سكريبت كامل حصري في مدونة قصر الروايات
سكريبت كامل حصري في مدونة قصر الروايات
في حيّ صغير يحضنه الهدوء، تتراصف البيوت بمحاذاة أشجار الكينا، وتتصاعد روائح الخبز الدافئ من النوافذ في الصباح. في هذا الحي، كان هناك بيتان لا يفصل بينهما سوى سور قصير من الطوب، مغطى باللبلاب الأخضر، وكأن الطبيعة أرادت أن تؤكد أن بينهما اتصالًا لا يُقطع.
في أحد البيتين عاش سامر، وفي الآخر آدم … صديقان لم يكن أحد يعرف متى بَدأت حكاية صداقتهما. وكأنهما وُلدا معًا من ذاكرة واحدة.
ربما كانت البداية في عمر الخامسة، حين ضاعت كرة سامر وتدحرجت نحو قدمي آدم. يومها رفع آدم الكرة بابتسامة shy خجولة، وركض بها إليه. لم يكن أحدهما يعرف أن تلك الركضة ستستمر لسنوات.
كبر الاثنان، وكل عام يضيف طبقة إلى صداقتهما، حتى صارت صداقتهما ليست مجرد عادة يومية، بل حاجة أساسية تشبه الحاجة إلى التنفس.
لم يكن بينهما الكثير من أوجه الشبه؛ سامر كان ضاحكًا، صاخبًا، عاشقًا للكلمات والمجاز. آدم كان أكثر هدوءًا، يميل للصمت والتأمل. ومع ذلك، كان كل منه منهما مرآةً للآخر، يكمل فراغاته، ويوازن ميله، ويمنحه الأمان.
ديكتاتورية اليوم العادي
كان صباحهما متشابهًا لدرجة أن الجيران يعرفون: إن غاب أحدهما عن المدرسة، فالآخر سيغيب بالتبعية.
هما رفيقان في المقعد نفسه، يتشاركان علبة الطعام حين ينسى أحدهما. في الاستراحة، كانا يلعبان كرة القدم أو يقفزان على الرصيف أو يتبادلان قصصًا من خيالهما.
كان العالم بالنسبة لهما مساحة مغلقة على الحي، المدرسة، ضفة النهر، والمتنزه القديم.
النهر تحديدًا كان عالمهما الخفي، ملاذهما ودفتر أسرارهما. الطريق إليه طويل قليلًا، لكنه مشبع برائحة التراب الرطب. كانت الصخور الملساء على الضفة بمثابة مجلس مفتوح لهما، يتبادلان فوقه الحكايات الكبيرة والأحلام المستحيلة.
وأكثر الجلسات رسوخًا في الذاكرة كانت تلك التي أقسم فيها سامر أنهما سيسافران معًا حين يكبران. ضحك آدم وقتها، لكنه حفظ الوعد كما يُحفظ كنز صغير بعيدًا عن العيون.
لم يكن آدم يعرف أن أباه يبحث عن فرصة عمل في مدينة أخرى. لم يكن سامر يعرف أن الحياة قادرة على الالتفاف على الوعود.
المساء الذي تغيّر فيه كل شيء بدأ عاديًا… حتى دخل سامر منزله، ووجد أمه جالسة في الصالة بعينين تحملان خبرًا ثقيلًا:
— "عائلة آدم ستنتقل… ربما في غضون أسبوع."
لم يتكلم، لكن قلبه هبط، والضوء في عينيه انطفأ فجأة. لم يكن غضبه موجّهًا لشخص، بل كان غضبًا من فكرة أن الأشياء الجميلة مؤقتة.
تلك الليلة، جلس قرب نافذته مطولًا، يحدق نحو نافذة سامر المظلمة. كان كان كمن يخشى أن يستيقظ فيجدها خالية إلى الأبد.
الأسبوع الأخير كان الأثقل في حياتهما. لقاءاتهما ظلت كما هي في الشكل، لكن الجو مشبع برائحة وداع مبكر.
كل ضحكة كانت تنقطع فجأة، وكل جملة تنتهي بصمت.
في المدرسة، كان الأطفال يمرحون، لكنهما كانا يسيران كالظلّين، يلتصقان ببعضهما وكأن الابتعاد لحظة يعني فقدان الوقت الثمين.
آدم لم يجرؤ على حزم حقائبه حتى الليلة الأخيرة، فقد كان يخشى أن تتحول فكرة الرحيل إلى فعل واقع.
في اليوم الذي يسبق الرحيل، اتفقا أن يذهبا إلى النهر للمرة الأخيرة.
كانت السماء شاحبة، والماء أبطأ في جريانه. جلسا على الصخرة التي شهدت كل أحاديثهما الكبرى.
— "أتعلم، سامر؟ أحيانًا أشعر أنني سأستيقظ وأجد أن كل هذا كابوس."
— "وأنا أشعر أنني سأستيقظ وأجدك ما زلت هنا… لكني أعرف أنني سأستيقظ على الواقع."
اقترب سامر من الضفة، التقط حجرًا ناعمًا وأعطاه لآدم:
— "خذه معك… هذا شيء من هنا، ومني."
آدم ابتسم ابتسامة باهتة، كمن يضع ذكرى في قلبه إلى الأبد.
جاءت الشاحنة صباحًا. الناس يتحدثون ويودّعون، لكن سامر كان في عالم آخر.
لم ينتظر آدم أن يكمل التحايا، بل تقدّم نحو سامر واحتضنه. العناق كان طويلًا، كأنهما يحاولان إقناع قلبيهما أن هذه ليست النهاية.
السيارة بدأت تتحرك، وسامر واقف مكانه، كأن خطواته عالقة في الأرض. ظل ينظر حتى تحول المشهدهد إلى فراغ.
بعد الرحيل، صار سامر يكتب رسائل لا يرسلها:
"آدم… النهر لم يعد كما كان. أعتقد أن كل شيء ابتعد معك. الحجارة رطبة لكن بلا دفء…"
في كل رسالة حيلة صغيرة ليشعر أنه ما زال موجودًا في حياته، لكن الصمت على الجانب الآخر كان يذكّره بالمسافة.
آدم لم يعتَد المدينة الجديدة. الشوارع أوسع، لكن قلبه أضيق.
وجوه الناس مجهولة، واللهجة مختلفة. كان يبتسم حين يتذكر لحظة من الماضي، ثم يختفي التعبير سريعًا.
يحمل الحجر في جيبه أحيانًا أثناء مشيه، كتعويذة تمنحه شعورًا بوجود سامر حوله.
سامر صار أقل اندفاعًا، وأكثر صمتًا. تعلم أن يترك مسافة بينه وبين الآخرين، خوفًا من الفقد الجديد.
أما آدم، فقد صار يميل للعزلة والانطواء، وكأنه يحمي قلبه من ضربة أخرى.
بعد عام، عاد سامر لزيارة النهر. جلس على الصخرة، ومد يده إلى الماء البارد. شعر وكأن كل شيء ينتظره هناك: صدى الضحكات القديمة، الوعد الذي لم يتحقق، وظلّ صديقه الغائب.
ذات مساء، وبعد أكثر من سنتين على الفراق، وجد سامر رسالة إلكترونية من آدم:
"سامر… أعرف أنني تأخرت. لكنك حاضر في كل لحظة منذ رحلت. لا أعدك أن نلتقي قريبًا، لكني أعدك أن الوعد القديم ما زال في مكانه."
بين طرفي الغياب
لم يلتقيا بعد، لكنهما كانا يعرفان أن الصداقة الحقيقية لا تموت بالمسافة، ولا تزيدها السنوات إلا رسوخًا.
البحر بينهما طويل، لكن هناك خيطًا غير مرئي يشدّ القلبين دائمًا نحو بعضهما… خيطًا اسمه: الذكرى.
#النهاية
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا