رواية نسمه متمردة الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم أمل مصطفي حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية نسمه متمردة الفصل الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بقلم أمل مصطفي حصريه في مدونة قصر الروايات
#نسمة -متمردة
#بقلمي -أمل -مصطفي
#البارت- الثالث عشر
*********
كان أحمد يجلس هو ونادر وسط العمال يتناولان وجبة الغداء. رفضا تناول غدائهما في مطعم خاص للمهندسين، ما جعلهم محط حب واحترام العمال، لأنهما كانا أول من يجلس مع العمال كأنهم لا يرون فرقًا بينهم.
تحدث رئيس العمال، محمود، وهو يبتسم:
- "منورين يا بهوات، أنتم أول مهندسين بيقعدوا معانا على الأكل."
رد نادر بلطف:
- "كلنا ولاد تسعة، يا حج محمود، مافيش فرق."
محمود بفخر:
- "والله وجودكم وسطينا زادنا شرف وسعادة."
أحمد، وهو يبادلهم الاحترام:
- "أنتم أصل الشرف والنزاهة، وإحنا كلنا ولادك يا حج محمود."
كان أحمد قد تعرف على الكثير عنهم، أسمائهم، وحالتهم الاجتماعية بين العازب والمتزوج.
لكن حديثهم قُطع بدخول شاهنده، التي جاءت بطريقة غير متوقعة.
- قالت شاهنده بصوت مرتفع هاااي .
رد الجميع :
- "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته."
غضوا أبصارهم عن ملابسها الفاضحة، لكن لم يكن لهم خيار سوى تجاهل ذلك.
شاهنده، بدون خجل أو حياء، بدأت تتأمل أحمد بشغف، وقالت:
- " مهندس أحمد؟ أنا رحت الكافيه، قالوا لي إنك مش بتروح، ممكن أعرف ليه؟"
تحدث أحمد بعدم رضا، وهو يرفض الإجابة بتعالٍ:
- "أنا مش هروح أكل في مطعم خمس نجوم وعمالي بياكلوا فول وطعمية."
ردت هي بكبرياء:
- "الصفوة ليهم معاملة مختلفة، أنت مهندس المشروع."
أجاب أحمد وهو يحاول الحفاظ على احترامه لنفسه:
- "أنا إنسان زيي زيهم، مافيش فرق غير أن ظروفي ساعدتني أخد شهادة، ومش معني كده إني أفضل منهم."
غضب أحد الحراس، وتحدث بصوت مرتفع:
- "اتكلم عدل مع الهانم!"
وقف أحمد بشموخ وكبرياء لا يليق إلا به وتحدث بقوة وغضب :
- "أنا بتكلم كويس، مش واحد زيك اللي يعلمني الكلام!"
تأهب الحراس للانقضاض عليه، لكن شاهنده تدخلت بغضب شديد:
- "زياد! خلاص!"
بينما لم تبتعد عيون كل من أحمد وزياد ، استمرت نظرات التحدي بينهما. كان زياد يتوعده في سره، لكن أحمد لم يهتم. كل ذلك كان يحدث تحت أنظار العمال الذين كانوا يتابعون الموقف بصمت.
فجأة، فصلت نظراتهم صوت شاهنده، الذي كان مشبعًا بالأنوثة، وهي تقول بلهجة هادئة:
- "أنا كنت عايزة أتكلم معاك في شوية تفاصيل، ممكن تيجي النهاردة الفيلا؟"
أحمد بحدة:
- "أنا مش بروح عند حد. لو عايزة نتكلم، هنا أو في المطعم، ما فيش مشكلة."
**********
قوة شخصيته وحِدته في الكلام جعلته يحظى بمزيد من إعجاب شاهنده وتعلقها به.
فهي لم تكن معتادة على الرد بهذه الطريقة، خاصة من رجل لا يظهر عليه أي نوع من التملق أو الضعف أمام جمالها.
هتفت بلين:
- "خلاص، نروح المطعم لو ينفع الوقت."
وقف أحمد ليُنظف يده، ثم هتف:
- "يلا يا نادر."
استجاب نادر بسرعة، مدفوعًا بدافع العمل والاحترام لأحمد.
بينما هتفت شاهنده بتعجب:
- "بس أنا عايزة أتكلم معاك لوحدك."
أشار أحمد إلى نادر قائلاً:
- "ده برده مهندس مسؤول معايا. يعني أي حاجة خاصة بالمشروع معانا."
تركت شاهنده المكان بغضب، ثم ركبت سيارتها. كان أول شخص يتعامل معها دون خوف من سطوة مالها أو جمالها. فالجميع عادة ما يرتمون تحت قدميها إما برغبتهم أو بقوة تأثيرها، وهو ما يزيدها إصرارًا في توقيعها على ما تريد.
********
بعد مغادرتها ضحك رئيس العمال وقال:
- "لولا ملامحك الأجنبية، كنت قلت عليك صعيدي زيينا. مفيش عندك أخد وعطاء، وجفتها عند حدها."
ابتسم أحمد قائلاً:
- "أنا ما يعجبنيش الحال المايل، وما يغركش شكلي. أنا دمي حامي قوي، و أفوت في الحديد."
أجاب محمود بإعجاب شديد:
- "باين عليك يا ولدي، ربنا يباركلك في شبابك."
********
جلست نسمه وحنين على الأرض، وأمامهما كراسات التلوين والألوان.
تنام حنين على بطنها، وفي يدها الألوان، بينما تجلس نسمه جوارها تساعدها.
سمعت صوت خطواته قادمة من السلم. نظرت في اتجاه الصوت، ليقع نظرها عليه. كان شديد الوسامة، يخطف الأنظار بوسامته وعطره الذي يسبقه.
لاحظ نظرتها فبتسم داخله وهو يرى تأثيره عليها.
اعتدلت حنين تسأله بفضول:
- "بابي، أنت رايح فين؟"
حملها مروان وقبلها قائلاً:
- "خارج يا حبيبتي."
قالت حنين ببراءة:
- "طيب خدني معاك أنا ومامي. إحنا زهقنا من البيت."
مروان برفض:
- "ماينفعش يا حنين. إحنا خارجين رجالة بس."
*********
جاء من خلفهم أيهم، وكان لا يقل وسامة عن مروان.
قال مبتسمًا:
- "ليكي عليا، أخدك أنتي ومامي بكرة للملاهي، ونقضي اليوم كله بره."
لتهتف نسمه بسعادة:
- "بجد هنروح الملاهي؟"
ابتسم أيهم من لهفتها وهتف:
- "بجد."
شعر مروان بغصة في قلبه، لأن أيهم استطاع رسم الابتسامة على وجهها دون تعب أو مجهود.
فهو خبير في التعامل مع النساء، يعلم جيدًا شخصية من أمامه، ويتلاعب بما يهمها ويلفت انتباهها. ولهذا يعشقونه.
قفزت حنين بفرحة كبيرة، وقالت:
- "هيا هيا! بس يارب مش تعمل زي بابي وتقول مش فاضي."
ضحك أيهم، وقال:
- "لا يا حنون، أنا مش زي بابي، أنا فاضي خالص. وهفسحك أنتي ومامي زي ما أنتم عايزين. اعملوا حسابكم بكرة بدري."
نطق مروان بغضب وغيرة:
- "يلا، ولا هنقضي اليوم هنا."
ثم تركهم وخرج.
نظرت نسمه إليه بلطف، وهي تشعر بغيرته، وهذا أسعدها.
نظر لهم أيهم وغمز بإحدى عينيه وهو في طريقه للخروج.
*********
جلس أيهم جوار مروان الذي يشتعل غضبًا، يريد الانفجار. هي تتجنبه منذ فترة، والآن توافق على الخروج مع شخص آخر. لم يتحرك مروان بالسيارة، ظل ممسكًا بالدركسون، ويفركه تحت يده، وكأن ذلك سيخفف من توتره.
سأله أيهم بتعجب:
- "إيه يا بني؟ مش كنت مستعجل؟"
تحدث مروان بغضب:
- "ممكن أعرف إيه في دماغك؟ قصدك إيه من اللي بتعمله مع نسمه؟"
هتف أيهم بمرح:
- "لولا عارف إنك مش بتحبها وعايز تتجوز شاهي، كنت افتكرتك غيران."
هتف مروان بحدة:
- "متنساش إنها مراتي، وشايلة اسمي! حتى لو مش بحبها، برده فيه حدود للمعاملة."
أيهم، بغباء:
- "أنت بتحب شاهي، و نسمه جميلة، مثقفة، متدينة. يعني فيها كل الصفات الجميلة والنادرة في أيامنا. كنت بقول طلقها وأنا أتجوزها، وعيش حياتك مع شاهي."
ضحك مروان بمرارة:
- "بقي زير نساء، هيتوب و يتجوز؟"
أيهم، بصدق:
- "لو واحدة زي نسمه، هكتفي بيها عن نساء العالم كله."
زاد غضب مروان وغيرته، ليصرخ في وجه أيهم بصوت مرتفع:
- "إلزم حدودك! وأعرف إنك بتتكلم على مراتي!"
أيهم، بتعجب:
- "أنا قلت إيه غلط؟"
لم يعد مروان يستطيع الاحتمال أكثر من ذلك. نظر إليه بعينين غاضبتين، ثم هتف بعنف:
- "قولت أنزل يا أيهم!"
أيهم، مستغربًا:
- "إحنا مش هنخرج؟"
زاد غضب مروان، وارتفعت وتيرة أنفاسه. هتف مرة أخرى بصوت عاصف:
- "قولت أنزل يا أيهم!"
نزل أيهم من السيارة وهو في حالة من الاستغراب.
تركه مروان في لحظة من الغضب الجنوني، وانطلق بسيارته بسرعة، وكأنها لا تأبه بما حولها.
تابعه أيهم بعينيه، غير مصدق، وهو يفكر:
- "طيب، ما أنت هتموت عليها، أهو. أمال بتقول إنك مش بتحبها؟ في أي بالظبط؟"
********
في صباح هادئ، جلس أحمد على طرف السرير، ينظر إلى نادر الذي كان غارقًا في النوم. اقترب منه وقال بصوت منخفض:
- "اصح يا نادر، عشان نصلي الفجر."
نادر، في تذمر:
- "يا عم سبني شوية."
أحمد، بعزم:
- "لا، قوم. بعد الصلاة نتدرب شوية."
تمتم نادر بضيق:
- "تدريب إيه وبتاع إيه، يا عم؟ أنا عايز أنام."
أحمد، بابتسامة خبث:
- "طيب، خليك نايم. دلف إلي المطبخ وأحضر زجاجة مياه."
لحظات قليلة، ثم عاد نادر إلى الغرفة، ليشعر بزجاجة المياه تُسكب عليه دفعة واحدة.
نادر، بصراخ:
- "آه! ساقعة! ساقعة!"
وقف أحمد يضحك على هيئته المبللة، وقال بمرح:
- "يلا، عشان بعد كده تسمع الكلام من أول مرة."
نادر، بضيق:
- "الله يخرب بيت هزارك البايخ."
أحمد، وهو يحاول تهدئته:
- "أنا غلطان، عايز أعلمك تدافع عن نفسك. بدل ما تكون ماشي مع أختك ولا مراتك وما تعرفش تدافع عنهم، وتتروق زي المرة الفاتت."
نادر، بملل:
- "يوه، بقي! كل شوية تذكرني."
أحمد، بنظرة مرعبة:
- "أنا هستناك بره، خلص وحصلني."
وبعد لحظات، بدأوا في التدريب، يتنقلون بين الحركات والتمارين. استمروا في التمرين ساعة متواصلة.
نادر، في إرهاق:
- "أنا تعبت يا أحمد."
أحمد، بحزم:
- "أنا قولت هتتعلم، يعني هتتعلم. خلصنا. كل يوم بعد الفجر هنتدرب ساعتين، وبعد الشغل هنروح الجيم ساعة. خلص الكلام."
نادر، بتأفف:
- "حاضر، حاضر. دماغك دي حاجة صعبة أوي."
********
في الصباح الباكر، طرقت نسمه على باب غرفة مروان الذي كان قد طلب من الطارق الدخول.
عندما دخلت، وجدته يقف أمام المرآة، يمشط شعره ولا يرتدي سوى تيشيرت بسيط. على الفور، تراجعت خطوة للخلف، خافضة عينيها وهي تهتف بصوت منخفض:
- "صباح الخير."
كان مروان يقف في قمة غضبه، يذكر ما حدث بالأمس، فرد عليها بضيق:
- "صباح النور."
نسمه بتوتر:
- "ممكن أروح أنا وحنين مع أيهم؟"
مروان، وقد بدا عليه الغضب:
- "أنا شايفكِ إنسجمتي معاه بسرعة."
نسمه، وقد بدا عليها عدم الفهم:
- "يعني إيه؟ مش فاهمة قصدك."
مروان، بحدة، وهو يرمقها بنظرة حادة:
- "يعني أخدتِ وقت تتعودي عليا، لكن هو كام يوم وتخرجي معاه."
نسمه، وقد شعرت بالخجل، قالت بصوت منخفض:
- "لو أنت مش موافق، مش هروح."
مروان اقترب منها خطوة، رفع ذقنها برفق حتى تصبح عيناه في مستوى عينيها، وقال بصوت دافئ:
- "يعني يهمك زعلي؟"
توترت نسمه من قربه، وشعرت بارتباك شديد وهي تجيبه بارتباك:
- "طبعًا، عشان الذنب."
في لحظة غير متوقعة، اقترب مروان منها أكثر، . كانت تحاول أن تبتعد، ولكن عندما شعرت بدفء صدره تحت يديها، توقفت. لم تستطع الابتعاد، و كأن كل شيء توقف في تلك اللحظة.
ظل مروان يقبلها بحب، ثم تركها فجأة وابتعد، محاولاً ظهره إليها وقال بصوت قاسي:
- "تقدري تمشي، مافيش مشكلة."
ظلت نسمه متجمدة في مكانها، لا تستطيع أن تلملم شتات نفسها. شعرت و كأن الزمن توقف وبعد فترة من الصمت، استطاعت أن تخرج من الغرفة، خطواتها ثقيلة، تحمل قلباً مضطرباً.
بينما كان مروان يقف في مكانه، تحدث إلى نفسه بسخرية:
- "والله وجه اليوم اللي تتمنى فيه تلمس شفايف واحدة... ومش عارف،
ضحك بسخريه... ومش أي واحدة، دي مراتك حلالك."
**********
ركبت نسمه وحنين، بكل سعادة، بجوار أيهم.
سألهم أيهم بابتسامة:
- "أميراتي الجميلات، تحبوا تروحوا فين أولاً؟"
أجابته نسمه بسرعة:
- "نروح نفطر الأول لأنك استعجلتنا وملحقتش أفطر، حنين."
أيهم بابتسامة ماكرة:
- "تحبي تسمعي أجنبي ولا عربي؟"
نسمه أجابت بحماس:
- "بحب الأتنين."
قام مروان بتشغيل أغنية "أنت أول حاجة" لعمرو دياب، ليشعر الجميع بنغمات الموسيقى التي بدأت تعزف في الجو.
نسمه، مبتسمة:
- "إنت بتسمع الهضبة؟"
أيهم بابتسامة واسعة:
- "ومين مش بيسمعله؟ بيجمع بين قديم وجديد."
فطروا وضحكوا كثيراً، وكلما طال الحديث زاد إعجاب أيهم بنسمه. كان يعجب بثقافتها، تواضعها، وأفكارها التي كانت مختلفة عن جميع النساء اللواتي قابلهم.
ركبوا العديد من الألعاب في الملاهي، وكانوا في منتهى السعادة والانسجام. بعد فترة من المرح، قرروا الجلوس في أحد المقاهي للاستراحة.
هتفت نسمه بإمتنان وفرح:
- "حقيقي اليوم جميل، يا أيهم، شكراً ليك."
أيهم بابتسامة دافئة:
- "أنتِ تآمرين، يا جميل، وإحنا في الخدمة."
ثم تحدثت نسمه برجاء:
- "أيهم، ممكن ماتتكلمش معايا كده قدام مروان؟ بحس إنه يتضايق."
فاجأها بسؤاله المفاجئ:
- "أنتِ بتحبيه يا نسمه، رغم اللي حصل؟"
رفعت عينها بصدمه، تساءلت في نفسها: هل يعلم ما بينها وبين مروان؟ هل أخبره مروان برفضه لها يوم الزواج؟ شعرت بحزن شديد لكنها دارته بسرعة.
لمح أيهم تغير حالتها المزاجية، ليهتف بأسف:
- "مش قصدي أتدخل بينكم، بس أنتِ عارفة علاقتي أنا ومروان، مافيش بينا أسرار."
هزت رأسها بتفاهم، لكن قلبها كان يشتاق لأن يظل هذا السر بعيداً عن أي شخص، حتى لو كان أقرب الأقربين.
ثم نظرت إليه وقالت برقة:
- "تحب نتكلم كأخوات؟"
أشفق عليها وقال:
- "طبعاً، اتفضلي."
تنهدت بحزن على حظها العاثر، ثم هتفت بصوت منخفض:
- "أنا ما حبيتش ولا هحب غير مروان. الرجالة بالنسبة لي بتتجسد فيه وبس، حتى لو مش بيحبني. ده شيء مش بإيدي، قلبي هو اللي اختار، و إحنا مالناش حكم على قلوبنا."
ثم أضافت بحسم:
- "يعني لو مش هكون ليه، عمري ما هكون لغيره، فاهمني؟"
لم يستوعب ما نطقت هو يقابل تلك النوعية لأول مرة في حياته هتف بصدمه:
- "معقول فيه واحدة بتحب بالطريقة دي؟"
أجابته نسمه بتأكيد:
- "فيه كتير، بس للأسف أنتم بتبصوا للمظاهر. بنت طلقة، لابسة على الموضة، وحاطه كيلو ميكياج على وشها، دي اللي تجذبكم بقوة."
ثم تابعت بمرارة:
- "لكن البنت المحترمة والمحافظة على نفسها تبقى بيئة أو وكل."
قاطع حديثهم صوت حنين وهي تهتف بلهفة:
- "أنا عايزة أركب اللعبة دي!"
نسمه بخوف:
- "لا يا حنون، أنا بخاف منها."
حنين بإصرار:
- "بس أنا عايزة أركبها!"
نسمه، بحيرة وتردد:
- "خلاص، اركبيها مع أيهم."
أيهم، برفض:
- "مش هنركب من غيرك، يلا يا نسمه."
نظرت نسمه إلى اللعبة مرة أخرى، وزاد خوفها. قالت بصوت ضعيف:
- "لا، يا أيهم، والله بخاف منها."
ابتسم أيهم بتشجيع وقال:
- "يلا يا نسمه، حنين عايزة تركبها. بلاش تكوني قدوة سيئة ليها وتخوفيها."
ثم أضاف بحسم:
- "لازم تكوني قوية يا ناني، وإلا هزعل منك."
تنهدت نسمه في داخلها، واستجابت لهم رغم خوفها. كانت تتمنى لو كان مروان بجوارها، لتحتضنه وتشعر بالأمان.
وفي تلك اللحظة، كانت تحتضن حنين بقوة وهي تغمض عينيها، كأنها تحاول أن تجد الأمان في ذراعيها.
*******
في مكان آخر، عند مروان، كان يتحرك بغضب شديد.
الغضب والغيرة كانا يقتلان مروان من الداخل.
دخل سيف فجأة،وهو يهتف :
- "مالك يا بني؟ شايت في الكل ليه كده؟ الكل عنده رعب من حالتك وغضبك الزائد. في إيه، مالك النهاردة؟"
مروان، لا يستطيع الكلام، رد بصوت ثائر:
- "لو سمحت يا سيف، أنا مش طايق نفسي."
هتف سيف بتروي:
- "مالك بس يا صاحبي؟"
مروان، بنبرة واضحة من الغيرة:
- "نسمه خرجت هي وحنين مع أيهم، وأنت عارف أسلوبه."
سيف، ضاحكًا:
- "لا، ما تقولش. مروان الفيومي، اللي الكل بيغير منه ويتمنى يكون مكانه. غيران من أيهم؟"
مروان بحدة :
- " أغير من مين أنت . شكلك رايق وأنا مش فايق."
سيف، بهدوء:
- "البنت محترمة، ومالهاش في جو أيهم. دي ما يتخافش عليها لأنها بتحبك. كلمها، وأنت تهدى."
مروان، بغضب وضيق:
- "وليه هي ما اتصلتش بيه؟ تلاقيها مش فاضية."
تنهّد سيف بصبر، وقال:
- "الأصول، أنت اللي تتصل وتطمن عليها أو على حنين. ولو مضايق قوي كده، شوف هما فين وروح عندهم. كمل اليوم معاهم."
مروان، باعتراض:
- "ليه؟ عشان تفتكر إني مدلوق عليها؟ لا، طبعًا."
سيف، وهو يحاول تهدئته:
- "بص يا مروان، طريقتك دي غلط. أنت فكرت مرّة تاخدها و تخرجوا تتعشوا برا؟
أو تفضي يوم كامل معًاها ، تروحوا النادي، تتكلم معاها وتقرّب منها؟ أنت بقالك كام شهر متجوز، أهتميت مرّة تتكلم معاها، تقرّب منها، تغيّر فكرتها عنك؟ لا يا صاحبي، أنت غلط، وهتخسرها."
مروان، في صمت، كان يستمع.
سيف، بحسم:
- "لو بتحبها بجد زي ما أنا شايف، عبر عن الحب ده. خليه يخرج للنور عشان هي تشوفه."
********
وقفت حنين بملل، جذبته من يده قائلة:
- "هنفضل واقفين كده؟ أنا تعبت."
نسمه، بقلق:
- "معلش، المكان هنا بيكون زحمة كده، لو تعبتي قولي لي."
أيهم، بعزم:
- "لا، مش هستنى كل ده. تعالوا، خليكوا هنا."
ذهب أيهم إلى الكاشير، وتحدث مع البنت هناك. وبعد لحظات، رجعت البنت بالأوردر. أخذه أيهم منها، وشكرها بابتسامة مغرية. ثم غمز لها بعينين مليئتين بالشقاوة.
نسمه، تراقب تصرفاته بابتسامة:
تتابع تصرفاته المجنونة. عاد أيهم، وهو يغمز لهم بمرح.
حنين، بفرح، صفقت له:
بينما نسمه هتفت بعتاب
- "والله يا أيهم، حرام عليك. البنت كانت مسبلة وشارده في عيونك، يا عيني."
أيهم، وهو يعدل ياقة قميصه بغرور:
- "وأنا؟ أي حد، أنتي بتستقالي بمواهبي."
نسمه، وهي تضحك:
- "بس حرام عليك، أنت لعبت بمشاعرها."
أيهم، بتهكم:
- "أنا؟ والله أبداً! أنا اتغزلت في شعرها وعيونها وبس، هي العايزة تصدق."
تناولت نسمه الطعام وهي تتمتم:
- "أنت مالكش حل."
أيهم، بمرح:
- "ليه؟ ما أنا قاعد أثبتك من الصبح، وما حصلش حاجة."
نسمه، بثقة:
- " أنا مش أي حد، وماليش خالص في التثبيت."
أيهم، مبتسماً:
- "مسيرك تيجي يا ملوخية تحت المخرطة."
نسمه، بعينين متسعتين من الدهشة:
- "مش ممكن! أنت جبت الكلام ده منين؟ بذمتك، أنت جاي من فرنسا، بلد الأتيكيت والرومانسية؟"
أيهم، وهو يعدل ياقة قميصه:
- "لا، ما يغركيش. أنا جايبها من تحت."
ظلت نسمه تنظر إلى هاتفها بين الحين والآخر.
ثم سمعت صوت أيهم يقول:
- "مش هيتصل."
نسمه، وهي تتوتر من لهفتها الظاهرة:
- "مين ده؟
أيهم ::
اللي بتبصي في الفون بتاعك كل دقيقتين على أمل إنه يتصل."
أيهم، بحذر:
- "إحنا قولنا أخوات. والأخوات مش بيكدبوا على بعض."
كلماته جعلتها تشعر بالحزن، فتمتمت:
- "أنا مش متوقعة منه كتير، بس غصب عني."
أيهم، وهو يقترب ليواسيها:
لكنها ابتعدت بحدة، متجنبة مرمى يده.
أيهم، وهو يبتعد بخجل:
- "أسف، مكنش قصدي أزعجك. كنت عايز أهديكي."
نسمه، بضيق:
- "أنا عارفة قصدك، وعارفة إن حياتك اللي كنت عايشها ده عادي، بس أرجوك، ماتخليش ثقتي فيك تضيع."
********
يتبع
نسمه متمردة
بقلمي أمل مصطفي
البارت الرابع عشر
**********
اقترب أيهم يواسيها، لكنها ابتعدت عن مرمى يده بحدة، أشعرته بالخجل من تهور تصرفه، أردف معتذرًا:
– آسف، أنا... كان قصدي أهديكي.
رمقته بنظرة قوية:
– أنا عارفة قصدك، وعارفة إن حياتك اللي كنت عايش فيها ده عادي، بس أرجوك... ما تخليش ثقتي فيك تضيع.
ثم تابعت وهي تلتفت:
– ويلا، عايزة أصلي العصر.
أخذت حنين وتركته خلفها.
كان ردّ فعلها إعلانًا واضحًا عن ضيقها من تصرفه، حدث نفسه وهو ينظر إلى أثرها:
– أنا لازم أمشي قبل الموضوع ما يقلب حب... أنا بقالي كام يوم بس عارفها، ومشاعري بتروح باتجاه غلط. أنا كده بخون خالتي وصاحب عمري، وأنا مش ممكن أسمح بكده.
******"*""
عاد مروان، وجد والده ووالدته. ألقى عليهما التحية وهو يمرر عينيه في المكان يبحث عنها:
– مساء الخير، هم لسه مرجعوش؟
وجدي: مساء النور.
لترد سهير:
– لا يا حبيبي، أنا كلمت نسمة، و جايين في الطريق.
زفر بضيق، وتوجه للأعلى وهو يتمتم:
– هاخد شاور، يكون العشاء جهز.
دخل غرفته وهو متضايق مما يحدث، لكنه لا يريد إظهار ضعفه أمامها بعد رفضها له في المرة الأخيرة. تنهد بتعب، وجلس على إحدى الكنب. لم يعد يحب غرفته منذ أن تركتها... كأنها أصبحت شيئًا أساسيًا في حياته.
*******
نزل مروان في نفس توقيت دخول نسمة وأيهم، وهما يضحكان.
شعر بنار في جسده من شدة الغيرة، وتمنى لو يستطيع أن يأخذها في حضنه، يمنعها من الابتسام أو الحديث معه.
– مساء الخير.
رفعت سهير وجهها عما بيدها، وهي تبتسم:
– مساء النور. شكلكم اتبسطتوا النهارده.
توجهت لها نسمة، تقبلها بسعادة:
– جدًا جدًا يا سوسو، اليوم كان محتاجك.
والد مروان قال مبتسمًا:
– ربنا يخليك يا أيهم، لأنك رجّعت لنسمة ضحكتها اللي كانت وحشاني بقالها فترة.
شدّت نسمة من احتضان سهير:
– اليوم كان جميل... بس ابن أختك يتخاف منه على البنات!
كل هذا الحوار جرى دون أن يشعروا بمن يقف يتملك منه الغيرة والغضب...
جلس أيهم وقال بابتسامة هادئة:
– أنا برده... دانا اللي خايف على قلبي منك. أنا عمري ما قضيت وقت جميل وخفيف زي ده. أنا حقيقي بشكرك.
لاحظت سهير وجود ابنها واشتعال مشاعره، فقطعت ما يحدث قائلة:
– طيب، يلا عشان العشاء.
رد أيهم ونسمة في نفس اللحظة:
– لا والله، إحنا كلنا قبل ما نيجي.
أكملت نسمة، وهي تنهض:
– أنا حاليًا نفسي أنام... بس هطلع أحمّي حنين و أنيمها. تصبحوا على خير.
ثم التفتت إلى أيهم:
– أوعى تنام قبل ما تصلي العشاء.
تمتم أيهم برضوخ:
– حاضر.
******
رمقه الجميع بتعجّب، وأولهم سهير، وهي تسأل باندهاش:
– أنت بتصلي؟
هتف أيهم بمرح:
– صليت كل فروض النهارده... بأوامر عليا!
شعرت سهير بالخوف على قلب ابن أختها، وابنها الثاني، من حبه لنسمة... وكسر قلبه، لأنها متأكدة من عشق نسمة لمروان.
**********
بينما كانت نسمة تصعد بحنين، تقابلت مع مروان. كانت نظرته لها غريبة لم تفهمها. ألقت عليه التحية:
– مساء الخير.
نظر لها مروان، ولم يرد، ثم تركها وصعد السلم مرة أخرى.
شعرت نسمة بالحزن... فهي كانت تحلم معه بحياة رومانسية سعيدة، وليست تلك التي تعيشها الآن.
********
في الصباح، جلس الجميع على السفرة.
نزل مروان قائلًا:
– صباح الخير.
فأجاب الجميع في صوت واحد:
– صباح النور.
نادا، الخادمة، وهو يمر بجانبهم:
– اعملي لي قهوة و هاتيها المكتب.
توجهت إليه سهير برجاء:
– طب افطر الأول يا حبيبي.
لكنه لم يحِد بنظره عن نسمة، التي كانت تتناول فطورها مع حنين وأيهم، دون أن تُظهر أي اهتمام بغيابه،
ليهتف ببرود:
– مليش نفس.
رقّ له قلب سهير، التي لم تغب عنها نظرته نحو نسمة:
– بس إنت يا حبيبي نمت من غير عشاء...
أجابها وهو يبتعد:
– معلش يا أمي، مصدّع شوية.
ثم تركهم دون أن يضيف كلمة.
أما نسمة، فقد اعتصر الحزن قلبها. كانت تتمنى لو استطاعت منعه عن شرب القهوة قبل الإفطار، لكنه لم يمنحها فرصة.
ظل مروان يتحرك في غرفة مكتبه. كان يتمنى أن ترفض وتطلب منه تناول طعامه أولًا... لكنها مجرد تخيلات لم تحدث.
دخل عليه وجدي وسأله:
– هتعمل إيه في الحفلة؟
رد مروان بثقة:
– أنا مجهّز كل حاجة، ما تشغلش بالك.
ثم تناول قهوته، لكنه لم يحتمل البقاء في المكتب أكثر، توجه إلى حيث يجلس الآخرون.
قال وهو يوجّه كلامه لأيهم:
– اعمل حسابك يا أيهم، الشلة كلها مستنياك النهاردة... وشاهي عايزة تشوفك.
شعرت نسمة بنغزة في قلبها. أما زال على اتصال بها؟
هل يتلاعب بمشاعري؟
هل يستغل حبي له وهو ما زال يكن لها المشاعر؟
بيحبها؟
جلدت نفسها بكلمات قاسية:
– أوعي تحلمي إنك تكوني شيء مهم بالنسباله... ده حتى مش مراعي مشاعرك، وهو بيجيب سيرتها قدامك.
فاقت من شرودها على صوت أيهم:
– إيه رأيك يا نسمة، لما تيجي معانا؟ الجو ده هيعجبك.
تمتمت بصوت مختنق بالحزن، وهي تكاد تبكي:
– مش هينفع... عندي محاضرات بدري.
كانت كلماتها ثقيلة، محمّلة بوجع أكثر من أن يُخفى.
هتف أيهم بإصرار:
– مافيش مشكلة... نروح ساعة ونرجع.
كانت تنتظر منه هذا الطلب، وهذا الإصرار.
لو أن مروان طلب منها الأمر نفسه، لرقصت فرحًا، ووافقت حتى لو كان غدًا يوم تتويجها العلمي. لم تكن لتهتم؛ كل ما يهمها هو تواجدها معه... هو فقط.
لكنها ردّت بإصرار هادئ:
– معلش يا أيهم.
فجأة، هتف مروان بحدّة وغيرة لم يستطع إخفاءها، وهو يوجه حديثه لأيهم:
– سيبها... هي ملهاش في السهرات دي.
فهمت كلماته بالخطاء ونظرت إليه بحزن، ثم قالت بنبرة خافتة:
– عندك حق... السهرات دي ليها ناسها.
ازداد عناد أيهم، وقال بحدة:
– خلاص يا نسمة، والله لو ما جيتي معايا... مش رايح.
تدخل وجدي، مشجعًا بلطف:
– خلاص بقى يا حبيبتي، روحي معاهم، غيري جو. الحفلة فيها بنات وشباب، وجوزك معاكي.
لم ترد أن ترفض أول طلب من والد زوجها، لذلك تمتمت بموافقة، رغم التردد الذي سكنها:
– حاضر يا بابا.
********
عند أحمد
تحدث نادر بصوت مرتفع:
– أنا خارج أكلم أهلي برّه.
خرج أحمد خلفه وهو يردّ بخبث:
– أهلك برضه؟ ربنا يسهله يا عم... عقبالنا!
رد نادر بغيظ:
– هو إنت محدش يعرف يضحك عليك أبدًا؟
ضحك أحمد وهو يهز رأسه بثقة:
– لا، لأني بشغل عقلي... لو كنت هتكلّم مامتك، كنت كلّمتها قدامي عادي، لكن دي مش ملامح واحد هيكلم أمه... ده توتر واحد هيكلم حبيبته.
نفخ نادر بضيق:
– أنا مش هخلص!
ثم ترك الغرفة، وخرج ليتصل بـ لمار.
ردّت بسرعة وكأنها كانت في انتظاره.
قال بلهفة:
– إزيك يا لمار؟ أنا صحيتك؟
تمتمت بخجل:
– لا، أبدًا... لسه مانمتش.
سألها بحنان:
– عاملة إيه؟
– أنا الحمد لله بخير، وإنت عامل إيه؟
– ماشي...
قالتها ثم ساد صمتٌ قصير، قطعته بصوت حزين:
– بابا وحشني جدًا يا نادر...
شعر نادر بصخب داخلي، وازدادت ضربات قلبه من نطقها لاسمه للمرة الأولى.
– إن شاء الله أول ما أرجع، نروح أنا و إنتِ نطمن عليه...
أنا مش هأمن أبعتك لوحدك، وأنا وعدته إنك مش هتروحي هناك خالص.
قالت لمار بصوت مرتجف:
– بس أنا خايفة عليه...
هتف باطمئنان:
– إن شاء الله خير... أنتي وحشتيني يا لمار.
تهرّبت من الردّ وقالت:
– بسمع إن المكان عندكم جميل جدًا.
قدّر خجلها، وردّ بابتسامة:
– فعلًا جميل... لما المشروع يخلص، هاخدكم يومين قبل ما نسلّم السكن.
ضحكت وقالت بمكر:
– بيقولوا الأجانب عندكم بيمشوا بمايوهات!
ضحك نادر بمرح:
– آه والله، حاجة صعبة... بس أحمد لازق في قفايا، يقول لي "غُض بصرك، غُض بصرك"، لحد ما خنقني!
تمتمت بغيرة:
– يعني إنت عايز تبص؟
– لا خالص! أوعي تفهميني صح...
ثم انفجر ضاحكًا.
قالت لمار بغضبٍ مصطنع:
– طيب، ابقى خلّيهم ينفعوك... تصبح على خير.
هتف بضحكة:
– استني يا بنت! أنتي خُلُقك ضيق ليه كده؟ ما توسّعيه شوية!
لم تعرف لمَ تضايقت بهذه الطريقة، فقط تمتمت بضيق:
– طيب يا خفّة... سلام.
ثم أغلقت الخط.
نظر نادر إلى الهاتف بعدم تصديق، وقال محدثًا نفسه:
– آه يا بنت المجنونة! البت دي هبلة ولا إيه؟ قفلت في وشي!
******
في المساء، تجهّز الجميع للخروج، ووقف كلٌّ من مروان وأيهم في انتظار نسمة.
نزلت نسمة وهي ترتدي فستان سهرة أوف وايت، طويل وواسع، يزينه حجاب بسيط زاد وجهها نورًا وجمالًا.
كانت متألقة بهدوء، يشعّ منها سحر أنيق لا يحتاج إلى بهرجة.
نظر إليها مروان بصمت، دون أن ينبس بكلمة.
شعرت نسمة بخيبة أمل، فقد توقعت منه تعليقًا... لمسة إعجاب... نظرة تختلف، لكنها لم تجد منه شيئًا. صمته كان كفيلًا بأن يُطفئ شيئًا من فرحتها.
أما أيهم، فأطلق صفارة إعجاب طويلة، ثم قال بمرح:
– إيه يا بنتي! الشياكة والجمال ده كله!
لو البنات تعرف إن الحجاب بيزيدهم جمال، ماكنتش واحدة خلعته!
ابتسمت نسمة بخجل، ثم قالت بهدوء:
– شكرًا على ذوقك.
***********
وصلوا بعد وقت، وكان في استقبالهم سيف وفريد وشاهي، واثنان من أصدقاء مروان وزوجاتهما.
أمسك مروان يد نسمة بتملّك، مما أشعرها بفرحة كبيرة...
لكن هذه الفرحة ما لبثت أن ماتت في مهدها، حين رأت شاهي تقيمها بنظرة فاحصة
من رأسها حتى قدميها، وكأنها تزنها بعينٍ لا تخفي احتقارها. شعرت نسمة بضيق.
اقتربت شاهي من مروان، وقامت بتقبيله أمام نسمة، ثم فعلت الأمر ذاته مع أيهم، الذي علّق مستنكرًا:
– إيه يا شاهي، مش هتسلمي على نسمة... مرات مروان؟
********
رمقتها شاهي بتعالٍ، ثم قالت ببرود:
– هاي، هي دي بقى؟
لم يرد مروان، وترك الأمر لنسمه فهو يعلم كبرياء أنثاه وأنها لن تسمح لأحد مهما كان مس كرامتها لذلك لم يرد علي شاهي بل تركها وجذب نسمة ناحيته، وسلّم على الجميع.
جلست نسمة، وبدأ الندم يتسلّل إليها... تشعر بالغربة في تلك الجلسة. هنا، ليس مكانها. فالجميع يتشاركون الحياة، الأفكار، وحتى أسلوب اللبس.
لكنها لم تستطع إنكار روعة المكان ورُقيّه، فقد جذب انتباهها من اللحظة الأولى.
كانت شاهي تجلس وهي تشتعل من الغيرة. لقد خدعها مروان عندما سألته عن شكل زوجته، فقال إنها "عادية"،
لكنها الآن ترى أمامها فتاة جميلة، ذات ملامح أجنبية لافتة، رغم خلو وجهها من أي مساحيق تجميل.
ومع ذلك، كانت تعرف كيف تتلاعب... والمستوى الاجتماعي هو السلاح الأمثل للانتقام.
قالت بغرور، وهي تتفحص المكان بنظرة مفتعلة:
– شايفة المكان عاجبك؟
أنتِ طبعًا أول مرة تدخلي مكان زي ده.
تمتمت نسمة لنفسها بسخرية:
هل هي مجنونة؟ تريد إحراجي و كأني من طبقة أدنى؟
ثم رفعت حاجبها بسخرية خفيفة، وأجابت بابتسامة مرحة:
– آه والله، أصل إمكانياتي ما تسمحش بمكان زي ده.
ابتسم الجميع على روحها وتواضعها...
فهي زوجة مروان الفيومي، وهل يوجد أغنى من ذلك؟
ثم أكملت بثقة:
– رغم إنّي بحب الأماكن البسيطة... بتحسي فيها بروح طيبة وجميلة، وألفة من غير مصالح ولا مظاهر كدابة.
بس بحاول أتعود، بما إني بقيت فرد من أفراد الطبقة المخملية!
ازداد ضيق شاهي و غضبها، وهي ترى الإعجاب في عيون الحاضرين تجاه نسمة، من ردودها الدبلوماسية، وهدوء شخصيتها.
قالت شاهي بسخرية مصطنعة:
– و ياترى... الموسيقى عاجباكي؟ أصل هنا مش بيشتغل غير أجنبي.
أجابت نسمة بثقة تناقض غرورها المفترض:
– أنا بحب الأجنبي... والعربي.
ليا ذوق من كل حاجة.
بينما مروان يستمتع إلى أبعد الحدود بثقتها في نفسها، وردودها الذكية المزدوجة التي تعبر عن فطنة وذكاء.
كم تمنى في تلك اللحظة أن يُقبّل يدها... فقط ليعبّر لها عن فخره بأن اسمها اقترن باسمه.
هتفت نهى، زوجة وائل، صديقهم، بإعجاب صادق:
– حقيقي... ذوقك يجنّن يا مروان!
نسمة جميلة جدًا ورقيقة... ربنا يخليكم لبعض.
خجلت نسمة من المدح الذي وُجّه لها، فردّت بذوق:
– شكرًا لذوقك.
وجّه وائل حديثه إلى أيهم، قائلاً:
– وحشتنا قعدتك وهزارك يا أيهم.
سأله فريد بفضول:
– ما جبتش واحدة من صحباتك ليه المرادي يا أيهم؟ أوعى تكون تبت!
ضحك أيهم وهتف نافيًا:
– لا، بس حبيت أكون "فري" المرة دي.
تدخل سيف ضاحكًا:
– كويس... عشان ترسمني زي ما وعدتني.
هتفت نسمة بدهشة صادقة:
– إيه ده! إنت بترسم؟
نظر إليها أيهم بتواضع:
– على قدي...
قاطعه زاهر بحماس:
– لا، ما تقولش كده! ده إنت أحسن من الرسّام اللي رسم الموناليزا نفسها!
هتفت نسمة بدهشة:
– مش معقول! دي خيانة! إزاي ما تقوليش؟
أخيرًا، وجدت شاهي ما تتلاعب به، فابتسمت بخبث وهي تهتف:
– و يقولك ليه؟ لِحقتوا تكونوا أصحاب!
ردّت نسمة بحدة وقوة، نبرة صوتها لا تخلو من الغضب:
–
مافيش صُحوبية بين بنت وولد... إحنا إخوات، وفيه فرق كبير، خلي بالك من كلامك.
تدخلت شاهي بدلال مصطنع وهي تتوجّه إلى مروان:
– شوف يا مروان... بتقول إيه!
نسمة في نفسها، وهي تكتم ضيقها:
طبيعي... هيقف في صف حبيبته. هو كمان من نفس الحياة ونفس الفكر.
كانت تنتظر أن يُصدّق على كلام شاهي، لكنها فوجئت بردّه.
فقد تحدث بهدوء وقال:
– أنا مع نسمة. دي تربيتها، وكل واحد تبع اللي اتعود عليه... وأنا باحترم رأيها جدًا.
*******
مرّ النادل على جميع الطاولات، وهو يسأل باحترام:
– عن وجود أحد يتكلم اللغه الالمانيه فكل الحضور من أصحاب الطبقه المخملية والمدارس الانتر ناشونال ؟
سألته نسمة باستغراب:
– فيه حاجة؟
أجابها:
– فيه ضيوف ألمان، مش عارفين نتعامل معاهم بالانجليزي
.
والمترجم اتأخر في الطريق.
استأذنت من مروان، الذي أومأ بالموافقة، ثم قالت:
– أوكي، أنا جاية معاك.
ذهبت مع النادل، وأخذت طلباتهم ونقلتها إليه بلغة سلسة وواضحة.
رفضت بشدة طلبهم للخمر، وشرحت لهم سبب الرفض بابتسامة لطيفة.
تفهموا موقفها و شكروها على لباقة تعاملها.
عادت نسمة إلى طاولتها، تحت نظرات شاهي الحاقدة.
نظر إليها مروان بتعجب وقال:
– أنا أول مرة أعرف إنك بتتكلمي ألماني!
رمقته بحزن، فهي تعلم الآن كم هو بعيد عنها، لا يعرف عنها شيئًا.
تمتمت بهدوء:
– أنا بتكلم أربع لغات.
علقت هدى، زوجة أحد أصدقاء مروان، بدهشة:
– بس شكلك صغير... لحقتي تتعلمي كل ده إزاي؟
أجابت نسمة ببساطة:
– في المدرسة اتعلمت إنجليزي و فرنساوي، وفي الصيف ، كنت باخد كورسات أنا و أخويا أحمد.
**********
أكد سيف كلام نسمة وهو يهتف:
– فعلاً، أحمد كاتب في الـ CV بتاعه أربع لغات.
ابتسمت نسمة بخجل، بينما كان الحضور لا يزال مندهشًا من بساطتها وعمق ثقافتها.
وفجأة، سألت شاهي مروان بدلال مصطنع:
– ممكن ترقص معايا؟
قام مروان دون اعتراض.
وهذا جرح نسمة بشدة، بل شعرت بالإهانة.
كيف لم يراعِ وجودها، و هيئتها بين أصدقائه، عندما يتركها ليشارك امرأة أخرى الرقص أمام عينيها؟ بقيت وحدها، تئن في داخلها، تندم على مجيئها... تلوم نفسها في صمت.
حتى أيهم، اقتربت منه فتاة تطلب منه مشاركتها الرقص، فوافق دون تردد.
كانت نسمة وحدها، غريبة وسط من اعتقدت لوهلة أنها بدأت تنتمي إليهم.
*******
أثناء الرقص، اقترب مروان من شاهي، ونظر إليها نظرة حادة وهو يهمس بتهديد واضح:
– إلزمي حدودك وإنتي بتتكلمي مع نسمة... عشان ما أعملش حاجة تزعلك.
إحنا لما اتقابلنا في المول قلتلك إني صديق، مش أكتر.
ونسمة مراتي، وحبيبتي، واللي مش ممكن أسمح لحد يتعدى حدوده معاها... فهماني؟
تحدثت شاهي بغيرة وغضب:
– مش هي دي اللي كنت بتقول عليها "عادية"؟!
والكل دلوقتي بياكلها بعينه!
ردّ مروان بغضب لا يخفيه:
– نسمة خط أحمر! وآخر مرة تحاولي تقللي منها قدام حد... وإلا حسابك هيكون معايا.
اقتربت شاهي منه أكثر، وصوتها ينزف دلالًا مكسورًا:
– مالك يا بيبي؟ أول مرة تعمل معايا كده؟ وكل ده... عشان "حتة بنت" زي دي؟!
ضغط مروان على خصرها بعنف.
تألمت بشدة من ضغط يده، وهتفت بوجع:
– مروان... إيدك بتوجعني!
ردّ بحدة، صوته حاسم قاطع:
– ده تحذير... عشان تتكلمي على مراتي بأدب.
ودي آخر مرة أشوف فيها وشك في أي مكان أنا فيه.
جلست نسمه حزينة، تتمنى لو رفض حتى يحافظ على هيبتها أمام الجميع، لكن للأسف لم يكترث لمشاعرها.
نظر إليها مروان، ورأى حزنها، فشعر بألم في قلبه. تمنى أن يحتضنها، لكن قربها كان كاللسعة نار تكويه. لذا تعمد الإبتعاد، متحاشيًا شوقه الذي يحرقه، رغم أنها ما زالت عذراء، لكنه يشعر بالراحة فقط عندما تكون في أحضانه. يصبر عليها لأنه، من الأساس، هو من أوصلهم إلى هذا الطريق.
نهضت نسمه لتسأل عن حنين، ثم ابتعدت إلى مكان هادئ، لكن عيني أيهم ومروان لم تفارقاها، تتابعان كل حركة.
أنهت الاتصال، و التفتت وجدت أمامها شابّين يحاولان الإقتراب. وقبل أن تتحرك...
*********
يتبع
نسمه متمردة
بقلمي أمل مصطفي
البارت الرابع عشر
**********
اقترب أيهم يواسيها، لكنها ابتعدت عن مرمى يده بحدة، أشعرته بالخجل من تهور تصرفه، أردف معتذرًا:
– آسف، أنا... كان قصدي أهديكي.
رمقته بنظرة قوية:
– أنا عارفة قصدك، وعارفة إن حياتك اللي كنت عايش فيها ده عادي، بس أرجوك... ما تخليش ثقتي فيك تضيع.
ثم تابعت وهي تلتفت:
– ويلا، عايزة أصلي العصر.
أخذت حنين وتركته خلفها.
كان ردّ فعلها إعلانًا واضحًا عن ضيقها من تصرفه، حدث نفسه وهو ينظر إلى أثرها:
– أنا لازم أمشي قبل الموضوع ما يقلب حب... أنا بقالي كام يوم بس عارفها، ومشاعري بتروح باتجاه غلط. أنا كده بخون خالتي وصاحب عمري، وأنا مش ممكن أسمح بكده.
******"*""
عاد مروان، وجد والده ووالدته. ألقى عليهما التحية وهو يمرر عينيه في المكان يبحث عنها:
– مساء الخير، هم لسه مرجعوش؟
وجدي: مساء النور.
لترد سهير:
– لا يا حبيبي، أنا كلمت نسمة، و جايين في الطريق.
زفر بضيق، وتوجه للأعلى وهو يتمتم:
– هاخد شاور، يكون العشاء جهز.
دخل غرفته وهو متضايق مما يحدث، لكنه لا يريد إظهار ضعفه أمامها بعد رفضها له في المرة الأخيرة. تنهد بتعب، وجلس على إحدى الكنب. لم يعد يحب غرفته منذ أن تركتها... كأنها أصبحت شيئًا أساسيًا في حياته.
*******
نزل مروان في نفس توقيت دخول نسمة وأيهم، وهما يضحكان.
شعر بنار في جسده من شدة الغيرة، وتمنى لو يستطيع أن يأخذها في حضنه، يمنعها من الابتسام أو الحديث معه.
– مساء الخير.
رفعت سهير وجهها عما بيدها، وهي تبتسم:
– مساء النور. شكلكم اتبسطتوا النهارده.
توجهت لها نسمة، تقبلها بسعادة:
– جدًا جدًا يا سوسو، اليوم كان محتاجك.
والد مروان قال مبتسمًا:
– ربنا يخليك يا أيهم، لأنك رجّعت لنسمة ضحكتها اللي كانت وحشاني بقالها فترة.
شدّت نسمة من احتضان سهير:
– اليوم كان جميل... بس ابن أختك يتخاف منه على البنات!
كل هذا الحوار جرى دون أن يشعروا بمن يقف يتملك منه الغيرة والغضب...
جلس أيهم وقال بابتسامة هادئة:
– أنا برده... دانا اللي خايف على قلبي منك. أنا عمري ما قضيت وقت جميل وخفيف زي ده. أنا حقيقي بشكرك.
لاحظت سهير وجود ابنها واشتعال مشاعره، فقطعت ما يحدث قائلة:
– طيب، يلا عشان العشاء.
رد أيهم ونسمة في نفس اللحظة:
– لا والله، إحنا كلنا قبل ما نيجي.
أكملت نسمة، وهي تنهض:
– أنا حاليًا نفسي أنام... بس هطلع أحمّي حنين و أنيمها. تصبحوا على خير.
ثم التفتت إلى أيهم:
– أوعى تنام قبل ما تصلي العشاء.
تمتم أيهم برضوخ:
– حاضر.
******
رمقه الجميع بتعجّب، وأولهم سهير، وهي تسأل باندهاش:
– أنت بتصلي؟
هتف أيهم بمرح:
– صليت كل فروض النهارده... بأوامر عليا!
شعرت سهير بالخوف على قلب ابن أختها، وابنها الثاني، من حبه لنسمة... وكسر قلبه، لأنها متأكدة من عشق نسمة لمروان.
**********
بينما كانت نسمة تصعد بحنين، تقابلت مع مروان. كانت نظرته لها غريبة لم تفهمها. ألقت عليه التحية:
– مساء الخير.
نظر لها مروان، ولم يرد، ثم تركها وصعد السلم مرة أخرى.
شعرت نسمة بالحزن... فهي كانت تحلم معه بحياة رومانسية سعيدة، وليست تلك التي تعيشها الآن.
********
في الصباح، جلس الجميع على السفرة.
نزل مروان قائلًا:
– صباح الخير.
فأجاب الجميع في صوت واحد:
– صباح النور.
نادا، الخادمة، وهو يمر بجانبهم:
– اعملي لي قهوة و هاتيها المكتب.
توجهت إليه سهير برجاء:
– طب افطر الأول يا حبيبي.
لكنه لم يحِد بنظره عن نسمة، التي كانت تتناول فطورها مع حنين وأيهم، دون أن تُظهر أي اهتمام بغيابه،
ليهتف ببرود:
– مليش نفس.
رقّ له قلب سهير، التي لم تغب عنها نظرته نحو نسمة:
– بس إنت يا حبيبي نمت من غير عشاء...
أجابها وهو يبتعد:
– معلش يا أمي، مصدّع شوية.
ثم تركهم دون أن يضيف كلمة.
أما نسمة، فقد اعتصر الحزن قلبها. كانت تتمنى لو استطاعت منعه عن شرب القهوة قبل الإفطار، لكنه لم يمنحها فرصة.
ظل مروان يتحرك في غرفة مكتبه. كان يتمنى أن ترفض وتطلب منه تناول طعامه أولًا... لكنها مجرد تخيلات لم تحدث.
دخل عليه وجدي وسأله:
– هتعمل إيه في الحفلة؟
رد مروان بثقة:
– أنا مجهّز كل حاجة، ما تشغلش بالك.
ثم تناول قهوته، لكنه لم يحتمل البقاء في المكتب أكثر، توجه إلى حيث يجلس الآخرون.
قال وهو يوجّه كلامه لأيهم:
– اعمل حسابك يا أيهم، الشلة كلها مستنياك النهاردة... وشاهي عايزة تشوفك.
شعرت نسمة بنغزة في قلبها. أما زال على اتصال بها؟
هل يتلاعب بمشاعري؟
هل يستغل حبي له وهو ما زال يكن لها المشاعر؟
بيحبها؟
جلدت نفسها بكلمات قاسية:
– أوعي تحلمي إنك تكوني شيء مهم بالنسباله... ده حتى مش مراعي مشاعرك، وهو بيجيب سيرتها قدامك.
فاقت من شرودها على صوت أيهم:
– إيه رأيك يا نسمة، لما تيجي معانا؟ الجو ده هيعجبك.
تمتمت بصوت مختنق بالحزن، وهي تكاد تبكي:
– مش هينفع... عندي محاضرات بدري.
كانت كلماتها ثقيلة، محمّلة بوجع أكثر من أن يُخفى.
هتف أيهم بإصرار:
– مافيش مشكلة... نروح ساعة ونرجع.
كانت تنتظر منه هذا الطلب، وهذا الإصرار.
لو أن مروان طلب منها الأمر نفسه، لرقصت فرحًا، ووافقت حتى لو كان غدًا يوم تتويجها العلمي. لم تكن لتهتم؛ كل ما يهمها هو تواجدها معه... هو فقط.
لكنها ردّت بإصرار هادئ:
– معلش يا أيهم.
فجأة، هتف مروان بحدّة وغيرة لم يستطع إخفاءها، وهو يوجه حديثه لأيهم:
– سيبها... هي ملهاش في السهرات دي.
فهمت كلماته بالخطاء ونظرت إليه بحزن، ثم قالت بنبرة خافتة:
– عندك حق... السهرات دي ليها ناسها.
ازداد عناد أيهم، وقال بحدة:
– خلاص يا نسمة، والله لو ما جيتي معايا... مش رايح.
تدخل وجدي، مشجعًا بلطف:
– خلاص بقى يا حبيبتي، روحي معاهم، غيري جو. الحفلة فيها بنات وشباب، وجوزك معاكي.
لم ترد أن ترفض أول طلب من والد زوجها، لذلك تمتمت بموافقة، رغم التردد الذي سكنها:
– حاضر يا بابا.
********
عند أحمد
تحدث نادر بصوت مرتفع:
– أنا خارج أكلم أهلي برّه.
خرج أحمد خلفه وهو يردّ بخبث:
– أهلك برضه؟ ربنا يسهله يا عم... عقبالنا!
رد نادر بغيظ:
– هو إنت محدش يعرف يضحك عليك أبدًا؟
ضحك أحمد وهو يهز رأسه بثقة:
– لا، لأني بشغل عقلي... لو كنت هتكلّم مامتك، كنت كلّمتها قدامي عادي، لكن دي مش ملامح واحد هيكلم أمه... ده توتر واحد هيكلم حبيبته.
نفخ نادر بضيق:
– أنا مش هخلص!
ثم ترك الغرفة، وخرج ليتصل بـ لمار.
ردّت بسرعة وكأنها كانت في انتظاره.
قال بلهفة:
– إزيك يا لمار؟ أنا صحيتك؟
تمتمت بخجل:
– لا، أبدًا... لسه مانمتش.
سألها بحنان:
– عاملة إيه؟
– أنا الحمد لله بخير، وإنت عامل إيه؟
– ماشي...
قالتها ثم ساد صمتٌ قصير، قطعته بصوت حزين:
– بابا وحشني جدًا يا نادر...
شعر نادر بصخب داخلي، وازدادت ضربات قلبه من نطقها لاسمه للمرة الأولى.
– إن شاء الله أول ما أرجع، نروح أنا و إنتِ نطمن عليه...
أنا مش هأمن أبعتك لوحدك، وأنا وعدته إنك مش هتروحي هناك خالص.
قالت لمار بصوت مرتجف:
– بس أنا خايفة عليه...
هتف باطمئنان:
– إن شاء الله خير... أنتي وحشتيني يا لمار.
تهرّبت من الردّ وقالت:
– بسمع إن المكان عندكم جميل جدًا.
قدّر خجلها، وردّ بابتسامة:
– فعلًا جميل... لما المشروع يخلص، هاخدكم يومين قبل ما نسلّم السكن.
ضحكت وقالت بمكر:
– بيقولوا الأجانب عندكم بيمشوا بمايوهات!
ضحك نادر بمرح:
– آه والله، حاجة صعبة... بس أحمد لازق في قفايا، يقول لي "غُض بصرك، غُض بصرك"، لحد ما خنقني!
تمتمت بغيرة:
– يعني إنت عايز تبص؟
– لا خالص! أوعي تفهميني صح...
ثم انفجر ضاحكًا.
قالت لمار بغضبٍ مصطنع:
– طيب، ابقى خلّيهم ينفعوك... تصبح على خير.
هتف بضحكة:
– استني يا بنت! أنتي خُلُقك ضيق ليه كده؟ ما توسّعيه شوية!
لم تعرف لمَ تضايقت بهذه الطريقة، فقط تمتمت بضيق:
– طيب يا خفّة... سلام.
ثم أغلقت الخط.
نظر نادر إلى الهاتف بعدم تصديق، وقال محدثًا نفسه:
– آه يا بنت المجنونة! البت دي هبلة ولا إيه؟ قفلت في وشي!
******
في المساء، تجهّز الجميع للخروج، ووقف كلٌّ من مروان وأيهم في انتظار نسمة.
نزلت نسمة وهي ترتدي فستان سهرة أوف وايت، طويل وواسع، يزينه حجاب بسيط زاد وجهها نورًا وجمالًا.
كانت متألقة بهدوء، يشعّ منها سحر أنيق لا يحتاج إلى بهرجة.
نظر إليها مروان بصمت، دون أن ينبس بكلمة.
شعرت نسمة بخيبة أمل، فقد توقعت منه تعليقًا... لمسة إعجاب... نظرة تختلف، لكنها لم تجد منه شيئًا. صمته كان كفيلًا بأن يُطفئ شيئًا من فرحتها.
أما أيهم، فأطلق صفارة إعجاب طويلة، ثم قال بمرح:
– إيه يا بنتي! الشياكة والجمال ده كله!
لو البنات تعرف إن الحجاب بيزيدهم جمال، ماكنتش واحدة خلعته!
ابتسمت نسمة بخجل، ثم قالت بهدوء:
– شكرًا على ذوقك.
***********
وصلوا بعد وقت، وكان في استقبالهم سيف وفريد وشاهي، واثنان من أصدقاء مروان وزوجاتهما.
أمسك مروان يد نسمة بتملّك، مما أشعرها بفرحة كبيرة...
لكن هذه الفرحة ما لبثت أن ماتت في مهدها، حين رأت شاهي تقيمها بنظرة فاحصة
من رأسها حتى قدميها، وكأنها تزنها بعينٍ لا تخفي احتقارها. شعرت نسمة بضيق.
اقتربت شاهي من مروان، وقامت بتقبيله أمام نسمة، ثم فعلت الأمر ذاته مع أيهم، الذي علّق مستنكرًا:
– إيه يا شاهي، مش هتسلمي على نسمة... مرات مروان؟
********
رمقتها شاهي بتعالٍ، ثم قالت ببرود:
– هاي، هي دي بقى؟
لم يرد مروان، وترك الأمر لنسمه فهو يعلم كبرياء أنثاه وأنها لن تسمح لأحد مهما كان مس كرامتها لذلك لم يرد علي شاهي بل تركها وجذب نسمة ناحيته، وسلّم على الجميع.
جلست نسمة، وبدأ الندم يتسلّل إليها... تشعر بالغربة في تلك الجلسة. هنا، ليس مكانها. فالجميع يتشاركون الحياة، الأفكار، وحتى أسلوب اللبس.
لكنها لم تستطع إنكار روعة المكان ورُقيّه، فقد جذب انتباهها من اللحظة الأولى.
كانت شاهي تجلس وهي تشتعل من الغيرة. لقد خدعها مروان عندما سألته عن شكل زوجته، فقال إنها "عادية"،
لكنها الآن ترى أمامها فتاة جميلة، ذات ملامح أجنبية لافتة، رغم خلو وجهها من أي مساحيق تجميل.
ومع ذلك، كانت تعرف كيف تتلاعب... والمستوى الاجتماعي هو السلاح الأمثل للانتقام.
قالت بغرور، وهي تتفحص المكان بنظرة مفتعلة:
– شايفة المكان عاجبك؟
أنتِ طبعًا أول مرة تدخلي مكان زي ده.
تمتمت نسمة لنفسها بسخرية:
هل هي مجنونة؟ تريد إحراجي و كأني من طبقة أدنى؟
ثم رفعت حاجبها بسخرية خفيفة، وأجابت بابتسامة مرحة:
– آه والله، أصل إمكانياتي ما تسمحش بمكان زي ده.
ابتسم الجميع على روحها وتواضعها...
فهي زوجة مروان الفيومي، وهل يوجد أغنى من ذلك؟
ثم أكملت بثقة:
– رغم إنّي بحب الأماكن البسيطة... بتحسي فيها بروح طيبة وجميلة، وألفة من غير مصالح ولا مظاهر كدابة.
بس بحاول أتعود، بما إني بقيت فرد من أفراد الطبقة المخملية!
ازداد ضيق شاهي و غضبها، وهي ترى الإعجاب في عيون الحاضرين تجاه نسمة، من ردودها الدبلوماسية، وهدوء شخصيتها.
قالت شاهي بسخرية مصطنعة:
– و ياترى... الموسيقى عاجباكي؟ أصل هنا مش بيشتغل غير أجنبي.
أجابت نسمة بثقة تناقض غرورها المفترض:
– أنا بحب الأجنبي... والعربي.
ليا ذوق من كل حاجة.
بينما مروان يستمتع إلى أبعد الحدود بثقتها في نفسها، وردودها الذكية المزدوجة التي تعبر عن فطنة وذكاء.
كم تمنى في تلك اللحظة أن يُقبّل يدها... فقط ليعبّر لها عن فخره بأن اسمها اقترن باسمه.
هتفت نهى، زوجة وائل، صديقهم، بإعجاب صادق:
– حقيقي... ذوقك يجنّن يا مروان!
نسمة جميلة جدًا ورقيقة... ربنا يخليكم لبعض.
خجلت نسمة من المدح الذي وُجّه لها، فردّت بذوق:
– شكرًا لذوقك.
وجّه وائل حديثه إلى أيهم، قائلاً:
– وحشتنا قعدتك وهزارك يا أيهم.
سأله فريد بفضول:
– ما جبتش واحدة من صحباتك ليه المرادي يا أيهم؟ أوعى تكون تبت!
ضحك أيهم وهتف نافيًا:
– لا، بس حبيت أكون "فري" المرة دي.
تدخل سيف ضاحكًا:
– كويس... عشان ترسمني زي ما وعدتني.
هتفت نسمة بدهشة صادقة:
– إيه ده! إنت بترسم؟
نظر إليها أيهم بتواضع:
– على قدي...
قاطعه زاهر بحماس:
– لا، ما تقولش كده! ده إنت أحسن من الرسّام اللي رسم الموناليزا نفسها!
هتفت نسمة بدهشة:
– مش معقول! دي خيانة! إزاي ما تقوليش؟
أخيرًا، وجدت شاهي ما تتلاعب به، فابتسمت بخبث وهي تهتف:
– و يقولك ليه؟ لِحقتوا تكونوا أصحاب!
ردّت نسمة بحدة وقوة، نبرة صوتها لا تخلو من الغضب:
–
مافيش صُحوبية بين بنت وولد... إحنا إخوات، وفيه فرق كبير، خلي بالك من كلامك.
تدخلت شاهي بدلال مصطنع وهي تتوجّه إلى مروان:
– شوف يا مروان... بتقول إيه!
نسمة في نفسها، وهي تكتم ضيقها:
طبيعي... هيقف في صف حبيبته. هو كمان من نفس الحياة ونفس الفكر.
كانت تنتظر أن يُصدّق على كلام شاهي، لكنها فوجئت بردّه.
فقد تحدث بهدوء وقال:
– أنا مع نسمة. دي تربيتها، وكل واحد تبع اللي اتعود عليه... وأنا باحترم رأيها جدًا.
*******
مرّ النادل على جميع الطاولات، وهو يسأل باحترام:
– عن وجود أحد يتكلم اللغه الالمانيه فكل الحضور من أصحاب الطبقه المخملية والمدارس الانتر ناشونال ؟
سألته نسمة باستغراب:
– فيه حاجة؟
أجابها:
– فيه ضيوف ألمان، مش عارفين نتعامل معاهم بالانجليزي
.
والمترجم اتأخر في الطريق.
استأذنت من مروان، الذي أومأ بالموافقة، ثم قالت:
– أوكي، أنا جاية معاك.
ذهبت مع النادل، وأخذت طلباتهم ونقلتها إليه بلغة سلسة وواضحة.
رفضت بشدة طلبهم للخمر، وشرحت لهم سبب الرفض بابتسامة لطيفة.
تفهموا موقفها و شكروها على لباقة تعاملها.
عادت نسمة إلى طاولتها، تحت نظرات شاهي الحاقدة.
نظر إليها مروان بتعجب وقال:
– أنا أول مرة أعرف إنك بتتكلمي ألماني!
رمقته بحزن، فهي تعلم الآن كم هو بعيد عنها، لا يعرف عنها شيئًا.
تمتمت بهدوء:
– أنا بتكلم أربع لغات.
علقت هدى، زوجة أحد أصدقاء مروان، بدهشة:
– بس شكلك صغير... لحقتي تتعلمي كل ده إزاي؟
أجابت نسمة ببساطة:
– في المدرسة اتعلمت إنجليزي و فرنساوي، وفي الصيف ، كنت باخد كورسات أنا و أخويا أحمد.
**********
أكد سيف كلام نسمة وهو يهتف:
– فعلاً، أحمد كاتب في الـ CV بتاعه أربع لغات.
ابتسمت نسمة بخجل، بينما كان الحضور لا يزال مندهشًا من بساطتها وعمق ثقافتها.
وفجأة، سألت شاهي مروان بدلال مصطنع:
– ممكن ترقص معايا؟
قام مروان دون اعتراض.
وهذا جرح نسمة بشدة، بل شعرت بالإهانة.
كيف لم يراعِ وجودها، و هيئتها بين أصدقائه، عندما يتركها ليشارك امرأة أخرى الرقص أمام عينيها؟ بقيت وحدها، تئن في داخلها، تندم على مجيئها... تلوم نفسها في صمت.
حتى أيهم، اقتربت منه فتاة تطلب منه مشاركتها الرقص، فوافق دون تردد.
كانت نسمة وحدها، غريبة وسط من اعتقدت لوهلة أنها بدأت تنتمي إليهم.
*******
أثناء الرقص، اقترب مروان من شاهي، ونظر إليها نظرة حادة وهو يهمس بتهديد واضح:
– إلزمي حدودك وإنتي بتتكلمي مع نسمة... عشان ما أعملش حاجة تزعلك.
إحنا لما اتقابلنا في المول قلتلك إني صديق، مش أكتر.
ونسمة مراتي، وحبيبتي، واللي مش ممكن أسمح لحد يتعدى حدوده معاها... فهماني؟
تحدثت شاهي بغيرة وغضب:
– مش هي دي اللي كنت بتقول عليها "عادية"؟!
والكل دلوقتي بياكلها بعينه!
ردّ مروان بغضب لا يخفيه:
– نسمة خط أحمر! وآخر مرة تحاولي تقللي منها قدام حد... وإلا حسابك هيكون معايا.
اقتربت شاهي منه أكثر، وصوتها ينزف دلالًا مكسورًا:
– مالك يا بيبي؟ أول مرة تعمل معايا كده؟ وكل ده... عشان "حتة بنت" زي دي؟!
ضغط مروان على خصرها بعنف.
تألمت بشدة من ضغط يده، وهتفت بوجع:
– مروان... إيدك بتوجعني!
ردّ بحدة، صوته حاسم قاطع:
– ده تحذير... عشان تتكلمي على مراتي بأدب.
ودي آخر مرة أشوف فيها وشك في أي مكان أنا فيه.
جلست نسمه حزينة، تتمنى لو رفض حتى يحافظ على هيبتها أمام الجميع، لكن للأسف لم يكترث لمشاعرها.
نظر إليها مروان، ورأى حزنها، فشعر بألم في قلبه. تمنى أن يحتضنها، لكن قربها كان كاللسعة نار تكويه. لذا تعمد الإبتعاد، متحاشيًا شوقه الذي يحرقه، رغم أنها ما زالت عذراء، لكنه يشعر بالراحة فقط عندما تكون في أحضانه. يصبر عليها لأنه، من الأساس، هو من أوصلهم إلى هذا الطريق.
نهضت نسمه لتسأل عن حنين، ثم ابتعدت إلى مكان هادئ، لكن عيني أيهم ومروان لم تفارقاها، تتابعان كل حركة.
أنهت الاتصال، و التفتت وجدت أمامها شابّين يحاولان الإقتراب. وقبل أن تتحرك...
*********
يتبع
نسمه متمردة
بقلمي أمل مصطفي
البارت الخامس عشر
*******
قامت نسمة للاطمئنان على حنين، وتحركت إلى مكان هادئ، لكن عيون مروان وأيهم كانت تتابعها. أنهت الاتصال، وما إن التفتت، حتى وجدت أمامها مجموعة من الشباب يحاولون الاقتراب منها. وقبل أن تنطق، كان مروان وأيهم قد بدأوا يضربونهم بعنف.
التفت إليها مروان وتحدث بعنف:
– إيه خلاكي تمشي من غير ما تقولي؟ افرضي كانوا عملوا فيكي حاجة!
نظرت له بحزن وتحدثت بانكسار:
– أنا كنت بكلم ماما عشان أطمن على حنين، وبعدين أنا بعرف أدافع عن نفسي كويس... أنا بلعب كونغ فو.
سحبها مروان من يدها، لكنها نزعت يدها منه بعنف:
– لو سمحت، ما تلمسنيش!
تصاعد غضبه:
– نسمة، اتكلمي عدل!
هتفت بحدة، وقد استعادت شخصيتها:
– أنا بتكلم عدل، وآسفة إني جيت معاك وعطلتك عن جو العشق الممنوع بتاعك.
ثم التفتت لأيهم:
– لو سمحت، أنا عايزة أمشي.
تضايق أيهم من أجلها، وشعر بحزنها:
– طيب، يلا.
استشاط مروان أكثر، وهتف بغضب:
– يلا فين؟ أنا مش عاجبك ولا إيه؟!
ثم رجع بنظره إلى نسمة:
– وأنتِ يا هانم، مش ماشية مع راجل!
رد أيهم بعدم رضا عن طريقته معها:
– اهدى يا مروان، ما ينفعش كده، الناس بتتفرج علينا.
أشار له مروان بتحذير:
– أيهم، ما تتدخلش بيني وبين مراتي عشان ما أعملش حاجة أندم عليها بعدين!
ثم رجع مروان إلى أصدقائه معتذرًا:
– معلش يا جماعة، مضطرين نمشي عشان حنين.
قالت نهي ورضوى:
– نتمنى نشوفك مرة تانية يا نسمة.
بابتسامة مغتصبة، هتفت نسمة:
– إن شاء الله... وأنا اتشرفت بمعرفتكم، وأتمنى تبقوا تزورونا.
*********
رجع الجميع إلى القصر وهم في حالة صعبة، ما بين الغضب، والحزن، والغيرة.
في غرفة أيهم، جلس يُكمل لوحته التي أمامه، وعيناه تكسوهما حزن عميق على صاحبتها.
همس في نفسه:
هي لا تستحق مثل هذه المعاملة...
قرر أن يترك الفيلا لبعض الوقت، ليريح أعصابه من مشاعر لا يفهمها، ولا يستطيع أن يواجهها.
******
أما في غرفة نسمة، فلم تجد حنين، فجلست تبكي كلما تذكرت مروان وهو يرقص مع شاهي.
حاربت ضعفها، وقامت بمحو دموعها، تلعن قلبها الذي ما زال يعشقه رغم كل شيء.
ولتهرب من ألمها، شغلت إحدى أغانيها المفضلة، ووقفت تتمايل على نغماتها، تحاول أن تستعيد شيئًا من قوتها التي أوشكت أن تنهار.
*******
عند مروان
كان يشعر بغضب من نفسه بسبب ذلك الموقف الذي وضعها فيه أمام أصدقائه، حين تركها ورقص مع شاهي.
يعترف في داخله أنه أخطأ في حقها، لكنه يلومها في الوقت نفسه، فهي لم تُعطه فرصة للاعتذار، بل زادت من غضبه وعصبيته ببرودها وإهمالها له.
فتح هاتفه، فقط ليراها قبل أن ينام، لكنه صُعق عندما رآها تتمايل بطريقة تُسكر العيون.
حدث نفسه بدهشة:
معقول بتعرفي ترقصي بالطريقة دي؟
ظل يتأملها باستمتاع، وعيناه لا تفارق الشاشة، ثم وقف فجأة بحدة، وأغلق هاتفه بعصبية:
– لا... كده كتير!
ثم توجه إلى الحمام ليأخذ حمامًا باردًا، محاولًا تهدئة ذلك الجنون الذي اشتعل داخله.
**********
في اليوم التالي،
توجهت نسمة إلى صديقتها، تسألها بقلق:
– باسنت، شيرين بقالها يومين ما حضرتش، ولما اتصلت بيها مش بترد...
هتفت باسنت بهدوء:
– مامتها تعبانة، ومافيش عندها حد تسيبها معاه.
نظرت إليها نسمة بتعجب من هدوئها:
– مش المفروض نروح نطمن عليها؟ ونديها المحاضرات اللي فاتتها؟
تحدثت باسنت بأسف:
– بابا مش هيِرضى...
نظرتا إلى نهلة في انتظار موافقتها، لكنها اعتذرت:
– أنا ورايا شغل، ماقدرش أتأخر عليه.
قالت نسمة بتفهم:
– خلاص، هاتي عنوانها... أنا هروح أطمن عليها.
---
ظلت نسمة في سيارتها، تحمل هاتفها مترددة، تتأمل الشاشة وهو على وضع الاتصال بمروان.
لكنها لا تريد الحديث معه بعد ما حدث بالأمس.
ظلّت تفكر بحيرة: هل تتصل بوالدته؟ أم والده؟
أم تتصل به أفضل؟ هي مجرد زيارة... يا آه، يا لأ...
وأخيرًا، ضغطت على زر الاتصال، ليأتيها صوته الملهوف:
– ألو؟
قالت باعتذار:
– آسفة لو كنت عطلتك.
ابتعد عن مكتبه، ورد بسرعة ولهفة:
– لا، أبدًا، مافيش عطلة...
تنهدت براحة من رد فعله وتشجعت وهي تهتف ::
– أنا كنت بسأل لو ينفع أروح أزور واحدة صاحبتي.
هتف بسؤال:
– مين صاحبتك دي؟ ساكنة فين؟ عشان أبعَتلك الحرس.
قالت بهدوء:
– مافيش مشكلة، أصلهم ناس على قد حالهم، وماينفعش أروح بالحرس...
لم يرغب في إغضابها، يكفي ما فعله بالأمس، ليردف:
– طيب، خلي بالك من نفسك، ولو احتجتي أي حاجة... كلّيميني.
ابتسمت من اهتمامه، رغم جرحها منه:
– حاضر.
وقف ينظر إلى الشارع من خلف زجاج واجهة مكتبه، يهدئ نفسه، ثم ضحك بقوة على حالته التي تصيبه كلما تحدث معها...
لقد أصبح مجنونًا وضعيفًا.
********
أخذت نسمة الزيارة، وتوجهت إلى حي شعبي، يدل على شدة فقر سكانه.
سألت عن منزل شيرين، أشار لها البائع على منزل متهالك.
نزلت من السيارة، تشعر بعيون الجميع مسلطة عليها.
مجموعة من الشباب يتحدثون وهم ينظرون إليها، لكنها تجاهلتهم، ودخلت من باب المنزل، ثم طرقت الباب.
فتحت شيرين دون أن تعلم من الطارق، وهي تمسح دموعها، لتجد نسمة أمامها، تحمل أشياء بيديها.
شعرت شيرين بالإحراج من شكل المنزل، لكنها همست بخجل:
– اتفضلي...
دخلت نسمة، ووضعت ما بيدها على كرسي متهالك جوار الباب، ثم قامت باحتضانها:
– سلامة طنط، يا شيرين... مالها؟
هتفت شيرين بخجل:
– تعبانة شوية...
نظرت إلى ما أحضرته نسمة:
– ليه التعب ده يا نسمة؟
ردّت نسمة بعدم رضا:
– إنتي عبيطة؟ بقالك يومين مش بتحضري، وباسنت قالت إن طنط تعبانة... طبيعي أجي أطمن عليها، وأشوفك لو محتاجة حاجة، مش إحنا أصحاب؟
تأثرت شيرين بكلماتها الطيبة، وهتفت بامتنان:
– طبعًا... معلش، البيت مش قد المقام.
*********
قالت نسمة برقة:
– متقوليش كده... فين طنط؟
أشارت لها شيرين إلى الداخل:
– تعالي، هي مش قادرة تقوم...
دخلت نسمة إلى الغرفة، وجدت سيدة كبيرة ينهشها المرض. اقتربت منها، وسلّمت عليها، ثم قبّلت رأسها بحنان:
– سلامتك يا طنط... ألف سلامة.
ردّت السيدة بألم وضعف:
– الله يسلمك يا بنتي...
ثم نظرت إلى ابنتها بسؤال خافت، لم تعتد على الزائرين من قبل.
قالت شيرين لتطمئنها:
– دي نسمة يا ماما، زميلتي في الكلية.
مرّت عينا نسمة على والدة شيرين بحزن عميق، ثم قالت بحسرة:
– طنط شكلها تعبانة أوي يا شيرين... إزاي تسيبيها كده؟
هتفت شيرين بالبكاء:
– ماما بتغسل كلى مرتين في الأسبوع، ومش معانا ثمن الغسيل...
والمستشفى اللي بنروح فيها لسه ما جاش دورها، ومش عارفة أعمل إيه...
شعرت نسمة بألم يخترق قلبها من حالتهم، فاحتضنت شيرين وبكت معها، وهي تحاول طمأنتها:
– متخافيش يا حبيبتي، أنا معاكي... يلا، لبّسيها، وأنا هتصل بمروان نوديها مستشفى.
********
خرجت نسمة من المنزل بسبب ضعف الشبكة، وما إن اتصلت، حتى جاءها صوته القلق:
– نسمة، أنتي كويسة؟
ردّت بهدوء:
– أنا الحمد لله بخير، بس كنت عايزة منك خدمة...
قال بسرعة واهتمام:
– أنتي تأمري!
– لو تعرف مستشفى كويسة ممكن ننقل فيها مامة صاحبتي... محتاجة غسيل كلى، بس المصاريف هتكون عليك، لأنهم على قد حالهم ومش معاهم ثمن الغسيل.
ردّ مروان باهتمام فوري:
– مافيش مشكلة... روحي مستشفى *****، وأنا هكلمهم يعملوا اللازم.
ابتسمت نسمة بحب وامتنان:
– شكرًا ليك...
لم يعلم مروان لماذا هذا القلق الشديد عليها، لكنه لم يستطع تجاهله، فهتف بسرعة:
– نسمة، طمّنيني عليكي!
أجابته برقة:
– حاضر... لا إله إلا الله، محمدًا رسول الله.
*********
التفتت نسمة لتدخل إلى المنزل، لكنها فوجئت بأحد الشباب يقترب منها، بينما البقية بدأوا يلتفون حول السيارة.
كانت تعلم منذ البداية أنها لن تخرج من هذا المكان دون خسائر. سيارتها باهظة الثمن، والمكان معدم...
خير، فيه حاجة؟
ردّ أحد الشباب، وكان واضحًا أنه يتعاطى المخدرات، قائلاً:
– عايز التليفون الجميل ده، والفلوس اللي معاكي... وكمان شوية حاجات من المزّة دي.
وأشار إلى السيارة بابتسامة مستفزة.
قالت نسمة بسخرية:
– إيه ده؟ هي أخلاق ولاد البلد اتغيّرت كده؟ بقوا بيقلبوا الضيوف؟
تصدق... دي معلومة جديدة!
صرخ شاب آخر:
– إيه يا مزّة، شكلك بتستهزئي بينا ولا إيه؟
في تلك اللحظة، خرجت شيرين من المنزل وهي تسند والدتها، وهتفت بانفعال:
– عيب كده يا سيد، أنت وعماد! دي ضيفة عندي، وإنتم بتعملوا إيه؟
ده بدل ما تشكروها إنها بتساعد ست مريضة!
قال سيد باستهزاء:
– دي راكبة عربية ثمنها يبني مستشفى! يعني اللي هاخده منها مش هيأثر معاها في حاجة...
ثم اندفع نحو نسمة ليأخذ هاتفها بالقوة، فصرخت شيرين بفزع:
– لاااا...!
*********
عند أحمد
رن هاتفه، فإذا برقم شهد يظهر على الشاشة.
فتح الخط، وأتاه صوتها الباكي:
– كده هِنت عليك؟ كل ده ما تشوفنيش، ولا حتى تطمِّن عليا؟
شعر بقلبه يرقص بين ضلوعه حين أدرك كم تشتاق إليه.
كان صوتها يرتجف وجعًا، حين قالت:
– إنت زيهم؟ بتجري ورا أحلامك، وأنا مش مهمة؟
أردف أحمد بحزن، لأنه يعرف جيدًا مدى إحساسها بالوحدة والإهمال:
– ليه كده؟ أنتي عارفة أنا بخاف عليكي قد إيه...
بس ما فيش بينا ارتباط يسمح ليا أكلمك أو أشوفك.
الأول كانت بتجمعنا الصدف...
---
تحدثت شهد ببكاء:
– أنا عارفة إنك شايفني بنت مش كويسة...
وأنا أكدت ده باتصالي بيك، بس والله، إنت أول شاب في حياتي.
رد أحمد بقلق على حالتها:
– اهدِي يا شهد... أنا مش صغير، وبفهم في الناس،
وعارف إنك ملاك...
بس أنا لسه في أول طريقي، وأهلك مش هيوافقوا بالساهل.
تنهّد، وأكمل:
– أنا محتاج أثبت نفسي، وأعمل اسمي...
عشان أطلبك بقلب جامد.
ولازم تعرفي إن ما فيش في قلبي غيرك.
لم تُصدّق ما تسمعه... هل يحبها فعلًا؟ هل يشعر بها حقًا؟
بجد يا أحمد؟
بجد يا قلب أحمد؟
**********
هجم الشاب على نسمة، فصرخت شيرين في فزع، لكن نسمة لم تكن ضعيفة كما ظنّ.
قابلته بلكمة قوية في فكه أرجعته للخلف؛ فهي تربية أخيها، ولم تكن غريبة على الدفاع عن نفسها.
ساعدت شيرين على ركوب السيارة مع والدتها، وكادت تلحق بهما، لكن شابًا آخر وقف في طريقها، فركلته سريعًا في بطنه، ثم ركبت السيارة وانطلقت بها بقوة.
نظرت إليها شيرين بخجل، وقالت باعتذار:
– أنا آسفة جدًا يا نسمة... أنا السبب.
ردّت نسمة بهدوء، وهي تقود السيارة:
– أنتي مالكيش ذنب في حاجة... هما اللي مش كويسين.
---
وصلت نسمة إلى المشفى، ونزل الثلاثة من السيارة.
فوجئوا بمدير المستشفى في استقبالهم، وقد أمر فورًا بأخذ المريضة لإجراء فحوصات شاملة.
قالت شيرين بصوت قلق:
– المستشفى دي غالية جدًا...
ابتسمت نسمة بإطمئنان:
– ما تقلقيش من حاجة.
تقدّم المدير إليهما بلطف:
– أهلًا وسهلًا يا فندم، ممكن تشرفيني في مكتبي لحد ما يخلصوا الفحوصات؟
دخلت نسمة وشيرين معه إلى مكتب واسع، في غاية الأناقة والذوق الرفيع.
رفع المدير الهاتف واتصل بمروان:
– أيوه يا باشا، المدام موجودة عندي... أي أوامر تانية؟
ثم قال باحترام:
– حاضر يا فندم...
بعد وقت طويل، قالت نسمة:
– شيرين، ماما هتفضل هنا فترة، وإنتي هتفضلي معاها، وأنا كل يوم هطمن عليكم.
هتفت شيرين بامتنان، ودموعها تملأ عينيها:
– ربنا يخليكي يا نسمة... وقفتك معايا دي معملهاش أقرب الناس!
ابتسمت نسمة برقة:
– مافيش شكر بين الصحاب.
---
وبعد نصف ساعة، عادت نسمة وهي تحمل طعامًا لشيرين.
– دي شوية طلبات... حطيهم في التلاجة، ولما تجوعي كلي براحتك.
ولو احتجتي أي حاجة، ده رقمي، ورقم مروان كمان... اتصلي في أي وقت.
********
عادت نسمة إلى الفيلا، وفي طريقها إلى الداخل، رأت وجدي يجلس في الحديقة، وبين يديه كتاب.
اقتربت منه، وقبّلت رأسه قائلة:
– أخبارك يا بابا؟
خلع نظارته وابتسم:
– بخير يا حبيبة بابا.
– اتأخرتِ ليه النهارده؟
قصّت له نسمة ما حدث بالتفصيل، وهو ينصت باهتمام.
تأملها بفخر، ثم قال:
– أنتي قلبك جميل، وعشان كده كلنا بنحبك.
ترددت قليلاً قبل أن تعرض عليه فكرتها، ثم قالت بلطف:
– كنت عايزة أكلّمك في موضوع... لو ينفع؟
– تتكلمي في أي حاجة أنتي عايزاها، يا نسمة.
– صاحبتي دي... ما فيش ليها غير مامتها،
لو ينفع نشوف لها شقة صغيرة، حتى لو أوضة وصالة في حي متوسط،
وإحنا ندفع الإيجار... وهي تشتغل أي شغلانة في الشركة،
تجيب منها مصروفها، وتعالج مامتها...
إيه رأي حضرتك؟
ابتسم بحنان لقلبها الكبير:
– بس كده؟ غالي والطلب رخيص...
أنا معاكي في أي حاجة.
قامت نسمة باحتضانه بحب:
– منحرِمش منك أبدًا يا حبيبي...
وقبل أن تبتعد، سمعا خلفهما صوت سهير المرتفع، وهي تهتف بمرح:
– بتخنوني؟! وفي بيتي؟! قلبي الصغير لا يحتمل!
ضحكت نسمة، وتقدّمت لتقبّلها:
– ماحدش يقدر يخون القمر ده أبدًا...
حتى اسألي بابا، ده حضن أبويا بريء!
ضحك وجدي:
– آه والله!
ثم سألت سهير:
– ماما، فين حنين؟
– جوه مع الدادة، عمالة تسأل عليكي.
يلا ادخلي غيّري، تكون الدادة حضّرتلك الأكل.
قالت نسمة، وهي تؤدي التحية العسكرية:
– تمام يا فندم!
فانفجر وجدي وسهير بالضحك.
قال وجدي بحنان:
– عندك حق يا سهير... البنت جميلة من جوه ومن بره،
وبتحب الكل... ربنا يعدّل ما بينهم.
– يا رب... تفتكر علاقتهم ممكن تتغيّر؟
– إن شاء الله... كله يتغير، وأشوف ولاده.
********
صعدت السلم بخطوات متسرعه، لتجد أيهم واقفًا أمامها. كلما حاولت تجاوز درجة، كان يتوقف في طريقها، يمنعها من الصعود.
"********
يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا