني وبتأذيكي"
أبعدت جسدها الصغير عن صدره، وحدقت فيه بعينين متسائلتين تومضان بذكاء فطري قاطع
"ولما هي شريرة ووحشة... اتجوزتها ليه؟"
رغم حزنه، ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة تنزف الكثير من الآلام
"كانت غلطة... والحمد لله صلحتها بسرعة... مفيش رودينا تاني... أنا طلقتها"
تهلل وجه الصغيرة بفرحة خافتة، وسألته مجدداً
"يعني هنعيش مع بعض تاني أنا وإنت بس؟"
أجابها، وهو يمرر يده على شعرها بلطف حنان غادق
"أنا وإنتِ... وفيه حد تالت رجع مكانه"
رفعت حاجبيها بدهشة ولهفة وقلق في آن واحد ، سألته
"مين؟"
ابتسامة غامضة انبلجت علي شفتيه
"ما أنا قولتلك عاملك مفاجأة... بس قبل ما ننزل عايز حضن كبير... وبوسة على خدي اللي كنتِ بتصحيني بيها كل يوم إنتِ ومامي"
أطبقت ذراعيها حول عنقه، قبلته على خده الأيمن ثم الأيسر قائلةً بعفوية بريئة
"دي بتاعتي... ودي بتاعت مامي، هديهالك بدالها"
ضحك بعينين دامعتين، وهمس كمن يبوح بوعد دفين
"أنا كده كده هاخدها منها هي... وحاجات كتير كمان"
نظرت إليه باستفهام غاف على براءتها، فربت على شعرها قائلاً
"ما تاخديش في بالك يا حبيبتي... تعالي عشان سايب المفاجأة تحت مع طنط شيماء... زمانها كلت دماغها من الرغي"
ضحكت الصغيرة، وأمسكت بيده في ثقة ودفء، وهي تقول بحماس طفولي صادق
"يلا بينا"
فتشابكت أيديهما في صمت عذب، كأن القدر أراد أن يمنحهما لحظة من النقاء، قبل أن يشرعا معاً في نزول الدرج الذي يحمل في نهايته مفاجأة قد تُعيد إلى قلب الصغيرة الحياة من جديد بعد أن فقدتها منذ رحيل والدتها.
❈-❈-❈
كانت ياسمين تجلس في صمت بين ملك وشيماء، تلك التي لم تفارقها رغبة الفضول، تهمس إليها بنغمة تنضح بالمكر اللطيف
"ألا قوليلي يا حبيبتي... الدكتور المز اللي جه هنا ده عرفتيه منين؟، وإزاي وهو ما يعرفش عنك حاجة اتجوزك بسرعة كده؟"
رفعت ملك بصرها إليها بحدة خافتة، وبتحذير قالت لها
"شيماء... اهدي عليها شوية، من ساعة ما قعدت جنبك وإنتِ هارياها أسئلة"
ضحكت شيماء وقالت وهي تلوح بيدها بإهمال محبب
"يا بنتي أنا بدردش معاها بس... عشان تاخد علينا، يمكن ذاكرتها تتحرك وترجع تاني"
هزت ملك رأسها في ضجر واضح، بينما ياسمين بقيت غارقة في صمت حائر، تحدق في الفراغ بعينين تائهتين، كأنها تبحث عن نفسها في وجه لا تعرفه.
لم تكن تكترث بما يُقال من حولها، فكل ما أرادته هو أن تهرب... تهرب من تلك العيون التي تحدق فيها بفضول لا يرحم.
هيهات وانتبهت إلي صوت مألوف اخترق شرودها، صوت ياسين وضحكاتُ صغيرته التي تهبط معه على الدرج بمرح .
التفتت الأنظار نحوهما، بينما كان هو ينزل بخطوات مفعمة بالحنان، يمسك بكف طفلته التي تتعلق به كأنها تخشى أن تضيعه مرة أخرى.
توقف أسفل الدرج، ثم انحنى نحو الصغيرة مبتسماً، وأشار بيده إلى الجهة التي تجلس فيها ياسمين، قائلاً بنبرة مفعمة بالإثارة والدفء
"المفاجأة قاعدة أهي ما بين عمتو ملك وخالتو شيماء"
اتبعت الصغيرة إشارة والدها بعينيها اللامعتين، وما إن وقع بصرها على وجه ياسمين حتى اتسعت حدقتاها بدهشة بريئة، فها هو حلمها يتحقق و يتجسّد أمامها فجأة.
صرخت بفرحة غامرة، اخترقت سكون القصر
"مامااا!"
دوت الكلمة في المكان كالجرس ارتجت له القلوب قبل الجدران.
تجمدت ياسمين في موضعها، كأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة، بينما دمعة مرتعشة انسابت على خدها بلا إرادة.
كانت تلك الصرخة الصغيرة كأنها مفاتيح الذاكرة، ذاكرة قلبها تطرق أبواب النسيان بعنف لتوقظ مشاعر الأمومة لديها من بين الركام....
يتبع...
لا تنسوا التفاعل و مروركم الطيب بتعليقاتكم الرائعة و دمتم في أمان و خير
تحياتي🌹🌹
يتبع..
جاري كتابة الفصل الجديد للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا