رواية ليتني لم أحبك الفصل الثامن 8 بقلم الكاتبة شهد الشورى حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية ليتني لم أحبك الفصل الثامن 8 بقلم الكاتبة شهد الشورى حصريه في مدونة قصر الروايات
الفصل الثامن
صلوا على الحبيب المصطفى 🩷 ✨
__________
توقف سيف أمام بناية منزل ديما، بعد يوم طويل ومُرهق قضياه في القاهرة. أخيرًا وصلا، وقد نجح بصعوبة في تهدئة بكائها قبل أن تصعد إلى منزلها، استدارت نحوه، وعيناها لا تزالان محمرتين من الدموع، وصوتها متحشرج ممتن:
ـ شكرًا إنك فضلت معايا النهاردة يا سيف
ابتسم سيف ابتسامة صغيرة، دافئة، وقال بنبرة هادئة:
ـ مفيش كلمة شكر بينا يا ديما... واللي عملته كان لازم يتعمل، ارتاحي، ومتفكريش في اللي حصل، وركزي في مستقبلك
أومأت له بابتسامة باهتة، ثم استدارت وصعدت درجات السلم ببطء. تنهد سيف بحرارة، ونظر نحو السماء لثوانٍ، كأنها تشاركه الهم، ثم غادر إلى منزله، حيث يسكن مع والديه في أحد الأحياء البسيطة والهادئة !!!!
.......
طرقت ديما باب الشقة، وما إن فتحته والدتها، حتى تجمدت في مكانها، القلق والخوف يرتسمان على وجهها، نظرت إلى ابنتها بحالة يُرثى لها، وجه شاحب، وعيون حمراء من فرط البكاء !!!!
سألتها زينب بقلق بالغ :
ـ مالك يا ديما؟ إيه اللي حصل؟
لم تجبها، بل دخلت إلى الداخل بصمت وجلست على الأريكة في وسط الصالة، ثم نظرت إلى والدتها بعينين غارقتين بالدموع وقالت بصوت مبحوح:
ـ أنا... أنا روحت قصر الزيني
توسعت عينا زينب في صدمة، لم تتوقع ما سمعته، قبل أن تستمع إلى ابنتها تُكمل كلماتها بانهيار:
ـ عرفت... عرفت اللي مكنتيش عاوزاني أعرفه، كان عندك حق يا ماما، كان عندك حق، البعد عنهم راحة، عرفت كل حاجة حصلت زمان، عرفت إن أبويا اتخلى عني، لأنه مكنش عنده الجرأة يدافع عن اللي حبها... مكنش عنده الشجاعة يقف جنب بنته، هو السبب... وجدي السبب... أخويا بيكرهني، وجدتي؟ جدتي مكنتش عاوزاني أجي الدنيا أصلاً، هو استسهل، واختار يريح دماغهؤ مراته كانت بتطردني من بيت المفروض إنه بيتي، زي ما هو بيت ابنها... اللي هو أخويا؟ أخويا طردني كمان يا ماما... وأبويا فضل ساكت، مدافعش عني، ولا حتى قال كلمة...!!!!
جلست زينب على المقعد خلفها، والدموع تغلبها، ترى ابنتها تنهار أمامها ولا تقوى على منع الألم عنها، سألتها بصوت مليء بالحزن والانكسار :
ـ ليه عملتي كده يا ديما؟
رفعت ديما رأسها، والدموع تفيض من عينيها، وقالت بصوت متحشرج يقطعه البكاء:
ـ كان لازم... كان لازم أبطل أديهم مبررات لبُعدهم، كان لازم أعرف الحقيقة عشان أرتاح
سألتها زينب بحزنٍ دفين :
ـ ودلوقتي؟ ارتاحتي؟
أومأت لها ديما برأسها، ثم مسحت دموعها بظهر يدها، وقالت بنبرة حاسمة رغم الألم:
ـ على الأقل مش هافضل أدي مبررات لناس ميستهلوش... ارتاحت؟ مرتحتش؟ مش هتفرق معايا في حاجة عندك حق يا ماما، البُعد عنهم راحة وعيشتنا هنا... أرحم بكتير من العيشة في قصر مع ناس زيهم أول وآخر مرة رجلي تخطي فيها القصر ده كانت النهارده... ومش هتتكرر تاني من هنا ورايح، إحنا مش هنحتاج ليهم في حاجة
اقتربت زينب من ابنتها، واحتضنتها بقوة، فتشبثت بها ديما وكأنها تغرق وتجد النجاة بين ذراعي والدتها بكت من جديد، ولكن هذه المرة، كان بكاء فيه راحة، فيه تنفيس عن سنوات من الظلم والقهر
قادتها زينب إلى غرفتها، لتنام ديما بين أحضان والدتها الحنونة، وداخلها تصميم لا يهتز لن تحتاجهم بعد الآن، يكفيها قلب أمها... التي لن تسمح لأي أحد أن يكسرها مجددًا
............
ارتمت جيانا على فراشها، تنظر إلى سقف الغرفة بشرود، زفرة طويلة خرجت من صدرها وكأنها تحمل ثِقل ما علق في روحها، المشاكل تتوالى واحدة تلو الأخرى، وعقلها غارق في فوضى لا تنتهي. تشعر بالخذلان، بالعجز، لا تعرف ماذا تفعل ولا كيف تُنهي هذا الصراع الداخلي، أغمضت عينيها، وفي لحظة اجتاحت ذاكرتها مشاهد لم يمضِ عليها الكثير... مشاجرتها الأخيرة مع جدها بسبب....فريد !!!!!
عودة لليوم الذي جاء فيه جدها للاسكندرية ورأى فريد
صعدت ودخلت الغرفة خلف جدها كما طلب منها، وما إن أغلقت الباب خلفها حتى هدر صوته بحدة:
ـ فريد بيعمل إيه هنا يا جيانا؟!
تنهدت بعمق، تحاول لملمة شتات أفكارها، ثم قصت عليه كل ما جرى، واختتمت كلماتها بنبرة موجعة هزت قلبه:
ـ قبل ما تلوم وتعاتب زي كل مرة سيرة الموضوع ده بتتفتح فيها، أرجوك يا جدي... أنا مش متحملة كفاية سبع سنين لوم وعتاب هتقولي زي كل مرة أنا حذرتك... وهقولك كنت ساذجة وغبية مفيش حد بيتعلم ببلاش، واديني اتعلمت !!
أغمضت عينيها وجلست على حافة الفراش، صوتها انكسر، وذاكرتها أعادت سرد سبع سنوات من العتاب المتكرر !!
سبع سنوات حاولت خلالها النسيان، لكنها لم تستطع تذكرت تلك الليلة، لم تبكي، لم تصرخ، لم تشتكي... فقط ضحكت !!!
نظرت له، ثم انفجرت ضاحكة، تتذكر كيف كان ينظر إليها بدهشة، كأنه كان ينتظر انهيارها، لكن رد فعلها خالف كل توقعاته !!!!
اقترب عز منها، جلس بجانبها على الفراش، وقال بهدوء:
ـ مين قال إنك اتعلمتي؟ ها؟ قوليلي اتعلمتي إيه؟ بالعكس... أنا شايف حفيدتي بتطفي يوم بعد يوم. عنيكي فيها حزن ما بيختفيش وقفتي حياتك عليه، ضيعتي سبع سنين من عمرك في شغل وبس، وهو؟ هو كمل حياته، وبيجهز نفسه للجواز
تنهد، ثم حاوط وجهها بكفه بحنان وقال بصوت أكثر دفئًا:
ـ جيانا حبيبتي، لازم تعرفي قيمة نفسك، مش كل علاقة تنتهي تكتئبي وتعيشي في الحزن ومش أي حد يخرج من حياتك تعتبريه خسارة في ناس ماكنتش تستاهل تدخل حياتنا أصلاً، وخروجهم بيكون نعمة، خلي كلامي ده في بالك دايمًا الحياة لسه قدامك طويلة، وهتشوفي كتير محدش، مهما كان، يستاهل تغيري من نفسك عشان،. حياتك هتعيشيها مرة واحدة وبس
ابتسم برقة وأكمل حديثه بحنان :
ـ أنا مكنتش بعترض على لبسك ولا على تصرفاتك، عشان كنت شايف إنك بتحبي نفسك كده، لكن لو قررتي تغيري من نفسك عشان ترضي الناس، عمرك ما هترتاحي، عارفة ليه؟ لأن مهما عملتي، عمرهم ما هيرضوا والناس دول مش هيعيشوا حياتك... إنتي اللي هتعيشيها، اللي هيحبك، هيحبك زي ما إنتي لو حبيتي نفسك، الكل هيحبك كده !!!
أومأت له بصمت، وابتسامة باهتة تعلو وجهها، فتابع هو :
ـ أنا جدك... والشيب اللي في راسي ده مش من فراغ، أنا شوفت كتير، وفاهم الكويس من الوحش والولد ده؟ زي ما قولتلك من أول يوم... لو كان بيحبك، كان هيحافظ عليكي كان دخل البيت من بابه، مش من الشباك. فهماني يا حبيبة جدو؟ اللي حصل درس، اتعلمي منه... صفحة واطويها، وابدأي من جديد
ارتمت في حضنه، تحاول منع نفسها من البكاء، لكنها لم تستطع، ليته يعلم أن قلبها ما زال ينبض له، ما زال يذكره، يتمسك بشيء من الأمل رغم كل ما فعل !!!!
تخلى عنها....خذلها....كسرها
لكن هل يستطيع إنسان أن ينسى من أحب يومًا....؟!!
أستفاقت من شرودها، ونظرت إلى سقف الغرفة قليلاً ثم نهضت بتثاقل واتجهت نحو شرفة غرفتها، فتحت الباب وأخذت نفسًا عميقًا، الهواء البارد لامس وجهها، فشعرت بوخزة خفيفة في صدرها أسندت يديها على سور الشرفة، وراحت عيناها تتفقدان السماء، تتأملها بشرود...حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة، كأن ذكرى خفية مرت أمامها
تذكرت كيف اعترف لها بحبه، كم كان صوته صادقًا حينها، أو هكذا خُيل لها......
عودة بالزمن لسبع سنوات مضت
صوته يعلو، يملأ المكان بثقة واندفاع:
ـ آه، بتاع بنات، وفيا كل العبر... بس بحبك! أعمل إيه يعني؟ مقدرش أغير الماضي بتاعي، بس أقدر أبني حاضر ومستقبل معاكي، وأثبتلك كل يوم إني مش بحبك لأ انا بعشقك !!!
ثم ركع على ركبتيه، ينظر في عينيها وكأن العالم كله توقف عند ملامحها :
ـ مقدرش أسيبك تمشي، وأبعد عنك بعد ما لقيت حظي في الدنيا... مقدرش أسيب سعادتي تمشي من بين إيديا من غير ما أعافر لحد ما أوصلها
رفعت رأسها، زفرت بحرقة، وراحت تتأمل الفراغ أمامها. كيف؟ كيف يستطيع شخص أن يُزيف مشاعره بتلك البراعة؟ كيف يكون بهذا البرود؟ والأصعب... كيف وقعت هي في الفخ بإرادتها؟
قطع رنين هاتفها سكون الليل، أخرجته من جيبها ونظرت إلى الشاشة رقم مجهول، أجابت بصوت هادئ :
ـ ألو؟
لكن لم يأتِها أي رد كررت قائلة بهدوء :
ـ ألو؟ مين معايا؟
لا صوت... لا كلمة... كادت أن تغلق الخط، حين وقعت عيناها على سيارة تقف على مسافة قريبة من البناية، الأمر لم يكن غريبًا... لكن قلبها انتفض عندما رأته، مستندًا بجسده على السيارة، ينظر إليها بنفس النظرات القديمة... والهاتف على أذنه كان يتأمل خصلات شعرها التي تتطاير مع الهواء، كما لو أنه يحاول حفظ ملامحها
تبادلا النظرات كان، طويلًا... مؤلمًا... صامتًا
قبل أن تغلق الخط، ناداها بصوت خافت لكن واضح :
ـ جيانا !!!!
نظرت له للحظات، ثم أنزلت الهاتف ببطء، وأغلقته، عادت إلى داخل الغرفة، أغلقت الباب خلفها، وأسندت رأسها إلى الحائط
أغمضت عينيها، تحاول طرد الذكريات التي هجمت على عقلها بلا رحمة، صورته وهو يجلس على مقدمة السيارة... أعاد إلى ذهنها كيف كان قديمًا ينتظرها تحت الشرفة، يرفع بصره لها بعشق، يتحدثان حتى يغلبهما النوم
نفضت رأسها بشدة، تأنب نفسها بحدة :
ـ كفاية بقى يا جيانا... كفاية
ثم أغمضت عينيها، واستسلمت للنوم... ليس راحة، بل هروبًا من واقع موجع لا تريد أن تواجهه !!!!!!
.......
في أحد المخازن المهجورة، يتسلل صدى الصراخ الموجع كطَعنٍ في سكينة الليل، صوت الركلات واللكمات يعلو ويتردد صداه بين الجدران الخرسانية
في الداخل، كان رجلان ممددين أرضًا، يتلويان من شدة الألم، وصرخة غاضبة تخترق الصمت من سراج الفيومي وهو يزفر بأنفاس متقطعة :
ـ انت مفكر اللي بتعمله ده هيعدي على خير؟! إنت متعرفش أنا مين... أنا سراج الفيومي، أبويا هيوديك في ستين داهية!!
اقترب منه شاب طويل القامة، نظراته قاسية، والابتسامة الساخرة تكسو ملامحه كقناع شيطاني، قال وهو يضحك بشر :
ـ طب وحياة أبوك... اللي للأسف معرفش يربي لهجيبه هنا يترمي جنبك يا دلوعة أبوك !!!!!
اشتعل الغضب في عيني سراج، لكن بدلًا من الرد، قرر اللعب بورقة أخرى، فقال بخبث مستفزًا الآخر :
ـ مش كنت بتقول إن البنت تلزمك؟ وعجبتك؟ كنا قسمنا مع بعض بدل اللي بيحصل ده...
فجأة، لم يتمالك الرجل أعصابه، وانقض عليه بوحشية، لكمات متتالية، ركلات عنيفة، وشتائم نابية... حاول سراج أن يصد الضربات، لكن هيهات، كانت قوة الغضب أقوى من أي مقاومة
ابتعد الرجل عنه يلهث من شدة المجهود، نظر له باشمئزاز ثم بصق عليه، وأدار وجهه نحو أحد رجاله وقال بأمر قاطع :
ـ الكلبين دول يتربوا تلات أيام... وبعدها ترموهم والواد ده تاخده من إيده ترميه قدام أبوه، وتقوله ايهم الزيني عمل اللي انت فشلت تعمله... ربيت ابنك ولو فتح بوقه بكلمة... تجيبه هو وابنه هنا تاني !!!!!!!!
ثم غادر المخزن، يمرر يده على وجهه المشتعل بنار الكلمات التي سمعها ولا يعلم السبب !!!!!!
........
في صباح اليوم التالي...
أشرقت الشمس على المدينة، تنزع عن الليل عباءته الثقيلة، وتعلن بداية يوم جديد
داخل المنزل، عمت أجواء الهدوء بعد ليلة مليئة بالتوتر، جلس الجميع حول طاولة الإفطار، مي ورغدة كانتا قد حضرتا للاطمئنان على تيا، وأصرت مي على دعوتهما لحفل عيد ميلاد مولودها غدًا، بعد تناول الطعام، غادر الزوار،
طلب الجد من تيا أن تصعد لغرفتها لترتاح، فيما نزل هو لزيارة آسر وسمير بالطابق السفلي
أما رونزي، فقد ابتعدت قليلًا لتجيب على اتصال وارد وبهذا، وجد رامي الفرصة للاقتراب من جيانا، وقد بدا عليه بعض التردد والحرج :
ـ جيانا... أنا آسف !!!!
نظرت له بجمود وقالت :
ـ آسف على إيه؟
رد عليها رامي متلعثمًا :
ـ مكنش قصدي أقول اللي قولته... وأسف عشان بجحت في كلامي، عارف إني غلطان
نظرت له بعيونها التي تحمل عتابًا مريرًا، وقالت بحزن :
ـ زعلتني منك أوي يا رامي... نظرتك ليا كانت زي الناس، مسترجلة... وعانس طب الناس دول غرب، لكن إنت؟ إنت أخويا، لما لما زعقت فيك كان من خوفي عليك مش تحكم....
شعر رامي بالذنب ينهش قلبه، اقترب منها أكثر، وطبع قبلة على جبينها وقال بندم:
ـ عارف والله... حقك عليا وبجد... بطلت السجاير، ومبقتش بشرب خالص، وبعدت عن صحابي دول كلهم
نظرت له بشك، ليضحك وهو يرفع يده كمن يقسم:
ـ "اه والله العظيم زي ما بقولك كده توبة، خلاص بس متزعليش مني !!!!!
ابتسمت له جيانا، نظرة حنونة امتزج فيها الحب بالخوف، فهو رغم كل شيء، شقيقها الصغير المدلل، مشاكس لكنه غالٍ، وكانت دومًا له الأم الثانية والسند وقت الشدة
كانت تعلم جيدًا أنه لا أحد كامل... لكنها قررت أن تكون دائمًا الجزء الذي يساعده على الاكتمال
.........
بمكانٍ جديد على حكايتنا... حي شعبي قديم، تضج جدرانه بحكايات تعبٍ وفقر، وبناية متهالكة تتكئ على بعضها كأنها على وشك السقوط، وفي طابقها الأخير، يقع منزل صغير... متواضع
أثاث باهت ومُستهلك، وستائر بالكاد تحجب ضوء الشمس، لكن النور الحقيقي ينبعث من صوت القرآن المنبعث من التلفاز، يُغلف المكان بهدوء وسكينة غريبة
على أريكة مهترئة، جلست امرأة ثلاثينية، ملامحها هادئة كوجه قُرآن يُتلى، اسمها نعمة، كانت تمسك مسبحتها، تردد التسبيح بصوت خافت، قبل أن يُقطع سكون المكان صوت طرق على الباب
قامت بهدوء، ارتدت إسدالها، وفتحت الباب... لتجد من يقف خلفه، نظرت إليه بنظرة طويلة، ثم قالت بصوت ساكن:
ـ عاش من شافك يا حامد... ولا نقول حامد باشا بقى؟
لم يرد التحية، فقط تنهد وتجاوزها إلى الداخل دون استئذان، بينما هي تركت الباب مفتوحًا وتبعته بخطواتها
قال حامد بحدة وبدون مقدمات :
ـ عايزة إيه يا نعمة؟ وجيتي سألتي عليا ليه؟
ابتسمت تلك الابتسامة التي تحمل من الحزن أكثر مما تحمل من الهدوء، وقالت:
ـ كنت جاية أنصحك... وأفكرك إن الطريق اللي ماشي فيه آخرته سودة...جيت انصحك لأنك في يوم من الأيام، كنت جوزي... وأبو ابني الله يرحمه
تصلّب فكه، وضغط على أسنانه قبل أن يرد بغضب:
ـ طريق إيه وكلام فارغ إيه؟ أنا شغلي كله سليم، ومليش دعوة بالشغل الشمال ده
رفعت حاجبها بسخرية خفيفة وقالت بثقة:
ـ الكلام ده تضحك بيه على الناس مش عليا... أنا نعمة، نعمة اللي عرفاك أكتر من نفسك
صمت، ينظر لها بعينين تحملان صراعًا داخليًا، لكنها تابعت بصوت مكسور :
ـ ليه يا حامد؟ ليه تمشي في طريق الحرام؟ هتعمل إيه بفلوس من دم الناس؟ هتتهنى بيها وإنت شايل ذنوب؟ الناس الغلابة اللي بيموتوا من وراك... ابنك كان منهم... ابننا...كل الناس اللي ماتت ذنبها هيكون في رقبتك، توب يا حامد
صرخ بوجهها بعنف، كأنها ضغطت على جرح قديم:
ـ اخرسي، وإياكي تفكري تروحي القصر ولا الشركة تاني
نظرت له مطولاً، بصمت يؤلم أكثر من الكلمات، ليقول بعصبية :
ـ بتبصيلي كده ليه؟
ردت عليه بمرارة :
ـ مستغربة... بسأل نفسي فين حامد اللي كنت أعرفه؟ اللي كان بيخاف على نملة؟ اللي عمره ما صرف قرش حرام على نفسه وعلى بيته؟ أنا شايفة دلوقتي راجل اتعود ع الأذى، راجل غريب عني... مش إنت حامد اللي أنا حبيته
ضحك بسخرية، ثم صرخ بغضب كأنه يدافع عن وجعه:
ـ فوقي بقى الطيبة ما بتأكلش عيش، ما أنا كنت جنب الحيط... والنتيجة ايه؟ ابني مات قدامي، بيتي اتهد من أربع سنين وأنا أقسمت أجيب فلوس بأي طريقة... معاك قرش تبقى بني آدم، معكش؟ متسواش !!
نظرت له بحسرة، ثم قالت برجاء:
ـ امشي يا حامد... ومش هقولك غير اتقي ربنا، وخاف على آخرتك... حتى عشان يوم ما تشوف ابنك على باب الجنة، تبقى تقدر تبصله في عينه
لم يجب، فقط غادر غاضبًا، خطواته عنيفة كأنها تصرخ بما لم يقله، أما هي، فجلست مكانها، ودموعها تنزل بصمت، ترفع كفوفها للسماء وتهمس:
ـ ربنا يهديك يا حامد... ربنا يهديك
..........
في شركة الزيني للحديد والصلب
كان فريد جالسًا خلف مكتبه، منهمكًا في العمل، أو هكذا كان يحاول أن يبدو. تركيزه الظاهري لم يكن سوى محاولة بائسة للهروب من التفكير بها، لكنها كانت تقتحم تفاصيل يومه، تسكن شرايينه، وتسرق هدوءه. لم يفارق وجهها ذاكرته، ولم تفارقه غصة الخوف كلما تذكر ما سمعه عن الحادث الذي تعرضت له !!!!
ما إن طغى القلق على ما تبقى منه من مقاومة، حتى نهض من مكانه، يغادر مكتبه متوجهًا نحو مكتب ابن عمه أيهم
عند وصوله، لم يجد السكرتيرة في مكانها، فتجاوز مكتبها ودخل دون أن يطرق الباب، لكنه توقف للحظة، عينيه تتجمدان على المشهد أمامه، حيث جلس أيهم باسترخاء خلف مكتبه، بينما جلست سالي، سكرتيرته، على ركبتيه في وضع مخل !!!!!
لم تلبث سالي أن انتفضت عندما فُتح الباب، وأسرعت بضبط هيئتها ثم خرجت مسرعة، تغلق الباب خلفها في توتر واضح.
رمقها فريد بنظرة اشمئزاز قبل أن يتقدم بخطوات ثابتة نحو المقعد المقابل للمكتب، جلس، ثم قال بنبرة غاضبة:
مش هتبطل القرف ده بقى؟ وبعدين هي حبكت في المكتب؟ لا وكمان مع الزفتة سالي اللي بره !!!!!
رد عليه أيهم بسخرية وهو يرجع بجسده إلى الخلف :
اللي بيته من ازاز يا بن عمي.....
ضاقت عينا فريد وقال بحدة :
قصدك إيه؟
ضحك أيهم، وعلى وجهه نظرة لا مبالية:
"قصدي إنك تبطل كل ما تشوفني تديني نصايح... الأول تقولها لنفسك، وبعدين، إيه اللي مضايقك في اللي بعمله؟ ما إنت عملته زمان وسالي دي... إنت مجربها قبلي من زمان، وعلى كرسي مكتبك اللي بعيد عن هنا بكام متر... يا حبيب قلب البنات
حدق به فريد، وعيناه تلتمعان بالغضب، لكن أيهم لم يعره اهتمامًا، بل تابع بلا مبالاة:
المهم... كنت عاوزني في إيه؟
أعاد فريد ترتيب أفكاره، ثم سأل بتوتر ظاهر:
حادثة إيه اللي حصلت مع جيانا واللي جدك كان بيقول عليها؟
أشار أيهم بكتفيه بلا اهتمام وقال:
معرفش... كل اللي أعرفه إن جدك من كام شهر كان راجع الشركة، وقال لنا إنه لقى بنت واقعة جنب عربيتها اللي كانت مخبوطة في الشجرة، كان باين عليها إنها مضروبة... ونقلها المستشفى وكمان قال إن حالتها كانت خطيرة معرفش الباقي... ولا كنت أعرف إنها جيانا أصلاً
كلمات أيهم نزلت على صدر فريد كالصاعقة. صور خياله المعاناة التي مرت بها، وتمنى لو كان موجودًا وقتها ليمنع عنها الأذى، ليحملها بيديه بعيدًا عن الخطر، ليكون درعها وسندها أحس بحرقة داخله، وبغضب يتوعد من تسبب لها في هذا الألم، وقرر في داخله أن يُذيقه العذاب، حتى يتمنى الموت ولا يجده !!!!!
نظر إلى ابن عمه بعين حازمة وقال:
الراجل اللي اسمه حامد صفوان ده... تجيبلي كل حاجة عنه المعروف منه واللي مش معروف، عايز أعرف كل حاجة من يوم ما اتولد لحد دلوقتي
أومأ أيهم موافقًا وقال :
اعتبره حصل
لم تمضِ لحظات، حتى طرق الباب ثم انفتح ببطء، ودخل منه رجل لا يُخطئه القلب قبل العين... جمال الزيني والد أيهم !!!
وقف الاثنان احترامًا له، وهتف أيهم بتساؤل :
بقالك فترة مجتش الشركة....يعني يا بابا، إيه سر الزيارة؟
أجابه جمال بابتسامة حزينة، تكسو وجهه بملامح الشوق:
كنت بزور قبر نور وقولت أعدي ع الشركة أشوف الوضع إيه
تبدلت ملامح أيهم في لحظة، تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجهه لم تصل إلى عينيه، لأن الحزن فيهما سبق كل شيء، اسم والدته الراحلة كان كافيًا ليشعل فيه وجع الفقد من جديد
لم يحتج فريد كثيرًا ليشعر بما يدور داخل ابن عمه، فوجهه وحده كان كفيلًا أن ينطق، فسأل عمه بتلقائية:
كنت بتحبها للدرجة دي يا عمي؟
أومأ له جمال بابتسامة ممتزجة بالحنين والألم، وقال بنبرة عاشق موجوع :
الحب ده أنا عديته من زمان... عارف، كلام الحب والغرام كله مش ممكن يوصف مقدار محبتي ليها واللي كنت حاسه ناحيتها... بحبها لدرجة بتمنى الموت كله لحظة... عشان أكون جنبها
سأله فريد بعفوية:
إزاي عرفت إنك بتحبها؟
أغلق جمال عينيه لحظة، ثم ترك نفسه يتوه في الذكرى :
كانت مجنونة... عارف؟ كانت كتلة شقاوة وجنون ماشية على الأرض أول مرة شوفتها كنت بزور واحد صاحبي ساكن في منطقة شعبية، لقيتها واقفة في الشارع بتلعب كورة مع الأولاد الصغيرين، ساعتها فضلت أضحك عليها، وقعدت تتريق عليا... واتحدتني ألعب ولعبنا ومن ساعتها بقيت أروح كل يوم لصاحبي ده أراقبها من بعيد، وساعات أتكلم معاها... لقيت نفسي بتشد ليها، ببقى نفسي أشوفها طول الوقت وتفضل تحت عيني على طول، بحس إنها ملكي... مش مسموح تكون لحد تاني أبدًا، بتسحرني بجنانها وشقاوتها قدرت تاخد قلبي... وتكون ليه النبض اللي بيخليه يدق، نور ماكنتش حبيبة بس... لأ، دي كانت الأم، والصديقة، والأخت... ببساطة كده، كانت ليا الكون كله، ماكنش ينفع ما أحبهاش... ومقدرتش في يوم أتخيل نفسي مع واحدة تانية غيرها... ولا أقدر أتخيلها مع غيري، لأن ببساطة... أنا وهي ما ينفعش نكون غير مع بعض ولـ بعض
سكنت الكلمات في قلوبهم، ابتسم ايهم بتفكير، يتساءل داخله إن كان في هذا العالم فتاة تستطيع أن تأسر قلبه كما أسرت نور قلب والده... هل سيجد من تجعله حبيس نظرة منها....؟؟
أما فريد، فكان جسدًا حاضرًا وعقلًا غارقًا، لا يدري كم يحبها، فقط يعرف أنه يخاف عليها حد الارتباك، ويخاف منها حد الضعف، ويخاف أن يخسرها حد الانهيار، لم تكن فكرة الزواج من أخرى سوى محاولة فاشلة للهرب... لكنه لم يهرب، بل وجدها في كل ركن من حياته، وفي كل زفرة عشق
قراره بالزواج أثبت له القدر أنه كان خاطئًا، فكل الطرق أعادته إليها، لتغرقه أكثر بعشقها !!!!
قطع جمال شرودهم وهو ينظر إليه قائلًا بابتسامة:
شكلك بتحب يا بن محمد... عارف؟ إنت شبه أبوك في كل حاجة، حتى في التصرفات... كأني شايف أبوك في شبابه، بحيرته وتوهانه
نظر إليه فريد بدهشة، فأومأ له جمال مؤكدًا:
بس يا ريت متكونش زيه في الحب... قبل ما تقول كلمة بحبك، اتأكد إنك هتوفي بكل وعود الكلمة دي، لما تقولها... كون قدها، أبوك قالها زمان... بس مكنش قدها
نظر له فريد بصدمة، أما جمال، فتابع مبتسمًا:
لو محتار تفضل مع مين... اختار اللي بتحبها، لأن صدقني، حياتك كلها كوم، وإنك تعيش لحظة حب جنب حبيبتك... كوم تاني، الحب يا بني أكبر سعادة ممكن تعيشها... واللحظة منه ما بتتعوضش أبدًا
قالها ثم غادر المكان، تاركًا الأثنين كلٌّ منهما في دوامة قلبه...
دوامة لا يعرفون متى تهدأ، ولا إلى أين ستأخذهم !!!!
.........
في قصر الزيني.......
في غرفة فخمة غارقة في السكون، كانت دولت تجوب المكان ذهابًا وإيابًا، رنت في أذنها حروف الاسم كصفعة، فاحترق قلبها بغلٍ لم يخفت رغم مرور السنوات
كيف لا، وهي ابنة أكمل النويري، أكثر شخص كرهته وأبغضته في حياتها.....؟!!!
الآن، تلك الابنة تعود لتدخل منزلها، بل وتصبح رفيقة زوجة ابنها لاحقًا؟
أي مصادفة هذه؟! وأي ورطة وقعت فيها؟
جلست على طرف السرير، ويديها ترتجفان من الغضب. تساءلت في نفسها بلهيب قهر....!!!!!
ماذا ستفعل الآن؟ كيف ستبعدها؟ وكيف تنقذ نفسها من هذا الماضي الذي عاد ليطاردها.....؟!
قطع شرودها صوت فتح الباب، فرفعت رأسها بحدة، لتقع عيناها على زوجها محمد، كان الحزن يغلف ملامح وجهه منذ الأمس... منذ أن نطقت ابنته ديما بكلماتها كالسياط، تُعري والدها من كل وهم
كانت محقة، نعم... فمحمد لم يكن أبدًا أبًا بالمعنى الحقيقي.
كان دائمًا أنانيًا، اختار الأسهل دائمًا، وركض وراء راحته، تاركًا أبناءه خلفه كأرواحٍ تائهة تبحث عن دفء لم يعرفوه أبدًا
هو أبٌ بالاسم فقط، نُقش اسمه على شهادة ميلادهم... ولم يُنقش في قلوبهم يومًا
نظرت دولت إليه وقالت بنبرة ساخرة:
من امبارح وانت قالب وشك كده، حصل إيه يعني لكل ده
لكن محمد لم يكن يطيق رؤيتها، كره نفسه لأنه ارتبط بامرأة مثلها، نظر إليها بنظرة اشمئزاز واحتقار، ثم زمجر بغضب كاسح :
ابعدي عن وشي الساعة دي، يكون أفضل ليكي... أحسن ما أعمل حاجة مش هتعجبك أبدًا، غوري من وشي !!!!!!
صرخ بها كأنها سبب كل ما يحدث له، فبادلت نظرته بحقد وغضب، ثم خرجت من الغرفة وصفعت الباب خلفها بقوة.
أما هو، فجلس على الأريكة يزفر بضيقٍ شديد، واضعًا رأسه بين يديه، ثم رفعه فجأة وكأن قرارًا خطيرًا قد تبلور في عقله !!!!
قرار لن يتراجع عنه هذه المرة....!!!!!!
...........
على الجانب الآخر...
في غرفة أنيقة أخرى من غرف القصر، كانت هايدي تقف أمام مرآتها، تتفقد مظهرها بعناية، تضع لمساتها الأخيرة بثقة، عاقدة العزم على تنفيذ خطتها اليوم
لن تسمح لتلك الزيجة أن تكتمل... لن تترك فريد لغيرها
فريد ملكها وحدها، وسيظل كذلك مهما كلفها الأمر !!!!
لكنها لم تكد تخطو خارج باب القصر، حتى دوى صوت جهوري خلفها، جمدها في مكانها:
رايحة على فين؟!
التفتت بسرعة، لتجد جدها صلاح يقف خلفها بنظرات صارمة
ردت عليه ببرود مفتعل، تخفي به توترها:
خارجة يا جدو
لكن صلاح لم يمنحها فرصة للنقاش، قال بصوت لا يقبل الجدال:
اطلعي أوضتك... مفيش خروج وبعد كده، مفيش خروج لوحدك أبدًا، وخصوصًا بالمسخرة اللي انتي لابساها دي
نظرت له بعيون مشتعلة بالغضب، وقلبها يغلي من الغيظ... لكنها فجأة، أطلقت العنان لدموعها المزيفة
جلست على الأريكة، تغطي وجهها بكفيها وكأنها نادمة، منكسرة، خائفة !!!!!
ارتبك صلاح، اقترب منها قليلًا وقال بحذر:
بتعيطي ليه؟
رفعت رأسها بملامح منهارة، ارتجفت شفتاها وهي تنطق بكلماتها بحزنٍ مُصطنع :
أنا... أنا واقعة في مصيبة يا جدو !!!!!
اتسعت عينا صلاح، وهتف بقلقٍ متزايد:
مصيبة إيه؟ انطقي
قالتها أخيرًا، بجملة ملغمة كقنبلة :
فريد يا جدو، ضحك عليا واستغلني وبعد ده كله رايح يتجوز، اتخلى عني، ومش راضي يتجوزني عشان يصلح غلطته !!!!!
...........
في منزل آسر النويري......
في بهو المنزل الفسيح، ساد الصمت إلا من صوت أنفاسه، وجلبة خافتة يصدرها القلم بين أصابعه
جلس آسر على الأريكة بظهر مستقيم وعينين مشتعلتين كأنهما شعلتا نار لا تهدأ، ممسكًا بعدة أوراق بيضاء قد خُطت عليها أسماء بدقة، داخل دوائر متصلة بخطوط حادة تعكس ما يدور بداخله من توتر وضيق
كان يُحرك القلم ببطء، يربط اسمًا بآخر، كأنه يرسم خريطة حرب، وفي مركزها يقبع هو، المتأهب للانقضاض
همس بصوت خافت لكنه يحمل كل معاني الغضب والوعيد:
مجدي القاسم.....حامد صفوان...!!!!!
كرر الأسماء وكأنها تعويذة شيطانية، لا يريد نسيانها، بل يزرعها في عقله حتى تصبح نبض انتقامه القادم
رفع إحدى الأوراق من بين يديه، كانت تحتوي على صورة باهتة لرجل، وعليها بعض الملاحظات المكتوبة بخط يد شديد الحدة
عيناه ثبتت على الصورة وكأنها وجه من ارتكب الخطيئة الأعظم !!!!!!
هو لا يبحث عن الحقيقة فقط....هو الآن يريد العدالة بطريقته.
عدالة لا تعرف الرحمة...
عدالة تسقي من أجرم نفس الكأس الذي أذاق به غيره
ألقى الملف على الطاولة أمامه بقوة، ثم وقف، يداه تقبض الورق بقسوة، وعيناه تتوعدان
في تلك اللحظة، لم يكن مجرد ضابط شرطة أو رجل قانون...
بل كان ابنًا مُفجوعًا، ورجلًا قرر أن ينهي فصولًا كاملة من الظلم، مهما كان الثمن.....
__________
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا