رواية لإجلها الفصل الرابع والاربعون 44الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية لإجلها الفصل الرابع والاربعون 44الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
الفصل الرابع والأربعون
تلك اللحظة التي نرفع فيها أيدينا إلى السماء، نطلب ونتوسّل بقلوبٍ أنهكها الرجاء، نُرسل أنيننا في صمتٍ، نظنّ أن الدعاء لم يُستجب بعد، بينما الحقيقة أن الله سمع وقَبِل منذ اللحظة الأولى؛ لكنه يؤجّل العطاء حتى تتهيّأ أرواحنا لاستقباله، وحتى يأتي في أجمل صورة وأكمل وقت.
فكلّ ما نراه تأخيرًا هو في الأصل تدبير، وكلّ ما نحسبه فواتًا هو لُطفٌ خفيّ يسوقه الله إلينا بحكمةٍ لا تُدركها أعيننا.
كم مرة ظننا أن الطريق قد أغلق، ثم انفتح من حيث لم نتوقّع؟ وكم مرة خذلنا ما أردناه، فوهبنا الله ما لم نطلبه فكان الخير كله فيه؟
إنه اللُّطف الإلهيّ الذي يتقدّم قلوبنا بخطوة، فيحجب عنّا ما يؤذينا، ويمنحنا ما يُصلحنا وإن بَدَا مؤلمًا.
فالحمد لله دائمًا وأبدًا، على اختياراتٍ غلبت أمانينا، وعلى رحمةٍ لم تُفارقنا وإن غابت الإجابة عن مرادنا.
فـ الخير كلّه فيما اختاره الله لنا، وإن تأخّر، فهو قادمٌ بلُطفٍ لا يُوصف، ووقتٍ لا يُخطئ موعده. 🌿✨
الخاطرة الروعة والمراجعة من المبدعة/ القمر سنا الفردوس (بطوط)
..................... ...
الفصل الرابع والأربعون
ها هي قد أتت.
مرٌت عدة أيام وهو في حالة غضب لا يهدأ، وعقله لا يكفّ عن التفكير منذ آخر لقاء جمعه بتلك الملعونة المتلوّنة. كم مرة رآها في شارعٍ أو زقاق، وقبل أن يتمكن من الاقتراب منها، تختفي كأنها زئبق، أو تنحشر داخل تجمعات الناس أو بين النساء.
حتى هنا، في هذا المكان الذي أخذ وعدها بأن تأتيه بطلبه، لم تطأه قدماها إلا اليوم.
كانت أسفل شجرة السنط، تلتقط منها مادة الصمغ الطبيعي ومجموعة كبيرة من الأوراق، تحشرها داخل كيسين من القماش، لكلٍّ منهما استخداماته، سواء طبية تقليدية أو أشياء أخرى يعرفونها هم، بحكم ترحالهم الدائم واستغلالهم لموارد الطبيعة.
أكثر ما يميّز هذه الشجرة هو أشواكها الكثيفة، وهو ما جعلها تأخذ حذرها بتركيزٍ شديد. وكان هذا في مصلحته هو، فور أن وقعت عيناه عليها.
احتبست أنفاسه، وتوهّجت عيناه بوميض صيّاد وجد فريسته، ليقترب نحوها ببطءٍ شديد، بالكاد تلامس أقدامه الأرض حتى لا تنتبه وتهرب منه كما في كل مرة. تقدّم خطوة، خطوتين، حتى إذا حانت اللحظة، وثب نحوها كالفهد، يقيّدها بذراعٍ، والآخر يكتم به أنفاسها.
تلوت بشراسة، وصوتها يزمجر أسفل كفّه القابضة على فمها بقسوة، تغمغم بكلمات بذيئة وشتائم بالجملة. فشدّد هو قبضته، ورجّها رجًّا وهو يزمجر مهددًا:
ـ اِهمدي... واقفلي خشمِك ده من الشتايم والكلام الزِفِر! أنا عطوة مش غريب يا أختي، يعني عارفة غرضي زين قوي؟ آخد حاجتي وأسيبك تغوري في داهية...
خفّت مقاومتها وارتخى جسدها اللَّيِّن بين ذراعيه، مالت برأسها للخلف حتى التقت عيناها بعينيه، تطالعه باستسلامٍ وإغواءٍ جعله ينتفض ويتركها على الفور بغضبٍ متعاظم، زاجرًا بخشونة:
ـ لا يا روح أمّك، بلاها الحركات دي... عشان ما اتعصّبش عليكي أكتر.
رغم قوة الدفعة التي جعلت ظهرها يصطدم بجذع الشجرة بعنفٍ كاد أن يؤذيها، إلا أنها تجاهلت الألم، وقد وجدت ما يخفف عنها في الارتباك الذي حلّ بهيئته ونبرة صوته التي تجلّى فيها الاضطراب رغم تصنّعه غير ذلك، لتزيد من نعومتها وهي تخاطبه باسمه:
ـ وه، وتتعصب عليا ليه بس يا سي عطوة؟ هو أنا عملتلك حاجة؟
ارتفعت قبضته نحوها حتى كاد أن يضربها، لكنها توقفت في الهواء، ينهاها كازًّا على أسنانه حتى تكفّ عن ألاعيبها معه:
ـ في قبر هيلمك إن شاء الله لو ما اتعدلتيش وجبتي الأمانة اللي عندك! أنا مش فاهم والله، غايتِك إيه من حِتّة صورة؟
سمعت منه، فـقطّبت حاجبيها تتظاهر بالاستفهام، لكن سرعان ما بدّلت لتضرب بكفّها على جبهتها مدّعية التذكّر:
ـ قصدك الصورة الـ... أخ... يا وعدك يا نورة، أنا كيف نسيتها دي؟
للمرة الثانية تدفعه للهجوم عليها، وهو بالكاد يحاول أن يتحاشاها، ليباغتها بالقبض على قماش الرداء الذي ترتديه، يدنو بوجهه أمامها صارخًا:
ـ يا بنت الـ... قلتلك بلاها اللوع، ليه غاوية تختبري صبري عليكي؟
أصبحت المسافة الفاصلة بين الوجهين لا تتعدى السنتيمترات، وهو يهدر بالسباب والشتائم التي لا تعيرها اهتمامًا، وقد شرَدت بتلك الملامح الخشنة دون وسامةٍ ظاهرة. ليس جميلاً بالمعنى المعروف، ولكن به شيئًا يجذبها إليه، ذلك الشيء تعرفه تمامًا، وهو ما يصبّرها على وقاحته ومعاملته الدونية لها دون وجه حق.
أما هو، فقد حاول بشتى الطرق أن يمنع ذلك الإحساس بالتأثّر تجاه تلك الملعونة، أو جنيّة البحر كما وصفها في أول لقاءٍ بينهما. لا تكتفي بجمالها الرباني، بل تدفع بأسلحتها الأنثوية حتى تجعله يفقد تركيزه في معظم الأحيان، وتُصعّب عليه مهمته، وهذا ما يضاعف من غضبه.
ـ ساكتة وعمّالة تِسبّلي في عينيكي على أساس إني ممكن أتأثر بواحدة زيّك؟ إدّيني غرضي وغوري، أنا مش طايق أبص في خلقتك أصلاً!
قابلت نورة مبالغته في تحقيرها وتعمّده توجيه الإساءة بابتسامةٍ داخلها، رغم ادعائها المسكنة واستجداءه:
ـ الله يسامحك يا سي عطوة، دايمًا كاسر نفسي. على العموم، أنا برضك مش هشيل منك، بس أعمل إيه؟ شكلي اتلهيت ونسيت الصورة، حتى مش فاكرة حطّيتها فين؟... آه!
صدرت الأخيرة منها بألمٍ حقيقي حين حطّت أنامله تقبض على عنقها ككلّابةٍ حديدية، يضغط بكامل قوته حتى كاد أن يقتلها خنقًا بالفعل، لولا أنه استدرك فعلته قبل فوات الأوان حين رأى التغيّر السريع في ملامحها؛ إذ تحوّلت بشرتها إلى الاحمرار الداكن بسبب احتباس الدم وعدم وصول الأكسجين، واتسعت عيناها بشكلٍ غير طبيعي وهي تناظره بخوفٍ وذُعر.
استفاق نازعًا كفّيه عنها، يراقبها وهي تأخذ أنفاسًا عميقة ومتقطعة، وكأنها تتعلم التنفّس من جديد. تبع ذلك نوبة سعالٍ قوية ومؤلمة، وجسدها يحاول من خلالها إدخال أكبر قدرٍ ممكن من الأكسجين.
حتى إذا استردّت بعضًا من وعيها، تطلّعت بعينين باكيتين تؤنّبانه:
ـ حرام عليك، كنت هتاخد روحي فُطيس عشان صورة! تهون عليك روح بني آدم على حاجة ما تستاهلش؟ قيمتها إيه المرا دي عندك عشان تودي روحك في داهية؟ ولا لما أنت حاببها جوي كده، ما اتجوزتهاش ليه بعد ما اتطلقت من عرفان؟
ـ ما لِكيش صالح!
صرخ بها، وقد التمعت عيناه لأمرٍ لم تفهمه، لينهي بتهديدٍ صارم:
ـ قدامك بكرة يا نورة. إن ما جبتيش الصورة، يبقى اللي وقّفته من شوية هكمّله المرة الجاية، وقولي على نفسك يا رحمن يا رحيم.
ــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ــ
يوم اختبارٍ جديد قد تمّ الانتهاء منه بعد ليلةٍ من السهر والقلق، يليه انتظارٍ أمام لجنتها حتى الاطمئنان على خروجها مبتسمة كالعادة، فلا يتبقى سوى انتظار النتيجة.
أما الآن، فقد حان موعد العودة إلى المنزل الكبير، وقد كان اليوم ممتلئًا بالأشخاص بحضور الشقيقات المتزوجات وأطفالهن.
حسنية التي تترأس الجلسة كعادتها، بصحبة منى وزوجها، مع غياب باقي الشقيقات المنشغلات في المطبخ والأعمال المنزلية لوالدتهن.
ـ يا مساء الخير، دا الحبايب كلهم موجودين!
ألقى حمزة تحيته مرحبًا، ليقابله منصور فاتحًا ذراعيه بمبالغةٍ في رد التحية:
ـ نسيبي الغالي، وحشتني يا غالي!
تقبّل حمزة عناقه مرحبًا بشكٍّ قائلاً:
ـ وفاتح دراعاتك وبتحضن كمان؟ لا شكلك رايق النهارده. يلا المهم إنك وحشتني أنت كمان. وأنتِ يا بت يا منى، عاملة إيه؟ مش عادتِك تبقي هادية؟
أومأت له بابتسامةٍ كإجابة، فتكفّلت والدتها بالرد عنها قبل أن تتجه بالحديث إلى البقية:
ـ سيبوا منى في حالها، مش فايقالكم! طمِّنينا يا بت يا ليلى، عملتِ إيه في الامتحان؟ سبع ولا ضبع؟
ضحكت ليلى، ليأتي الرد من معاذ الذي هلّل بتفاخر:
ـ سبع وسبع الرجال كمان يا حسنية! حرمنا المصون كدها وكدود.
ـ يا خوي وإحنا نكره يعني!
قالتها منى وهي تسحب ليلى لتجلسها بجوارها بعد أن اقتربت منها الأخيرة لتصافحها وتقبّلها، فيأتي دور مزيونة التي دلفت خلفهم مع ريان:
ـ آهه، والبرنسيسة التانية كمان جت! تعالي يا ندلة يا اللي ما بتسأليش. لازم أنا أسأل، لكن أنتِ لأ.
شهقت مزيونة مهرولة إليها بطيبتها:
ـ يقطعني يا حبيبتي، هو أنا أقدر أستغنى عنك برضو؟ حبيبتي يا غالية، والله ملخومة في امتحانات ليلى.
قابلت منى عناقها بحبٍّ دون جدال، فتدخل حمزة مدافعًا عن زوجته:
ـ بتبرّري ليه يا ملكومة أنتِ؟ على أساس هي مقطعة رجليها على البيت؟
ردّت منى بغيظ:
ـ شوف البارد ده كمان! أنا ليا عذري يا حبيبي.
ـ عذر مين يا أمّ عذر؟ كان على رجليكِ نقش الحنّة يا أختي؟
قالها حمزة بسخرية، فجاءه الرد من منصور ضاحكًا:
ـ لاه يا غالي، بس حامل...
ـ هي مين اللي حامل؟
ضحك منصور ليعود ويؤكد بزهو:
ـ المدام يا عمنا، منى أختك حامل!
شيء من الذهول أصاب حمزة وهو يلتفت نحو شقيقته التي صارت تتلقى التهاني من مزيونة وابنتها وشقيقها معاذ، لينضم إليهم مهنئًا بعد أن تأكّد من صدق صهره:
ـ مبروك يا منى، مع إنك موقّفة من كذا سنة، أنا افتكرتك استكفيتِ...
ـ لا يا حبيبي، استكفينا إيه؟ هو في حد يستكفى من العيال برضو؟
تفوه بها منصور بعفويته، غافلًا عن أثر كلماته على من يرسم الإبتسامة اندماجًا معه، لكن داخله غصّة تكونت في حلقه لا يستطيع البوح بها.
فردّت منى بغيظٍ من زوجها:
ـ طبعًا يا حبيبي، هو أنت محتاج تعبّر ولا تتكلم أصلاً؟ والله يا حمزة واخدة كل احتياطاتي، وحالفة من جوايا ما أكرر الغلطة تاني، لكن إرادة ربنا غلبت، أكيد من دعوات الفقري ده، أنا عارفة لما يحط دماغه في حاجة...
ضحك زوجها بصخب أمام تعليقات البقية وتهنئتهم، ليصيب الصمت حمزة وهو يتابعهم.
أما معاذ فصار يهلّل بقدوم طفلٍ سيكون أصغر من طفله، كي يأخذ فرصته ويضربه إن لزم الأمر!
وليلى التي كانت تقيس بطنها بجوار منى، وقد كانت متقاربة معها في الحجم تقريبا ولا تختلف عنها سوى بفرق قليل رغم فرق شهور الحمل بينهما.
حسنية تنظر إليهم برضا، بينما مزيونة التي ظهرت عليها الفرحة بحق، لم تنتبه إلا مؤخّرًا إلى نظرة زوجها الغريبة إليها قبل أن يقوم ويستأذن مغادرًا، فصارت تتبعه بعينيها حتى اختفى خارج المنزل، وعقلها قد وصل أخيرًا إلى سرّ حالة الغموض التي تكتنفه.
ــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ــ
سألت عن مقر تواجده حتى وصلت إليه، لتطأ قدماها ذلك المكان الجديد عليها، رغم عدد الشهور التي قضتها في المنزل منذ زواج ابنتها، ثم زواجها هي أيضًا لتصبح فردًا من العائلة. هذه أول مرة تدخل الإسطبل.
تلك المساحة المصممة بعناية من الخشب الداكن الذي اكتسب لونًا عتيقًا بفعل الزمن. رائحة التبن الجاف النظيف وجلد السرج المدبوغ تفوح في الهواء، ممزوجة بعبقٍ ترابيٍّ لطيف. وعبر السقف المائل، تتسلل أشعة شمس الأصيل الذهبية لتستقر في شكل أعمدة من النور.
وفي ركن الإسطبل، حيث الضوء أكثر خفوتًا، وقعت عيناها عليه. يقف بوضعٍ شبه ثابت، يسند ظهره إلى إحدى الدعامات الخشبية، نظراته مثبتة على حظيرةٍ واسعة قليلًا، حيث ترقد الفرس الأم، وإلى جانبها كان المهر المشاغب الذي لا يكف عن الحركة، حتى نهض ليشغل المساحة حولها بالقفز يمينًا ويسارًا. مشهدٌ يسرّ العينين، وهو يراقب بصمتٍ ثقيل.
تبدو على ملامحه علامات الإرهاق والهمّ، بالتأكيد هي انعكاس لما يدور برأسه من أفكارٍ تعلمها جيدًا.
ـ حمزة...
نادته كي تنتشله من شروده، وتجذب انتباهه إليها، فتعلق بصره بها حتى اقتربت منه، تخاطبه بابتسامة يشوبها الاضطراب:
ـ إيه الحكاية؟ طلعت من جارنا واختفيت فجأة! حضرنا الأكل، وبقينا ندور عليك عشان تتغدى معانا مش لاقيينك، غير بس الواد ابن أختك منى هو اللي دلّنا، وقال إنه شافك كنت داخل عند الفرسة من يجي ساعة، معقولة كل ده قاعد بتتفرج عليها يا حمزة؟
حمحم بصوتٍ خشن ليجيبها بفتور:
ـ عادي يعني، أنا ممكن أكون سرحت ونسيت الوقت. على العموم أنا أصلًا ما ليش نفس. روحي اتغدي إنتِ معاهم عادي، وأنا شوية كده وهاجي أشرب الشاي معاكم بعد ما أعمل مكالمتين مهمين.
لم تستجب، بل تجمّدت برهة قبل أن تباغته بقولها:
ـ حمزة، هو إنت زعلان عشان مني طلعت حامل؟
احتد بصره نحوها بضيق، ينفي مستنكرًا:
ـ لا طبعًا! إيه اللي بتقوليه ده؟ هحقد على أختي وجوزها يعني؟ نقّي كلامك يا مزيونة!
شعرت بالحرج حين انفعل عليها، لتعبر عن أسفها بصوتٍ مختنق وعينٍ احتجزت فيها الدموع:
ـ معلش، أنا آسفة.
همّت أن تلتف وتبتعد عنه، وقد تحركت قدماها خطوتين إلى الخلف كي تغادر، ولكنه كان الأسبق، يمنعها قابضًا بيده القوية على ساعدها ليردّها إليه:
ـ رايحة فين وهتسيبيني؟ أنا لسه سمحتلك تمشي أصلًا؟
قال الأخيرة بنبرةٍ مازحة، ليرفع ذقنها إليه متطلعًا إلى عينيها التي التمعت بالعبَرات، فزاد ذلك من ثقل ما يشعر به، ليضمها بين ذراعيه دون سابق إنذار، مرددًا بندم:
ـ ما عاش ولا كان اللي ينزّل دمعتِك، حتى لو كان حمزة نفسه.
تلقت مبادرته بلهفة، لتشدّ عليه بذراعيها، تسند رأسها على صدره الدافئ، وفي رحِب حضنه الذي تجد فيه ملاذها، لتقول:
ـ أنا حاسة بيك يا حمزة، وعارفة إن اللي جواك مش حقد ولا غيرة عفشة. إنت نفسك تخلّف مني، وأنا أكتر والله، بس... بس...
ـ بس إيه يا مزيونة؟ بس إيه بس؟ اتكلمي الله يرضى عنك، خلينا نشوف لو في مشكلة نحلّها.
لم يكن حديثًا، بل كان رجاءً، وكان ردها الصمت. شعر برجفتها واضطراب أنفاسها، لقد بدأت تتخذ الأمر بجدية لكنها تحتاج إلى الجرأة:
ـ أنا معاكي يا مزيونة وهصبر عليكي، بس المهم تاخدي الخطوة معايا وتجمّدي قلبك. شوفي، نبتدي بإيه؟ دكتورة نِسا ولا دكتورة نفسية تاخدي وتدي معاها في الحديت؟
أيضًا كان ردها الصمت، لكنه لم يدم طويلًا هذه المرة حين قطعته قائلة:
ـ لا دكتورة النسا ولا النفسية هيجبوا فايدة إن ما كنتش أنا مستعدة. اصبر عليا شوية كمان يا حمزة، هانت...
أغمض عينيه وتنهد بتعب، يقبّل مقدمة رأسها عدة مرات قائلًا بقنوط:
ـ أصبر عليكي مية سنة كمان، ولا يهمك يا قلب حمزة.
رفعت وجهها المغرق بالدموع، تتبسم في تضاد مع هيئتها، لتقول بعشقٍ صادق:
ـ أنا بحبك قوي يا حمزة، وبحب ريّان عشان بشم ريحتك فيه، حتى أحيانًا بتمنى أجيب عيل شبهه، يعني يبقى واخد منك ومنه.
ظهرت أسنانه البيضاء نتيجة ابتسامةٍ متسعة حلت بزاوية شفتيه بعد سماعه ولأول مرة لرغبتها في الإنجاب منه. إذن قد اقتربنا، ليغمره الفرح بعد كلماتها، فيأتي رده العملي على الفور، إذ دنا بوجهه يقبّل ثغرها الذي ألطف على قلبه بما يتمنى سماعه.
بادلته مستجيبة بلهفة، فإن كان يرغبها ويرغب الإنجاب منها مرة، فهي أيضًا تعلقت بقربه وأصبحت ترغبه وترغب الإنجاب منه آلاف المرات.
ــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ــ
داخل حجرة المُدرِّسات، وقد تقلص عدد اللاتي يعملن في ذلك الوقت إلى اثنتين فقط تقومان بالأعمال الإدارية. كانت إحداهن اعتماد، والأخرى في المكتب المقابل لها.
كل واحدة منهكة فيما يخصها، حتى رفعتا رأسيهما في اللحظة نفسها، تزامنًا مع الرائحة التي هبّت فجأة تتخلل أنفاسهما مع دخول إحدى السيدات الجميلات برداء العباءة السوداء الباهظة الثمن.
وقفت لحظة تُطل بكليتها من مدخل الباب، وبابتسامةٍ سامة ألقت التحية على المرأة ثم على اعتماد التي أصابها الذهول وهي تراها:
ـ صباح الخير يا أبلة عطيات... صباح الخير يا... أبلة اعتماد! ولا أقولك يا ضُرتي أحسن؟
خرجت الأخيرة بصوتٍ خفيض إلى حدٍّ ما، لتصل العبارة واضحة إلى اعتماد من تلك المسافة القريبة. أما عطيات فقد انتفضت من محلها ترحب بها بمبالغة:
ـ يا أهلًا يا أهلًا بالست هالة، ست الناس بنت العيلة! ده إيه الطلة البهية دي!
قابلت هالة تحيتها بتواضعٍ مُزيَّف، تُصافح المرأة وتتبادل معها الحديث بعجالة أمام اعتماد التي أصابها الذهول بالخرس، والتصقت بالمقعد تراقب الحديث الذي يبدو وديًا أمامها:
ـ عاملة إيه؟ عاملة إيه الست حسنية؟ يا رب تكون بخير. سلّمي لي عليها يا شيخة، من بدري ما شفتهاش.
ـ ما تشوفي وحش يا حبيبتي، هي زينة الحمد لله، بس إنتِ عارفة عاد، هي طول الوقت مشغولة في البيت المليان بعيالها وعيال عيالها.
ـ ربنا يزيدكم ويبارك يا حبيبتي. أنا لازم أعدي عليها بنفسي. لكن إنتِ ما قلتِليش، جاية النهاردة عشان تقديم البنت برضه؟
نفت هالة بابتسامةٍ غير مفهومة، وعينها اتجهت نحو اعتماد تجيبها:
ـ للأسف يا غالية، أنا مش جاية عشان البِت، دي موضوعها اتحل من البداية، والفضل طبعًا يرجع لأبوها، ربنا يخليه. إنما أنا النهاردة جاية لحاجة تانية خالص، جاية لحبيبتي اعتماد... ضُرتي القادمة.
الذهول هذه المرة لم يكن من نصيب اعتماد فقط، بل أصاب زميلتها عطيات أيضًا، والتي صارت تنقل بصرها بين الاثنتين باضطرابٍ ملحوظ.
حتى استفاقت الأخيرة واستعادت بأسها، لتطلب من زميلتها بلطف:
ـ أبلة عطيات، ممكن بعد إذنك تطلبي من الدادة أم صالح تعمل لنا فنجانين قهوة من البن الخصوصي بتاعي؟ معلش يعني.
أومأت المرأة برأسها بارتباك وعجالة:
ـ تمام حاضر... أم صالح مش موجودة النهارده،بس أنا هعملكم أحلى فنجانين قهوة...
وخرجت تُهرول من أمامهما، وكأنها في سباقٍ للحاق بالقطار.
أما هالة فقد تقدمت خطوتين وجلست دون استئذان أمام مكتب اعتماد، تضع قدمًا فوق الأخرى بقصدٍ واضح، لم تغفل عنه الأخرى، لتبادرها بالحديث مباشرة:
ـ ممكن أفهم إيه اللي جابك عندي يا هالة؟
ردت الأخيرة بعد أن زمّت شفتيها بسخرية:
ـ أممم... وحسّك عليّ كمان! بعد ما خدتي الثقة من حمزة نفسه، اللي بيزُق أخوه على جوازه منك، وإنتِ ما صدقتي؟ أموت وأعرف عملتيها إزاي دي؟ قلبك قواكي تكلميه وتحكي معاه وتفضفضي؟ أمّال فالحه بس تلبسي الوش الخشب قدام الكل في البلد، لكن عند عيال القناوي الأمور بتتغير...
قالت الأخيرة بغمزةٍ بطرف عينها، لتُشعل الدماء في رأس الأخرى، فهَدرت بها:
ـ احترمي نفسك يا هالة، وبلاها تلميحاتك الماسخة. مش محتاجة أدافع عن نفسي، عشان أنا فوق مستوى الشبهات أصلًا. عندِك نية تسمعي وتفهمي، أنا ممكن أحكي لك عن الأسباب اللي أدت لكده يعني...
ـ أدّت وزفّت! سيبك من أمور السهوكة اللي ابتدت تظهر عليكي على كِبَر، عشان أنا صاحية وفاهمة جويّ لألاعيبك. على العموم هو اللي جابه لنفسه، حد يسيب هالة ويبُص لاعتماد؟!
حقًا جرحها الوصف، ورغم غلاظة قولها، إلا أنها تؤمن داخلها بقوة أنها بالفعل لن تتفوق عليها في الجمال، لكن لِمَ التفكير، وهي لم تحسم أمرها من الأساس؟!
لتتنهد بيأس، وبنبرةٍ مهزومة سألتها:
ـ تمام خالص يا هالة، إنتِ عندِك حق. ممكن أعرف طلبك إيه مني بقى؟
سمعت منها، وكان رد فعلها أن مالت رأسها بأنوثةٍ وميوعة تخبرها:
ـ ولا حاجة يا سِتّي، أنا بعد كلام خليفة، راجلي وحبيبي، هيبقى ليَّ رأي تاني؟ على العموم يا سِتّي، لو ليكي غرض فيه اتجوزيه، وأنا قابلة بيكي ضُرّة، مدام نصيبي كده.
تعقد حاجبا اعتماد باستنكارٍ وريبة، لتعقّب علي وقاحتها سائلة:
ـ ليا غرض فيه؟! بغض النظر عن الجملة المستفزة، إنتِ عايزة مني إيه بالظبط يا هالة؟
زادت ابتسامتها اتساعًا لتعيد وتؤكد بثقةٍ وغرور:
ـ كلامي مالوش غير معنى واحد بس يا حبيبتي. مش إنتِ اخترتي وعرفتي توقعي الراجل رغم تحذيري ليكي؟ يبقى خلاص بقى... مبروك عليكِ جوزي يا ضُرتي!
اهتز رأس اعتماد بتشتت، لا يمكنها استيعاب تصرفات تلك المرأة. هذا الهدوء المبالغ فيه وإظهار التسامح في أمرٍ كهذا أبعد ما يكون عن شخصيتها. اللعنة! ماذا تدبّر لها؟
ـ بقولك إيه يا هالة، بصي... انسي كده يا حبيبتي وشيلي الفكرة خالص من دماغك، أنا مش هكمل. إيه رأيك؟
أصدرت من فمها صوت استهزاء قائلة:
ـ على أساس إن أنا هبلة وهصدقك يعني؟ على العموم، أنا جيتك بنفسي وبلغتك بموافقتي، ما تنسيش بقى يا غالية تبلغي حبيبي خليفة بموقفي، عشان يعرف إن أهم حاجة عندي راحته.
ونهضت تلملم حقيبتها استعدادًا للخروج، حتى قطع عليها دخول الأستاذة عطيات، حاملة صينيةً وعليها بعض الأشياء قائلة بحماس:
ـ أنا جيت بالعدة بتاعة القهوة كلها. شوفي بقى مزاجك إيه يا ست هالة، مظبوط ولا سادة ولا زيادة؟ وأنا أعملك من علبة الأبلة اعتماد.
ردت هالة بابتسامةٍ صفراء:
ـ معلش يا حبيبتي، اشربي إنتِ مكاني.
لاحقتها عطيات بقولها:
ـ يا ريت كنت بشربها! أنا آخري كوباية شاي لو قدرت. اقعدي يا هالة، ده الصنف اللي بتجيبه اعتماد، مش أي حد يشربه.
مرة أخرى رفضت على عجالة وهي تغادر الغرفة:
ـ مرة تانية يا عطيات، تشكري يا حبيبتي.
وخرجت تترك اعتماد في حالةٍ من الذعر، وداخلها قد حسمت أمرها أن تنهي تلك الخطبة المزعومة، حتى ولو كان ذلك ضد رغبتها.
ــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ــ
أما عن هالة، والتي خرجت من مبنى المدرسة رافعة الرأس بشموخٍ وغرور، بعد أن نفّذت هدفًا لا بأس به، حين رأت الرعب الذي غلَّف ملامح اعتماد، فقد غمرها شيء من الزهو.
هي الأدرى بمصلحتها الآن؛ فإن استمرت، فعليها أن تتوقّع العواقب، وإن صدقت وعدها بالابتعاد، تكون قد جنَّبت نفسها وأشقاءها الأذى الذي تستحقّه.
كانت في طريقها لتنعطف من الشارع الرئيسي كي تكمل طريقها داخل الشارع الآخر، حتى أبصرت بعينيها السيارة التي تعرفها جيدًا، سيارة زوجها، وهي قادمة نحوها.
تراجعت على الفور إلى خلف إحدى الأشجار في ركنٍ منزوٍ إلى حدٍّ ما، كي تتخفّى، وفي الوقت نفسه تراقب حتى وصوله إلى أمام المبنى.
ترجّل منها، مرتديًا جلبابه الأنيق، وساحبًا في يده كيس هدايا كادت عيناها أن تخرج بسببه، ثم دلف إلى داخل المدرسة.
أخرجت هي سريعًا هاتفها من حقيبتها واتصلت بالرقم الذي كلَّفته سابقًا بمراقبته:
ـ أيوه يا واد يا حسني، ما بلغْتنيش ليه إن عمك خليفة جاي المدرسة؟ مش أنا مبلغاك يا زفت تحط عينك وسط راسك معاه؟!
بلا خالتي بلا زفت، وبطّل حلفاناتك دي! أكيد انشغلت عنه في قعدة مع أصحابك الفاشلين، أنا عارفاك... بتقول إيه؟
ودخل مكتبة الساعدي يعمل إيه؟ أنا شوفت كيس هدايا معاه... إيه؟ جايب هدايا عيد ميلاد وسلسلة فضة كمان بحرف الـ (A)!
طب اقفل يا حسني، اقفل...
أنهت المكالمة وعيناها مصوَّبتان على مدخل المدرسة، تردِّد بفحيحٍ ووعيد:
ـ ماشي يا اعتماد... شكلك من أولها هتجيبي نهايتك معايا...
ـــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــ بنت الجنوب ـــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ
أما في داخل المدرسة، فقد كانت اعتماد في حالة من البؤس جعلتها لا تنتبه إلى دخوله، إلا حين صار أمامها، لترفع عينيها عليه تناظره بفتورٍ وهو يلقي التحية ويسأل عن الأستاذة عطيات التي لم تكن موجودة في ذلك الوقت:
ـ صباح الخير، حلو... الأبلة عطيات مش موجودة، هي راحت فين صحيح؟
قالها بنوعٍ من المزاح، لم تستجب له، وهي تجيبه بجدية:
ـ الأبلة عطيات طلبها المدير. كويس إنك جيت، عشان أنا كنت عايزاك.
تبسَّم مُرحِّبًا:
ـ وإيه؟ عايزاني مرة واحدة؟ طب تحبي نتكلم هنا برضو، ولا ناخد راحتنا في أي كافيه برّا؟
أومأت بموافقةٍ نابعةٍ من يأسها:
ـ في أي حتة بعيد عن هنا، بس يا ريت يكون دلوك... لو فاضي يعني؟
رغم تسرُّب شعورٍ غير مريحٍ من نبرتها، إلا أنه تلقّى دعوتها بحماسٍ شديد:
ـ فاضي قوي، يلّا بينا.
سمعت منه، ونهضت تلملم أوراقها ومتعلّقاتها وتضعها داخل حقيبة يدها، ثم خرجت معه دون أن تنتبه إلى كيس الهدايا الذي ما زال بيده.
وقد وجدها فرصةً جيّدةً جدًا لمفاجأتها، فهذا الطلب كان برأسه منذ البداية، لكنه خشي من رفضها.
استقلّ الاثنان السيارة، لتسير بهما إلى وجهتهما، غافلين عن زوج عيونٍ كانت تراقبهما، وقد اشتعل داخلها الجحيم.
وقد حسمت الأمر في القضاء على تلك المخادعة التي توعِد بشيء وتفعل خلافه؛ حتى علَّقت بها خليفة الرزين، ليأتي ويقدّم لها الهدايا كالمراهقين وهو لم يدخل بها بعد! فما بالها بعد أن يتزوّجها؟
ـــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــ بنت الجنوب ــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ
عادت نورة الغجرية إلى نَصْب الخيام الذي تتخذه مسكنًا لها في تلك البلدة منذ فترة ليست بالهينة.
كانت في طريقها إلى خيمة والديها حين تفاجأت بمن يظهر لها من العدم ويعترض طريقها:
ـ وِهْ، عروستي الحلوة! أخيرًا طليتي تنوَّري دنيتي، بعد ما قعدت بالساعات على الخيش في انتظارك!
قابلته بابتسامةٍ لا تصل إلى عينيها:
ـ أهلاً يا عرفان، معلش، لو أعرف إنك قاعد ما كنتش اتأخرت. على العموم تعالى اتفضل...
همَّت أن تتحرّك، لكنه أوقفها:
ـ يزيد فضلك يا عروسة، أنا ورايا مصالح مهمة ما ينفعش تتأخر.
على العموم إحنا هنروح من بعض فين يعني؟ بكرة نكتب الكتاب ونعلّي الجواب.
قطّبت ناظرةً إليه باستفسار، فأردف مجيبًا:
ـ أيوه يا عروسة، ما أنا حددت مع أبوكي من شوية، واتفقنا على كل حاجة. بكرة كتب الكتاب والحنة، وبعده دَخْلتنا يا قمر...
ـ دخلة مين يا غالي أنت؟ أنت بتخرّف؟ بتقول إيه بالظبط؟
قاطعته بانفعالٍ أثار غضبًا كان يكتمه منذ فترة، فهو ليس بالغبي حتى تنطلي عليه ألاعيبها، ومع ذلك كان يستمتع بخداعها طمعًا في الفوز في النهاية.
اشتدّت تعابير وجهه فجأة، يرمقها بحدّةٍ قائلًا:
ـ نقّي كلامك زين يا نورة، عشان أنتِ مش قد غضبي.
وإن كان على التخريف، فأنا آخر واحد يهلفط بكلمة مش في مكانها.
اسمعي يا بت، أنا صاحي لك قوي وواعي لألاعيبك معايا. أكتر من شهرين دلوك وأنا رايح جاي وواجع دم قلبي عشان ننجز، وأنتِ كل شوية تطلعي بحجة وتطلعي بطلب!
عملة مرتي لما ضربتك، أنا ما حاسبتكيش عليها، بس ركنتها وخلتني أحسم أمري.
مدام اتفضحت جدام الخلق وكده كده عرفوا إني هتجوز غجرية، يبقى إيه اللي هيخليني أستنى؟ دا غير إني دافع كتير قوي...
صمت قليلًا يلتقط أنفاسه وهو يراقب ملامحها الجميلة وقد أصابها الذعر، ثم أردف بحزم:
ـ أنا جبت لك شنطة هدوم جوا، اتفرجي عليها ونقّي اللي ينفعك لبكرة.
دا غير إني عامل ليلة كبيرة، دابح ومكلّف، عشان أوكِّل كل ناسك.
أخرج تنهيدة ساخنة يمشطها من أعلى إلى أسفل بنظراتٍ وقحةٍ أثارت القشعريرة في جسدها، ثم أردف أخيرًا:
ـ يلّا شوفي هتعملي إيه عشان تجهزي من دلوك، ما فيش وقت. وأنا كمان ألحق أخلّص اللي ورايا... أسيبك بقى يا لهطة القشطة، بكرة ميعادنا إن شاء الله...
أخرج تنهيدة أخري ثم غادر لتدخل الأنفاس إلى صدرها أخيرًا، وتحركت سريعًا نحو خيمتهم لتجد والدتها أمامها، فصرخت بها:
ـ ممكن أعرف الخَرْتيت دا اتفق معاكم على إيه بالظبط؟ عمال يخرّف بكلام ويقول كتب كتابنا!
معقول يكون بيتكلم جد؟
رفعت والدتها الفِراش الذي كانت تعمل على طيِّه، ثم وضعته في ناحيةٍ مع بعض الأغراض الخاصة بهم استعدادًا لتنظيفها، وردّت عليها بعد أن حدَّقتها بنظرةٍ صارمة:
ـ وهيهزَّر ليه إن شاء الله؟ عيل صغير هو؟ عرفان اللي كنتِ فاكراه أهبل وآخره كلام، طلع حاسب كل مليم صرفه علينا، على أساس إنه عريسك! وحلف مية يمين إنه لو ما نفّذناش بُكرة بكتب الكتاب، ليكون جايب البوليس ولمّمنا كلنا في بوكس واحد!
قالت نورة بعصبيةٍ وهي تشيح بيدها:
ـ اسم الله على جنابه! طب يعملها كده ويشوف معانا حق ولا باطل!
تركت المرأة ما بيدها لتزجرها بنفادِ صبر:
ـ لأ، هينفّذ يا أختي، وهيعمل كتير قوي! لمِّي الدور يا نورة، أنتِ اتغليتِي عليه كتير، وخلّيتيه صرف كتير. كل حاجة وليها تمن، ومادام وعدتيه وأدّيتيه كلمة، يبقى خليكِي كدّها. إحنا مش حِمل أذية.
كانت نورة في حالة من النكران، حتى بدأت تستوعب أخيرًا حجم المصيبة التي وقعت فيها هي وأهلها، فقالت محاولةً تليين نبرتها:
ـ خلاص يا أمَّه، نسيب البلد دي خالص، إحنا لينا فيها إيه أصلاً؟ قولي لأبويا وللعيال نلمّ حاجتنا عشان نِرحل من العشية.
ضاقت حدقتا والدتها وهي تطالعها بغيظٍ شديد قبل أن تفحمها:
ـ على أساس إن دي حاجة تفوته؟ عرفان قالها بالمفتشر يا نورة، إنه مطوِّق البلد برجالته، عشان لو حد فكّر بس، مش مجرد التفكير زيّك كده! ابعدي يا بت، ابعدي خلينا نكنس وننفض، ورانا فرح.
قالتها المرأة وهي تُزيحها من أمامها، تؤدي ما نوَّهت عنه بجديةٍ دون اكتراثٍ لصدمة ابنتها التي يرفض عقلها مجرد التصديق.
أيُعقل أن تُجبر على زواجٍ لا تريده؟!
هي الحرّة التي لا يُغلبها أحد، تأخذ دائمًا ولا تُقدِّم شيئًا.
مَن عرفان هذا حتى تُضطر إلى معاشرته على غير إرادتها؟
وقعت عيناها فجأةً على تلك الصورة التي سقطت من الفِراش، فانحنت ترفعها وتتأملها طويلًا... تلك التي كادت بسببها تُزهَق روحها، تُرى، أتكون سببًا في نجاتها أيضًا؟
ـــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــ بنت الجنوب ــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ
كانت تسير في طريقها بعينين يغشاهما ظلامٌ دامس، والغلّ يشتعل في قلبها كجمرٍ متّقد، فيما الشيطان يؤجِّج الفكرة في رأسها حتى لم تعد ترى أمامها شيئًا.
لن تسمح لتجربتها المريرة أن تتكرّر مرةً أخرى.
تلك الملعونة التي سيطرت على عقل زوجها لا بدّ من الخلاص منها فورًا؛ فهي من جلبت الأذى لنفسها، وهي من أخطأت في حقّ امرأةٍ متزوّجةٍ لا تريد سوى الحفاظ على بيتها، إذن فلتتحمّل العقاب.
توقّفت فجأة أمام إحدى الصيدليات البيطرية التي تعرف صاحبها جيدًا، لتجد نفسها، دون تفكير، تدلف إليه وتقول مباشرةً:
ـ إزيّك يا توفيق، كنت عايزاك في طلب.
أجابها الرجل الأربعيني بلهفةٍ وابتسامةٍ متملِّقة:
ـ اُؤمري يا ست الكل، عينيا ليكي.
قالت بصوتٍ خافتٍ يحمل خبثًا مكتومًا:
ـ عايزة سِم يتحطّ في الأكل أو الشرب، لا يعمل ريحة ولا يبان في الطعم.
ممكن تجيبهولي يا توفيق... وتاخد اللي أنت عايزه؟
ـــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــ بنت الجنوب ــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ
✦ ✦ ✦ ــــــــ بنت الجنوب ـــــــــ ✦ ✦ ✦
استغلَّ الفرصة على أكمل وجه، ليأخذها إلى مقهي يُطلّ على النيل مباشرةً، حيث جمعتهما طاولة في ركنٍ منزويٍ إلى حدٍّ ما، وسعادةُ الدنيا تغمر قلبه.
الجوّ رائع، والنيل أمامه، والجميلة التي كان يرجو موافقتها تجلس قبالته الآن، لكنّها حزينة بعض الشيء، وهذا ما لا يتقبّله في يومٍ كهذا. يومُ ميلادها يجب أن ترى فيه السعادة وتشعر بها.
قالت باستغرابٍ حين مدَّ يده بـكيس الهدايا ووضعه أمامها مباشرةً:
ـ إيه ده يا خليفة؟
فأجابها بابتسامةٍ هادئة:
ـ افتحي وشوفي.
نظرت إليه بضيقٍ واضح وهي تُعارضه:
ـ وأشوف ليه؟ ما هو باين إنه كيس هدايا. أنا بسألك: إيه لازمتُه؟ وأنا مالي بيه من الأساس؟
تنهد برويّةٍ كعادته، فقد اعتاد على ردودها الانفعالية، بل أصبح يتقبّلها برحابة صدرٍ تُشبه صبر العاشقين:
ـ ماشي يا أبلة اعتماد، هـشرحلك عشان تفهمي.
أنا يا ستي راجل لا بيا ولا عليّا، اتفاجئت النهارده بـ"عمّ الفيس" يجيبلي إشعار إن النهارده عيد ميلاد الأبلة اعتماد، ولازم تدخل تهنيها بنفسك. بصراحة حسّيتها بايخة، وقلت لازم أقولها عملي.
كل سنة وإنتِ طيبة يا اعتماد.
جاءت تهنئته بدفءٍ وصدقٍ تخلّل نبرته، فتجمّدت أمامه في حالةٍ من عدم الاتزان، قبل أن تمتد يدها بتردّدٍ لتكشف محتويات الكيس الممتلئ بالهدايا، رغم عدم نيتها في تقبّلها.
لكن ما إن وقعت عيناها على تلك الأشياء الصغيرة القيّمة حتى شعرت بانهيارٍ داخليٍّ مفاجئ:
دبدوب صغير من النوع المنتشر بين الفتيات الصغيرات، وميدالية أنيقة بأول حروف اسمها، وساعةٌ رائعة، ثم الأخيرة... سلسلةٌ من الفضة بداخلها خرزةٌ زرقاء، وأول حرفٍ من اسمها بتصميمٍ مميّز.
فعلّق خليفة بابتسامةٍ خفيفة:
ـ كان نفسي أجيبها دهب، بس أنا مستني موافقة الأبلة. مع إني باحب الفضة برضه، بس الدهب في حالتي دلوك معناه عهد جديد، وأمنية بتمناها تتحقق.
فهمت مقصده تمامًا... فهو يقصد موافقتها على الارتباط به بصورةٍ حقيقية، خاليةٍ من التمثيل.
عند هذه اللحظة فقدت آخر ذرةٍ من تماسكها، فتساقطت دموعها، ودخلت في نوبةٍ من البكاء وهي تقول بانهيار:
ـ ليه يا خليفة جاي دلوك؟!
طول عمري بدعي ربنا بالـعوض، قوم لما ييجي، ييجي في الوقت الغلط!
ليه بتشوّق قلبي على جنةٍ عارفة إني عمري ما هطولها؟
ليه بعد ما اتعودت على حياتي الناشفة تاجي تفوّقني لنفسي وللدنيا؟
ليه يا خليفة؟ وأنا فقدت الأمل واستريحت، تقلب عليّا المواجع ليه بس؟
وأنهت ببكاء يثير فزعه عليها وييتنفر غضبه:
ـ ليه البُكا دا كله يا اعتماد؟ أنا جايب الحاجات دي عشان أفرّحك، مش أحزّنك!
فيه حاجة مزعلاكي؟ من ساعة ما شفتِك وأنا حاسِك غريبة، مش طبيعية.
توقفت عن البكاء بصعوبة، تستجمع قواها، وتحاول حسم الأمر حتى تنهي كل شيء:
ـ معلش... دي حالة دراما وتأثر مالوش لازمة.
بس المهم دلوقتي الطلب اللي هطلبه منك، وياريت ما تراجعنيش فيه.
ـ طلب إيه؟
سألها بتوجس فجاءته الصدمة بإجابتها الحاسمة:
ـ نفضّ التمثيلية دي يا خليفة، وكأن شيئًا لم يكن.
أنت تشوف حالك، وأنا أشوف حالي.
ـ نعم؟! فهميني تاني.
قالها بلهجةٍ إستنكارية، فأكّدت له بنبرةٍ لا تحتمل النقاش:
ـ مش محتاجة شرح.
ارجع لمراتك أم ولادك، أو اتجوز غيرها، أنت حر.
عشان أنا خلاص قررت أرجع لطليقي... الأستاذ عليوة.
يعني ما فيش داعي للتمثيلية دي من أصلها.
....يتبع
توقعاتكم🔥
بحاول اعوضكم بفصول طويلة على قد ما اقدر
ياريت الاقي تشجيع عشان اعجل بالقادم
#لأجلها
#بنت_الجنوب
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا