القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41 الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات

 رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41 الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات




رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41 الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات



الفصل الواحد والأربعون ج٢


أحيانًا يطول الانتظار، ويظن القلب أنه نسي الحلم أو دفنه، لكنه في الحقيقة ما زال حيًّا، يتنفّس بين طيات الدعاء.

يمرّ الوقت، ويشتدّ الضيق، ويظنّ العبد أن الأقدار نسيت طريقه، لكن الله لا ينسى، الله فقط يُخفي ليُهيئ، ويؤخّر ليُعطي أجمل مما ظننا.

كل غصّة كانت تمهيدًا لفرحٍ أصدق، وكل دمعة كانت طريقًا لرحمةٍ أوسع.

فليطمئن القلب… فما كتبه الله لن يُفوّت، إنما يستعدّ لوقتٍ يليق به وبنا. 🌿


المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة القمر/ سنا الفردوس (بطوط) 


لفصل الواحد والأربعون – ج٢


دلفت خلفه تُغلق باب المنزل بعد عودتهما من الخارج، في هذا اليوم المُثقَل بكل الأحداث التي جرت فيه. كان يتقدّمها وهو يحمل ابنه ريان الذي غفا نائمًا داخل السيارة في طريقهم، ليسير به حتى باب غرفته.


ولج داخلها ليضعه على فراشه، فتقدّمت هي تجاور الصغير على التخت، لتخلع عنه الحذاء ثم المعطف بحرص حتى لا يشعر. إلا أنّه تململ وكاد أن يستيقظ، لكنها سارعت لتهدهده، تمسح بكفّها على شعر رأسه وتتمتم بالآيات القرآنية والأدعية الحافظة.


وتوقّف هو لبرهة من الوقت يراقبهما بسعادة تشعّبت داخله؛ زوجته الحانية على طفله وكأنه طفلها الذي أنجبته من بطنها. تلك المشاهد تتكرّر أمامه يوميًا منذ زواجه بها حتى أصبح يعتادها وكأنها أمر عادي، وهي في الحقيقة أمنية عزيزة من الله عليه بها حتى من قبل أن يطلبها منه، كما تفضّل قبل ذلك بأن رزقه بها. هي حقًا هديته الكبرى.


تنهد بخفوت ليجرّ أقدامه بهدوء حتى خرج، ثم تحرّك حتى وصل إلى الغرفة التي تجمعه بها كي ينتظرها.


خرج إلى شرفته يتأمّل السكون داخل المنطقة الهادئة الخاصة بهما وحدهما؛ أفدنة من المزروعات على طول البصر أمامه، وفي الجانب الآخر منزل والديها وشجرة التين العتيقة وما أصبحت تحمله من ذكريات جميلة لقصة العشق التي جمعته بها.


تهون الحياة بكل مشاكلها وهمومها ومسؤولياتها أمام أن يُرزقك الله بمن تحب. هذه هي السعادة الكاملة، أو تكاد أن تكون كذلك، فلا ينقصها سوى هذا الشيء الجميل الصغير الذي ينتظره على أحرّ من الجمر.


وصله صوت صرير الباب مع دفعها له ودخولها، وصوتها ينادي باسمه، قبل أن تشرع في خلع ملابسها، تبدأ بالحجاب الذي كان ملتفًا على رأسها، فانفرط شعرها الحريري بنعومة يتمرّد من عقدته كدائرة في الخلف وينزل على ظهرها. وقبل أن تخلع عنها العباءة السوداء، كانت ذراعاه قد عرفتا طريقهما لتحاوطاها من الخلف، يغرق وجهه بين ثنايا عنقها ليتنعّم بنعومته بعد أن أبعد مجموعة ليست هينة من خصلاته، يمر بشفتيه بتأنٍّ وتلذّذ، ورئتاه تتنشّقان رائحته دون كلل أو ملل.


وكانت هي أيضًا قد سكنت بين ذراعيه مستمتعة بقربه وغرامه لها. من كان يصدق أنّ امرأة مثلها كانت لا تطيق الرجال، يأتي عليها اليوم وتعرف قيمة ذلك الشعور الذي كانت تصفه أمامها عددٌ من النساء كزوجة شقيقها. مهما كان عمر المرأة ومهما كان حجمها بين يدي رجل محبّ، تصبح شيئًا آخر، شيئًا ليس له وصف بالمعنى الحرفي من فرط روعته.


فتحدّث بصوت هائم تلفح أنفاسه بشرتها:

ـ أنا ليه بحس إن اليوم بيطول جوي على ما أوصل معاكي للحظة دي؟ بقيتي بتوحشيني حتى وانتِ معايا وفي بيتي يا قلب حمزة.


فكّت ذراعيه عنها لتقابله مواجهة عينيه بعينيها، فتحاوط بكفّيها الناعمتين وجهه:

ـ إنت اللي قلب مزيونة وعينيها وروحها كمان.


ما أعذب كلماتها لترطّب على قلبه بعد يوم طويل ومشحون. أغمض عينيه متأوهًا، ليقطف من رحيقها الذي يسكره فلا يشبع منها أبدًا. في وصالها حلاوة لم يعرفها حتى في زواجه الأول؛ وصال القرب من الحبيب لا يضاهيه شيء، وهي ليست حبيبة وفقط، بل هي قطعة من روحه.


حين توقّفت قبلتها العاصفة أخيرًا، استند بجبهته على مقدّمة رأسها كي يلتقطا أنفاسهما، ثم تحدّث معبّرًا عما يجيش في صدره:

ـ قلبي بيرفرف في كل مرة بشوفك فيها مع ريان، وحنيتك عليه بتشعلل في راسي عشان أشوف عيالي منك. ولد زي ريان ولا بنت حلوة وشبهك... لا، صحيح أنا مش عايز عيل واحد، أنا عايز عيال كتير، أتكعبل فيهم طول ما أنا ماشي في البيت... ولاد الكلب اتأخروا ليه؟


كانت قد هدأت أنفاسها وشردت دون تجاوب معه، وكأن الحديث لا يعنيها. ليرفع ذراعيه عنها ويبتعد بمسافة، يقابلها بنظراته، يتأمّل عينيها المتهرّبة، وملامح وجهها التي يعتليها شيء من الضيق أو ربما الملل. قبض على صدره ألّا تشاركه ما يتمنى ويتوق إليه:

ـ مزيونة، إنتِ بتضايقي في كل مرة أكلّمك على الخلفة صح؟


ـ هممم...

همهمت بردّ فعل عفوي قبل أن تتدارك حجم غضبه، فقالت رافعة كتفيها وتهبطهما في اللحظة نفسها:

ـ وأنا إيه اللي هيخليني أضايق؟ وهو في الأول وفي الآخر العيال دي رزق

من ربنا يعني...


توقّفت تلتفّ عنه لتشغل نفسها بفك أزرار العباءة قبل خلعها، لكنه كان بالمرصاد، ليقبض على ساعدها ويعيدها مواجهة له هاتفا بها:

ـ أهو دا أكبر دليل إن الأمر مش في بالك ولا هامك أصلًا. ولو استمر التأخير كمان سنين برضو ولا هتسألي، عشان مش فارق معاكي ولا هامك اللي يربطك بحمزة.


دارت حدقتاها بسأم لتدافع عن نفسها بنفاد صبر من إلحاحه:

ـ الله يسامحك يا حمزة، أنا برضو مش هرد عليك، عشان انت عارف ومتأكد إن كلامك غلط. أنا لو كنت مش عايزة خلفة منك على الأقل كنت خدت وسيلة تمنع، لكن ربنا مجابش لحد دلوك، أو يمكن مش كاتب هنتبتر بقي. واحنا ربنا رازقنا بالواد والبت ومكفّينا، ألف شكر وحمد ليه.


ختمت الأخيرة تقبّل ظهر كفّها وباطنه، ليرد هو بعد فترة من الصمت:

ـ يعني إنتِ من الأول كنتي ناوية على الوسيلة بس اللي منعك إصرار العيل الكبير جوزك على خلفة انتِ مش في بالك ولا عايزاها. ويمكن يكون هو دا السبب في إنك محبلتيش لحد دلوك. وأنا واثق مليون المية إن لو قعدت عشر سنين برضو مش هتسألي، والأكيد إنه مش هيحصل طول ما انتِ ما عندكيش الرغبة...


جاءت الأخيرة بصيحة عالية أجفلتها، لتبادله الردّ بحدّة:

ـ وإيه دخل الرغبة في إنه يحصل أو ميحصلش؟ دي حاجة بيد ربنا، اعترض بقى يا حمزة.


ـ لا مش هاعترض ولا هضايق، اعملي ما بدالك يا مزيونة. إذا كنتي انتِ مش هامك تجيبي عيال مني، أنا كمان مش عايز عيال منك.


أنهى صيحته وتحرك يتناول من خزانة ملابسه طقمًا بيتيًا على عجالة حتى يبدّل ما يرتديه الآن، ثم توجّه لمغادرة الغرفة، لكنها تشبّثت بذراعه تمنعه:


ـ استنى عندك، واخد هدمتينك دول وطالع تبيت برا الأوضة عشان بس كلمتين جروا ما بينا؟ دي أول مرة تعملها يا حمزة.


أجاب ناظرًا إليها بقوة:

ـ واعتبريها برضو مش آخر مرة. ما هو يعني، أبيت هنا ولا أبيت برا مش فارقة. عن إذنك بقى عشان دماغي تقلت.


ونزع ذراعه منها في الأخيرة ليتمكّن من الخروج صافقًا الباب بعنف، فسقطت هي على الفراش بانهيار، لا تصدّق كيف حدث الشقاق بينها وبينه في أقل من لحظة، لتتبدّل لحظتها من عشق خالص إلى هذا الشجار الحامي.


لماذا لا يقدّر حالتها؟ كيف عليها أن ترضيه في شيء أكبر من طاقتها؟ لقد اتخذت الرضا منهجها فيما قسمه لها رب العالمين حتى قبل أن يرزقها إياه، ثم منّ عليها به وبابنه الذي تراه عطية الخالق لها. يتّهمها أن السبب خلف عدم الإنجاب حتى الآن هو عدم رغبتها، وهي لا تنكر، ولا تريد تكرار مآسيها في محاولات كادت أن تموت بها. لو ذاق مرار الألم مثلها ما كان تحدّث بهذا الجبروت. لا تريد الإنجاب ولكنها تريده، لماذا لا يفهم ويرضى مثلها؟


ـــــــ ✦ ✦ ✦ــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــ✦ ✦ ✦ ــ

داخل منزل اعتماد


كانت اعتماد ما بين الصحو والنوم في تلك اللحظات، بينما شقيقتها رغد تتلاعب بالهاتف الجديد، تستكشف إمكانياته الحديثة والمتطورة، وتخبرها في كل مرة بما تكتشفه، فتجاريها اعتماد بهزة من رأسها وهي تتهيأ للنوم.


حتى صدح صوت نغمة الاتصال الجديدة، فتوسّعت عينا رغد بلهفة نحو الرقم المسجَّل بيد صاحبه:

(خطيبي)


لتهلّل رغد وتجفل شقيقتها:

ـ (خطيبي)؟! إنتِ مسجّلة عمي خليفة باسم "خطيبي"؟! معقول يا أبلة اعتماد؟


أجابتها اعتماد وهي تشير إلى نفسها بتشتّت وعدم تركيز:

ـ خطيب؟ وخليفة مين؟


هتفت رغد تخبرها قبل أن تضغط على زر الإجابة:

ـ هو إنتِ عندك مية خطيب؟ ما تصحي من نومك بقى!


ـ أيوه يا عم خليفة، أنا رغد...


رمشت اعتماد بعينيها تستوعب العته التي تحدث معها، وهي تراقب شقيقتها تتحدث مع "الخطيب الزائف" بتقدير وفرحة، وعينيها منصبتان عليها، حتى باغتتها رغد وهي تضع الهاتف في يدها بعدما أخبرته:

ـ أيوه يا عم يا خليفة، اهي معاك، كلمها واسألها بنفسك.


ـ يسألني عن إيه؟

ردّت رغد بحزم وهي تعدّل وضع الهاتف على أذنها:

ـ بيسأل عن صحتك، ركّزي بقى ما تبقيش ممجفلة!


تاهت المسكينة بين صوتٍ يناديها باسمها من الهاتف دون ألقاب، وشقيقتها التي تناظرها بابتسامة حالمة وقلوبٍ تكاد تطلّ من عينيها، تتابع مكالمة "الخطيبين".

اللعنة! إلى متى ستستمر هذه التمثيلية السخيفة؟


ـ اعتماد، أنا بكلمك.

ـ أيوه... أيوه، أنا معاك اهو.


قالتها بارتباكٍ وصل إليه، وبما أنها تجاريه، فهذا يعني أن شقيقتها لم تغادر بعد. إذن فليأخذ فرصته:

ـ عاملة إيه دلوك؟ لسه الهبوط والدوخة موجودين برضو؟


أجابت بتلعثمٍ واضح تشير لها كي تخرج، والأخري تحرّك رأسها بالرفض:

ـ لا، الحمد لله كويسة دلوك، حتي كنت هنام.


ـ من دلوك يا اعتماد؟ والساعة لسه ما جتش عشرة! لا لا، أنتِ لازم تعودي نفسك على السهر، مينفعش كده يعني.


ضحكت رغد بصوتٍ خافت واضعة كفها على فمها بعد أن التقطت كلماته، لتجبر اعتماد هذه المرة على طردها:

ـ جومي من جمبي يا بت، جومي!

ـ طب مش هكررها تاني...

ـ قومي بقولك!


اضطرت رغد في النهاية للانصياع، وخرجت على غير رغبتها.

عادت اعتماد لتكمل المكالمة، دون تمثيل هذه المرة، لكن بحذرٍ حتى لا يعلو صوتها ويصل إلى خارج الغرفة:


ـ ألو... يا أستاذ، ممكن بقى نفضّها؟عشان أنا تعبت.


وكالعادة تلقّى تذمّرها بهدوءٍ شديدٍ يمتص انفعالها:

ـ يا ستي ألف سلامة من التعب، أنا عارف إن الوضع مربط، بس قريب إن شاء الله هتتحل.


تنهيدةٌ خافتة وصلته كإجابةٍ منها، فتابع مردفًا:

ـ طب أنا فعلاً كنت بتصل عشان أطّمن عليكي، ودي مش محتاجة تمثيل.


ابتسامة خفيفة بزغت بطرف فمها، تردّ بذوقٍ يستحقه:

ـ لا طبعًا مش محتاجة تمثيل، علي العموم ألف شكر على السؤال.


ـــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــ ✦ ✦ ✦ـــــ


اختار غرفةً جانبية ليبيت بها ليلته، وربما ليالي أخرى كثيرة — لا يُستبعَد ذلك — فالغضب بداخله يتفاقم بصورة لا يُحتملها.

منذ بداية زواجه بها وهو يقدّر حالتها ويتعامل مع عقدها برويّةٍ وهدوء، حتى تخطّت واستجابت، لتسير الحياة بينهما على أجمل ما يكون.

لكن تبقى أمنيته الأعظم هي ترسيخ العلاقة وتوطيدها بالإنجاب منها. قلبه يهفو لحمل العديد من الأطفال، وهي تُلقي بأحلامه خلف ظهرها ولا تُعيرها اهتمامًا.


يعرف بالمآسي التي تعرّضت لها وهي صغيرة، والتي كانت سببًا في كرهها لتكرار التجربة، لكنه أيضًا يُعوّل على معزّته في قلبها، على ذلك العشق الذي يدفعها لمقاومة أشباح الماضي من أجله.

وهي تعرف جيدًا أنه لن يتركها وحدها أبدًا، سيفعل المستحيل لإنجاح التجربة. لقد فعل الكثير من أجلها، وحان الوقت لتحاول وتفعل هي أيضًا من أجله.


انتزعه من شروده صوت حركةٍ بمقبض الباب، ثم دُفع الباب إلى الداخل، يسبق دخولها عطرها المميز الذي لا تضعه إلا مساءً من أجله.


أغمض عينيه سريعًا متظاهرًا بالنوم قبل أن تقع أبصاره عليها، تاركًا المهمة لباقي حواسه في متابعتها: صوت خطواتها الخفيفة، حتى اقتربت لتحطّ بجسدها على الفراش بجواره.

تضاعفت رائحة العطر في أنفه رويدًا رويدًا مع اقترابها، حتى شعر بها داخل رئتيه حين دسّت نفسها أسفل الغطاء في حضنه، تلصق جسدها الطري بصدره القاسي.


الوضع أصبح خطرًا، وهو بالكاد يقاوم سطوتها عليه؛ لا هو بقادرٍ على ضمّها، ولا بقادرٍ على دفعها عنه. لكنها لم تترك له خيارًا، إذ عدّلت وضعها لتلفّ ذراعه الذي تخدّر من لمستها حول خصرها، والآخر جعلته أسفل عنقها، لتنام قريرة العينين...

وليحترق هو بنيران شوقه.


نظر من أسفل جفنيه حين شعر باسترخائها، لتتّسع عيناه بغيظٍ شديد حين وجدها قد غاصت في نومٍ عميق.

كم ودّ لو يخنقها في تلك اللحظة! لقد جاءت إلى حضنه لتغفو وتطرد عن عينيه النوم.


ـــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــ


استيقظ صباحًا أبكر من موعده، يمارس عادته في تأملها.

رغم غضبه منها بعد شجار الأمس، لا ينكر أن فعلتها المفاجئة واندساسها بجواره في الفراش جاءت عليه بمفعول السحر، كالمياه التي سقطت على جمرةٍ مشتعلة فأخمدت اشتعالها وأطفأتها.


شعر بتململها، في إشارةٍ إلى قرب استيقاظها، فأغمض عينيه على الفور متظاهرًا بالنوم.

وبعد لحظات، حين استيقظت، أجاد هو الدور حرفيًا.

دام الصمت منها لثوانٍ، ففطن أنها تراقبه وتفعل ما كان يفعله منذ دقائق.

إذن من المحتمل أنها تكشفه. ليتخذ قراره عمليًا، فتح عينيه فجأة ليقابل عينيها عن قربٍ، تطالعه بنظرةٍ هائمة قادرة على سحق إرادته في مقاومة فتنتها...


تحدثت بنعومة، تلقي عليه تحية الصباح:

ـ صباح الخير... يا أستاذ حمزة.


ابتلع ريقه بخفة، وتحركت تفاحة آدم في عنقه، ثم اعتدل يرسم خشونةً زائدة، مجاهدًا أهواء نفسه الحمقاء حتى لا يضعف أمام حسنها، وردّ متصنعًا عدم الفهم:

ـ صباح الخير يا ست مزيونة. ممكن أفهم إيه اللي جابك جاري وعلى فرشتي بعد ما سيبتلك الأوضة؟


أجابته بسهولةٍ ومكرٍ تعلمته على يديه:

ـ خوفت يا حمزة، والنوم خاصم عيني وانت مش جاري. الأوضة كانت واسعة جوي عليّا، والفرشة باردة كيف الرصاص، مدريتش بنفسي غير وأنا جاية هنا أدسّي جمبك تحت الغطا.


مال برأسه نحوها يجاري لعبتها:

ـ ولقيتي الدفا بقى؟ وجالك النوم؟


أومأت برأسها مجيبة بابتسامةٍ متسعة:

ـ في حضنك يا حمزة. لما حطيت دراعك عليّا وضميتني ليك، نمت زي العيل الصغير.


ـ أنا ضمّيتك عليّا بدراعي؟!

ـ أيوه انت يا حمزة، أكيد مش فاكر عشان كنت في سابع نومه.


الخبيثة!

يذكر جيدًا أنها هي من ضمّت نفسها عليه ولفّت ذراعيه حولها حين كان يمثل النوم كما فعل منذ قليل.

عضّ على شفته بغيظٍ يمنع نفسه بصعوبةٍ من تكذيبها، قائلًا:...

يمكن، برضك الواحد وهو نايم مبيبقاش دريان بحاجة، بس المهم إنك نمتي وادفيتي.

مالت عليه تذكّره بنعومة:

ـ في حضنك يا حمزة، انت نسيت ولا إيه بس؟! إياك تكررها تاني عاد، فرشتك متسبهاش، يا هتلاقيني مطرح ما تروح وراك، إن شاء الله تبيت على المسطبة برا تحت التينة.


نظر لها رافعًا حاجبه، يعلّق باستخفاف:

ـ وه، حصلت كمان تحت التينة؟! وفي الطل كمان؟


ردّت وهي تلفّ ذراعيها حول عنقه:

ـ ولو رُحت السند والهند، برضو وراك وراك.


حسنًا... لقد أصبح الوضع على وشك الخروج عن السيطرة.

ورغم أنه لا ينكر حاجته الشديدة لدلالها، فإنه أيضًا لن يتنازل عما يريده، ولن يضعف، بل الأصح عليه أن يزيد بجرعاته.


نزع ذراعيها عنه بخفّة، بعكس ما يعتريه:

ـ يا ستي تشكري على ذوقك، أسيبك بقى معلش عشان ورايا مشوار، عن إذنك.


ونهض فجأة من جوارها على الفراش، يتركها تناظره بذهولٍ مغمغمة:

ـ وه يا حمزة، مشوارك بقى أهم مني؟!


لتنتفض فجأة عن الفراش هي الأخرى، تتبعه مردفة بخطواتٍ سريعة:

ـ طب والله ما أنا سيباك النهارده!


ـــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــ ✦ ✦ 


في المنزل الكبير، تحديدًا في شقة خليفة، وقد تأخر قليلًا عن موعد استيقاظه، فلم يشعر بمن دلفت منذ لحظات وجلست بالقرب من تخته تراقبه قبل بدء المواجهة بينها وبينه.


وقد قضت ليلتها على نيران تأكل أحشائها، منذ علمت بما فعله لتلك الحمقاء التي تظن نفسها نداً لها. لولا منع المعلون حمزة من تنفيذ ما كان يدور برأسها لكانت أستراحت الآن بعد أن طردتها من منزلها والبلدة بأكملها. من هي لتتحداها؟ من هي لتساوي رأسها بها وتأخذ ما يخصها؟ نعم هو يخصها لأنه زوجها، حتى وإن تمرد هذه الأيام وبدأ يصدر منه ما لم تتحسبه، لكنه في النهاية لها: هي زوجته وابنه عمه، ولن يشاركها به أحد. لابد أن يعرف بتلك المعلومة ويضعها جيدًا في ذهنه.


ـ خليفة... قوم يا خليفة واصحى، أنا عايزاك... خليفة...


في الأخيرة قد استيقظ، رفع أبصاره إليها بتشتت، ليناظرها بصمت لعدة دقائق حتى عاد إليه وعيه، فاعتدل بجذعه جالسًا، فرك بكفيه على عينيه، ثم زفر بضيق حتى جعلها تردف بحنق:


ـ إيه يا خليفة؟ مالك؟ قلبت وشك ليه؟ اتصبَّحت بوش عفريت؟


احتدت ملامحه نحوها ليرد عليها بضيق:

ـ يا صباح يا عليم يا رزاق يا كريم، إنتِ جاية من بيت أبوكي تصبِّحيني بنكدك؟ عايزة إيه يا هالة؟


ـ عايزة أتحّدت معاك، ما أنا مش هسيب اللي ما بينا معلق كده، لازم أرسّي على حل.


صاحت به لتجلس على المقعد المقابل لتخته؛ لينهض هو نافضًا فراشه بعنف، يحجم نفسه بصعوبة عن الانفجار بها:


ـ يعني مقدراش تتصبري على ما أتصبح زي بقية الخلق ولا حتى أشرب كوباية شاي، على الأقل أهيئ راسي لللت والحديت معاكي.


ـ ليه وهي راسك مش عمرانة من مشاوير العربيات وتوصيل الهانم هي وأخواتها؟


أومأ ناظرًا إليها باستيعاب وقد فهم الغرض من مجيئها المفاجئ، ليرد بحزم ليوقف سخريتها:

ـ أولًا دي عربيتي وأوصل فيها اللي أنا عايزه، ثانيًا إنتِ ميخصكش — أنا حر.


صاحت به بغضب متصاعد: ـ حر إنك تتجوز عليا؟ تخطب وأنا على زمتك؟ ومن مين؟ من واحدة ما أستنضفش، أشغلها خدامة عندي...


ـ اتملي يا هالة بدل ما تجبريني أوقفك عند حدك.


ـ خليني أشوف هتوجفني عند حدي إزاي يا خليفة؟ هتضربني ولا تطلقني؟ في كل الحالات مش فارقة معايا يا حبيبي، عشان أنا على حق؛ أنا بت عمك وأم عيالك، أنا بت القناوي يتجاب عليا ضرة زي دي؟


لم ينجر لعصبيتها أو ينفعل؛ بل العكس، فرغم غضبه الشديد منها استطاع أن يحجم انفعاله رغم قسوة ما يعتريه من الداخل: ـ كل اللي هامك أنا أنا. عارفة يا هالة المشكلة مابينا إيه؟ هي إن الموضوع عندك ما يتعدي سوي المساس بكبرياءك، وإن واحدة زي دي يتقال إنه خليفة فضلها عليكي...


توقف برهة، ثم أردف بأنفاس ملتهبة تصدر من حريق صدره: ـ ما هو مش معقولة يعني واحدة في جمالك تاخد المغرز مرتين؛ الأولى لما حمزة فضل المهندسة بنت البندر عليكي ودلّوك اعتماد الـ...


ـ أيه اللي إنت بتقوله يا خليفة؟ متخربطش في الكلام.


صاحت تقاطعه بانتفاضة سرت داخلها، تنهيه ألا يتابع: ـ إيه دخل ده بده أصلاً؟ ولا أنت بتخلق كلام من مخك عشان تبرر لنفسك؟


ـ لأ مش ببرر لنفسي يا هالة، بس أنا بواجهك بالحقيقة اللي إنتِ مش عايزة تعترفي بيها؛ مش عايزة تعترفي بنارك اللي لسه قايدة من حمزة... ولا قادرة تنسي عملته ولا عارفة تشيله من مخك أصلًا.


ـ احترم نفسك يا خليفة.


صاحت به تنهره، تنهض من جواره بجزع، لا تصدق ولا تستوعب ما أردف به بسهولة، لكنه كان مصراً هذه المرة على إخراج ما في قلبه:

ـ تفتكري الكلام ده هين على راجل زيي إنه ينطجه بلسانه؟ ولا إنها سهلة عليا لما أحس إن مرتي مش شايفاني أصلاً؟ طول الوقت تغلي من حمزة — والمرا اللي يتجوزها حمزة، بتكرهيه وفي نفس الوقت عينك ما بتشالش من عليه لو في وسط قعدة فيها مية نفر.


ـ اسكت!


صرخت بها غير قادرة على سماع المزيد، واضعة كفها على فمها، بجسد يرتجف، وقد كان هو بملامح حجرية أمامها، صلب وقاسي كأنه أصبح رجلًا آخر، أو ربما هو نفسه ولكن هذا الوجه الذي تراه منه لأول مرة. ألهذه الدرجة كانت غافلة عنه؟


ـ على فكرة بقى، كل اللي في دماغك دا أوهام، إنت زرعتها في مخك.


تلقى إنكارها بثبات شديد: ـ اعتبريه زي ما تِعتِبِريه يا هالة، اضحكي على نفسك. إنما أنا بجيبلك من الآخر، عشان الكيل طفح؛ واللي كنت بستحمله زمان— دلوك ماعدش ينفع. شوفي نفسك بقى، عشان أنا عرفت اللي أنا عايزه كويس جوي.


دبت بها روح الكبرياء، لتصيح به متناسية كل ما سبق وعبر به عن معاناته معها:

ـ وانا بقولك لاه يا خليفة، عوز أي حاجة ترضيك لكن جواز عليا لاه؟ يا كده يا كل واحد يروح لحاله.


ارتفع كتفيه وتدليا مرة ثانية يخبرها بهدوء ووضوح: ـ والله الإختيار في يدك وإنتِ حرة.

ــــ ✦ ✦ ✦ـــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــ


يبدو أنها قد عرفت مكانه وميزته؛ لتأتي الآن وتتابعه وهو يسبح في مياه النيل، الغبي الذي يعيب من على أصلهم وهو يغوص في المياه العذبة بكل حماقة دون أن يقدر غرضها الأساسي وهو شرب الناس منها. لكنها لا تنكر حرفيته وكأنه غطاس ماهر؛ تعلم جيِّدًا السبب الأساسي الذي جذبها إليه من البداية رغم غيظها الشديد من تعجرفه وغروره عليها بغير حق — من هو أصلاً ليرى نفسه عليها؟


تنهدت بخفوت لتقع عيناها على جلبابه والصديري الذي يرتديه، فدنت بخفة تلتقطهما، ثم تقوم بجولة تفتيش سريعة. أخرجت منه الهاتف وعددًا من المفاتيح المتشابهة، سحبت أحدها، وحافظة النقود التي فتحتها تقلب فيها سريعًا لتعرف محتوياتها.


فخرج هو بعد لحظات قليلة، ليجدها واقفة في انتظاره تطالعه بجرأة كعادتها والمياه تتساقط منه. فغمغم بسب نابية قبل أن يرد يغمغم بصوت أعلى: ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بيطلعوا منين دول؟


أصدرت من فمها صوتًا ساخرًا لتردف: ـ جنية مية يا غالي، يعني أطلع في أي وقت وأي مكان.


تهكم رافعًا حاجبه، وبنظرة تعرفها جيدًا اقترب وجلس على ذلك الحجر ليمسح بالصديري، يجفف جسده المبلل وشعر رأسه، ليقول بغيظ من متابعتها له: ـ أممم طب يا جنية يا اللي بتطلعي في أي وقت، مش عيب برضه تبصي على شب غريب وهو لوحده كده وفي حته مقطوعة؟ طب حتى راعي إنه صاحب خطيبك، ولا الخشا حتى في دي رايح.


تخصرت أمامه بعدم اكتراث، ثم تحدثت مصححة له: ـ أولًا هو مش خطيبي عشان أعمل حسابه. ثم حكاية الخشا دي خليها مع حد تاني. انت الواحدة تتكسف منك ليه يعني؟ على هيبتك ولا على حالك وجمالك؟


احتدت عينيه في النظر إليها من أعلى إلى أسفل يستهزئ منفعلاً في الرد عليها: ـ لا اسم الله على حلاكي وجمالك انتِ يا بنت، غرك شوية البياض ولا الرجالة اللي بتريل عليكي. لا انتِ تروحي البيت وتبصي على نفسك في المراية كويس يا بت، ولا تسوي بصلة في سوق الحريم.


بضحة واثقة ردت تشير بإصبعها على نفسها: ـ لا أنا عارفة نفسي كويس جوي يا حبيبي. لا محتاجة المرايات ولا الرجالة اللي بتلف ورايا كيف الدبان وين ما رِجْلي تخطي؟ والدليل صاحبك اللي هيموت على كلمة مني، أنا منشفة ريقه وسيباه يلف حوالين نفسه.


ـ وليه بقى سيباه يلف حوالين نفسه؟ مش راضية تردي ولا تريحيه ليه؟ مش قد المقام ولا شايفالك شوفة غيره؟


ـ لا دي ولا دي، الحكاية إنه مش عاجبني أصلاً.


قالتها في رد سريع عليه، ليتابع سخريته: ـ ولما هو مش عاجبك بتعشميه ليه في حبالك الدايبة يا ست البرنسيسة؟ ليلاتي يصرف ويكع دم قلبه عليكي. إنتِ وأهلك مزاج عندك يا أختي.


ـ لا مش مزاج يا غالي، بس أنا عارفة إن يوم ما أرد عليه هبقى مطرودة أنا وأهلي برا البلد. لكن رفضي لطلبه مسألة وقت مش أكتر... على الأقل بعد ما أرسى على بر.


غمغمت الأخيرة بصوت منخفض وصل إليه، مع تلك النظرة التي رمقته بها، ليناظرها باستفهام، لكن سرعان ما توصل إلى تخمينه هاتفا: ـ وه، ليكونش عينك مني يا نورة؟... عينك مني يا بت؟


هتفت هي الأخرى بنكران مكشوف: ـ لا عيني ولا ودني يا خوي، بلاش تتغر في نفسك قوي كده يا عم الوسيم؛ انت مين أصلاً عشان تملا عِيني؟


قهقه ضاحكًا بقوة ليرتدي جلبابه، يردد مؤكدًا: ـ لا أملا عينك يا نورا؟ بالمقارنة مع الدغف عرفان أملا عينك، على الأقل أصغر منه وفاضي وعازب، ولا ورايا مرا ولا عيال. دا غير إن معنديش تقل دم عرفان ولا بجاحته في نظرته للمرا. حكم دا غشيم وبصته مفهومة لأي واحدة مفتحة زيك؛ لو ميالة أكيد تعجبها النظرة دي، أنما لو كارهة زيك تخنقها...


لقد أصاب الحقيقة، حتى أنها لم تجد الحجة هذه المرة لتكذيبه، فقال بتساؤل: ـ ولما أنت ناصح وليك خبرة واسعة كده مع الحريم، ما اتجوزتش ليه لحد دلوك؟ يكونش أنت كمان عندك اللي تشغل بالك؟


انتفض بانفعال مفاجئ، وقد لامست الجزء الخطر بداخله، ليجأر بها وينهرها رافضًا تدخلها السافر في شؤونه: ـ شكلك أخدتي عليا جوي يا بت الغجر، امشي يا بت من هنا بدل ما يبجى طردكم على يدي أنا، امشي...


بحنق مضاعف اشتعل بأوردتها، شاعرة بالإهانة، تحركت مغادرة من أمامه، تنهب الأرض بخطواتها، حتى إذا وصلت لمسافة آمنة نادت تلفت انتباهه مرة أخرى: ـ عطوة... حاجتك دي؟


تطلّع إلى ما تشير إليه بيدها المرفوعة في الهواء أمامه، ليهمهم متذكرًا يبحث في الصديري أسفل جلبابه: ـ يخرب بيت أبوكي، دي كنها محفظتي والتلفون والمفاتيح، هاتي حاجتي يا بت. والله لو لطشتي من المحفظة حاجة...


تحركت رأسها برفض لتلقي الهاتف وسلسلة المفاتيح على الأرض العشبية أسفلها، حتى أعطته الأمان. لكن عند الثالثة التي هددها بها فاجأته بدفعها بطول ذراعيها حتى سقطت داخل مياه النيل، ليصيح بجزع وعدم تصديق: ـ يخرب بيت أبوكي، المحفظة...


وكان ردها ابتسامة متشفية قبل أن تأخذ طريقها راكضة من أمامه، موقنة أنّه لن يستطيع الإمساك بها، وأن فعل فسيصبح أضحوكة أمام الناس الذين سوف تجمعهم عليه بصراخها.


علّق في أثرها بغيظ شديد وقلة حيلة بعد أن ضاعت فرصته في اللحاق بها والانتقام:

 ـ فرسة لما تفرسك ولا دم يصبغك صبغ.


.... يتبع


اكرر للمرة الألف أسفي ع التأخير نظرا لأن الفصل بيخرج بصعوبة  

دعواتكم بصلااح الحال 

وياريت التفاعل المرة دي يتحسن ع اللي فات تشجعوني انزل بس الجديد

تكملة الرواية من هناااااااا 


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع