القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية غرام الذئاب الفصل التاسع عشر 19بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )

 

رواية غرام الذئاب الفصل التاسع عشر 19بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )






رواية غرام الذئاب الفصل التاسع عشر 19بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )




#الفصل_التاسع_عشر

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#ولاء_رفعت_علي


ليت الزمان يعود بي عندما طلبت العفو والغفران... فكان فؤادي شبه محترق حينها و الآن بفضلك أضحى رماد. 


~علياء البحيري~


كان الصمت قد أسدل ستائره الثقيلة على أرجاء منزل آل الشريف، حتى خُيل للداخل أن الحفل الذي ضج بالموسيقى والضيوف قبل ساعة، لم يكن سوى طيف عابر تلاشى في العدم. 

  وفي غرفة مترفة تتوشح بالستائر الداكنة، جلس الطبيب إلى جوار السيدة شيريهان يفحصها بعناية وقد ساعدته مديرة الخدم في إعداد ما يلزم.  

 

رفعت شيريهان بصرها إليه بنظرة نفاذة تحمل أكثر مما تحتمل الكلمات من إيحاء، فالتقط الرسالة سريعاً، وألقى بنظرة متفحصة حوله ليجد ابنها واقفاً بلهفة توشك أن تنفجر من صدره، وعلى مقربة منه زوجته وقد انعكس القلق واضحاً على محياها.


قال الطبيب بجديةٍ متزنة

"لو سمحتوا يا جماعة، ممكن تفضلوا برة شوية لحد ما أخلص الكشف، ما عدا مدام صابرين" 


تمتلك علا فراسة الأنثى ففهمت المعنى قبل أن ينطق زوجها باعتراضه، فمالت عليه هامسة

"تعالي يا أحمد نستنا برة، الدكتور أكيد ها يطلع يطمنا عليها" 


انصاع إليها رغم الغضب المشتعل في أعماقه، وألقى نظرة أخيرة على والدته التي تعمدت أن تُعرض بوجهها عنه، متحاشية النظر إليه، غارقة في صمت يقطر جفاء.  

 

خرج برفقة زوجته إلى الردهة، وهناك استوقفتهما مشهد صاخب؛ إذ كانت الخادمة واقفة عند السلم، تمنع داليا من الصعود، بينما الأخيرة تصرخ بحدة

"إنتي متخلفة؟!، بقولك أنا طالعة أطمن على شيري هانم، إيه؟ ما بتسمعيش؟!" 


ردت الخادمة بثبات

"ممنوع يا آنسة داليا، دي أوامر" 


هتفت الأخرى باستهجان

"ومين أمر بكده إن شاء الله؟!" 


فجاء صوت أحمد كالرعد الهادر، وهو يرميها بنظرة ملتهبة كالسهام

"أنا اللي أمرت، عايزة تدخليلها بصفتك إيه؟!، مش كفاية المسرحية السخيفة اللي فشلتي تكمليها؟!" 


ارتجفت داليا وتلعثمت شفتاها عاجزتين عن الرد، غير أن أحمد لم يمنحها فرصة التبرير أو الكذب، فتابع هجومه الكاسح


"أوعي تفتكريني نايم على وداني مش دريان باتفاقك مع شيريهان، واللي كنتي ناوية تعمليه في مراتي وابن أخويا!، أنا يا  داليا دبة النملة توصلني قبل ما ترن، اصحي وفوقي، الظاهر نسيتي مين هو أحمد الشريف!" 


تجمعت الدموع في عينيها من شدة الخزي، لكنها تماسكت وردت بكبرياء متصنع


"إنت اللي فوق لنفسك وشوف بتكلم مين، جاي تعمل عليا راجل وأنت من زمان و معروف عنك ابن أمك" 


انفجر الغضب في عروقه، فوثب إليها كالعاصفة، وقبض بكفه الغليظة على عنقها، صاح من بين أسنانه المطبقة


"أنا راجل غصب عنك يا...  ، ولا نسيتي أيام ما كنتي تتمني إني أبصلك بس؟!، جاية دلوقتي ترمي بلاكي علينا وبتتحشري ليه بيني وبين مراتي؟!" 


ارتجفت داليا، تتخبط أنفاسها انتابها سعال شديد تحت وطأة قبضته الحديدية، بينما اندفعت علا تصيح برجاء 


"أحمد سيبها بالله عليك، هاتموت في إيدك، هاتودي نفسك في داهية" 


تلاقت عيناه بعينيها، ورأى الرجاء الموجع فيهما، فأفلت قبضته أخيراً، ثم زمجر بصوت جارف


"يا عزت؟، يا عزت؟" 


وما هي إلا لحظات حتى اندفع عزت صاعداً الدرج مسرعاً، وقال باحترام


"أمرك يا أحمد بيه" 


أشار أحمد نحو داليا بازدراء، قائلاً

"خد البت دي من هنا، وشوف لها تاكسي يرميها في أي داهية هي تختارها" 


"حاضر يا بيه" 


تراجع عزت ليقترب منها، فقالت داليا بصوت مخنوق وهي تحاول حبس دموعها


"عايزة شنطة هدومي الأول" 


رمقها أحمد بعينين تقدحان شرراً، ثم أمر الخادمة صفاء

"روحي الأوضة اللي كانت قاعدة فيها، لمي حاجتها، وارميهالها على البوابة بره" 


أومأت صفاء بإذعان

"حاضر يا أحمد بيه" 


التفتت داليا نحوه قبل أن تنصرف، وأطلقت وعيدها بنبرة ملؤها الغيظ

"ما بقاش داليا لو ما خليتكش تندم على اللي عملته معايا يا ابن شيريهان" 


قهقه أحمد بسخرية لاذعة

"إيوه أظهري على أصلك، فرجينا بس ياريت بعدين عشان محدش فاضي لك" 


رمقته بنظرة ملتهبة، ثم قالت بصوت متهدج

"الأيام جاية كتير" 


وقبل أن تهم بالرحيل، استوقفها صوت علا وقد تذكرت شيئاً هاماً

"ثواني يا داليا" 


اقتربت علا من زوجها، وهمست في أذنه بما أرادت، فأخرج بطاقة من جيب سترته وسلمها لها.  

 التفتت علا نحو داليا وقالت بثقة

"اتفضلي، مش محتاجة الكريدت كارد بتاعتك، أنا معايا اللي أغلى من مال الدنيا وكنوزها" 


 تشبثت بذراع أحمد بحميمية واضحة أمام أعين داليا التي كادت تنفجر من الغيظ.  


أخذت داليا البطاقة وكسرتها نصفين، وألقت بها في وجهيهما، ثم هرولت نازلة السلم، يلاحقها عزت كظلها.


تنفس أحمد الصعداء كما لو أن كابوساً ثقيل الظلال قد انزاح عن صدره، غير أن هاجس مرض والدته ظل يتشبث بروحه كغصة عاليقة في حلقه.  

 

لم يكد يلتقط أنفاسه حتى سمع صرير باب غرفتها يُفتح على مهل، فاندفع بلهفة كأنما يسابق الريح، حتى بلغ الطبيب قائلاً باضطراب يفضح وجيب قلبه

"خير يا دكتور، طمني عليها" 


رمقه الطبيب بنظرة تحمل في طياتها عتاب وإشفاق معاً، ثم قال بجدية صادقة

 "والله يا أستاذ أحمد، مش هاضحك عليك وأقولك الوضع أحسن حاجة، شيريهان هانم ضغطها ارتفع لدرجة خطيرة، والصدمة عملت جلطة بسيطة سببت لها شلل نصفي" 


شهقت علا شهقة مدوية، فيما بدا أحمد متسمراً في مكانه، يحاول استيعاب وقع الكلمات التي نزلت على أذنه كالصاعقة، فسأل بعينين يكسوهما قلق ممزوج بإنكار


"شلل؟!، إزاي؟!، ده كان مجرد إغماء من صدمة، وكنا مفوقينها قبل ما حضرتك ما توصل" 


أجاب الطبيب بحكمة يغلفها شيء من الحزن

"بتحصل كتير يا أحمد بيه، غالباً اللي جرالها نتيجة صدمة ماقدرتش تتحملها، بس اطمن ده شلل مؤقت، ومع الراحة النفسية والانتظام على العلاج، هتتعافى إن شاء الله، وأنا هاجي أتابعها كل أسبوع" 


تظاهر بالنظر في ساعة هاتفه، ثم أردف معتذراً

"معلش بقى مضطر أستأذن، عندي حالات تانية في العيادة" 


حمحم ثم انصرف سريعاً، تاركاً أحمد غارق في بحر من الشرود والخواطر الممزقة.  

ولم يلبث أن أفاق على لمسة رقيقة من علا وهي تربت على كتفه مواسية

"ما تقلقش يا حبيبي، بإذن الله ماما هاتقوم بالسلامة وهاتبقى أحسن، ادخلها واطمن عليها، أنا كنت عايزة أدخل معاك، بس إنت سمعت الدكتور قال أهم حاجة راحتها النفسية، وانت عارف علاقتي بيها مش أحسن حاجة، وبعد اللي حصل أظن وجودي هنا مش مستحب" 


قطب ما بين حاجبيه وأمسك يدها بصلابة تفصح عن رفضه

"إيه الكلام ده يا علا؟!، ده بيتك ومكانك، ولا مخلوق يقدر يخليك تمشي من هنا" 


تلاقى نظرهما في صمت مشحون بالود، وكأن العيون تُفصح بما تعجز عنه الألسنة؛ كانت عيناها تقولان بصدق دامع، أنت ملاذي ومصدر أماني.


لكن وصلة النظرات انقطعت بصوت فتح الباب وخروج مديرة الخدم تحمل صينية عليها كوب ماء فارغ، فتوقف أحمد عن المضي نحو غرفة والدته، إذ استوقفته الأخرى بصرامة

"آسفة يا أحمد بيه، مش هاينفع تدخل" 


اتسعت عيناه دهشة وغضب، فهتف

"نعم؟!" 


رمقت علا ثم التفتت إليه قائلة بنبرة حازمة

"شيريهان هانم مش عايزة تشوف حد، خصوصاً حضرتك ومدام علا" 


كاد يندفع نحو الغرفة، غير أن يد علا استوقفت اندفاعه، وقالت برجاء خافت

"الدكتور قال الزعل مش في صالحها خالص، وأظن المفروض تكون إنت أكتر واحد فينا خايف عليها" 


نظر إليها فهزت رأسها بأسى وقد أشارت بعينيها أن ينصاع لما طُلب منه، كي لا يزيد الأمر سوءاً.


تغالب أحمد مشاعره المتناقضة؛ كان يوقن في أعماقه أن هناك لعبة تُحاك في الخفاء بين والدته والطبيب، غير أن عاطفته نحوها باعتبارها أمه مهما فعلت، كانت الأقوى والأثقل وزناً.


لم يتفوه بحرف، وترك المكان بخطوات سريعة، والنيران تشتعل في مقلتيه كجمرة متقدة. 

 هرولت علا خلفه حتى أدركته عند مرآب السيارات، حيث جلس خلف مقود سيارته، وقبل أن ينطلق، وقفت عند نافذته المجاورة وقالت بلهفة

"رايح فين؟" 


أجاب دون أن ينظر إليها، وهو يكظم جموح غضبه

"لو سمحت يا علا، سيبيني دلوقتي" 


"ما ينفعش تسوق وإنت في الحالة دي، وبعدين إحنا بالليل والوقت متأخر، انزل عشان خاطري" 


ارتعش قلبه من خوفها عليه، فأطلق زفيراً ثقيل لعله يُطفئ شيئاً من نيرانه، ثم التفت إليها قائلاً بهدوء متكلف

"ما تقلقيش عليا، هلف شوية بالعربية وراجع على طول، إنتي اطلعي اطمني على حمزة وروحي ارتاحي في أوضتنا لحد ما أجيلك" 


رأت في عينيه إصرار لا يقبل النقاش، فتمتمت بقلق صادق

"خد بالك من نفسك" 


ابتسم ابتسامة شاحبة وأجاب

"حاضر" 


تنحت جانباً لتفسح له الطريق، فانطلق مسرعاً بالسيارة، تاركاً خلفه قلبها مفعم بالخشية عليه أكثر من أي وقت مضى.


                         ❈-❈-❈


يغرق في غفوة ثقيلة على أريكة مكتبه الجلدية، بعد أن أنهى متابعة أعماله عبر الهاتف والحاسوب؛ فهو منذ زمن ليس ببعيد يعيش في أجواء متناقضة متقلبة، بين النقيض وضده، بين الصفح والخذلان، وبين الألفة والجفاء. 

  يعلم يقينًا أنها وإن غفرت له زلاته، فلن تمحو من ذاكرتها ما اقترفه بحقها، وهذا ما يراه في تصرفاتها الغريبة التي تمطره بها في الآونة الأخيرة.


انفتح الباب فجأة، فإذا بها تطل كالقمر في ثوب قصير من حرير أسود، خصلات شعرها منسابة خلف ظهرها كأمواج الليل، وقد أضفى الحمل على محياها مسحة من السحر، إذ تورد خداها كأنهما تفاحتان قُطفتا لتوهما من غصن نضير.


رمقته وهو غارق في نومه، زفرت بغيظ مكتوم، عقدت ساعديها فوق صدرها، ثم خطت نحوه بخطوات متوترة، تهمس الأرض تحت قدميها، ولكزته في كتفه بغيظ شديد، فانتفض مذعورًا كمن بُعث من سباته.


قال بفزع

"إيه في إيه يا دنيا؟!، أنتي كويسة يا حبيبتي؟"


جلست على الكرسي المجاور للأريكة، ورمت حديثها بلا تمهيد ولا مقدمات افتتاحية

"طلقني"


انعقد فمه دهشة، يحاول استيعاب الكلمة التي باغتته كالسهم في صدره، ثم تذكر أن هذا بات شأنها في الأيام الأخيرة.


قال متوسلًا بصوت مشوب بالعجب

"يا حبيبتي، ده أنا لسه ردك علي ذمتي من قريب، مبقالناش حتي شهر، عملتلك إيه يخليكي تقولي كده؟"


ظلت تحدق فيه بصمت للحظات، قبل أن تذرف دموعها فجأة. 

 فهب نحوها، جثا على ركبتيه أمامها، قبض على يدها بحنان، ومسح دموعها براحة يده الأخرى، وقال برفق يقطر قلق

"مالك بس يا حبيبتي؟، بتعيطي ليه؟!، حد زعلك؟ أنا زعلتك في حاجة؟"


فأجابته من بين دموعها، بصوت واهن كأنها طفلة ضائعة

"مش عارفة إيه اللي بيجرالي يا كنان، مرة أحس بخوف من غير سبب، ومرة تانية أشتاقلك أوي ونفسي ما أسيبكش لحظة، وفجأة أبقي مش طايقاك خالص، ولا طايقة أشوف وشك، ولا حتى أشم ريحتك"


تفطن إلى حالتها النفسية، فلم يجد إلا أن يضمها إلى صدره، يحتضنها برفق ويُربت على ظهرها علّها تهدأ، غير أنها بدل أن تستكين، دفعته عنها بعنف وهرولت إلى الخارج لتدخل الحمام.  

 لحق بها مسرعًا، فوجدها تُفرغ ما بجوفها في المرحاض.


وحين نهضت واعتدلت، إذا به يمدويده إليها، فتح صنبور الحوض وأمسكها برفق يغسل وجهها بيده.  


 غير أنها ابتعدت عنه بنفور، وضغطت أنفها بأصابعها قائلة في ضجر ممزوج بالاشمئزاز

"ابعد عني، ريحتك بتقلب معدتي"


تملكته الحيرة، فأخذ يشم قميصه القطني، وقال بتعجب

"أنا قبل ما أنام استحميت، وحاطط مزيل وپيرفيوم كمان"


رمقته في ضيق، وردت بصرامة

"هو البيرفيوم بتاعك اللي قلب معدتي، متحطوش تاني"


في لحظة لم يتردد، نزع قميصه القطني عن جسده، فبان جذعه عاريًا كلوحة محفورة بالرجولة، ثم قذف بالقميص داخل سلة الملابس المتسخة.  

 

التفت إليها قائلًا بابتسامة مشوبة بالرضا

"تمام كده يا حبيبتي؟، لو عايزاني أقلع البنطلون كمان ماعنديش مانع، المهم تبقي مرتاحة"


حينها لم تستطع كبح ابتسامتها، وظلت تحدق فيه بعينين تفيض عشقًا، وقلبها يرقص من السعادة والطمأنينة، فقد أيقنت أنه، في كل موقف يُثبت لها أنه تبدل حقًا، وأن حبه لها بات أصدق وأنقى من ذي قبل.


تحولت ابتسامتها الوديعة إلى نظرات أخرى مشوبة بالشغف، وعيناها تجولان بوله على تضاريس جسده المنحوت؛ من صدره العريض وعضلات بطنه المشدودة، إلى منكبيه الراسخين وذراعيه المفتولتين.  

 ورغم ما ينوء به من أعباء العمل ومسؤوليات البيت والأسرة، لم يهمل نفسه قط، بل ظل يحافظ علي لياقته الجسدية، كفارس لا يُسلم سيفه للصدأ.


كانت تحدق فيه كأنما تراه لأول مرة، تتأمل تفاصيله بعين مبهورة، ثم خطت إليه بخطوات مترددة، ووضعت كفيها المرتجفتين على عضلات صدره المتينة. كتم ابتسامته وهو يرقبها، فهو يعرف حالتها المضطربة التي تصيبها هذه الأيام.


قالت وهي تبتسم بعذوبة غامرة

"أنت كل مرة بتبقي قمر عن الأول يا كينو؟"


ردد بتعجبٍ حائر

"كينو؟!"


ابتسمت، ومالت برأسها بخجل دافئ، ثم همست

"بدلعك يا حبيبي، ولا مش عاجبك الاسم يا حبيبي؟"


هز رأسه مبتسمًا

"لاء طبعًا عاجبني، بس ياريت يفضل بيني وبينك بس"


لكنها كأنها لم تسمعه، إذ كانت غارقة في أسر دوامة عينيه، تحاصر عنقه بذراعيها، وتبوح في لحظة صفاء ممزوجة بندم طفولي

"أنا إزاي أقولك طلقني؟!، إزاي عايزة أسيب حبيبي القمر المسكر ده وأبعد عنه؟!، أنا حمارة"


ضحك بخفوت يخفي حرصًا على قلبها، ورد

"ما تقوليش على نفسك كده يا حبيبتي، أنا عارف إن هرمونات الحمل المتقلبة عندك هي اللي بتخليكي كل شوية تطلبي الطلب السخيف ده"


اقتربت بشفتيها من عنقه، تنفست قرب جلده، فتسارعت أنفاسه.  

 همست بصوت مبحوح بالحب والذنب

"شوفت طلع عندي حق لما قولت على نفسي حمارة؟!، إزاي أسيب جوزي حبيبي وأبو ولادي!، أنت ممكن تعملها يا كينو؟!"


ابتلع ريقه وأجاب في حسم لا يقبل الجدال

 "لاء يا حبيبتي، عمري ما هعملها حتى لو طلبتيها بجد"


نظرت في عينيه بعينين زائغتين من الهيام، وسألته

"للدرجدي بتحبني؟"


ابتسم وهو يرد بحنو

"إنتي شايفة إيه في عيوني؟"


قالت في انخطاف

"شايفة نفسي جوه عيونك وحاسة بدقات قلبك" 


ثم طبعت قبلة على عنقه وتابعت

"وحاسة بكل نفس بتتنفسه"


انجذبت شفتاها إلى شفتيه، وما لبثت أن انتقلت من وضع الفاعل إلى مفعول به في معادلة العاطفة، و إذا به يرفعها بين ذراعيه، فارتفعت قدماها عن الأرض وحملها بخفة وحنو إلى غرفتهما.


ألقاها على الفراش رويدًا رويدًا، حتى استلقت على ظهرها وهي ما تزال متشبثة بعنقه. 

 

 وفي تلك اللحظة، دوى رنين الهاتف من غرفة المكتب كجرس يقطع الوصال.


التفت ناحية الصوت 

 "مين اللي بيتصل في وقت متأخر؟!"


كاد ينهض، لكنها أمسكت به بعناد

"رايح فين؟!"


قال وهو يحاول أن يفلت منها برفق

"هاروح أشوف مين اللي بيتصل، شكله تليفون مهم"


صرخت برجاء متشبث

"لاء مش هتروح، اللي يتصل يتصل، أنت مش هتتحرك من جمبي"


ابتسم محاولًا إقناعها

"يا حبيبتي ثواني بس، يمكن يكون حد من الشركة عندي"


لكنها انتفضت فجأة، ودفعته حتى تمدد على الفراش مكانها، وقالت باصرار 

"مش هترد يعني مش هترد، أنا أهم من شغلك وشركتك ومن أي حد"


ثم صعدت فوقه، ثبتت ذراعيه على جانبيه، دنت منه وأطلقت صوت يقطر أنوثة وفتنة، أشعل في جسده نيران العشق المتوهجة

"الولاد قاعدين عند تيتا لبكرة، والناني معاهم، يعني مفيش حد غيرنا هنا، وأنت ملكي أنا، يا سبب كل اللي أنا فيه"


عقد ما بين حاجبيه، يسألها بابتسامة ماكرة

"طيب ده أعتبره إغراء ولا لوم وعتاب؟"


قوست شفتيها وردت بخفوت مثقل بالوجد

 "مش عارفة"


فأطلق ضحكة صغيرة وقال بدهاء ظاهر

"بس أنا عارف، وهعرفك دلوقتي"


هيهات وقد انقلب المشهد، فإذا بها تحت قبضته، وهو فوقها يفيض عشقًا، يطلق مشاعره لتتحد مع مشاعرها.  

 كم يحب هذه الحالة التي تداهمها الآن، إذ تغدو أسيرة هواه، سجينة محراب عشقه، تتلقى منه سيلًا من الكلمات والأفعال التي تذيبهما معًا في بوتقة واحدة، وتبًا لتلك الأفعال التي تجعل منه في حضنها عاشق مجنون، لا يرى في الدنيا سواها.


                          ❈-❈-❈


عادوا جميعاً إلى الديار، وكانت في عينيها نظرة شاردة كأنها تحمل على كاهلها جبال من الأوجاع. 

  وما إن لامست عجلات السيارة عتبة قصر عائلة البحيري حتى ألتفتت إلى زوجها، بصوت خفيض لكنه نافذ وقالت

"من فضلك خلي السواق يوديني على قصر بابا، أنا محتاجة أبقى لوحدي مش عايزة أشوف حد"


تصلبت ملامحه بالرفض، وكأن قلبه يأبى أن يتركها تواجه وحدتها، رغم وجود الحرس والخادمة المقيمة التي تعكف دوماً على تنظيف أركان القصر.  


همّ أن يجادلها لكن قصي قال له بحزم مشوب بالحنان

"اسمع كلامها يا يونس، سيبها تعمل اللي هي عايزاه"


رضخ يونس مرغماً، غير أن روحه لم تطاوعه أن يبتعد. 

  تركها تصعد إلى القصر العتيق، قصر رسلان العزازي، لكنه أبى أن يغادر.  

 

جلس في البهو الكبير متخفياً عن عينيها، وأوصى الخادمة أن ترعاها بعين اليقظة.


دخلت هي إلى غرفة أبيها الراحل، وما إن وطئت عتبتها حتى امسكت صورته، تضمها إلى صدرها كما يضم الطفل لعبته، وانهمرت دموعها كالسيل المنهمر، تصرخ بألم مكتوم

 "واحشني أوي يا بابا، ياريتك كنت لسه عايش، كنت اترميت في حضنك إنت يا حبيبي، أنا تعبانة أوي يا بابا مش قادرة أستحمل اللي حصلي، نفسي أجيلك وارتاح"


لقد أنهكتها التجربة المريرة خطف وتهديد، إذلال وتعذيب نفسي وجسدي، تركتها جريحة الروح، أسيرة لاضطرابٍ يفتك بعقلها الرافض للواقع.  


 كل ما مر بها يتلاطم في ذاكرتها بين لحظات طفولة بريئة في القصر، وأخرى مغموسة بالوجع والخوف.


وفي الأسفل، خرجت الخادمة تحمل صينية الطعام، فتلقاها يونس بقلق ملح

"هاتيها أنا هاطلع أطمن عليها وأدخلهالها"


صعد درجات السلم بخطى مثقلة، حتى بلغ الرواق المؤدي إلى غرفة والدها، ومن ورائه خيوط البكاء المنبعثة كأنين ناي حزين. 

 

 طرق الباب برفق، فجأة صوتها المرتجف، غاضباً ممزوج بالدموع

 "مش قولتلك ماتطلعيش ولا تخبطي؟!، مش عايزة أشوف حد إنتي ما بتفهميش؟!"


فتح الباب متردداً، ودخل بخطوات يعلوها الشجن، وصوته يختنق بحرقة

 "حتى أنا كمان مش عايزة تشوفيني؟"


أدارت وجهها بعيداً، تتهرب من لقاء العيون، ومنحته ظهرها وهي تقول برجاء متقطع

"أرجوك يا يونس، سيبني لوحدي"


ترك الصينية فوق الطاولة القريبة، واقترب من معشوقته التي غدت كطيف مثقل بالهموم.  

 وقف خلفها، تتقاذفه مشاعر الذنب، يظن أنها تلومه لعجزه عن إنقاذها طوال أسابيع اختطافها، فقال بصوت متهدج

"مش عايزة تبصي لي ليه؟، أنا كنت زي المجنون دورت عليكي في كل مكان، عملت تنويه وجايزة للي يوصل ليكي أو يجيبلي الحيوان اللي خطفك"


أجابته بنبرة منهكة، حروفها كأنها تنهار

 "أنا لا زعلانة منك ولا بلومك، بس أنا فعلًا محتاجة أقعد لوحدي"


تقدم نحوها وكاد أن يمسك بعضديها، فإذا بجسدها ينتفض لا إرادياً، صعق لرد فعلها، وتكسر قلبه حين لمح آثار القيود الغائرة في معصميها. 

  همس في ألم مكبوت

"مش عايزاني ليه أقرب منك؟، ولا ألمسك؟، هو.... "


أثر الصت، فكان السؤال الموجع يتردد في رأسه، سؤال يخشى حتى التفكير فيه، بينما هي قرأت ما في عينيه، فأجهشت بالبكاء و انهارت على الأرض، ساقاها تأبيان حملها، تبكي وتصرخ كطفلة تُساق إلى المجهول.


انحنى إليها، عانقها رغماً عن ارتجافها، ضمها بكل قوته كمن يتمسك بخشبة نجاة وسط الغرق، وهمس وهو يمسح على رأسها المرتجف

"ما تخافيش أنا جمبك يا كارين، حبيبتي اهدي بالله عليكي، بالله عليكي ماتعيطيش"


جذبها إلى صدره، وقد خانته دموعه هو الآخر.  

 بكى في صمت، بكاء رجل مكلوم على حال زوجته، وهي قلبه الذي يخفق به في هذه الدنيا الزائلة.  

 ولقد أيقن في تلك اللحظة أنه لو ملك كل  الدنيا وما فيها، لباعها راضياً في سبيل أن يرى ابتسامتها تعود، ولو لمرة واحدة.


                          ❈-❈-❈


أشرقت شمسُ اليوم التالي، وقد انبثق نورها الذهبي من بين ستائر الغرفة لينثر خيوطه على وجهها المتقلب بجوار زوجها الغارق في سباته العميق.  


 صدح رنين منبه الهاتف، ارتجف السكون واهتز هدوء اللحظة، فمدت يدها بخفة لتغلقه، فتحت درج الكومود الصغير أمامها، وأخرجت منه شريط حبوب منع الحمل. 


  بقيت تحدق فيه بعينين يملؤهما التردد،  بدا الشريط بكامل هيئته، لم تُنتزع منه حبة واحدة، فنهضت فجأة وألقته في سلة المهملات، ثم عادت إلى موضعها بجوار زوجها بعد أن أرسلت نحوه نظرة عابرة امتزج فيها شيء من الحنو وشيء من الاضطراب.


تمددت إلى جواره، فاستدار في نومه ومد ذراعه ليحتويها في عناق دافئ، بينما هي توليه ظهرها، تكاد أن تغمض جفنيها حينما اهتز الهاتف من جديد، فعلمت أنها مكالمة هذه المرة.  

 التقطته على عجل، وألقت نظرة إلى الشاشة، فإذا باسم المتصلة فجر.


فجر تلك الفتاة التي شاركتها أيام الكلية، والتي تورطت يومًا في علاقة بشاب ثري مدلل اعتاد أن يمد يده إلى كل ما تهواه نفسه، حتى قلوب الفتيات.  

 أحبته لكنها لم تحتمل البقاء طويلًا بعدما تبين لها طريق الضياع الذي يسلكه؛ إذ كان غارقًا في المخدرات، ثم انساق خلف أستاذ جامعي ماجن نفث في عقله سموم الإلحاد والتجرد من العقائد، فغدا عدو لكل دين وقيمة.


سعت فجر بصدق أن تنتشله من ذلك الجرف السحيق، أن تعيده إلى الهداية والتوبة لكنه أبى واستكبر، وحين سئمت محاولاتها تركته.  

 

هنالك جن جنونه، وأقسم ألا يتركها لقدرها، صار يلاحقها في كل مكان، حتى ضاقت الأرض عليها بما رحبت. 

 ولما أرادت أن تردعه، أعلنت له أنها ستخطب قريبًا لرجل آخر.


لكنه لم يتحمل وقع الخبر، فالهوس كان قد ملك قلبه وسيطر على عقله، وأصبح من المستحيل أن يتخيلها زوجة لغيره.

 وفي لحظة جنون غادرة، عاجلها بطعنة غائرة، قاصدًا إنهاء حياتها.


غير أن عناية الله سبقت، فشاهدت الجريمة خديجة، وسرعان ما جاءت سيارة الإسعاف، وحملت فجر بين أنياب الموت إلى المستشفى، فانتُشلت من حافة الفناء بمعجزة.


حينها لم تقف أسرة الجاني مكتوفة الأيدي، فأرسلوا محاميهم إلى خديجة، يساومونها بالمال لتنكر شهادتها، أو لتتراجع عن قولها. 

   لكنها رفضت بعزيمة لا تلين، وأصرت أن تقول الحق مهما كان الثمن.


ولما علم آدم بالأمر، واجهها بقلق ظاهر وأمرها أن تبتعد عن تلك المشكلة حتي لا تتأذي.

  فأجابته بعناد رزين بالرفض و أنها لم تكتم شهادة الحق. 


تأهب قلبه خوفًا عليها، لكنها لم تُعر تهديد الخطر بالًا.  

 وفي اليوم الذي عزمت فيه على الذهاب للنيابة لتدلي بشهادتها، ترصدها من وُكّل لردعها.  

 انطلقت رصاصة غادرة نحوها، وفي اللحظة الفارقة انبثق آدم من حيث لا تدري، فدفعها بجسده، واستقر الرصاص في كتفه عوضً عنها.


ومنذ ذلك الحين، انقطعت كل صلات خديجة بصديقتها فجر.

ما زال الهاتف يهتز بالاتصال إلحاحاً، حتى عقدت العزم على الإجابة.  

 أبعدت ذراع زوجها عن جسدها بحذر، خشية أن يستيقظ من سباته، ثم نهضت بخطوات وئيدة، والتقطت الهاتف بيد مرتجفة، وغادرت الغرفة نحو الشرفة حيث ينساب نسيم الصباح.  

 وضعت الهاتف على أذنها وقالت بصوت خافت

"ألو يا فجر؟"


غير أن الصوت الذي جاءها من الطرف الآخر لم يكن صوت صديقتها، بل صوت أنثوي متهدج بالأسى

"ألو يا خديجة، أنا مامت فجر، معلش يا حبيبتي، اتصلت بيكي الصبح بدري"


ابتسمت خديجة محاولة إخفاء قلقها

"أهلاً وسهلاً يا طنط، ولا يهمك، أنا كده كده كنت صاحية، فجر عاملة إيه؟"


أجابت الأم بلهجة تحمل مزيجاً من الرضا المرير والخذلان

"الحمد لله على أي حال، صحتها اتحسنت وخرجت من المستشفى من عشر أيام"


ثم سكتت برهة، كأنها تبتلع غصة في حلقها، قبل أن تتابع بآهة ثقيلة

"بس بنتي يا خديجة، بنتي بتضيع مني، وأنا مش عارفة أنقذها من اللي عايزة تعمله في نفسها"


تسارعت أنفاس خديجة وارتسم على وجهها قلق جلي

"حصلها إيه،؟ مش هم خلاص سجنوا باسم بعد ما فرغوا الكاميرات وقدروا يثبتوا إنه الجاني؟"


ردت الأم بمرارة

"ياريت الموضوع كان خلص على كده وبس، أنا عشان مطولش عليكي، ممكن لو ظروفك تسمح تعدي علينا النهارده محتاجاكي ضروري"


ترددت خديجة، وألقت نظرة خاطفة إلى السرير حيث كان آدم يتقلب، وكأنه على وشك الاستيقاظ.  

 

غامت نظرتها بتردد، لكنها سرعان ما سمعت نداء الأخرى

"ألو؟ ألو؟"


"معاكي يا طنط… تمام، هاجي بإذن الله النهارده، هكلم حضرتك أول ما أركب العربية"


"تمام يا حبيبتي، هستناكي"


وبعد تبادل السلامات، أنهت خديجة المكالمة قبل أن يستفيق زوجها.  

 تسللت إلى الغرفة على أطراف قدميها، لكنها ما لبثت أن تراجعت خطوة حين وجدت الفراش خالي.


وفجأة، دوى صوته من خلفها

"كنتي بتكلمي مين في البلكونة؟"


شهقت بفزع، والتفتت إليه بملامح يعلوها التوتر والخوف.  

 كانت تخشى أن تفصح عن اسم فجر أمامه؛ يكفي ما مر به بسببها وبسبب باسم الذي كاد أن يفتك بها.  

  

فالتفتت عنه متعمدة، وأعطته ظهرها لتتهرب من عينيه، قائلة بارتباك

"دي… دي واحدة صاحبتي، كنت كلمتها من يومين وقولت لها تبقى تصورلي الملازم والمحاضرات اللي فاتتني، واتفقنا إني هقابلها وأخدها منها"


اقترب منها بهدوء، وعانقها من الخلف قائلاً بصوت دافئ

 "ممكن تستنيني لما أرجع من مشوار النيابة، هاجي أخدك وأوصلك بنفسي ونرجع سوا"


التفتت إليه، محاولة إخفاء قلقها بابتسامة متكلفة

"لاء يا حبيبي، روح إنت براحتك، أنا هخلي عم شكري يوصلني ويرجعني، وأصلاً وأنا راجعة هعدي على كارين بعد ما تخلص تحقيق النيابة، صعبانة عليا أوي ربنا يقويها وينسيها اللي حصل معاها"


قبض على كفه بغيظ وهو يزمجر

"كل ما أفتكر اللي حصل لها وكان ممكن المجرم ده يأذيها أو لا قدر الله يقتلها دمي بيتحرق، كان نفسي الكلب ده يبقى عايش وإحنا اللي نخلص عليه بإيدينا"


ربتت على كتفه بلهجة مهدئة

 "قدر الله وما شاء فعل، الحمد لله كان ابتلاء وعدى، وهو عشان كان عارف وواثق هتعملوا فيه إيه انتحر، يعني عاش مجرم وقاتل ومات كافر، ربنا يعافينا يارب"


هز رأسه مستسلماً

"تمام يا حبيبتي، هدخل آخد شاور وخليهم يعملولي فنجان قهوة، وإنتي حضريلي طقم على ذوقك أروح بيه المشوار"


ابتسمت بخفة، وأشارت إلى عينيها

 "من عيوني الاتنين"


أعطاها قبلة سريعة وقال بحنان

 "تسلملي عيونك"


اتجه إلى الحمام، وما إن غاب عن ناظرها حتى تنفست الصعداء، لكن ملامحها انقلبت فجأة إلى حزن وضيق، تذكرت الكذبة التي تفوهت بها منذ قليل، فرفعت يديها هامسة بخشوع

"أستغفر الله العظيم وأتوب إليك، سامحني يا رب، مكنتش عايزة أكذب يا رب سامحني"


                       ❈-❈-❈


في غرفة الزيارات داخل السجن، حيث الجدران الباردة تصطف صامتة كأنها شهود عيان على كل ما يقال ويخفى، جلس المحامي إلى جوار والد باسم، ذلك الوكيل العابس الذي بدت على محياه قسوة السنين وغلظة الطبع، ينتظران خروج باسم، الابن الذي حمل عنهما أثقال الخيبة ومُرّ العاقبة.  

 وما إن أطل الشاب من وراء الأبواب الحديدية حتى توهج المكان بمزيج من المرارة والانتظار، وكأن اللقاء ساحة صراع لا مجلس مودة.


ما إن جلس باسم أمامهما حتى انطلقت الكلمات من فيه بمرارة حادة

"كويس إنك لسه فاكر ليك ابن تسأل عليه"


فانفجر والده بغضب، وصوته يجلجل كصاعقة في هواء خانق

"شوف الواد وبجاحته!، أنا لولا أمك اللي بتموت من ساعة ما أنت اتسجنت، مكنتش عبرتك، كنت سيبتك مرمي هنا لحد ما تتربى وتتعلم الأدب"


ضحك باسم ضحكة مشوبة بالسخرية، تحمل مزيجاً من الألم والاستخفاف

"طول عمري مش فارق معاك ولا كأني ابنك"


هنا تدخل المحامي مسرعاً، وقد نهض واقفاً كمن يريد إخماد حريق اندلع فجأة، وقال بصوت متزن متوسل

"اهدى يا باشا، ما ينفعش اللي بتعملوه ده خالص، وبعدين إحنا جايين لباسم بيه عشان نفرحه، مش عشان نزعله"


انتبه باسم إلى ما قاله المحامي، فتعلقت عيناه بوجهه القريب، وسأله بشغف ممزوج بالترقب

"قصدك إيه؟"


ألقى المحامي نظرة سريعة على الأب، ثم أعاد عينيه إلى باسم، وقال بنبرة مفعمة بالثقة

"إحنا جايين نطمن عليك، ونقولك ما تقلقش، كلها إجراءات بسيطة وهاتطلع من هنا"


انتفض باسم، وصاح بلهفة لم يستطع كبحها

"بجد؟!"


ابتسم المحامي ابتسامة واثقة، وقال في يقين لا يعرف التردد

"وإحنا من إمتى وإحنا بنهزر يا باسم بيه؟"


ازدادت نظرات باسم بحثاً عن الحقيقة، فقال بصوت يحمل ظلال الشك

"طيب… هايحصل إزاي؟، إلا لو فجر سامحتني واتنازلت عن القضية"


أجابه المحامي بابتسامة واثقة أشبه باللغز

"إزاي دي بقى، هاتعرفها في اليوم اللي هاتخرج فيه، المهم كل اللي طالبينه منك إنك ما يكونش ليك دعوة بحد من المساجين، ولا تحتك بأي حد فيهم، مش عايزين أي شغب، لحد ما تطلع لنا بالسلامة"


هز باسم رأسه مطمئناً، وقال بصوت رزين عكس خصاله الهوجاء

"ما تقلقش يا متر، من غير ما توصيني، أنا فعلاً مليش دعوة بحد هنا"


                        ❈-❈-❈


في سراي النيابة، حيث الجدران العالية تتدثر بالرهبة والوقار، جلست كارين تنتظر أمام غرفة وكيل النيابة، وحولها من الوجوه ما يزيد الصدر ثقل وما يبدده عزاء. 

  جوارها زوجها وإخوته جميعاً ما عدا يوسف، وأمامها من جآوا إليها كالسند في لحظة انكسار، علياء وصبا وملك تتصدرهن السيدة چيهان، التي حملت في نظرتها حكمة السنين وحنان الأم.


خرج المساعد فجأة من باب الغرفة، ونادى بصوت رتيب 

"كارين رسلان العزازي"


قبضت كارين على يد چيهان في توتر، فربتت الأخيرة على أصابعها المرتجفة، وهمست إليها كأم تواسي ابنتها

"ما تخافيش وخليكي قوية"


هزت كارين رأسها بعينين زائغتين، غارقتين في بحر من التشتت والرهبة، ثم التفتت نحو قصي، وقد أدرك الأخير من نظرتها أنها ترجوه أن يكون رفيقها في الداخل. 

 

 تقدم خطاه نحوها على الفور، تحت عيون يونس الذي أوشك أن يشتعل غيظاً من ذلك التجاهل الموجع.  

 

فمنذ الأمس وهو يلازمها كظلها، يمنحها دفء الطمأنينة بعناق صادق وكلمات عذبة يسقي بها قلبها المكلوم، ومع ذلك لم يقع اختيارها إلا على قصي.


دخلت كارين قاعة التحقيق، وجلست في مواجهة وكيل النيابة.  

 تبادلا التحية الرسمية، ثم أشار لها بالجلوس، وسألها بصوت حازم يحمل مزيج من الجدية والرأفة

"اتفضلي يا مدام كارين، احكيلنا كل حاجة حصلتلك من أول معرفتك بمهند عبدالرحمن لحد ما انتحر"


رفعت بصرها المرتبك نحو قصي، فالتقت عيناهما كأنهما جسر أمان ممتد، وقد أومأ إليها إيماءة واثقة، كأنما يقول لها دون أن ينطق، اسردي بكل أريحية فأنا إلى جوارك يا صغيرتي.


فأخذت نفس متقطع، ثم بدأت تسرد الحكاية؛ حكاية بدايتها الخداعة حين تسلل مهند إلى حياتها بوجه زائف تحت ستار العمل، بينما كانت هي الغاية والهدف.  

 

روت كيف تكشف قناعه شيئاً فشيئاً، حتى انتهى الأمر باختطافها، وما عانته من أهوال تُفتت القلب كلما عادت لخيالها.


 وحينما غلبتها الذكرى، انهمرت دموعها رغماً عنها، وارتعشت يداها، بل ارتجف جسدها بأسره، فتركها وكيل النيابة حتى هدأت، ثم استأنفت السرد مرة أخرى، حتى أفرغت في حضرته ما يثقل صدرها.


وبعد زمن بدت فيه الدقائق أثقل من السنين، خرجت كارين يتبعها قصي. 

  وما إن ظهرت حتى تقدمت السيدات نحوها، تتصدرهن چيهان التي فتحت ذراعيها، فانهارت كارين بين أحضانها، وبكت بكاء مُر كأنما تذرف ما تبقى من خوف وحزن دفين.


اقترب يونس من قصي، وصوته يلهث بقلق

"قالكم إيه وكيل النيابة؟"


أجابه قصي بهدوء لافت

"كارين حكت له كل حاجة ما تقلقش، هو كان مجرد إجراء روتيني عشان الموضوع يتقفل، خصوصاً بعد ما الـ…  موت نفسه"


تردد يونس، وصراعه الداخلي يعصف به، ثم اقترب أكثر وسأل بصوت خافت بالكاد يُسمع

"قصي… أنت لما روحت تنقذها، هو الواد ده عمل فيها حاجة؟"


أدرك شقيقه مرمى السؤال، فابتسم ابتسامة وادعة تُخفي حزن وشجن، وقال بثبات

"بص يا يونس، أنا فاهم وعارف إنك متضايق من تجنبها ليك، وإن دماغك راحت للي أنا فهمته من سؤالك، بس عايزك تطمن هو ما جاش جنبها ولا لحق يعمل حاجة، أنا أنقذتها قبل أي كارثة، هو كان خاطفها عشان يسافر بيها بره ويتجوزها، ده واحد دماغه ضايعة، كان متصور إنها هترضى بالأمر الواقع وتسمع كلامه، بس مراتك طلعت بميت راجل، كفاية إنها حاولت توصلنا، وخلت إنقاذها ممكن قبل ما يحصل لها أي أذى لا قدر الله أو كان عرف يسافر بيها برة مصر، كان الموضوع هيبقي صعب جداً"


تنفس يونس الصعداء، وكأن حمل ثقيل انزاح عن صدره، ثم قال بصوت متهدج يخالطه الحزن

"معلش اعذرني، أنا قلبي واجعني عليها، ومش عارف أتعامل معاها إزاي، مستعد أتحمل منها أي رد فعل بس نفسي أشوفها بتضحك تاني"


ربت قصي على كتف شقيقه بحنو ممزوج بالصلابة

"هترجع… وهترجع أحسن من الأول إن شاء الله، دي مسألة وقت مش أكتر، غير كده هي محتاجة تزور ثيرابيست أو دكتور نفسية يساعدها تتجاوز اللي عاشته"


ثم اجتمعوا جميعاً عند باب السراي استعداداً لمغادرة هذا المكان الموحش، صعدوا إلى سياراتهم، وتفرق كل واحد منهم إلى وجهته. 

                        ❈-❈-❈


بلغت خديجة عتبة بيت صديقتها فجر، والنهار يتهادى في أرجاء الحي، كأن أشعته تغسل الأرصفة بمسحة من ذهب خافت.  

 وما إن قرعت الباب حتى أطلت والدة فجر بوجه يجلله الوقار، فرحبت بها ترحيب دافئ، كأنها تستقبل ابنة ثانية في رحاب دارها.  

 

قادتها إلى الردهة حيث تتناثر مقاعد وثيرة كأنها تعانق الجالسين، وتظللها ستائر خفيفة تنفذ منها خيوط الضوء، فيرسم النهار لوحة شاحبة على الجدران.


ابتسمت الأم قائلة بصوت تحاول أن تجعله مرحاً، وإن خانته نبرة مثقلة بالهم

"تحبي تشربي إيه؟، ولا أقولك ده ميعاد الفطار، أنا هاروح أحضرلك فطار من إيدي هايعجبك أوي"


بادلتها خديجة ابتسامة شاكرة، وأجابت بلهجة ملؤها الامتنان

"تسلمي يا طنط، ما تتعبيش نفسك، أنا فطرت قبل ما أجي لحضرتك، المهم طمنيني على فجر، هي صاحية أدخل لها؟"


تنهدت السيدة وجلست في الكرسي الملاصق لخديجة، وانطبع الحزن على محياها كغيمة سوداء تحجب نور الأمل، ثم قالت بصوت تخلله الأسى

"هي في كل حال ما بتخرجش من أوضتها غير على الحمام بس، بنتي من ساعة ما رجعت من المستشفى وهي منعزلة، مش عايزة تشوف ولا تسمع حد خالص، لدرجة خوفت لتعمل في نفسها حاجة، خصوصاً لما أبو الولد اللي اسمه باسم، ربنا ينتقم منه هو والمحامي بتاعهم كانوا هنا إمبارح"


شهقت خديجة باندهاش عاتب، وألقت بسؤالها وكأنها تكشف الستار عن حقيقة خفية

 "طبعاً جايين عشان يخلوا فجر تتنازل عن القضية وعرضوا عليكم فلوسهم؟"


أطرقت الأم بعينين دامعتين وقالت بمرارة

"ياريت... على الأقل كان يبقى أخرتها رفض، واللي عندهم يعملوه، تسجيلات الكاميرا أثبتت عليه الجريمة خلاص"


ازدادت حيرة خديجة، فمالت بجسدها نحو السيدة، تسألها بلهفة

"أومال حصل إيه؟"


سكتت الأم لحظة، وانفرجت ذاكرتها كأنها شريط سينمائي يُعرض أمام عينيها، فإذا بها تعيش من جديد وقائع الأمس القريب


«مشهد من الأمس» 

في جو مشحون بالترقب والضبابية، جلست أم فجر على مقعد خشبي قديم يئن تحت وطأة جسدها ووطأة القلق الذي ينهش قلبها، فإذا بصوتها يخرج صارماً كالسيف

"طالما إنكم مش عايزين بنتي تتنازل عن القضية، جايين عايزين إيه؟"


ابتسم والد باسم ابتسامة متكلفة، غلفها التصنع وأثقلها التعالي، وقال بنبرة متزنة من الظاهر، متغطرسة من الباطن

"عايزين القُرب يا أم فجر"


رمقته بنظرة نارية، تسلل منها الاستهجان والاستهزاء، وقالت مستفهمة بحدة

"قُرب من مين إن شاء الله؟"


اعتدل في جلسته، ورفع رأسه كمن يعلن نصراً وشيك، ثم أجاب بثقة متعجرفة

"أنا جاي أطلب إيد الآنسة فجر لابني باسم على سنة الله ورسوله"


شهقت المرأة شهقة كادت تخنق أنفاسها، وضربت بكفها على صدرها في حركة غريزية، ثم نهضت كالعاصفة، وصاحت بصوت ارتجفت منه الجدران

"نعم؟!، إنت عايز بنتي تتجوز ابنك المجنون؟!، اللي عشان سابته وبعدت عنه، راح طعنها بالمطواة وكان عايز يموتها وربنا نجاها بأعجوبة وقامت بالسلامة؟!، أروح أنا أسلمها لإبنك المجرم عشان يخلص عليها المرة دي؟!"


تدخل المحامي الذي كان يجلس إلى جوار والد باسم، محاولاً تهدئة الموقف، فقال بنبرة وادعة

"اهدي يا مدام أم فجر... الباشا عرف كل حاجة من ابنه، وعارف قد إيه هما بيحبوا بعض، واللي حصل ده كان نتيجة غيرته عليها لما عرف إنها هتتخطب لواحد جاركم على ما أعتقد"


رفعت المرأة حاجبيها، والشرر يتطاير من عينيها، ثم ردت بعناد لا يلين

"وأنا بنتي ما كانتش بتخبي عني أي حاجة، وهي بعدت عن باسم لما لقته  مدمن وأعوذ بالله بقى كافر"


كأن الكلمة وخزت كرامة والد باسم، فانتفض صارخاً

"مين ده اللي كافر يا وليه إنتي؟!"


لكن المحامي عاجله بنظرة حادة تأمره بالصمت، فإذا بأم فجر توبخه بلسان لاذع

"ولية في عينك، قاعد في بيتنا وبتغلط فيا؟!، أنا ما شوفتش بجاحة أكتر من كده"


حاول المحامي احتواء الموقف مجدداً، قائلاً باعتذار خافت

"حقك عليا أنا يا ست أم فجر... الباشا ما يقصدش، هو برضه في النهاية أب، ومش ها يستحمل كلمة كده ولا كده على ابنه"


أشاحت بيدها في غضب، وقالت بحسم قاطع كالسيف

"وأنا ما غلطتش في المحروس ابنه و لا الحقيقة بتزعل!، على العموم كلامي خلص معاكم، مش عايزين حاجة غير القانون هو اللي يحكم ويجيب حق بنتي، وبالنسبة لموضوع الجواز طلبكم مرفوض يا باشا، وياريت تتفضلوا من هنا"


لكن صاعقة مدوية هبطت على الجميع، حين انطلق صوت ناعم لكنه ثابت

"بس أنا موافقة يا ماما"


كان صوت فجر، التي خرجت لتوها من حجرتها، تحمل ملامحها شحوباً وقرار صادم، ألقت كلمتها كالرعد على مسامع والدتها. 


                        ❈-❈-❈


عودة إلى الحاضر...


كانت خديجة تجلس إلى جوار والدة صديقتها، تستمع بكل جوارحها إلى هذا السرد الموجع عن زيارة الأمس، وعن الموافقة المفاجئة التي خرجت من فم فجر.  

 كانت كلمات المرأة كالسكاكين تغرس في وعيها، حتى كادت تفقد القدرة على التصديق.


نهضت خديجة متوجسة، وقد عقد الدهشة حاجبيها، ثم سألت بصوت يتهدج

"هي فين أوضتها؟"


أجابت المرأة بصوت خافت، يختلط فيه التعب بالخذلان

"آخر أوضة في الطُرقة"


ذهبت خديجة بخطى مترددة، يسبقها قلبها المثقل بالهم، وطرقت الباب طرقات خفيفة، فجاءها الرد من الداخل بصوت متعب متهدج، ظنت الطارق والدتها

"عايزة مني إيه يا ماما؟، قولتلك مليش نفس أفطر"


دفعت خديجة الباب ببطء، وما إن انفرج حتى بدا وجه فجر الشاحب أمامها.

 رمقتها بعينين متسعتين من الدهشة، كأنها لم تتوقع حضورها، ثم سرعان ما فطنت السبب، فأشاحت بنظرة باردة توحي باللامبالاة.


ابتسمت خديجة ابتسامة متحجرة، وقالت وهي تحاول الاقتراب منها

"حمد الله على سلامتك يا فجر"


مدت ذراعيها لتعانقها، غير أن الأخرى اكتفت بمد كفها في مصافحة فاترة، فارتسم الحرج على ملامح خديجة، وسرت في قلبها غصة خفية.


جلست لحظات تتأمل صديقتها، فإذا بها ترى وجهًا آخر غير الذي عرفته من قبل؛ ملامح مغايرة قاسية، كأن المحنة قد أعادت تشكيل قسماتها، لتطل أمامها فجر أخرى.


قالت الأخيرة بنبرة جامدة

"لو إنتي جاية عشان تطمني عليا، يا أهلاً وسهلاً بيكي، لكن لو ماما اللي كلمتك وحكتلك عن زيارة إمبارح، وإنك جاية عشان تقنعيني أرفض جوازي من باسم، يبقى ما تتعبيش نفسك لأني مهما اقنعتيني برضه موافقة"


لم تُبد خديجة تراجعاً، بل جلست على الكرسي المقابل، ثم قالت بجدية مفعمة بالإخلاص

"أنا وجودي هنا واجب، لما ألاقي الناس اللي بحبهم في مشكلة ما ينفعش أتفرج وأسكت، واجبي إني أوقف جنبهم"


رمقتها فجر باستعلاء يخالطه العناد، وقالت بجفاف قاسٍ

"وأنا مش محتاجة وقفتك، ولا محتاجة أي حاجة من حد، أظن أنا واحدة في سن الرشد وصاحبة قراري، وعارفة مصلحتي كويس"


هزت خديجة رأسها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، كأنها تُكذب ما تسمع

"بالعكس، اللي أنا شايفاه قدامي دلوقتي مفيهوش لا عقل ولا تفكير، لأنك يا إما لسه بتحبيه وسامحتيه رغم إنه حاول يقتلك، يا إما بتفكري تتجوزيه عشان تنتقمي منه، بس خدي بالك... المنتقم قبل ما يولع في اللي أذاه، هو أول واحد بيتلسع من النار"


صرخت فجر بصوت متهدج ممزوج بالدموع، كأنها تُفرغ جمر سنوات مضت

"وهو أنا لسه ما اتلسعتش من النار؟!، أنا كنت بين الحيا والموت يا خديجة، وبرغم اللي عمله فيا لسه عايزني أبقى بتاعته، يبقى خلاص يستحمل اللي جاي"


نهضت خديجة من مقعدها، واندفعت نحوها تعانقها بحرارة، كأنها تحاول أن تقيها من نفسها

"اهدي... وبلاش عياط، أنا خايفة عليكي، ومامتك بره مقهورة، يعني إنتي مش بتأذي نفسك بس إنتي بتأذيها كمان، فكري يا فجر واعقليها كويس، الجواز مش لعبة ولا حاجة سهلة، وبعدين عيلة باسم مش سهلين، جوزي لما سأل عنهم عرف إنهم مجرمين بتوع تجارة سلاح ومخدرات، ناس قلبها ميت، تفتكري لو لمستي ابنهم بأي أذى هم هايسيبوكي؟!"


ابتعدت فجر عنها فجأة، ومسحت دموعها بكفها المرتجف، ثم استدارت تولي ظهرها بجمود متصنع

"أنا عارفة بعمل إيه كويس، مش محتاجة نصايح من حد، وياريت ما تدخليش في حياتي تاني"


شعرت خديجة بوخز الخيبة يثقل صدرها، وتضاعف الضيق في قلبها من هذه الحمقاء التي تعاند مصيرها. 

 همت بالمغادرة، وقبل أن تدير مقبض الباب، التفتت وقالت بصوت حاسم، كمن يلقي وصيته الأخيرة

"أنا فعلاً مش هاتدخل في حياتك تاني، بس كلمة أخيرة عشان أبقى عملت اللي عليا قدام ربنا، افتكري اللي مريتي بيه واللي حصلك على إيد باسم، كل ده مش هايجي ذرة في اللي هايحصلك لو اتجوزتيه، إنتي بتدخلي عش الدبابير برجليكي، وساعتها الندم مش هاينفعك أبداً"


تنهدت بمرارة، ثم أردفت بخطوات متسارعة نحو الباب

"مع السلامة يا فجر"


ألقت كلماتها وغادرت، لم تمهل حتى والدة صديقتها لتحدثها، ركضت الأم إلى غرفة ابنتها، وعيناها تقدحان لوم ووجع

"إنتي عملتي إيه في صاحبتك؟ خلاها تمشي ومش شايفة قدامها؟"


صرخت فجر في وجهها بحدة هستيرية، ودموعها تتناثر كالرصاص

"ماعملتش حاجة، وأرجوكي سيبيني في حالي، اطلعي بره، اطلعي بره"


خرجت الأم مطأطئة الرأس، وأغلقت الباب خلفها، أسندت ظهرها إلى الجدار البارد في الردهة، وانفجرت في بكاء مرير، ترتجف شفتاها بالدعاء، وعيناها شاخصتان إلى وجهة السماء

"يا رب، يا رب"


                       ❈-❈-❈


تفرق أفراد عائلة البحيري؛ فمنهم من آوى إلى منزله، ومنهم من انطلق إلى عمله، بينما آثرت كارين العودة إلى شقتها، وقد طلبت من يونس أن يأتيها بولديها، كأنّ

 قلبها لم يهدأ إلا حين تراهما أمام عينيها.


بينما آدم، فقد مضى إلى الشركة بخطوات مسرعة، لا يلوي على شيء سوى انهماكه في دوامة الأعمال، ولحقه قصي الذي أوصل زوجته إلى قصرهما، قبل أن يطوي المسافة نحو مقر عمله.  

 كذلك مصعب، إذ أوصل زوجته إلى البيت ثم اندفع إلى عمله. 


وعادت علياء إلى القصر مثقلة بوطأة الإرهاق، فأخبرت مساعدتها أن تلغي مواعيد الفحوصات المقررة لليوم، إذ لم تعد تطيق مواجهة المرضى بوجه مرهق ونفس متعب.  

 

وما إن خطت نحو غرفتها، حتى وقعت عيناها على زوجها جالساً أمام الحاسوب، غارقً في عالمه الإلكتروني، لا يكاد يحس بوجودها.  

 جلست على كرسي طاولة الزينة، و تخلع حذاءها ببطء، ثم التفتت إليه بحدة وقالت

 "و لما أنت مش رايح المستشفى مجتش معانا ليه النيابة؟، كل إخواتك كانوا هناك"


فأجابها ببرود زجاجي لا ينفذ منه دفء

"كان عندي مؤتمر دولي أونلاين، لسه خلصان من ساعة، ومكنش ينفع محضرهوش، وبعدين كارين رجعت بالسلامة خلاص، إيه لازمتها الكل يروح النيابة؟!"


رمقته بسخط، وهزت رأسها في ضيق يقطر استياء، ثم نهضت واقفة أمامه، كأنها حاجز يريد أن يعترض انغماسه في عزلة جليدية.


"أنت مالك بقالك فترة واخد جمب من الكل كأنك عايش لوحدك، ماتخليش شغلك يلهيك عن حياتك وعني أنا وولادك والعيلة يا دكتور"


نهض هو الآخر، واستدار نحوها، وقد تلون صوته بتهكم 

"أومال لو مكنتيش دكتورة وبتمري بنفس ظروف شغلي، كنتي عملتي إيه؟"


فأجابت بحدة، تدفع عن نفسها سهامه

"أنا فعلاً ببقى مشغولة كتير، بس في نفس الوقت متابعة الولاد، وأي مشكلة بتحصل في القصر بكون أول واحدة موجودة وبقدم اللي مطلوب مني، لأني فرد من عيلة البحيري يا دكتور يوسف"


ابتسم بسخرية تستفز الصبر، ورد ببرود يوشك أن يطفئ الدم في عروقها

 "لو خلصتي كلامك روحي شوفي إنتي بتعملي إيه، وخرجيني من دماغك"


ثم أدار ظهره متجهاً إلى الخارج، لكن صوتها أوقفه عند العتبة، نبراته تحمل إنذار صريح


"خليك على وضعك يا يوسف، بس بعد كده ماتزعلش لما تلاقينا إحنا كمان بنتجاهلك"


ارتسمت على شفتيه ابتسامة هازئة، رفع بها جانب فمه، وكاد أن يخطو بعيداً، فإذا بها تردف من جديد

 "وآه، عشان ما انساش، إحنا معزومين على عيد ميلاد ولاد آسر وهاجر"


تبدل وجهه فجأة، وسرى عليه وجوم ثقيل كغيمة داكنة حجبت شمس يوم صاف، فعاد إليها يسألها بنبرة تحمل دهاء ومكر

"يا ترى مين كلمك وعازمك؟، بنت خالتك ولا جوزها الدكتور آسر بنفسه؟"


انعقد حاجباها في استنكار صريح، ورمت سؤاله بنظرة حادة

"قصدك إيه من سؤالك وتلميحاتك السخيفة؟!"


ابتسم ابتسامة خبيثة، ولفظ كلماته ببطء كمن يسكب سُم في كأس صاف

 "والله إنتي أدرى باللي بيحصل من ورا ضهري"


فانفجرت بغضب جامح، وقد تجاوز معها كل الخطوط الحمراء، صرخت بمرارة تزلزل الجدران

 "خد بالك، أنا عديتلك كتير وكنت بعمل نفسي مش فاهمة، آسر ده في مقام أخويا، غير إنه جوز بنت خالتي، لو خيالك المريض مصورلك حاجة تانية غير كده، يبقى تروح تتعالج أحسن، ولا أقولك احجزلك أوضة في المصحة جنب طليقتك، أهو تونسوا بعض"


كانت كلماتها كالرصاص الطائش تخترق سكون الغرفة، فأججت غضبه حتى غلت الدماء في عروقه كحمم متدفقة، وأظلمت بصيرته حتى لم يعد يرى سوى وجهها المستفز أمامه. 


 لم يشعر بنفسه إلا وهو يهوى عليها بعنف، يجذبها من شعرها كمن ينتزع غصن من شجرة، ويلوي ذراعها خلف ظهرها بقبضة من حديد، وقال من بين أسنانه المطبقة، وقد تقطر صوته من الغيظ

"أول وآخر مرة تتكلمي بالأسلوب ده تاني معايا، ولا كلامي بقى هم على قلبك، ولا يمكن أنا شخصياً مش عاجبك؟!، ها؟"


ارتجفت وهي تستشعر خصلات شعرها تنتزع من رأسها، وذراعها يكاد يُكسر بين يديه، فصرخت متوسلة بألم يقطع نياط القلب

"عيب يا يوسف اللي بتعمله ده، سيب شعري، ودراعي هايتكسر"


لكنه لم يُعر توسلها أدني إهتمام، ولم يرق قلبه لوجعها، بل ازداد صوته قسوة، كأنه مطرقة تحطم كبرياءها


"فاكراني مغفل وعبيط؟!، أنا فاهم وعارف كل حاجة بتحصل من ورايا، واللي في دماغك مش هايحصل أبداً…


وفجأة، دوى رنين الهاتف الموضوع أعلى طاولة الزينة، فقطع حبل غضبه لحظة.


 دفعها دفعاً نحو الطاولة، والشرر يتطاير من عينيه، ثم التقط الهاتف بعينه، فرأى اسم المتصل، فقهقه بسخرية لاذعة

"طبعاً بيتصل عشان يطمن عليكي وصلتي ولا لأ… صاحبي طول عمره قلبه حنين، ردي عليه"


صرخت وهي تتلوى ألماً من قبضته وتهوره

"كفاية جنان بقى، والله هاتندم على اللي قولته واللي بتعمله فيا يا يوسف"


زمجر في وجهها 

"وطي صوتك وبطلي رغي، ردي عليه وشغلي الإسبيكر"


ثم ألقى بها على الكرسي، وتركها تتألم وهي تفرك ذراعها الذي لا يزال يؤلمها من شدته. 

  رمقها بعينين متقدتين وأمرها بصوت لا يقبل العصيان

"اخلصي"


أخذت الهاتف بيد مرتجفة، وضغطت زر الاتصال، ثم شغلت مكبر الصوت، ورفعت عينيها تحدق في يوسف بامتعاض  قبل أن ترد بصوت متماسك


 "ألو"


جاءها الصوت من الطرف الآخر، مفعماً بالود

"ألو يا لولو، معلش يا حبي بكلمك من موبايل آسر، أصل الفون بتاعي الولاد وقعوه مني في البيسين إمبارح، وآسر خدوا للصيانة"


أجابت بنبرة وديعة تخفي اضطرابها

"حبيبتي ولا يهمك، ربنا يعوضك"


تابعت المتصلة بمرح لا يدرك ما يدور خلف الجدران

"أنا عارفة إنك مشغولة، بس قولت أكلمك وأأكد عليكي ميعاد العيد ميلاد بعد بكرة أوعي تنسي بقى، هنستناكم"


"حاضر يا حبيبتي، إن شاء الله جايين"


"هاسيبك بقى عشان ماعطلكيش، سلام يا لولو"


"سلام"


لمست بعصبية علامة إنهاء المكالمة، وأمسكت الهاتف كأنها تكتم به بركان يتأجج في صدرها.  

نهضت واقفة، وملامحها تنضح بالامتعاض والسخط، ثم أطلقت كلماتها في وجه زوجها كقذائف لا رجوع فيها

"من النهاردة أنا هنام جنب الولاد، وأول ما ياخدوا الأجازة هاخد عز الدين وأروح أقعد عند ماما، ولا لسانك يخاطب لساني، ولا عايزة أشوفك قدامي"


وكانت كلماتها هذه أشبه بإعلان حرب باردة، ختمت بها لحظة من القهر، وفتحت أبواب لعاصفة قادمة لم تخمد نارها بعد. 


يتبع…

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع