رواية غرام الذئاب الفصل الثامن عشر 18بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الثامن عشر 18بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_الثامن_عشر
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت_علي
كنت أظن أن الغياب يطفئ الحب، لكنه اليوم أثبت لي أن الغياب يزيده اشتعالًا.
كنت في حضنه كطفلة أضاعها الطريق ثم وجدته أخيرًا، فبكيت على كتفه دون أن أشرح شيئًا.
هو يفهم هو يعرف، هو الوحيد الذي يسمع بكاء قلبي قبل أن تخرج دموعي.
شعرت أنني أذوب بين ذراعيه، وأنني مهما حاولت أن أبتعد، فإن هذا الحضن سيظل دائمًا وجهتي الأخيرة.
أحمد الشريف & علا
༺༻
عاد الملك يجر خلفه ظلال انتصاره، حاملاً بين ذراعيه ملكة قلبه وروحه، كأنما يضم بين كفيه كل ما تبقّ له من الدنيا.
كانت خطواته تدوي على أرضية الرخام البارد، وصدى أنفاسهما يملأ البهو الفسيح للقصر.
ولما بلغ عتبة الداخل، التفتت نحوه بعينين مشتعلة باللهيب، وقالت وهي تتململ بين ذراعيه
"ممكن تنزلني، مش هاينفع اللي بتعمله كده، أنا أصلاً لسه على موقفي، ومش معنى إن رجعت معاك يبقى سامحتك"
وأشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى في حركة طفولية أثارت ضحكة مكتومة على شفتيه رغم إرادته.
صاحت بغضب وهي تكز على أسنانها
"بتضحك على إيه؟!"
كفّ عن الضحك، وأجابها بنبرة تلونها جدية مصطنعة
"افتكرت حاجة ضحكتني، متاخديش في بالك"
"يا سلام؟!"
ابتسم ابتسامة جانبية
"ابتدينا بقى هرمونات الحمل والجنان هايشتغلوا"
حدقت فيه بحدة
"قصدك أنا مجنونة؟!"
أنزلها برفق أمام الدرج، وقال وهو يرفع حاجبيه
"وأنا مقولتش كده، بالعكس إنتي ست العاقلين كلهم"
وفجأة اخترقت صدى الحوار أنغام صوت مألوف، جاء من طرف البهو
"وأنا بقول القصر منور ليه، حمد الله على السلامة يا حبيبتي، نورتي بيتك"
كانت زينات قد حضرت لتوها، تلمع في عينيها فرحة صافية.
التفتت إليها صبا، ولما رأت تلك الأخرى اللاصق الطبي على جبهتها، اتسعت عيناها دهشة، فغمزتها صبا بعينيها في إشارة إلى أن الحديث مؤجل.
"وحشتيني يا داده"
قالتها وهي تعانقها بعناق يفيض بالشوق، فردت زينات وهي تضغط عليها بذراعيها
"حبيبة قلبي، وانتي كمان وحشاني قوي، ماتسيبيش بيتك تاني، ولو كررتيها أنا اللي هاسيبكم وامشي"
ابتسم قصي وتدخل قائلاً
"واحنا ما نقدرش نستغنى عنك، اطمني صبا مش هاتعملها تاني، وهاتفضل منورة قصرها هي والضيف الجديد اللي جاي في السكة"
لمعت نظرة سريعة بين زينات وصبا، أدركت فيها الأولى أن قصي قد علم بخبر الحمل الذي حاولت صبا إخفاءه. فتظاهرت وكأنها تسمع الأمر لأول مرة، وهتفت بانفعال صادق
"يا نهار ألف مبروك، ربنا يقومك بالسلامة يا بنتي، ويتربى في عزكم أنتي وأبوه"
"حبيبتي يا داده"
سألت زينات وهي تبحث بعينيها
"أومال فين الولاد؟"
كادت صبا تجيب، لكن قصي قاطعها
"هايقعدوا يومين عند عمي"
قالت زينات
"يرجعوا بالسلامة، وحشوني أوي، خلاص اطلعوا ارتاحوا أكون جهزتلكم الغدا علي طول"
قالت صبا وهي تصعد الدرج
"ماتعملوش حسابي، أنا مش جعانة عايزة أرتاح شوية"
أومأ قصي لزينات، وقال بصوت منخفض
"أنا مش جعان، خليهم يطلعوا لها الأكل فوق"
ثم لحق بها وما إن دخلت إلى الغرفة حتى أغلقت الباب وأوصدته من الداخل، زفر بنفاد صبر لكنه أخفى ذلك، وسأل بصوت مموه بالهدوء
"حبيبتي، بتقفلي الباب ليه؟"
أتاه صوتها من الداخل، حاد وجازم
"عايزة أقعد مع نفسي ومحدش يزعجني"
ابتسمت بمكر خلف الباب، فهي تعلم أنه مهما تظاهر بالصبر فلن يصمد طويلاً، غير أن ما حدث خالف ظنها، إذ قال بصوت هادئ على غير عادته
"خدي راحتك يا حبيبتي، وابقي سلمي لي على نفسك وبوسيها لي"
تركها مذهولة، ومضى إلى غرفة أخرى، جلس على طرف الفراش وانطفأت ابتسامته، لتحل محلها غيمة حزن ثقيل.
كانت صورة شقيقته تطارده، تلك التي فشل في الوصول إليها رغم محاولاته المستميتة.
أخرج هاتفه وقام بالاتصال بأحد رجاله المكلفين بمهمة البحث
"وصلتوا لحاجة؟"
جاءه رد من الطرف الآخر
"للأسف يا باشا، معرفناش نوصل لأي حاجة تدلنا على مكان اللي اسمه مهند"
ارتفع صوته بغضب عارم. حتى اهتزت الجدران
"يعني إيه معرفتوش توصلوله لحد دلوقتي؟!، قولتلكم ماتسيبوش شبر واحد غير لما تدوروا عليه، أنا عايزه قبل ما البوليس يوصلوا"
"حاضر يا باشا، اعتبره حصل"
زمجر وعقب بسخرية وتهكم
"بقالي كذا يوم بسمع الجملة دي أنا عايز فعل، مش كلام"
"أمرك يا باشا"
أنهى المكالمة وألقى الهاتف إلى جواره بعصبية، وما لبث أن اهتز مجددًا بمكالمة واردة من رقم مجهول.
وفي مكان آخر، وسط عش مهجور في قلب الصحراء، كانت أنفاسها تتلاحق، دموعها تنحدر كخيوط المطر على وجه أرهقه الرعب، وقلبها يدق بعنف حتى كاد يخرق صدرها.
تمتمت برجاء يائس
"رد يا قصي، رد بالله عليك"
رفع الهاتف إلى أذنه، وما إن سمع صوتها المرتعش حتى انتفض واقفًا
"قصي، أنا كارين ألحقني بسرعة"
قال بلهفة ممزوجة بالذعر
"ماتخافيش يا حبيبتي، إنتي فين؟"
أجابته وسط شهقات البكاء
"مش عارفة، المكان حواليا معظمه صحرا و فيه بحر قريب من هنا، أنا بكلمك من تليفون المجرم اللي خطفني، قدرت أهرب منه، بس هو بيدور عليا، ولو لقاني هيقتلني أنا خايفة أوي"
ضغط على كلماته ليطمئنها
"حبيبتي، اهدي أنا جايلك بسرعة، حاولي تبعتيلي اللوكيشن، واستخبي في مكان آمن لحد ما أوصلك"
"حاضر"
أرسلت موقعها، ثم أضافت بصوت مرتجف
"خد بالك من نفسك ده سفاح، قتل الدكتور قدام عيني، وطلع قتل مراته بعد ما عذبها"
أجابها بحزم
"اطمني أنا جايلك حالاً، إنتي اللي خدي بالك من نفسك لحد ما أوصلك"
فتح الباب ليغادر، فإذا بزوجته واقفة أمامه بوجه متجهم
"مين دي اللي كنت بتكلمها ورايح لها؟!"
لم يكن ينقصه هذا الاتهام الآن، فحدق فيها وقال بما لا يدع مجالًا للشك
"كارين اتخطفت"
تركها ونزل الدرج بخطوات سريعة، أدركت حينها هول ما سمعت، فلحقت به حتى وصل إلى المكتب.
كانت تتنفس بصعوبة، وسألته بصوت متردد
"اللي إنت قولته فوق بجد؟"
فتح درج مكتبه وأخرج سلاحه، وتأكد من امتلاء خزينته، ثم أعاد تركيبه بثبات، بينما تحدق فيه بعينين مذهولتين
"رد عليا"
قال وهو يضع السلاح خلف ظهره
"إنتي شايفة إيه؟!، أيوه مخطوفة بقالها كذا يوم، ومعرفناش نوصلها، هي اللي كلمتني ورايح أجيبها عن إذنك"
تركها وغادر، وفي طريقه أجرى اتصالًا
"مصعب حضر الرجالة حالاً واطلع بيهم، وقابلوني على اللوكيشن اللي هابعتهولك"
❈-❈-❈
ما إن انقطعت المكالمة حتى انتفض واقفاً، كأن تياراً من العزم الجارف قد اجتاح أوصاله، فارتدى ثيابه على عجل، والتقط هاتفه ليهتف برجاله، صوته يقطر بأمر وحزم، حدد لهم وجهة اللقاء وموعد التحرك.
وبينما كان يُعد عدته ويحكم تثبيت سلاحه خلف ظهره، انفرج باب الغرفة لتطل زوجته، ملامحها مشوبة بالقلق، وعيناها تفيض لهفة واستفهام، فسألته بصوت مرتعش
"لاقيته كارين؟"
رمقها بطرف عينه ثم آثر الصمت، يواصل تجهيزاته في صرامة.
تقدمت نحوه بخطوات حذرة، ومدت يدها تمسك بيده، وقالت بصوت متهدج
"مصعب، أنا عارفة إنك زعلان مني من وقت ما كنا في القصر، مكنش قصدي والله أضايقك، أنا بس...
قاطعها بنبرة حاسمة، يغلفها ضيق مكبوت
"مش وقته أي كلام يا ملك، ننقذ بس مرات أخوكي ونرجع بالسلامة، ولسه لينا قعدة مع بعض أنا وأنتي"
تراجعت بضع خطوات إلى الوراء، تتأمل وجهه الذي ازداد صلابة، ثم وقفت قبيل خروجه وقالت برجاء أخير
"ممكن تاخد بالك من نفسك، وأول ما توصلوا ليها تكلمني أطمن عليها"
نظر إليها نظرة مقتضبة، واكتفى بهز رأسه، لكن قبل أن يخطو خارج العتبة، اندفعت نحوه دون تمهيد، تحيطه بذراعيها في عناق حار صامت، ثم انسحبت عنه في هدوء، تمتمت وهي تبتلع دموعها
"لا إله إلا الله"
أجابها سريعاً، وعيناه تحملان مزيجاً من اللوم والود الدفين
"سيدنا محمد رسول الله"
وما إن غادر البيت، حتى سارعت هي تبحث عن هاتفها كمن يبحث عن طوق نجاة.
كان أول اتصالها بشقيقها يونس، لكن يبدو إنه مازال لم ينتبه لهاتفه الذي فرغ من الشحن.
لم تيأس، فاتصلت بشقيقها الآخر، غير أنه لم يرد في المحاولة الأولى، وعلمت في قرارة نفسها أنه ما زال يحمل عليها في صدره ضيقاً بعد المشادة الحادة التي اندلعت بينهما في قصر العائلة.
تنهدت بضيق، ثم التقطت أنفاسها وأرسلت إليه رسالة صوتية عبر تطبيق المحادثة، جاء صوتها حامل مزيج من القلق والرجاء
«ياسين حاول توصل ليونس وقوله قصي ومصعب عرفوا يوصلوا لكارين»
ضغطت زر الإرسال، ثم رفعت كفيها إلى السماء، تبتهل بصوت يتهدج بالدعاء
"يارب ترجعلينا بالسلامة يا كارين"
❈-❈-❈
صمت مدقع يعم المكان من حولها، لا تسمع سوى صوت دقات قلبها، وقوتها التي انهارت، جسدها بدأ بالتراخي وشعور الخوف لا يفارقها، تنظر نحو الباب الخشبي القديم وتتوقع في أي وقت أن يقتحم هذا المجرم المكان من خلاله وتكون نهايتها علي يده.
انتفضت فجأة عندما سمعت صوت سيارة يأتي من بعيد، ألتفت إلي النافذة الخشبية ونظرت بحذر من خلال فتحات التهوية، تنفست الصعداء عندما وجدتها سيارة لمسافرين عبر الطريق.
أتتها فكرة أن تخرج وتطلب منهم النجدة و سوف تخبر شقيقها في الطريق، خرجت من المكان المهجور وأخذت تلوح للسيارة و تستغيث بصوت يخرج بصعوبة.
توقفت السيارة و هبط منها رجلين، ركضت نحوهما، سألها الشيخ و كان رجل في عمر والدها
"إيه اللي جابك هنا يا بنتي؟"
"أنا كنت مخطوفة و....
توقفت عن التحدث وعينيها تتسع بصدمة، رأت آخر ما كانت تتمني رؤياه، فقد كان مهند، هزت رأسها برفض وتراجعت إلي الخلف و نظرت إلي الشيخ الكبير بتوسل
"أرجوكم انقذوني، الراجل ده هو اللي خطفني و عايز يقتلني"
هبط مهند من سيارته، ورسم ابتسامة زائفة علي شفتيه و تحدث بكل ثقة
"حبيبتي مش قولتلك ما تخرجيش من الشاليه عشان المكان مش أمان؟"
كان يتقدم منها فاختبأت خلف الشيخ، اوقفه الرجل الأخر
"استني عندك رايح فين؟"
تظاهر بالسلمية
"عايز مراتي"
"مراتك، و لا اللي أنت خاطفها؟!"
نظر مهند إلي كارين و بكل إحترافية و تمثيل متقن، قال لها
"عاجبك كده؟!"
ثم نظر إلي الشيخ واخبره
"حد يخطف مراته برضه يا شيخنا؟!، هي بس زعلانة مني شوية، و أنا جيت وراها عشان أصالحها و نروح"
صاحت كارين برفض
"ماتصدقهوش يا حاج، اقسم بالله ما جوزي، أنا متجوزة و عندي ولاد، و المجرم ده خاطفني وعايزني أعيش معاه بالعافية، خدوا بالكم ده سفاح و....
وضعت كفيها علي أذنيها بسبب، صوت طلقتان خرجت كلتيهما من فوهة سلاح آخر يحمله مهند، واحدة استقرت في رأس الرجل الذي أمامه فسقط في الحال، و الأخري استقرت في صدر الشيخ الكبير الذي لم يتحمل ووقع علي الأرض ينازع الألم.
نظر مهند إلي تلك المسكينة، تهز رأسها و تشعر بالجنون، لا تصدق هول ما تراه، يقتل بكل دم بارد فماذا سيفعل معها هي؟!
" شوفتي خلتيني اعمل بسببك إيه؟، قولتلك أي حد هيقف في طريقي عشان يبعدك عني مش هتردد ولو ثانية اقتله"
تتراجع إلي الخلف خطوة تلو الأخرى، تردد من بين دموعها برفض تام
"لاء، لاء"
كان يتقدم منها بالتزامن مع كل خطوة تراجع لها
"هاتروحي فين مني المرة دي!"
تعثرت في صخرة صغيرة، فوقعت إلي الوراء، تحركت سريعاً لتنهض، كادت ترفع رأسها وجدت حذائه الأسود أمامها مباشرة، رفعت وجهها فوجدته يبتسم إليها ثم هبط علي عقبيه، حاوط وجهها بين كفيه وقال بهدوء قاتل
"مفيش حاجة هتفرقنا تاني عن بعض غير الموت"
❈-❈-❈
حل المساء وقد تناثرت أضواء الزينة كحبات اللؤلؤ المضيئة، تتدلى في أرجاء الحديقة الخارجية، تبث دفئها وتغمر المكان برونق إحتفالي يليق بالمناسبة.
تتهادى الألوان بين خيوط النور، بينما الخادمات يتحركن بنظام دقيق، يرتبن الطاولات والكراسي في مشهد يوحي ببهجة وشيكة، فالجميع في حالة استعداد قصوى لحفل الخطبة الذي أعلنت السيدة شيريهان عن إقامته.
وفي قلب المطبخ، روائح الشهية تتصاعد من أواني الحلوى، ممزوجة بعبق المشروبات المنعشة، بينما تتناقل الفتيات الصحون والكؤوس بخفة ومرح، يتغامزن ويتهامسن، والضحكات تلمع على وجوههن.
وعلى الطرف البعيد، وقفت علا منعزلة بعض الشيء، تعدّ الكؤوس بهدوء متكلف، لكن أذنها كانت مشدودة إلى أحاديث زميلاتها التي بدا أنها لم تُلقَ مصادفة، بل بترتيب مقصود وربما بتحريض خفي من السيدة شيريهان.
قالت إحداهن، وهي تمد كوب عصير لصديقتها
"روحي يا سها طلعي كوباية العصير دي لداليا هانم"
أخذتها الأخرى وانصرفت، فتناهى إلى مسامع علا صوت إحداهن وهي تقول بنبرة مليئة بالتشويق
"عارفين يا بنات، داليا هانم دي الحب القديم بتاعت أحمد بيه، حصلت مشاكل وبُعدوا عن بعض، ورجعوا دلوقتي على خطوبة، وسمعت شيري هانم وأحمد بيه بيقولوا كتب الكتاب والفرح هيبقوا على آخر الشهر، وهياخدها ويسافروا بلاد بره"
قهقهت أخرى، وعينيها تلمعان بالفضول
"يا بختها، هتتجوز أحمد الشريف وهتسافر وتعيش بره، يا سعدها وهناها ناس ليها الحظ كله، وإحنا هنا مالناش غير المطبخ والخدمة"
ارتسمت على ملامحها ابتسامة ساخرة، وألقت بنظرات جانبية نحو علا التي أدارت ظهرها متظاهرة بعدم الاكتراث، بينما في داخلها تتصارع الكلمات مع المشاعر، كأمواج خفية تضرب شاطئ قلبها.
لم تكد تستغرق في أفكارها حتى سمعت إحداهن تأمر بصوت عال
"بطلي رغي إنتي وهي، وروحوا جهزوا التربيزات بره عقبال ما أطلع القهوة لأحمد بيه"
في تلك اللحظة وضعت علا ما بيدها، وغادرت المطبخ بخفة حذرة حتى لا يشعرن بغيابها.
لحقَت بالخادمة التي تحمل فنجان القهوة، ونادت عليها بصوت خافت
"صفاء، يا صفاء"
توقفت الأخرى، فاقتربت علا وهمست
"هاتي إنتي القهوة هاطلعها له، وروحي كملي اللي أنا كنت بعمله"
ابتسمت صفاء ابتسامة دافئة، ثم التفتت يميناً ويساراً لتتأكد من خلو المكان، واقتربت تهمس لها
"ما تزعليش من البنات، أكيد إنتي فاهمة أوامر شيريهان هانم، بس عايزة أقولك على حاجة وعايزاكي تصدقيني، أو العكس برضه براحتك، أحمد بيه بيحبك أوي، وعمره ما هيجي عليكي، حوار الخطوبة ده أكيد ضغط من شيري هانم عشان تخليكي تكرهيه، خديها مني نصيحة، الراجل لما بيعشق بيبقى نفسه يجيب نجمة من السما ويحطها بين إيدين حبيبته، وإنتي مش حبيبته وبس إنتي مراته، ماتديش فرصة لحد يفرق بينكم"
لمعت عينا علا بشيء من الدهشة والامتنان، فأومأت برأسها، وأجابت باقتضاب
"متشكرة أوي يا صفاء"
ثم تناولت منها الصينية، وصعدت درجات السلم بخطوات متزنة، تحمل معها ثقل المشاعر وكلمات تدور في رأسها كجرس لا يتوقف.
❈-❈-❈
طرقت الباب مرتين فلم يأتها صدى لصوته، فتحت الباب ومضت بخطوات وئيدة إلى الداخل، وأغلقت خلفها الباب.
جالت بنظرها في الأرجاء، تبحث عنه في زوايا المكان، فلم تجده.
عندئذٍ تسلل إلى مسامعها خرير الماء، ففهمت أنه منهمك في اغتسال يعزله عن ضجيج العالم.
وضعت الصينية على الطاولة برفق، وقعت عيناها على بدلته السوداء الملقاة فوق الفراش، فانقبض صدرها بأسى؛ إذ كانت تراهن على لحظة تراجع منه عن انصياعه لرغبة والدته في الارتباط بتلك الداليا و أن ما ذكرته الخادمات صحيحاً، وكانت هي البلهاء في رواية إحدهم.
لكنها ما لبثت أن استحضرت كلماته الأخيرة حين طلب منها أن تمنحه ثقتها، وأن تترك الخوف جانباً ليعيشا معاً حياة لا يهددها أحد، وألا تجعل من والدته حاجزاً بينهما.
يومها رفضت، وكان ردها قاسياً حد السيف، فتوعدها بندمٍ مُر.
واليوم بدا وكأنه يمضي في تنفيذ وعيده، وفي خضم ذلك انبعث في ذهنها صوت داليا وهي تتحدث بثقة، فشعرت أن الفرصة سانحة لتغادره وتعيش مع ابنها بعيداً عن هذا الجرح المفتوح.
انتفضت فجأة حين انفتح باب الحمام، وخرج هو يجفف خصلات شعره المبللة، لا يستر جسده سوى منشفة قطنية تحيط بخصره، فيما يتباهى بقامته العارية.
كاد أن يبتسم لرؤيتها، لكن كبرياءه تظاهر باللامبالاة.
هي وقد اضطربت، حمحمت بحرج وأدارت له ظهرها
"أنا كنت جاية أحطلك القهوة، أي طلبات تانية؟"
كتم ابتسامة كانت على وشك الظهور، وأجاب بجدية مصطنعة
"آه، خرجيلي البدلة من الكيس وطلعيلي الجذمة من العلبة"
لمح انعكاس نظرتها إليه في المرآة وهو يقف أمام طاولة الزينة، فأردف بصوت يحمل أمر لا رجاء
"واقفة عندك متنحة كده ليه؟، اعملي اللي قولتلك عليه"
عضت على أسنانها، وكادت أن تقذف الحذاء في وجهه، لكنها امتنعت ونفذت ما طلبه.
وحين انتهت، سألته بلهجة جادة تخفي خلفها غضب عارم
"أي أوامر تانية؟"
أنهى تجفيف شعره، ثم ترك المجفف واتجه نحوها بخطوات بطيئة جعلتها تتراجع، لكنه اكتفى بالجلوس على الكرسي أمامها، وما زال لا يرتدي سوى تلك المنشفة.
"هتستني لما أشرب القهوة، وبعدها هتساعديني ألبس البدلة والكرافت والجذمة"
زفرت بضيق وأطلقت سخريتها
"وهم الشغالات كانوا بيساعدوك في البدلة والجذمة؟!"
ارتشف رشفة قهوة، وأجاب ببرود
"لأ طبعاً، عشان ماينفعش واحدة فيهم تشوفني بالمنظر اللي قاعد بيه قدامك، لكن انتي مراتي حلالي، و لا إيه"
غمز بعينه، فابتسمت بتهكم وقالت
"طيب كويس إنك فاكر إني لسه مراتك"
رمقها بنظرة ذات مغزى وقال
"وعمري ما نسيت، ولا كنت قليل الأصل"
"تقصد إيه بكلامك؟"
أنهى قهوته، ونهض واقفاً بطوله الفارع أمامها، فارتجف جسدها حين صار قريباً منها حد الالتصاق
"قصدي انتي عارفاه كويس"
"أيوه بإمارة رايح تتجوز عليا حبك القديم!، طالما أنت بتحبها أوي كده، خدعتني ووهمتني بحبك ليه؟!، ما قولتلك إن كان على حق ابني في الورث مش عايزينه، وطلبت منك تطلـ...
وضع يده على فمها مقاطعاً إياها
"هشش، إياكي تنطقيها تاني، وأي حاجة سمعتيها بره أوعي تصدقيها، اسألي قلبك وهو هيدلك على الصح، اسمعيني ولو لمرة واحدة"
أزاح كفه برفق، وأمسك بعضديها
"بصي في عينيا وهتعرفي انتي بالنسبة لي إيه"
أخذ كفها ووضعه على صدره، عند موضع قلبه
"حسي بنبض قلبي واسأليه أول دقة حب حسها مع مين"
أغمضت عينيها، وقد وقعت في سحر كلماته وسطوة العشق، ولامست أنفاسه وجهها، فتمنت أن يقترب أكثر.
"حسيتي بيه؟"
أجابت بهمهمة
"ممم..."
أخبرها بكل صدق نابع من فؤاده العاشق المشتاق
"أنا على عهدي ووعدي معاكي، عمري ما هتخلى عنك، بلاش الخوف من المجهول يسيطر عليكي"
فتحت عينيها رويداً
"وأنا مش عايزة لا جاه ولا مال، عايزة الأمان والثقة، لو الدنيا كلها بقت ضدي، ألاقيك في ضهري، عمري ما هطلب منك تقف ضد والدتك ولا تبقى عدوها عشاني، لكن عايزة أعيش في سلام أنا وابني في حضن الإنسان اللي بحبه وبيحبني"
استند بجبهته فوق جبينها وقال لها بهيام وتيام
"والإنسان ده بيقولك ماتخافيش، هايفضل جمبك وفي ضهرك وسندك وأمانك طول ما فيه نفس، ثقي فيا يا علا، ولو مطلعتش قد الثقة، أوعدك هنفذلك طلبك حتى لو هموت بعدها"
نظرت إليه بحزن
"بعد الشر عليك، ما تقولش كده تاني"
"طالما بتخافي عليا وبتحبيني أوي كده، ليه اخترتي تبعدي عني حتى لو على حساب نفسك؟"
أبعدت يدها عن صدره وولت ظهرها، هاربة من عينيه
"محدش بيحب الإهانة، بس لو ده هيبقى تمن أكون جنب ابني وما أبعدش عنه، مش هقول لأ، حتى لو هاجي على كرامتي"
"كرامتك من كرامتي، ومفيش حد يقدر يبعدك عن ابنك، حتى لو كانت شيريهان ذات نفسها"
عانقها من الخلف، وهمس عند أذنها
"مش هسمحلك تبعدي عني تاني"
قربه كان فتنة تذيبها كما يذوب الجليد تحت شمس الصيف، وللمرة الأولى أذعنت لصوت قلبها.
"أحمد..."
همست باسمه، فشعر بحرارة اسمها على روحه، وأدارها لتواجهه
"انطقي اسمي تاني كده"
نظرت بعينين غارقتين في الهيام
"أحـــمــــد"
"أنتي عارفة بتعملي فيا إيه دلوقتي؟"
ابتسمت، فازدادت جمالاً، ورآها أجمل نساء الأرض
"بعمل فيك إيه يا سي أحـــمـــد؟"
حملها من خصرها
"تعالي، هقولك بالتفاصيل كلها"
وأمطر وجهها قبلات حانية وهي تضحك بدلال
"بس يا أحمد، أحمد، أحمد بس بقه..."
لكن حروفها ذابت داخل فمه، ابتعدت عنه لتلتقط أنفاسها، نزلت ووقفت جوار الفراش.
كانت الغرفة يغمرها ضوء خافت يتماوج على الجدران، كأنه يرقص على أنغام نبضهما.
وقفا متقابلين، تتحدث عيناهما لغة لا تُترجم، لغة يكتبها الشوق وتوقع عليها الذكريات.
اقترب منها ببطء، وكأن كل خطوة تحمل اعترافًا جديدًا بحبه، حتى صار بينهما من القرب ما يكفي ليسمع كل منهما أنفاس الآخر.
مد يده، فلامس وجهها بحنان، كمن يلمس شيئًا يخشى أن ينكسر، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، تبعتها أخرى على وجنتيها، كأنه يرسم بخطاه الصغيرة خارطة عشقه عليها.
لم تتمالك نفسه، خلعت حذائها ووقفت علي أطراف أنامل قدميها واحتضنته بقوة، تلتمس منه الدفء والطمأنينة، فغمرها بذراعيه، وضغطها إلى صدره حتى شعرت أن قلبه يخفق بمحاذاة قلبها.
همس في أذنها
"مشتاقلك أوي يا حبيبتي"
ابتسمت ونظرات عينيها تنضح بشوق وحنين، اقتربت بشفتيها نحو خاصته دون تردد ومنحته قبلة طويلة، لم يكن مجرد لقاء شفتين، بل كان وعد صامت بألا يترك أحدهما الآخر مهما ابتعدت المسافات.
ظلا على هذا الحال، يتبادلان الأحضان والقبلات، وكأنهما يحاولان تعويض ما سرقته الأيام منهما.
هيهات وشعرت به يدفعها برفق علي فراشه الذي ينعم الآن بدفء جسدها الساكن بين ذراعي صاحبه.
الشعور باللذة كان أقل وصف يشعرا به، من همسات بكلمات نقشت علي جدران الأفئدة التي ذابت بنار الحب والعشق.
لمسات متبادلة جعلت كل منهما يريد تخبأة الآخر بين ضلوعه، لاسيما لمساته الحانيه التي جعلتها تحرر مشاعرها نحوه كما حررها من كل عائق بينهما حتي ينعم بملمس بشرتها الناعمة وهي بين أحضانه، يعم السكون حولهما ولا يوجد صوت سوى صوت العشق المتبادل بينهما.
❈-❈-❈
عاد بها إلى المنزل الصيفي مرة أخرى، يجرها جراً كما تُساق الشاة إلى المذبح، بعدما أوثق معصميها معاً بحبل خشن تحت تهديد السلاح.
دفعها بقسوة فوق الأريكة، وصوته ينفث الوعيد والشرر
"لو رجلك طلعت خطوة واحدة بس برة الشاليه، أنا مش هاقتلك، أنا بس هخليكي ما تعرفيش تمشي عليها تاني خالص"
ابتلعت ريقها بخوف، وانخرطت في بكاء متقطع، صرخ بها بصوت أجش
"ماتعيطيش، بقولك ماتعيطيش، اخرسي"
واكبت كلماته الأخيرة صفعة حادة على وجنتها، فتفجر الدم من جانب شفتيها. جلس بجوارها، ينظر إليها بعينين متناقضتين؛ خليط من الشفقة الكاذبة والحزن الملوث بطبيعته المتوحشة
"شوفتي خلتيني أخرج عن شعوري ومديت إيدي عليكي إزاي؟!"
مد يده ليمسك وجهها، فحاولت التراجع، لكنه أحاط ظهرها بذراعه، يقيد حركتها، ودنا بشفتيه منها.
صاحت بكل ما بقي لها من قوة
"ابعد عني، ما تلمسنيش يا حيوان"
كمم فاها بكفه، ثم أخرج طرف لسانه ليلعق خط الدم المنحدر بجوار شفتيها، وكأنما يتلذذ بجرحها.
لم يكتفِ بذلك، بل باغتها بقبلة جامحة، تصاعدت صرخاتها في جوفه، وكلما قاومته ازداد وحشية.
أرغمها على التمدد علي ظهرها وهو يعتليها، يلهث بين شهقة وضحكة شيطانية تعلو كلما زادت مقاومتها
"صرخي، عايزك تصرخي، كل ما هتقاومي وتصرخي أنا بكون في قمة متعتي"
اقترب من أذنها هامساً بصوت غليظ يقطر تهديدً
"فاكرة لما حذرتك وقولتلك، كل غلطة ليها عقاب؟، جه وقت العقاب يا كوكي، أنا عارف كل ذرة فيكي رفضاني ألمسك، وده بالنسبة لي أمتع إحساس في الدنيا"
كانت تحدق في سقف الغرفة بعينين متسعتين حتى كادتا تجحظان، تدعو في سرها أن يصل شقيقها قبل أن يكمل الشيطان جريمته.
وعلى الطريق المؤدي إلى المنزل، كان قصي يقود سيارته وجواره مصعب، فيما تتبعه سيارتان محملتان برجال الحراسة.
عيناه معلقتان على جهاز التعقب الذي يلتقط إشارة الهاتف الذي تواصلت منه كارين.
فقد تعمدت حين عادت مع مهند تحت التهديد، أن تسقط هاتفه على الوضع الصامت وتترك الموقع متصلاً، دافعة بالهاتف بقدمها أسفل المقعد الأمامي، حتى يهتدي شقيقها إليها.
توقف قصي، فاصطفت السيارتان خلفه، وأمر مصعب قائلاً
"انزل وخلي الرجالة تحاوط المكان كله، مش عايزه يلاقي منفذ يهرب منه"
"تمام، هقولهم وهاحصلك"
لكن قصي نظر إليه بتردد، فقد كان قلبه يتوجس من هول ما قد يكون حال كارين، فقال
"خليك مع الرجالة أحسن، أنا كفيل بالحيوان ده، ولو فلت مني أوعوا حد يضربه ضربة موت، أنا عايزه حي عشان هدوقه العذاب كل ثانية"
خلع سترته وربطة عنقه، ألقى بهما على المقعد الخلفي، ورفع أكمام قميصه قبل أن يهبط من السيارة.
❈-❈-❈
في الداخل كان مهند ما يزال ينهش شفتيها بعنف، يضغط على خديها بكفه، وكلما صرخت ابتلع صراخها في فمه.
نهض بجذعه، وأمسك بمقدمة ثوبها ومزقه، و قبل أن يقبل علي فعله القذر، إذا بقبضتين قويتين جذبتاه بعنف من فوقها، وطرحاه أرضاً بقوة.
"يا ابن الـ… يا…"
زمجر قصي بغضب يفيض، وأمطر اللعين بوابل من اللكمات والركلات التي لا ترحم. نهضت كارين تلم شتات ثوبها، يسيطر عليها بكاء هستيري.
خلع قصي الحزام الجلدي لبنطاله، قام بلفه حول عنق مهند وبدأ يسحله على الأرض، ثم صرخ منادياً
"مصعب! يا مصعب!"
أقبل الآخر مسرعاً، وعيناه تقعان على كارين في حالة يُرثى لها، فغض بصره للحظات، يحاول كبح انقباض قلبه.
التقط أوامر قصي على الفور والذي صاح آمراً إياه
"خدها من هنا"
خلع مصعب سترة بدلته وألقاها على كتفيها، ثم فك قيد معصميها، فأمسكت بذراعه واهنة.
"اهدي يا كارين، إحنا معاكي"
خف بكاؤها قليلاً، ونهضت بصعوبة، وقبل أن تغادر، لمحت قصي جالساً فوق مهند، يلهب وجهه ضرباً حتى غطته الدماء، فصرفت بصرها حيث تكره رؤية منظر الدم.
صرخ قصي وهو يواصل ضرباته الوحشية لهذا الذي يحاول أن يقاوم بضعف ووهن
"أقسم بالله ما هاسيبك يا ابن الـ…، تخطف واحدة من جوزها وتفتكر إنك هتفلت؟!، أنا هخليك ما تشوفش نور الشمس تاني، وهاتبوس إيدي ورجلي عشان أرحمك"
في الخارج داخل السيارة، لم يتوقف هاتف قصي عن الرنين.
كان المتصل يونس الذي ما إن علم من ياسين بأمر إيجاد زوجته وكيف كان غافلاً عن إتصالها به، حتى ثار جنونه.
تناولت كارين الهاتف، وأجابت بصوت متقطع بين دموعها
"يـ… و… نس…"
"كارين! أنتي كويسة؟! أنتم فين؟! الحيوان ده عمل فيكي حاجة؟!"
لم تستطع الرد، وانفجرت بالبكاء مجدداً. تناول مصعب الهاتف قائلاً
"ألو يا يونس، اطمن هي بخير، وقصي هياخد الواد ويرميه للرجالة ياخدوه على المخزن، مفيش حد يتصل بالبوليس، ونبه على آدم ما يكلمش مدحت صاحبه"
لكن يونس لم يكترث إلا بسؤال واحد
"كارين بخير يا مصعب؟، حصلها حاجة؟"
رمق مصعب كارين بطرف عينه، ثم قال بإنكار وهو ينظر إلى حالتها المزرية
"قولتلك هي بخير، ما تخافش"
"ابعتلي العنوان فوراً"
"إحنا جايين على طول، ما تقلقش"
"مصعب، إديني العنوان أو الطريق اللي هترجعه منه"
أملى عليه وصف و عنوان الطريق، وفي هذه الأثناء خرج قصي من المنزل يجر مهند من ذراعيه، فأسرع الرجال للإمساك به ونقله إلى سيارة أخرى.
انطلقت السيارات الثلاث، يقود مصعب الأولى، بينما جلس قصي في الخلف جوار شقيقته التي أسندت رأسها على صدره. أخذ الأخر يربت على يدها وذراعها بصمت، وقلبه يعتصر ألماً كلما تذكر ما كادت أن تمر به، فهي صغيرته التي رباها بين كفيه و لم يتحمل أن يري قطرة واحدة من دموعها، فماذا يشعر الآن بعد ما رأي ما كانت تمر به علي يد هذا المجرم السادي!
❈-❈-❈
بعد قطع مسافة طويلة، توقفت السيارات فجأة، حين أشار مصعب لقائدي السيارتين اللتين يسيرا خلفه بالوقوف.
رفعت كارين رأسها ببطء، حين لمحت يونس برفقة ياسين يخرجان من إحدى السيارات، همست بخفوت موجهة كلماتها إلى شقيقها
"أوعي تقول له اللي شوفته، بالله عليك"
أومأ لها بعينيه تأكيداً، ثم فتح باب السيارة، ووقف على الفور ليساعدها في النزول.
ما إن لمحت زوجها، حتى لم تجد فرصة للركض أو التراجع، إذ قطع هو المسافة التي كانت تفصل بينهما، فاصبحت بين ذراعيه.
عانقها بقوة غامرة، وقبّل رأسها مراراً على مرأى مهند الذي جلس بين رجلين من الحراسة.
كان المشهد أكثر من أن يتحمله؛ فقد عجز عن استيعاب رجوعها إلى زوجها، وما ينتظره من مصير أسود يثقل روحه حتى تفارق الجسد.
ورغم أنه منهك القوى، عاجز عن رفع ذراعه، استغل انشغال الرجال جميعاً بمشهد اللقاء بين كارين و يونس، و بسرعة خاطفة سحب مسدسه، ووجه فوهة السلاح علي رأسه.
في لحظة مروعة، أطلق رصاصة واحدة وسط فزع الرجال، وترك نظرات عينيه تتلاشى في اتجاهها، كأنها كانت بؤرة آخر رؤيته في هذا العالم.
❈-❈-❈
على وقع موسيقى هادئة، و تبادل الضحكات بين الحضور، وقف في الشرفة المطلة على الحديقة يرافق والدته.
وفي الأسفل الصحفيون الذين لم يكفوا عن التقاط الصور للمدعوين، وكأنهم يرسمون بآلات التصوير خاصتهم لوحات للحظة تزف فيها الأخبار.
نظر إليها بسخرية يخبرها
"مش شايفة إنك تجيبي صحفيين ومصوريين في حفلة خطوبة ده أمر أوڤر شوية يا شيري هانم؟!"
ردت عليه والدته بثقة لا تخلو من قسوة
"بالعكس، وجودهم ضروري وفي صالحنا، خصوصاً بعد الكلام اللي كتر عننا والبلوة اللي أبوك بلانا بيها قبل ما يموت، بس أنت هاتخطب وهاتتجوز داليا بنت الحسب والنسب، والحمدلله مش الكل عارف بجوازك من خدامة أخوك الله يرحمه"
رمقها بحدة وغضب، قال لها بنبرة حادة
"ياريت بعد إذنك، من هنا ورايح تتكلمي عن مراتي بأسلوب أحسن من كده، أنا سيبتك تتمادي كتير الأيام اللي فاتت، لاقيت أفعالك مالهاش حدود، فممكن تشيلي علا من دماغك"
ابتسمت ابتسامة هادئة لكنها حاقدة، وردت بثقة
"بكرة هاتندم على أسلوبك وكلامك معايا، واللي واقف ليا الند بالند عشانها، هاتبيعك في أول فرصة تجيلها"
ضحك بسخرية باردة
"وأنا مستني اليوم ده، وهنشوف مين اللي هايندم الأول"
هم بالانصراف، فتوقف قليلاً وسألها
"مش المفروض الخطوبة تبقى عند العروسة؟"
ردت عليه بحسم
"هنا أفضل"
فأعاد السؤال متهكماً
"هنا أفضل ولا قاصدها عشان تقهري قلب علا؟!"
تهربت من الإجابة، وأخبرته مبتعدة
"عن إذنك، نازلة أسلم على المعازيم"
❈-❈-❈
في الطابق الأسفل، كانت علا تجمع ثيابها بعناية داخل حقيبة سفرها، حين طرق الباب بخفة.
توجهت لفتحه، وإذا بـ داليا تقف على عتبة الغرفة، تكاد عيناها تلمعان من الفرحة بمجرد أن لمحت حقيبة السفر.
انفرجت أساريرها على الفور
"كويس إنك حضرتي شنطتك، لأن السواق المفروض ييجي ياخدك بعد نص ساعة.ط، هيستناكم إنتي وابنك قدام البوابة اللي ورا"
أخرجت من حقيبتها المزخرفة بالكريستال بطاقة ائتمانية، ومدّت يدها بها إلى علا
"خدي الفيزا دي خليها معاكي، تقدري تصرفي منها في أي مكان، سواء جوه مصر أو بره، وكل شهر هاحوللك على الحساب فلوس تكفيكم وزيادة"
لم تتردد علا في أخذ البطاقة، وقالت لها بامتنان
"متشكرة أوي يا داليا، مش عارفة من غيرك كنت هاعرف أخرج من السجن ده إزاي"
ردت الأخرى بابتسامة زائفة
"مفيش شكر ما بينا، كل واحد ليه عند التاني مصلحة، مصلحتك خلاص على وشك تتم، وأنا مصلحتي هي أحمد وخلاص، كلها مسألة وقت وهابقى حرمه المصون"
ابتسمت علا، تخفي تحت ابتسامتها النيران المتأججة في صدرها، وقالت لها بمحبة زائفة
"ربنا يهنيكم ويسعدكم"
وما أن طرق الباب مرة أخرى، حتى تعالي صوت الطارق؛ فسمعت صوت أحمد وهو ينادي
"علا، أنتي جوه؟"
همست داليا بهدوء
"أنا هاستخبي في البلكونة، أوعي تحسسيه بأي حاجة"
ردت الأخرى بسرعة
"حاضر، حاضر ما تقلقيش"
أسرعت داليا لتختبئ في شرفة الغرفة، بينما فتحت علا الباب، ونظرت إليه بتوتر وسألته
"أحمد!، إيه اللي جابك هنا؟، مش المفروض هاتطلع إنت وخطيبتك للناس دلوقتي؟!"
ابتسم واخبرها بعشق ينضح من عينيه
"جيت أقولك إن لا داليا ولا ألف غيرها تقدر تاخد مكانك في قلبي، وجيت برضه أقولك وحشاني أوي"
كانت على وشك أن تفتح فمها للرد، فباغتها بقبلة مفاجئة، ودفعها برفق إلى الوراء حتى وجدت الحائط خلفها.
رأت داليا ذلك المشهد من خلف الستار، فجزت على أسنانها بغيظٍ شديد.
ابتعد عنها، والتقط كل منهما أنفاسه المتهالكة، فقال لها
"ياريت ما تخرجيش بره الأوضة، وهخليهم يبعتولك حمزة يقعد معاكي"
دفعت أحمد بقوة في صدره حتى كاد يختل توازنه ويسقط، وقالت بغضب
"اه، قول بقي كده يا ابن شيري هانم، جاي تجر معايا ناعم عشان ما أخرجش بره في الحفلة والناس تشوف مراتك اللي شغالة خدامة ليك وللست الوالدة، ومراتك التانية لما تشرف هنا على طول"
عقد حاجبيه بغضب
"إيه اللي بتقوليه ده؟!، أولاً ما اسمحلكيش تتكلمي معايا بالأسلوب والطريقة دي، ثانياً أنا قولتلك كده عشان محدش يضايقك ولا تضايقي لما تشوفيني واقف مع داليا"
ردت بغضب
"فاكرني هاغير؟!، أنا لا يهمني ولا يهزني، حتى لو مامتك عملتلك حرملك وجابتلك جواري السلطان، مش هتتهز مني شعرة واحدة عشانك"
سألها بغطرسة
"بقي كده يا علا؟"
أجابت بلا تردد
"أه كده، وأكتر من كده كمان، واتفضل اطلع بره وروح لخطيبتك"
كظم غضبه، وقال بصوت منخفض
"أنا كده كده كنت طالع، بس استعدي للجاي، ولو النهاردة الخطوبة، هخليها بعدها بأسبوع أو أسبوعين بالكتير الفرح"
فتحت الباب ودفعته نحو الخارج وهي تقول بحزم
"اطلع بره، مش عايزة أشوف وشك تاني"
أغلقت الباب خلفه، ثم دخلت داليا من الشرفة إلى داخل الغرفة، وعلامات النصر ترتسم على ملامح وجهها
"برافو يا علا، برافو عليكي، كده خلاص كلها دقايق وهتودعي العذاب ده كله، عن إذنك بقي عشان المفروض نخرج أنا وهو للمعازيم، ويلبسني الخاتم"
❈-❈-❈
وقف الجميع في استقبال العروسين، وخرج الاثنان وسط تهليل وتصفيق حار.
كان الصحفيون على وشك التقاط الصور، فأشار لهم أحمد بيده أن يتوقفوا، نظرت داليا إليه وسألته
"فيه إيه يا ميدو؟"
كان يبحث في جيوب سترته كأنه شيء مفقود، فأجاب
"شكلي نسيت الخواتم فوق، هاطلع أجيبهم ونازل بسرعة"
"خلي حد من الشغالين يجيبلك العلبة"
"مش هاينفع يا حبيبتي، أنا شايلهم في الخزنة بتاعتي اللي في الدولاب"
ذهبت شيريهان لتسأل داليا، فأخبرتها بما قاله أحمد.
في الداخل، كانت علا تتسحب ببطئ، تلتفت من حولها بحذر حتى وجدت الخادمة صفاء، فسلمتها الحقيبة
"خدي يا صفاء، وزي ما اتفقنا"
جرت صفاء بحقيبة السفر وابتعدت، بينما كانت علا تسير في الرواق بتوتر وقلق، وإذا بيدٍ قوية تجذبها.
و في الخارج، الجميع في انتظار العريس الذي ذهب ليحضر خواتم الخطبة.
تفوهت داليا بغيظ وحنق شديد
"بقالك ربع ساعة، كل ده بتجيب الخواتم يا أحمد؟!"
همست شيريهان لها وتبتسم للحضور في آن واحد
"وطي صوتك الناس هاتسمعك، زمانه نازل"
توجهت أنظار الجميع نحو أحمد الذي خرج من الباب المزين بأكاليل الورود، يداً بيد مع علا التي ارتدت ثوباً ساحراً خطف أنظار الجميع، أثنى ذراعه فوضعت يدها على ساعده.
تعالت الهمسات بين الحضور، فمنهم الكثير اللذين لا يعلمون بأمر زواجه من علا.
فتحت داليا فمها بصدمة صاعقة فوق رأسها، ولم تقل والدته عنها شيئاً، ربما حالتها أكثر سوءً، فلم تتوقع ما كان يخطط له ابنها.
سار أحمد وعلا نحو منصة جلوس العروسين، وأشار إلى أحد الحضور ليأتي له بمكبر الصوت، فسلمه إياه.
همست علا بقلق، ضاغطة على ساعده
"أنا خايفة أوي يا أحمد"
حدق بها بنظرة ملؤها العشق والأمان، تبث في قلبها شعور الطمأنينة
"ما تخافيش وأنتي معايا"
ضغط زر تشغيل مكبر الصوت، وبدأ يتحدث بصوته الواضح الذي صدح في أرجاء الحديقة
"مساء الخير عليكم جميعاً، أحب أشكر كل واحد لبى دعوة شيريهان هانم الشريف، وأنا كمان بشكرها جداً وبقولها شكراً يا أمي على اهتمامك بيا وإنك السبب في جوازي من علا مراتي وحبيبتي، اللي ما يعرفش إني كنت متجوز، ده بسبب إن بابا الله يرحمه كان لسه متوفي، واضطرينا ما نعملش فرح وقتها، ماما حبت تعوضنا بليلة فرح جميلة، وإن الكل يشاركنا الفرحة، وما أنساش طبعاً أشكر صديقتي العزيزة وصديقة العيلة داليا، هي اللي نظمت الحفلة وبعتتلكم كروت الدعوة"
كانت إحدى المدعوات تنظر في بطاقة الدعوة، فاختطفتها داليا من يدها، فوجدت البطاقة تختلف عن تلك التي أعدتها هي وشيريهان.
بدا أن هناك أموراً خلف الكواليس، وأن المفاجآت لا تزال تتوالى.
أخرج أحمد من جيب سترته علبة يكسوها مخمل أحمر قاتم، و ما إن فتحها ظهر خاتم زواج مطعم بفصوص الألماس، يتوسطه ألماسة أكبرهم حجماً.
أخذ الخاتم برقة، ووضعه في إصبعها البنصر ليدها اليسرى، ثم قبّل ظهر يدها، تلاه تقبيل جبهتها، قبل أن يحتضنها أمام الجميع، فتهافت المصورون لالتقاط تلك اللحظات الساحرة.
ارتفع التهليل والتصفيق حاراً، و صمت الجميع حين تم تشغيل موسيقي كلاسيكية ليتراقصا العروسين عليها معاً.
أمسك احمد بيدها ووضع الأخرى علي جانب خصرها، نظرت إليه و اخبرته بخجل
"ما بعرفش أرقص"
ابتسم ورمقها بنظرة جعلتها أسيرة في عالمه
"سيبيلي نفسك و ما تقلقيش، جاهزة؟"
هزت رأسها بالموافقة، و ما أن بدأ يتحرك وجدت جسدها يتحرك معه بتناغم كالفراشة التي تطير.
ابتسمت وكأنها تتذكر أمراً ما، مالت علي كتفه وهمست بجوار أذنه
"ده أنت طلعت ممثل بارع"
ضحك قائلاً
"مش أكتر منك يا روحي، ولا إيدك وإنتي بتزوقيني وبتطرديني برة الأوضة، على فكرة كنت هاقع بجد"
ردت مبررة بابتسامة ماكرة
"معلشي بقي يا حبيبي، أصلي اندمجت معاك في التمثيل، وقلت أسبك الدور حبتين عشان داليا تصدق وتبلع الطُعم"
"هي بلعته وعمرها ما هتنساه أبداً، وبعدين إيه حكاية الحرملك اللي أمي هاتعمله لي وجواري السلطان اللي هاتجيبهم لي؟!، أنا كنت هضحك وهبوظ كل اللي قعدنا نخطط فيه"
"أهو كلام طلع في وقته، أنا اللي كنت ماسكة نفسي بالعافية"
عاد بكتفيه للوراء ليجعلها تعتدل و تنظر له قائلاً
"بس تصدقي فكرة حلوة، يكون عندي حرملك وحريم السلطان"
لكزته في كتفه
"طيب أتلم بدل ما أخليك تحصل سنبل آغا"
سألها بتعجب
"مين ده؟"
أجابت ضاحكة
"ده واحد على نياته، كل البنات أخواته"
فهم ما تقصده، فأخبرها بفخر
"شكلك نسيتي الكلام المهم اللي حصل عندي في الأوضة، استعدي بقى، عشان هنتكلم كتير الليلة دي، أكتر من كلام السلطان مع حريمه كلهم"
انخرطت في الضحك، فقال لها
"اضحكي، اضحكي"
كانا في عالم آخر، حتى انقطعت تلك اللحظة الرائعة بصياح إحداهن بفزع
"ألحقوا مدام شيريهان أُغمي عليها"
التفت أحمد و تليه علا نحو مصدر الصوت، وجدا السيدة شيريهان قد فقدت الوعي.
يتبع...
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا