القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات


رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات




رواية لإجلها الفصل الحادي والاربعون 41بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات





الفصل الواحد والاربعون 


الحقد نارٌ صامتة، لا تحرق سواك.

تُغذّيها أنانيّتك، وتظنّ أنّها سلاحك نحو الانتقام، بينما هي في الحقيقة قيودك الثقيلة.

القلوب التي امتلأت بالضغينة تذبل قبل أن ترى الربيع، والعقول التي أسكنتها "الأنا" تفقد نورها قبل أن تبلغ الحكمة.

فلا عدوّ أفتك بالإنسان من نفسه حين يسلّمها لظلمة الحقد، ولا قبر أضيق من قلب امتلأ أنانيةً حتى لم يعد يتّسع للنور.


المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة القمر/ سنا الفردوس ( بطوط)


الفصل الواحد والأربعون


داخل غرفة بالمركز الصحي التابع للقرية، كانت مستلقية على سريرها الطبي، وقد استرجعت أنفاسها شيئا فشيئا لتعود إلى طبيعتها تدريجيًا بعد أن تلقت الرعاية العاجلة من قِبل الأطباء والعاملين، والفضل يرجع إلى شقيقتها الصغرى التي تدبّرت الأمر ببراعة، حين هاتفت إسعاف القرية لتنقلها بسرعة إلى هذا المرفق الحيوي في البلدة.


كان التشخيص المبدئي هبوطًا حادًا في  ضغط الدم كاد أن يوقف قلبها في لحظة غادرة. والسبب؟ شقيقتها التي كانت أمامها الآن، تعبّر عن أسفها بصعوبة وثِقل، وكأنها مجبرة، أو لعلّه كبرياء نفسها التي ترفض الاعتراف بما ارتكبت من أخطاء.


ـ لو كنت أعرف إن ضغطك هيوطى أو إنك هتتعبي بالشكل ده، مكنتش اتكلمت معاكي من الأساس. بس شكلك كنت تعبانة أصلًا من الأول. على العموم... أنا آسفة.


أومأت اعتماد بضعف، تتقبل اعتذارها، رغم الجرح الغائر في قلبها، وتأكدها من عدم جدّية شقيقتها أو اقتناعها بالاعتذار، وإنما تفعل ذلك من باب حفظ ماء الوجه، إن تبقّى منه شيء.


أخرجها من شرودها المظلم رطوبة شفتين صغيرتين حطتا على جبهتها برقة متناهية. من شقيقتها الصغرى الحانية التي كانت بجوارها على الفراش، تضمها بذراعيها، تدعمها وتخفف عنها بصوت باكٍ، لتذكرها أن تضحياتها وتعبها لم تذهب سدى،


ـ سلامة الحلو من كل شر... أوعي تعمليها تاني يا اعتماد. أنا كنت هموت والله في اللحظة اللي قفلتي فيها خشمك، وانحاش فيها نفسك. كنت حاسة إني أنا اللي إنحاش نفسي، وروحي بتروح مني. والله ما حسيت إنها ردتلي غير بعد ما فتحتِ عينك وبصّيتي ليا. ربنا يجعل يومي قبل يومك يا خيتي يا غالية.


ربتت اعتماد على ذراعها بامتنان، توبخها بلطف حتى لا تعيد مثل هذا الدعاء:


ـ بس يا بت... متبقيش عبيطة وتدعي على نفسك تاني. لاحسن والله أزعل منك. وبلاش دموعك دي... ولا تكبّري الموضوع. شوية تعب وراحوا لوحديهم.


ـ لاه... لساهم ما راحوش. ولا ناسية إنك مازلت راقدة في المستشفى، وإبرة المحلول لسه في يدك؟ لازم تخلّي بالك من نفسك. وإحنا كمان واجبنا نحرص عليكي ومنزعّلكيش...


قالتها متوجهة بنظرها نحو شقيقتهما الثالثة روضة، التي التقطت التعقيب لتصب به حنقها بعد لحظات لم تحتملها في مراقبة المحبة الزائدة بين الاثنتين:


ـ خلاص يا ست المسهوكة... إنتي هتعمليها ليلة وتشعلليها بعد ما هديت؟ طب ماهي  ربنا خد بيدها، وأنا اعتذرت واتأسفت اها... عايزة إيه تاني؟


جاء رد رغد بهدوء ووداعة تستفزها:


ـ أنا قصدي نفسي معاكي يا روضة. إحنا الاتنين لازم نقدّر ومنزودش على تعب اعتماد. كفاية الضغوط اللي عليها... هنبقى إحنا والزمن عليها؟!


غمغمت روضة في داخلها بما لم تستطع أن تنطق به أمامهما:

ـ يا بوي... علي شغل المثالية اللي يفقع المرارة ويجيب مغص معوى.


ثم قالت بصوت عالٍ وهي تنهض مغادرة:

ـ أنا طالعة برا أشم هوا بالبت اللي نفسها اتكتم من ريحة المستشفى. عن إذنكم.


لكنها وقبل أن تغادر، فوجئت بمزيونة التي دخلت مسرعة بصحبة زوجها فور أن علمت ماحدث لها من شقيقتها عبر الاتصال الهاتفي.


ـ اعتماد حبيبتي... إيه اللي جرالك؟


قابلت اعتماد لهفتها بهدوء تطمئنها:

ـ حاجة بسيطة مش مستاهلة. إنتِ مين قالك بس؟


سارعت رغد بالرد، غير مبالية بنظرتها المحذرة:

ـ أنا اللي قلتلها... لما لقيتها بتتصل عشان تتطمن عليكي. عايزاني أقولها رايقة وزينة بالكذب؟


ـ لا لا... سمح الله، ودي تيجي؟


قالتها بشيء من السخرية التي التقطها حمزة، دالفًا خلف زوجته، ليعقّب:


ـ لا مدام بتقلشي وتهزري تبقى بخير وزينة. ونطمن عليكي. إيه اللي جرالك يا أبلة؟ ده العيال بتعملها على نفسها بشخطة واحدة منك... على رأي الواد ريان.


أضحكها مزاحه وأخرجها من الكآبة التي كانت تغلفها، فردت متسائلة:

ـ طيب وهو شاف فين العفريت ده؟ ومدرسته أصلا في المحافظة، برا البلد.


ـ بيسمع من صحابه اللي في البلد يا ستي.


قالتها مزيونة، لتستهجن اعتماد بمظلومية وقد اندمجت في الحديث معهما:


ـ آه يا أنى يا غلبانة... حتى الأطفال بيطلعوا عليا إشاعات يا ناس!


ضحك حمزة، ثم أردف:

ـ اللي يخوف أحسن من اللي مابيخوفش سيبك، الأهم خلينا في صحتك دلوك. إيه اللي حصل وخلاكي تتعبي كدة؟ إحنا موصلينك لحد باب البيت زينة وتمام.


ـ عادي... ضغطي وطي فجأة. أكيد إرهاق وتعب.


تفوهت بها اعتماد بكذب لم ينطلِ على الاثنين. فصمتت رغد، لكن ملامحها البريئة كانت أصدق من كلامها، كاشفة أن هناك أمرًا ما حدث...


ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ


وفي داخل المنزل الكبير، في الشرفة الشاسعة، ذلك المكان المميز لحسنية وجلستها المفضلة مع ولدها الهادئ المتعب، كانت تتباحث معه حول ما أخبرها به حمزة:

ـ طب أنا اللي عايزة أعرفه دلوك... التمثيلية دي هتفضل لحد إمتى؟

ـ تمثيلية؟!

ـ أيوة تمثيلية. أخوك مفهّمني كده وأنا على نار، مش عارفة راسي من رجلي. بت عمك قالبة الدنيا في بيت أبوها، وأمها اتصلت ومعرفتش أرد عليها وأقولها إيه.


ـ قوليها إنه خطب، صُح يا أمه؟ وما تنكسفيش من حاجة. يا إما سيبي الأمر ده عليا وأنا هعرف أتصرف معاهم.


تجمدت حسنية لعدد من اللحظات، تطالعه بمزيد من التشتت وقد زادها قوله حيرة:

ـ أسيب الأمر عليك إزاي يعني؟ ههتقولهم اللي قاله حمزة؟


ـ أوعي يا أمه! إيه اللي إنتِ بتقوليه ده؟ هي سمعة بنات الناس لعبة؟!


قاطعها ناهِيًا بحزم، لتخرج هذه المرة عن طورها الهادئ، وتطالبه بانفعال:

ـ واض... إنت جيب من الآخر! إيه اللي في دماغك بالظبط؟ ما تسيبنيش كده عايمة في مية البطيخ، أنا لازم أرسى على بر معاك.


وكان رده الصمت... لتمر عليهما لحظات تبادلا فيها حديث النظرات؛ بين أم تغوص في أغوار ابنها الذي تعرفه أكثر من أي شيء، وابن يعلم ذلك جيدًا ويمنحها المساحة كاملة حتى تستخرج الإجابة بنفسها... ووصلت الرسالة.


ـ جدة حسنية... خدي اربطيلي الحظاظة على يدي أصلها اتقطعت.

كان هذا صوت ريان الذي دلف مقاطعًا جلستهما، لتتلقاه حسنية بحنانها المعتاد ومشاكستها أيضًا:

ـ هات يا خايب هات... حظاظة ومسخرة! شغل عيال البندر الماسخ.

ـ ماسخ ليه؟ دي بلون علم بلدي لاففها على يدي. شوفتيني لابس أسورة بنتة؟


ضحكت حسنية بعد أن أفحمها بمنطقه، فيما ربت خليفة على ذراعه بفخر:

ـ جدع يا واض، عجبني ردك. بس مخليتش أبوك يربطها ليه؟ ولا خالتك مزيونة؟ أنا مش شايف حد فيهم أصلا.


أجابه ريان وهو مندمج فيما تفعله جدته وهي تحكم ربط الحظاظة على يده:

ـ الاتنين مجعدينش، راحوا يزوروا أبلة اعتماد أصلها عيّانة...

ـ بتقول مين يا واض؟


قاطعه خليفة بتساؤله، فارتفعت رأس حسنية نحوه لترى الخوف قد اعتلى ملامحه، بينما واصل ريان شرح المكالمة التي أجرتها خالته مزيونة وعرفت فيها عن تعب إعتماد المفاجئ.


ليجفلها فجأة، ناهضا عن جلسته مستأذنًا للانصراف، وكأنها أصبحت تخصه... لا، بل هي فعلًا أصبحت تخصه كما بدا لها الآن.


ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ


داخل الخيمة التي تُعد مسكنها أينما حطّت الرحال في أي بلد، كانت مضجعة بجسدها، متكئة على وسادة قطنية، والفراش الصوفي أسفلها. في المقابل جلست والدتها على فرشة صوف أخرى متربعة القدمين، تتحدث إليها باهتمام لتعرف ردها حول الموضوع الهام، أو لتقنعها إن لزم الأمر:


ـ يا بت، انطقي! ريّحي قلب أمك وخلينا نرسى على برّ مع الجدع اللي رايح جاي علينا بيتنشق على كلمة منك. مش عايزين نضيّع الفرصة من إيدينا.


قاطعتها نورة بانفعال تخرج عن صمتها:

ـ يا أختي اسم الله على الفرصة! أروح ضرة على مرة وعيال وتبقى فرصة؟!


جادلتها الأم بقوة:

ـ ومالهم المرة والعيال؟! مدام هتبقي إنتِ الست عليهم؟ والحال والمال هيبقوا في يدك! الراجل واقع فيكي من الدور العاشر، يبقى املكي وعبي كفوفك منه. هو إحنا كل يوم هيجلنا عريس كده يا بت؟ ما على يدك... إن كان عيال عمك ولا الرجالة اللي بيدوروا حواليكي. وكل ما نحط رجلينا في بلد، ما فيش واحد عدل اتقدم لحد دلوك!


زمت شفتيها بحنق شديد، تدرك تلك الحقيقة جيدًا وعن ظهر قلب، لتصحح بشرود:

ـ لا... فيهم اللي اتقدم يا أمه، بس مكملش ولا عرف يكمل المشوار ويتحدى أهله. مقدرش يتحمل ظروفنا ولا قدر حتى يواجه بيا الدنيا زي ما كان معشمني.


أخرجت المرأة تنهيدة مثقلة من صدرها وقد فهمت مقصدها، فغضنت ملامحها بضيق قائلة:

ـ طيب كويس يا أختي إنك فاكرة. الحب والعشق ده كلام ما يجيبش همّه، خصوصًا بقي مع ولاد الأصول اللي شايفينا أقل منيهم. إنتِ جربتي حظك مرة مع واحد من عيال عمك، في جوازة مجعدتش شهرين، وجربتي مع الغريب اللي عمل فيها الغضنفر اللي هيشيلك ويشيل ناسك، وفي الآخر طلع ورق ولا يسواش، وما قدر حتى يكتب كتابه عليكي. يبقى نبص للموجود دلوك. عرفان متجوز ومعاه عيال؟ يبقى تاخدي فرصتك عليه عشان يعوضك. هتتجلعي وتاخدي ما بدالك منه، يا إما ترميه من طول دراعك ويغور في داهية. بس بعد ما تعبي يدك منه وتشبعِي. هو أنا اللي هفهمك؟ دي إنتِ نورة!


تطلعت إليها بحيرة، تزن الكلمات بعقلها، تبحث عن حيلة تراوض بها الرفض داخلها. إنها حتى لا تحتمل الجلوس معه، فكيف ستصبح زوجة له وتعطيه حقوقه؟! كيف وشغفها يتجه في ناحية أخرى ليست منطقية إطلاقًا؟! ذلك الأبله الذي كلما قابلها تشاجر معها، ينظر إليها بازدراء وهو في الأصل لا يسوى شيئًا، يتفاخر بأصله وكأنها أقل منه... ورغم كل ذلك، تتوق دائمًا لرؤيته وخلق الحجج للقائه.


ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ


في أقل من عشر دقائق، وصلت السيارة أمام المبنى الذي تتواجد فيه، مقر المركز الصحي الذي يشمل بلدتهم وباقي القرى من حولها. صفّها في موقع مناسب قبل أن يترجل بخطواته السريعة نحو المدخل. وعلى حين غرة، أبصر بطرف عينه ذلك الشاب اللزج، زوج أختها، يقف مع زوجته المزعجة في أحد الأركان قرب السور، أسفل صف الأشجار.


غمغم في داخله ساخطًا على تلك الحمقاء التي بدت من هيئتها ووقفتها المستسلمة أمامه وكأنها توشك على إفساد الخطة والشروط التي وُضعت في جلسة الرجال، حتى تعود إليه مرفوعة الرأس، تعويضًا يرد حق شقيقته التي تنازلت عن حقها في حبس زوجها من أجلها ومن أجل الصغيرة ابنتها.


شتان بين واحدة بلهاء مثلها، وبين عزيزة النفس التي كان يسارع الآن بخطواته ليقصر المسافات ويطمئن عليها.


طرق على باب غرفتها المفتوح على مصراعيه، ليلفت أبصار الحاضرين معها، ثم دلف يلقي التحية، وعيناه ترسل نظرة عتب نحو شقيقه الذي جاء بزوجته دون أن يخبره بتعبها:

ـ مساء الخير.

ـ مساء النور.


جاء رد التحية منهم وأبرزهم كان حمزة، الذي تحمحم متلقِّيًا إياه بالمزاح أمام دهشة الآخرين:

ـ وه! دي البلد كلها شكلها عرفت بتعب الأبلة، منوَّر يا واض أبوي.


رمقه بنظرة خاطفة، رافعًا حاجبه بتحذير، قبل أن يتجه إليها مخاطبًا:

ـ سمعت من الدكتور إن سبب تعبك المفاجئ هو الزعل الشديد، مين اللي زعَّل الأبلة؟


شعرت بحرج شديد نتيجة السؤال الموجَّه إليها أمام الحاضرين، وقد تركز الانتباه نحوهما، فخرج ردها بصعوبة، محاولة الإنكار:

ـ عادي يعني... مفيش حاجة... الدكتور بيهوِّل.


ـ الدكتور بيهوِّل! صح الكلام دا يا رغد؟


تفاجأت الأخيرة من مخاطبته المباشرة لها، فتبسَّمت برد فعل عفوي، وقد بدا أنه يستخدم سلطته كخطيبٍ لشقيقتها حتى يحقق في سبب تعبها.

ـ لاا، بس قصْدها يعني...


قطع الحديث دخول "روضة" التي دلفت والأنظار معلَّقة بخليفة، الذي يزعم أنه خطيب تلك الراقدة على سريرها:

ـ ما شاء الله، الأوضة بقت مليانة مسالخير يا أستاذ خليفة.


التفت نحوها بملامح مبهمة يرد تحيتها أولًا:

ـ مساء الخير.


تقدمت أكثر حتى صارت أمامه، تسأله بفضولها:

ـ شكلك زعلان عشان جيت متأخر؟ معلش، لو أعرف نمرتك عاد كنت اتصلت عليك وبلغتك... بما إنك بقيت خطيب أختي...


ختمت تلقي بنظرة خاطفة نحو شقيقتها، التي امتقعت ملامحها من طريقتها غير اللائقة، حتى ودت أن تفحمها برد جاف يخرسها. لكن خليفة كان الأسبق:

ـ لا، اطمني، أنا مش زعلان ولا حاجة. إحنا لسه في البدايات، وطبيعي دا يحصل. على العموم، المرة الجاية لو اضطريت، هاخد رقم رغد، هتبقى أسهل في السؤال.


ـ رغدد...


خرج منها الاسم بنظرة ذات مغزى نحو "اعتماد"، التي فهمت قصدها الخبيث في جرحها وتذكيرها بحادثة زوجها السابق وأغراضه الدنيئة نحو المذكورة. فجاء التدخل من "مزيونة" التي كانت تتابع وتعي ما لا يعرفه خليفة، فردت لتخرسها بما خطر ببالها:

ـ أيوة يا رغد يا روضة، دي جلوعة العيلة زيها زي ليلى، هي تزيد عنها إيه غير سنة؟


قولها كان كافيًا جدًا لإفحام روضة، فتبتلع غيظها داخلها، أما خليفة فقد أسعده الرد. على عكس اعتماد التي زاغت عيناها بتشتت، وهي تراه يتعامل وكأنه أمر واقع!


استغل حمزة الفرصة، مضيفًا على قول زوجته ومثبتًا:

ـ صح والله، صدقتِ. بت يا رغد، من هنا ورايح أنا عمك زي خليفة بالظبط. أي حاجة عايزاها، تطلبيها مني متتأخريش.


أومأت رغد بعفوية، مبتسمة بامتنان. ليردف بعدها بأمر:

ـ وانا بقول كفاية كده، نقوم نسيبه معاها لحظة يمكن عايز يطمن عليها واحنا قاعدين.


ونهض يشير إلى زوجته وشقيقتيها لتفهما، أمام صدمة اعتماد التي فقدت النطق، تتابع انسحاب شقيقتيها مع مزيونة، واتخاذ خليفة مقعده بالقرب منها، وكأنه يعيش الدور حقًا. ليجفلها حمزة بكلمتين على عجالة قبل أن يتبعهم:

ـ متشليش هم هالة خالص، أنا اتصرّفت معاها، ومستحيل تقدر تقرّبلك لا انتِ ولا أخواتك.


قالها سريعًا وغادر دون أن يمنحها فرصة للاستفسار. فتعلقت أبصارها به حتى خرج من الغرفة، ثم استوعبت قصده، لتعود ببصرها نحو ذلك الجالس أمامها يراقبها بحنق جعلها تثور:

ـ على فكرة، أنا شايفة الموضوع كده زاد عن حده.

ـ موضوع إيه اللي زاد عن حده؟


تلعثمت قليلًا، تجيبه بارتباك:

ـ موضوع الخطوبة والكلام... الفاضي ده.


مط شفتيه بابتسامة جانبية جاهد لإخفائها:

ـ بس إحنا لازم نتصرف على أساس الوضع اللي اتحطينا فيه. وانتِ كمان لازم تخلي بالك، الباب المفتوح ده ممكن حد يدخل منه فجأة ويسمعك، تفتكري ساعتها هيقول علينا إيه؟


سألته بارتباك:

ـ إيه؟


ـ أنا اللي بسألك، عشان تفكري. وبالمناسبة عايز أنبهك، طليقك الزفت قاعد ضيف عند المحروس جوز أختك.


ـ يولعوا بجاز وسخ هما الاتنين.


انفعلت حتى أمسكت رأسها متأوهة بتعب:

ـ الله يخرب بيوتهم... هما الاتنين هيقصّروا بأجلي...


ـ بعد الشر.


وصلت إليها كهمهمة بالكاد تُسمع، قبل أن يستطرد بجدية:

ـ من غير ما تتعبي نفسك، هما الاتنين أصلًا ما يستاهلوش. لكن لازم الحرص مع جوز أندال زي دول، كل واحد فيهم همه مصلحته في الكلام والحديث لما يكبر. جوز أختك عايز يرجع مرته من غير ما يدفع مليم، وطليقك شكله كده فعلًا له غاية في إنه يرجعك.


ـ كله حَنش العفش دا كمان! هو أنا طايقة أبص في وشّه أصلًا؟


صدرت منها برد فعل عفوي، لتعود لنفسها تستغفر هامسة:

ـ أستغفر الله العظيم يا رب من كل ذنب عظيم... سيرته اصلا بتعصبني.


لم تَرَ ابتسامة أخرى حلت بزاويتي شفتيه، لملمها سريعًا ليعود بجدية:

ـ على العموم أنا كده اتطمنت بعد كلام الدكتور كمان. يلّا بقى، عشان أروحكم معايا في طريقي.


ـ تروح مين؟

ـ أروحك يا اعتماد، أوصلك لحد بيتك بعربيتي.


تطلعت إليه بعينين متسعتين، يموج فيهما الرفض والدهشة:

ـ توصلني بعربيتك إزاي يعني؟! مينفعش طبعًا. روح انت، متشغلش بالك. أنا هتصرف.


استهجن، مرددًا:

ـ ما اشغلش بالي كيف يعني؟ انتِ ناسية إن قدام الكل دلوك اسمي خطيبك؟ هتبقي أصول مني بقي لما أمشي  وأسيبك ترجعي في تاكسي علي بيتك من غيري. دي الناس تاكل وشي يا اعتماد.


حسنًا... لقد أزال حتى الألقاب! اللعنة، ما الذي يحدث معها؟ هي ليست معتادة على ذلك. كيف تجد صوتها أمام من يفرض عليها سلطة وهمية وكأنها صارت حقيقة؟


ـ يا أستاذ خليفة...

ـ أستاذ مين بس؟ في واحدة تقول لخطيبها يا أستاذ؟


قاطعها بها، ليقترب برأسه هامسًا وكأنه ينصحها:

ـ على فكرة، أختك روضة أول واحدة هتروح توصل لجوزها لو سمعتك بتكلّمينى بالرسمية دي. ودا ما هيصدّق، هيعمل منها حكاية فوق الحكاية.


رد فعلها كان جمودًا تامًا بفمٍ مفتوح، أهدابها وحدها تتحرك أمامه، وكأنها مصدومة أو غير مستوعبة لما يجري. فنهض فجأة، يحسم الجدال:

ـ أنا هروح أنده لرغد تيجي تساعدك وتسندك لحد العربية. أصلك مهتقبليش إني أسندك أنا طبعًا.


لم ترد، بل ظلت على حالها، تتبعه بأبصارها حتى خرج من الغرفة، وهي وكأنها في حالة من اللاوعي، لا تعرف حلا لهذا الوضع الغريب، ولا تدري ما الذي يصيبها في حضرته. تلفها حالة من الارتباك، ولا تجد القدرة على الرفض. فضربت بكف يدها على جبهتها، مرددة:

ـ يا مَرَي! هي مالها الدنيا بتلف بيا كده ليه؟ أنا كأني دوخت تاني... ودا اسمه إيه ده عشان أتعالّج منه بس يا ربي؟


ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ


داخل منزل عرفان، كان يتأنّق أمام المرآة، يبرم شاربه بين إصبعيه بإعجاب وزهو، يداعب خياله صور الجميلة التي ينتظر موافقتها على أحرّ من الجمر. لقد أغراها بالمال الذي يجعلها تخرّ وتنصاع إليه، سيرفعها من حياة الخيش والخيام إلى رفاهية لم تحلم بها في أقصي خيالها يومًا، ليعيش معها أيّامًا وليالي يعود فيها عشر سنوات للخلف. نورة الجميلة تستحق المال الذي يُدفع من أجلها.


في غمرة شروده، لم ينتبه لتلك التي كانت متكئة على إطار الباب، تراقبه منذ فترة بابتسامة ساخرة، وكأنها تقرأ ما يدور في رأسه. حتي كشفت نفسها بمصمصة من شفتيها وصلت إليه، ليلتفت إليها بضيق هادرًا:

ـ واجفة على الباب زي الغيمة وبتمصمصي بخشمك؟ مش عاجبك ولا اي يا بت الفرطوس؟


تنهدت وهي تضرب بكفها على ظهر الآخر قائلة بسخرية لاذعة:

ـ معلش يا جوزي الغالي، أصلي شوفت منظرك وانت بتتمرى خطف قلبي، مقدرتش أمنع نفسي وأنا بتفرج على الجمال والحلاوة. جلابية مكوية، والشال الصوف، والعطر التقيل اللي يزكم النفس من ريحته، ولا الجزمة الجديدة ولا العِمّة والشنب المبروم... دا انت ولا اكنك عريس يا راجل!


أمال برأسه نحوها بنبرة يفوح منها الكيد:

ـ طب ما أنا فعلًا عريس، وقريب جوي هتيجي اللي تنوّر الدار... عروسة إنما إيه! تنوّر في الضلمة من حلاها.

ـ واسمها نورة.

أضافت بها ببرود، تُظهر عدم الاكتراث، قبل أن تتابع:

ـ الغجرية اللي صيتها واصل لآخر البلد... رغم إنها لا رجاصة ولا حتى بتغني، بس حلاها وجَلَعها بيخلي الرجّالة تريل عليها منين ما تخطّي.


قبض على ساعدها فجأة، رافضًا كلماتها الأخيرة:

ـ نَقّي ألفاظك واحترمي نفسك... اللي بتتكلمي عليها دي هتبقى ستّك وتاج راسك.

ـ طبعًا... أمّال! ستّي وتاج راسي.


تركها فجأة، يتحرك بضيق بعد أن عكّرت مزاجه. طاعتها المستفَزّة كانت تشعره بالاختناق، وعدم الراحة، وكأن حيّة تطبق على أنفاسه.


لتعلّق هي في أثره بغل:

ـ اعمل على كيفك يا عرفان وقلّ جيمتك زي ما انت عايز، بس أنا مش هسكت ولا هسلّم وأرضى بالذل، حتى لو وصلت إني أدبحها وأبخت بدمها عتبة البيت.

ـــــــ ✦ ✦ ✦ ــــــــــــــــــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــــــــــــــــ ✦ ✦ ✦ ـــــــ


توقفت السيارة أخيرًا أمام باب المنزل. ترجّلت مستندة على ذراع شقيقتها، بعد لحظات مرّت عليها كالدهر داخل السيارة التي يقودها برويّة، وعيناه تقتنصان بين الفينة والأخرى نظرات نحو المرأة الأمامية التي عدّلها علي وجهها وقد أستقلت المقعد الخلفي تتوسط شقيقتيها ، لا تعلم لما الإصرار على إثبات الخطوبة المزعومة حتى في أدق التفاصيل!


ـ ما تيجي تتفضل معانا يا أستاذ خليفة؟ إنت مش غريب.

توجّهت إليه روضة بالدعوة أثناء ترجلها بابنتها، فهَدَاها ابتسامة صفراء وهو يردّ:

ـ طبعًا مش غريب... بس ميصحّش والساعة عدّت تمانية. اعتماد هتصل بعد شوية أطمّن عليكي.


توقفت رغد، تجبرها على الالتفات إليه، تحدّق فيه وكأنه يخاطب امرأة أخرى بنفس الاسم.


ليعيد مؤكّدًا بنبرة مرحة:

ـ بقولك هتصل بيكي بعد شوية أطمّن عليكي... ولا استنّي، صحيح.


قطع كلامه وفتح باب السيارة الأمامي، يتناول منه شيئًا قدّمه لها:

ـ تليفونك... للأسف نسيتيه امبارح.


تطلعت إلى ما يقصد، فوجدت العلبة نفسها التي رفضتها منه من قبل بعدما عطّل لها اثنان. ما زال محتفظًا بها ليقدّمها لها الآن!


ـ طب امسكي عنها إنتِ يا رغد، يمكن تعبانة من شيلته كمان.


توجّه بها بمكر نحو الصغيرة، التي التقطته بلهفة وسعادة من أجل شقيقتها بهذا الهاتف باهظ الثمن من ماركة تعرفها جيدًا هي وكل جيلها. غافلة عن غضب صاحبة الشأن ورغبتها في الرفض.


ـ خُد تليفونك، أنا معايا واحد شرياه قريب.


نظر إليها وكأنها تقول شيئًا ينافي المنطق، قبل أن يتوجّه إلى شقيقتها:

ـ ما حدّ يفهّمها يا بنات... إيه دخل هديتي بتليفونها اللي شارياه جديد؟

ـ لا طبعًا، ملوش دخل.

هتفت بها روضة، لتخطف الهاتف من يد رغد تتأمله بانبهار متابعة:

ـ إنت خطيبها، والهدايا دي شيء عادي جدًا بين الخطّاب.


لوّح بكفّه وقد أغلق عليها باب الاعتراض:

ـ أهي قالتلك أها... تصبحي على خير يا اعتماد.

ـ وإنت من أهله.


تمتمت بها مرغمة، تجاري كذبه، ثم مضت مستندة على ذراع شقيقتها. فلم ترَ ابتسامته التي وسعت فمه وأنارت وجهه. من كان يصدّق أن تلك الشرسة سيأتي عليها وقت تصير فيه كالحمل الوديع، في لعبة غير مقصودة وجدت نفسها بداخلها؟


......يتبع 



 لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع