رواية لأنه موسى الفصل الحادي عشر 11بقلم ماهى أحمد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
رواية لأنه موسى الفصل الحادي عشر 11بقلم ماهى أحمد (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات)
عُقده حمراء
---------------------------
عُقده حَمراء
البَاب الحَادي عَشر chapter eleven l
أغرِقوا ال مُوسى بِنجومكم
دَعمكم هَو وَقودي لِلأستِمرار
. ولأَنهُ موسَى .
𝒜𝓃𝒹 𝒷𝑒𝒸𝒶𝓊𝓈𝑒 𝒽𝑒 𝒾𝓈 𝑀𝑜𝓊𝓈
------------------------------------------
-------------------------------------
تُكاد السَيده " نعيمه " تُصاب بِتلف فِي الخَلايا الحِسيه لِكثرة التَفكير ، تَجلس شَارده فِي غُرفتها
عَلى الأَريكه تَسند رَأْسها عَلى ذِراعيها تُطالع المَاره بِشرود مِن نَافذتها الخَشبيه ، قَاطع شِرودَها صَوت زَوجها مُخاطبًا أيِاها وَهو يَضع صِينيه الشَاي عَلى الطَاوله وَبِالرغم مِن أَن مِقلتيه تَلمعان فِي قَلق وَاضح إلا أنهُ حَاول تَهدئتِها بِقول
" وحدي الله يانعميه واستهدي بالله كده محصلش حاجه لده كله مكانش سؤال ده سألتهولك وداد "
حَدقت بِه لِبرهه فَأجابتهُ بِنبره غَير مُتزنه
" ياراجل ، هو انا بحكيلك اللي حصل عشان تقولي كلمتينك دول ، انا بقولك عشان تفكر معايا وداد تقصد ايه بسؤالها ده "
أَزداد تَشوشه حِينما أَلقت بِحديثها هَذا ، لَكنه نَفض قَلقه عَنهُ قَائلاً
" والله ولا قصدها اي حاجه ، تلاقيها بتسألك سؤال عادي مش اكتر "
رَفعت الكُوب الىَ شَفتيها ثُم شَهرت بِه فِي ايِماءه
سَريعه
" ايوه .. ايوه افضل دافع انتَ ، ما انتَ هتخسر ايه ما هو لقمان ده يبقى ابنك انتَ مش ابني انا ، لازم تبقى مطمن وحاطط في بطنك بطيخه صيفي ، انما انا يتحرق دمي بقى مش مشكله "
كَتم " نصار " ضِحكته أَثر طَريقتها فِي الحَديث
حَيثُ تَحرك لِيجلس جِوارها عَلى الأَريكه ، لِتشعُر بِيدهُ الدَافئه تُوضع عَلى فَخذها يُحدثها بِصوتٍ دَافىء
" معاش ولا كان اللي يحرق دمك يانعيمه ، بس دي وداد وانتِ أكتر واحده عرفاها ، وبعدين ايه ابنك انتَ دي ، الأم اللي رَبت يانعيمه مش اللي خلفت ورمت وأنتِ ربيتي وتعبتي وسهرتي ، أنتِ أمه حَتى لو مَكانش من بَطنك ، واللي يِقول غِير كِده أَدب صَوابعي جِوه نِن عِنيه "
أَخفض يَدهُ يُطالع جَوف عِيناها ، لَمح تَردداً هُناك
وَكأنها تُريد قَول شَيء ومَا بِداخلها يُعدلها عَن ذَلك
فَأومأ هُو لَها يُشجعها عَلى الحَديث
" خايفه يانصار قلبي واكلني خايفه عيالي يروحوا مني واحد ورا التاني ، موسى أبوه اخدوا من حضني قدام عيني وعرف طريقه عشان غلطه بسيطه خلاه يتسحب من حجري وهو صغير ومابقاش معايا من وقتها ، وانا كنت عامله زي الملكومه اللي بياخدوا منها ابنها ، وماقدرتش افتح بوقي وقتها ، مع اني انا اللي ربيته وسهرت عليه
بس نقول ايه هو برضوا أبوه وماليش سلطه عليه"
تَنهد يُدحرج عِيناه فِي الأَرجاء وَهو مُقطب الحَاجبين
" بس انا نبهت عليكي ، وهو كان لسه حتة لحمه حمرا لما امه جابتهولك قولتلك بلاش يانعيمه ، بلاش تاخديه ، ابوه لو عرف ان عنده ابن مش هيسكت الا لما يلاقيه بس أعمل ايه لدماغك الناشفه ، مابتسمعليش كلمه ابداً"
فُوجَئت بِحديثُه ، لِيُهب نَسيم بَارد عَبر النَافذه يُداعب خُصلات شَعرها ، أَزاحتهُ لِلخلف تَقف أَمامُه وَقد جَحظت مِقلتاها بِقول
" يــاسلام يــاسي نصار يعني عايزني اربي ابن ضرتي اللي اتجوزتها قبلي ، وماربيش ابن اختي "
.. .. .. .. 🍁 .. .. .. ..
خلاص ياسمر احنا وصلنا
رَفعت رَأْسها لِترى بِأنها بِالقُرب مِن المَنزل بِينما "انس" مَد ذِراعهُ لَها بِحقيبتها التَي كَان يَحملها بَدلاً مِنها يَغمز لَها بِبسمه تَفهم هِي مَغزاها جَيداً
" خللي بالك على دراعك بقى وابقي غيري على الجرح كويس "
هَذا أخر مَا قَالُه لَها بِنبره سَاخره وَهو يَتوجه نَحو مَنزلُه ، أَومأت لهُ بِأبتسامه هَادئه زُينت ثِغرها تَراه يَرحل تَحت نَظراتها لهُ وحِين التَفتت تَصعد الدَرج استَدار هُو وَبقى يُراقبها فِي صَمت حَتى بَلغت بَاب المَنزل ، طَرقت البَاب وَنظرها مُعلق عَلى يَدها شَارده بِها
" سمر "
" وسع ياطه خليني ادخل "
أَومَأ " طه " لَها يَأخُذ حَقيبتها عَنها وَحالما دَخلت حَتى سَألها بِقلقٍ وَاضح بَين ثَنايا وَجهه
" مالك ياسمر مال دراعك "
طَالعتهُ وَهو يَأخذ حَقيبة يَدها مِنها تَوصد البَاب خَلفها
" ماتقلقش ياطه ، ده انا وانا راجعه وقعت على دراعي اتلوى تحتي "
جَاء صَوت السَيدة " وداد" مِن الدَاخل ، يَتقدّمها صَوتها المَرتجف
" وقعتي على دراعك ، وقعتي على دراعك فين ياسمر "
عَيناها كَانت تَنظر نَحوها ، كَما ارتَجف طَرف شَفتيها
" ماتنطقي يابت حصل ايه ، وفين أنس ، ووقعتي فين "
السؤال الذِي كَانت تَنتظرُه فَتقدمت بِخطى وَئيده نَحو شَقيقها لِتجيبُه
" ما بالراحه ياجماعه في ايه ، كل الحكايه واحنا راكبين التاكسي عطل بينا وانا نازله وقعت من التاكسي دراعي اتلوى تحت مني على الرصيف انس خدني على الصيدليه وربطنا دراعي وخلاص خلصت عشان كده اتأخرنا "
أَختطف " طه " نَظره نَحوها ثُم نَحو والدتُه بِتلك النَظره التَي تَرتسم عَلى مَحياه كُلما شَعر بِشيٍء غَريب
" وريني كده الجرح اللي في ايدك ده "
تَوترت لِبرهه وَأرسلت نَظرها نَحو السَاعه الحَائطيه
تُراقب دَقات السَاعه فَوجدت أَنهم عَلى وَشك الدخُول الىَ يَومٍ جَديد
" يــــوه ياطه وهو انا لسه هفك دراعي وبتاع بقولك وقعت عليه يا اخي ، ماتشوفي ابنك ده يا امي"
تَركته وَرحلت تَحت نَاظريه يُطالعها بِشك وَهو يُحادث نَفسُه
" البت دي فيها حاجه "
تَأففت السَيده " وداد " بِحنق لِتعقب بِتساؤل
" هيكون فيها ايه بس ياطه الحمدلله انها جت على قد كده روح نام انت دلوقتي وانا لما يطلع علينا صبح هتكلم معاها "
أحكَمت " سمر " أغلاَق بَاب غُرفتها ، ثم طَالعت نَفسها فِي المِرآه ، ارتَفع ثِغرها فِي ابتِسامه وهي تَشرد بِما أخبرها بِه " أنس" حِين لاَحظ كُل تَفصيله بِها ، وكَم أنَ فُستانها الزَيتي بِحبال تَشتد عَلى الأكتَاف مُطرز بِدانتيل أبيض ڤيكتوري قَد لاَق بِها
وبِثنايا جَسدها ، ظل يُخبرها بِأنه لَطالما لاَق بِها الزَيتي وَكانت أَكثر فَتاه مُلائمه لهُ ، ارتَفع ثِغرها فِي ابتِسامه وَما كَادت أَن تُغير مَلابسِها حَتى سَمعت صَوت الحَاسوب المَحمول الخَاص بِها يَرن
تَقدمت نَحوه مُسرعه حِين عَلمت هوية المُتصل
وَقد كَان خَطيبها " هاشم " فَتحت مُكالمة الڤيديو
وَبدأت بِقول
" هاشم ازيك "
قَلب عَينُه بِنفاذ صَبر وَقد طَالع سَاعة يَدُه
" كل ده في الفرح مع الست امك ياسمر "
أَومَأت بِخفه لِتبتلع رِيقها بِتوتر ثُم رَدت وَهي تُطالعُه بِشىء مِن الخَوف
" اهدى بس ياحبيبي حصل ايه لكل ده "
ضَغط عَلى فَكُه وَكَأنه مَر بِضغطٍ مَهول
" أيه البرود اللي فيكي ده ، أنتِ مش واخده بالك من الساعه ولا ايه ، وبعدين ايه الفستان المقرف اللي انتِ لابساه ده قولتلك الف مره اللون الزيتي عليكي يقرف "
تَحدث بِنبره رَاكده وَقد نَقل نَظره نَحو جَسدها
" أنتِ كسرتي الريچيم ياسمر "
نَفت تَهز رَأسها وَبسرعه
"ل..لاء "
انا حاسس انك رجعتي تتخني تاني ، اوعي تكوني رجعتي تاكلي تاني زي البهيمه "
ارتجفت شَفَتاها، وانحبست دمعتُها على حافَة جَفنٍ مُرهَق، كَمَن يَختبئُ من وَجعٍ قديم اعتاده
رَمق هُو دموعَها التي تَأبى أَن تَنزل ثُم تَنهد يَائسًا
يُخبرها بِنبره هَادئه عَن قَبل
" سمر .. سمر بصيلي "
رَفعت نَظرها تُطالعه بِأهتمام
" انا ممكن تكون طريقتي قاسيه معاكي شويه ، بس انا مش عايزك ترجعي لنقطة الصفر تاني ، احنا ما صدقنا ياحبيبي ، افتكري شكلك كان عامل ازاي وانتِ تخينه الأول والكل كان بيتريق عليكي ومحدش كان بيرضى يصاحبك صح ياسمر "
مَسحت دَمعه سَاخنه نَزلت دُون أن تَسمح لَها تَهز رَأسها بِالموافقه
" صح.."
رَمقها بنظره ثَابته، يَستند بِظهره للخَلف، وصَوتُه يَنساب بِهدوءٍ مَقيت يُلقي حِقيقة لا تُناقَش
"سمر.. قوليلي، لولايا إنتِ كنتي هتعملي إيه"
ارتبكت أَجفانُها وتَحشرجَت أنفاسُها، فَلم تَجد إلا أن تُطأطئ رَأسها هَامسه
"ما.. كنتش هعمل حاجه"
أرخَى كَتفيه ثُم عاود بسُؤالٍ يَحمل ذات النَبره القاطِعة
"كنتي هتفضلي البنت اللي محدش كان بيرضى يبص في وشها في الكليه من كتر تخنها ، مش كده"
ارتجفَت شَفَتاها وأومأت بِأستسلام
"أيوه"
قَطع نَظره عَليها مُتابعًا ببطءٍ مَقصود
"مين كان هيحبك وإنتِ كده؟
مين أصلًا كان هيهتم إنك موجودة؟
مش كنتي ضايعة قبل ما أدخل حياتك؟"
جَرت عَلى عينيها دَمعه أَبت أن تَسقط، حَركت رَأسها في إيماءه
"ايوه كنت.. ضايعه"
مَال للأمام يُطالعُها بثِقه، يَتلاعب بِنبرته بِحنان
"ومين يا سمر ادالك القيمه دي؟
مين خلّى الناس تحترمك ويبصولِك بطريقة غير الأول؟
مين حبك بجد، ووقف جنبك لما الكل كان بيضحك عليكي"
تَعلقت عيناها بهِ، تَسقط في شِراكه، وتَرد كَطفلة تُلقّن جَوابًا حَفِظته
"انت.."
ارتَسمَت على ثَغره ابتسامه خَفيفه، بَعدما انتزع الاعتراف الذي أرادَه، ثُم هَمَس بِحبٍ مُغشوشٍ يَخفي سُموماً كثيرة
"عارفه ليه بعمل كده معاكِ
عشان بحبك، ومش عايزك ترجعي تضيعي تاني"
أشَار لَها بِعينيه عَلى فُستانها بِقول
"قومي يلا اقلعي الفستان المقرف ده وماتلبسيش اللون ده تاني ، واعملي حسابك مافيش اكل من دلوقتي لحد بكره بالليل اتفقنا ياحبيبي "
أَومَات لهُ بِأنصياعٍ كَامل
" اضحكي بقى عشان خاطري "
مَسَحت دَموعَها بكَفّها الصغير، ارْتَسمَت على ثَغرِها ابْتسامةٌ باهتة، كأنّها تُصدّق أنّ كلَّ ما قالَه حَقّ.
أومَأت لهُ بِرضوخٍ صامت، تُخادِع قلبَها بأنّه كان مُحِقًّا، وتُقنِع نفسَها أنّها لولاه ما كان لأَحدٍ أن يراها.
.. .. .. .. 🍁. .. .. .. ..
لَيس كُل مَا يَتمناه المَرء يُدركه هَذا مَا كَان "مصطفى" عَلى يَقين مِنهُ وَهو يُطالع وَالد"حبيبه"
الذِي تَشنفُه بِنظره قَاسيه لِيتجاوزهُ دُون أَن يِوليِه أهتِمامًا قَائلاً
"شايف انك المره دي مش جاي لوحدك يامصطفى"
أَنتقل بِبصرُه الى "أمنه" وَمنحها ابتِسامه
" اهلاً وسهلاً .. اتفضلي اقعدي واقفه ليه "
مَنحها أبتِسامه أُخرى كَأنَما يَنتظر رَدة فِعلها لُتجيب بِأيماءه بَسيطه
" متشكره اوي "
حَركت عَجلات كُرسي شَقيقها أمَامها مُتجهه نَحو الأَريكه ، اقتَرب مِنها " موسى " وَقد صَافح يَدها الرَقيقه
" انا موسى اخو حبيبه "
اختَفت ابتِسامتها وَقد لَمح بَريقًا غَريبًا فِي عيِنيها حيِن لَمس يَديها هَامسه لِنفسها
" لِماذا يُطوقني هَذا الاحسَاس وَكأن كَفي تَعرف كَفهُ أَكثر مِني "
ليِستشعر ارتِجافة أَناملها بَين يَديه لِيفصل هُو المُصافحه ، ارتَبكت هَي لَحظه انسِحاب يَدُه ، وَقد قَطب " موسى" حَاجبيِه فِي استغَراب ، انتَبهت هَي لِأستغرابه لِترد فِي شِبه ابتِسامه
" وانا أمنه .."
أَشار لَها بِكفه لِلجلوس ، لِتجد الخَادمه تَطلب الأذن بِالدخول مِن الخَارج فَتحركت اعيُنهم نَاحية البَاب وَهو يَفتح ، جَرت عَجلة الشَاي أمَامهم لِتوزع عَليهم الأَكواب وانصَرفت بِهدوء
تَلمست " أمنه " القدح وَنظرها مُعلق عَلى زَخارفه
لاَ تَعلم مَاذا تَقول ، رُبما مِن الأفضَل أن تَبقى صَامته لِكي يَتشجع " مصطفى " عَلى الحَديث
ارتَشف " مصطفى " مِن قِدحُه لِيتنهد فِي ثُقل وَكأن ثُقل العَالم كُله هَبط عَلى مَنكبيه
" ياعمي انا عارف ان دي مش اول مره اني اجي
واطلب ايد حبيبه "
بَلل حَلقُه بِأرتباك لِيتكأ عَلى ذِراع الكُرسي
" بس المره دي ، المره دي انا شايف ان الوضع اتغير "
" وايه اللي غيره المره دي يامصطفى "
هَكذا سَأله " سالم " ثُم مَرر " مصطفى " بَصرُه عَلى الجَميع "موسى " و "حبيبه" وَأخيراً " امنه " طَالبًا لِلمساعده مِن تَوسلات عَينيه ، إلى كُل وَجهٍ يُطاله وَقد لاَحظ "موسى" مَدى تَوتره وَهو يُحاول تَفسير مَا بِداخله لِيكمل هُو حَديثه
" ان احنا معاه يا بابا ، وافتكر ان انا وانت اتكلمنا في موضوع مصطفى وحبيبه من شويه واتفقنا على كل حاجه خلاص "
طَالعهُ وَالدهُ بِحاجب مَرفوع وَابتسامه سَاخره
" وعشان انا ماشي على اتفقنا اللي اتفقناه عليه من شويه يا موسى رضيت اقعد معاه ونتكلم "
اخَتفت ابتِسامة "سالم" السَاخره لِيستدير نَحو
" مصطفى" بِملامح حَانقه ثُم أَعقب
" افتكر يا مصطفى ان انا كل مره ما بحاولش حتى اسمعلك ولا اديك فرصه واتفاقي مع موسى بس هو اللي مخليك لسه قاعد قدامي دلوقت "
قَبضت " امنه " عَلى مِقبض القِدح لِشعورها بِالأهانة لِشقيقها
" سُحقًا لَك "
تَمتمت بِها " امنه " بِصوتٍ خَفيض وَهي تَضع القِدح عَلى الطَاوله لِيدير " سالم " جَسدُه نَحوها سَائلاً
" بتقولي حاجه يا انسه "
اخَتطفت عَيناها نَظره سَريعه نَحو " موسى " لِتجده يَبتسم بَسمه جَانبيه ومِن الوَاضح أن أُذنه قَد التَقطت بِما تَفوهت بِه مِن تُرهات أشَاحت بِبصرها عَنهُ ثُم حَاولت أَن تَتماسك مِن أَجل شَقيقها عَلى أَمل أَن يُغير والد " حبيبه " رَأيهُ بِأمر زَواجهما تُتمتم بِداخلها
" هَذا لَيس وَقتي لِأدافع عَن كِبريائي مصطفى لَيس بِخير عَلي أن أَفعل شَيئًا لِأنتشله مِن حُزنه
فَكري يا أمنه فكري "
لِتجد نَفسها تَخبرُه بِعكس مَا تُريد نُطقه
" انا طبعًا مقدره ان حضرتك خايف على حبيبه
ومن حقك تضمنلها مستقبلها واحنا هنا جايين هنا عشان نضمن لحضرتك ده "
أقتَرن حَاجبيه فِي حِيره
" ازاي .. كلميني بالأرقام ..عشان نقدر نتفاهم "
تَحرك نَحو " مصطفى " وَما زال نَظره مِصوباً عَليها
" انتَ يامصطفى راجل ما بتعرفش تقوم من مكانك ..هتحمي بنتي ازاي لو حصلها حاجه "
رَدت "حبيبه" مَذهوله مِما سمعت
"بابا.. ارجوك "
"اخرسي"
اتَاها رَده حَازم يَمنعها عَن الكَلام ، يِوجه بَصره نَاحيته مَره أُخرى
" بلاش دي ، طيب انا بنتي متعوده تعيش عيشه مرفهه ، انت هتوفرلها ده ازاي بعد ما اهل ابوك ضحكوا عليك وخلوك تتنازل عن ورثك"
كَانت أَنفاسُ " مصطفى " المُتسارعه هُو كُل مَا يُمكن لِ "أمنه " سَماعُه بَينما هِي كَانت مَذهوله وَصامته تُحاول أن تَتمسك بِرباطة جَأشها لِأخر لَحظه حَتى لاَ تفسد الزِيجه لِتجد شَقيقها يَتحدث
" انا عارف ان حضرتك مش شايفني اساساً ، شايف اني مابقاش ليا لازمه زي الكرسي المكسور
او حتى زي الشمعه المطفيه لا بتنور ولا ليها لازمه"
تَوقف عَن الحَديث يَطلق ضِحكه شَامته بِنفسه
" بس ده مش بأيدي ، كل اللي حصلي مش بأيدي روح اسأل اللي خلانا نعمل حادثه وخلاني قعيد على كرسي ما بيتحركش وابقى ضعيف مذلول لأهل ابويا ولأي حد "
اتَسعت مِقلتاي " امنه " لِنهاية كَلامُه سؤَاله هَذا كَان كَالصفعه لَها وَكَأنه قَد رَش المَلح عَلى الجَرح فِي دَاخلها
" وكلامك ده بقى اللي ضحكت بي على بنتي عشان تشفق عليك وتحبك "
قَبضت " امنه " عَلى مِقبض القِدح لِتشعر بِشىٍء رَطب يَسيل عَلى وِجنتيها لَكنها مَسحتها بسِرعه خَشيا أَن يَراها أَحد وَتتلقى مِنهم الشَفقه
" استاذ سالم "
تَمتمت فِي تَردد بَينما نَظره لَا يَزال مُصوبًا عَلى "مصطفى " وَكأنه لَم يَسمعها لِتدير جَسدها نَحو شَقيقها وَقد تَشجعت لِتضع يَدها عَلى كَتفه
حِينها طَالعها شَقيقها بِمقلتيه اللتان رَأت بِهم العَجز
وَقد تَضايقت لِرؤيتهُ مَهزومًا ، حَاولت أن تَفصح عَن مَا بِداخلها وَلكنه طَالعها بِنظره رَاجيه أن لاَ تتحدث بِشىء قَد يَفسد الزِيجه
" ارجوكي يا امنه بلاش تضايقيه ، مش عايز الجوازه تبوظ "
مَال عَليها هَامساً بِكلماته الراجِيه ، اطبَقت شَفتاها لِيعود الصَمت مُجدداً هَامسه لِنفسها
"ولكن تبًا ، فهناك غصّة غامضة في أعماقي، تتنازعني لتنفجر، حشدٌ من الكلمات المتراكمة، وأفكار تتدافع بلا انقطاع"
ارتَشفت ما تبقّى في القِدح دُفعة وَاحدة، لَعل مرارتهُ تُخفي ارتبَاكها ، لِتظل تَهمس لِنفسها
" قولي شيئًا...
اصمتي...
تكلمي...
لا تنطقي...
قولي شيئًا
كَأن الكَون بِأسره يَتآمر ليُحثني عَلى الحَديث، بَينما "مصطفى" يُريدني أن اَلوذ بِالصمت، غارقًا في طقوُس حُزنه أمَام هَذا المُتغطرس، جالسًا كتمثال "أبراهام لنكولن" فِي عَرشه الحَجري
هبَت " امنه " واقفة، لِتجد نَفسها تَقول بصوتٍ عالٍ
" حسنًا لاَ استطيِع البَقاء صَامته وَكبح نَفسي عَن الحَديث أَكثر مِن ذَلك ، لذا اعذرني يا "مصطفى" وآسفة لأذنيك سَيد "سالم " اللتان ستسمعان كلامًا كثيرًا باللغه العربيه الفصحى لأنها اللغه الوحيده التي استطيع من خلالها الأفصاح عَما بِداخلي حَتى وأن كَان حَديثي بطول الجرائد الصباحية التي لم ولن تقرأها على الإفطار يَوماً طَالما سَتظل عَقليتك هَكذا ، تُحسبها بِالأرقام فَقط لاَ بِالمشاعر "
اخذت نفسًا بعدما تَحولت الأنظار اليها بِصدمه وَقد بَدت مُرتبكه بَعدما انفَجرت بِهذا الشَكل دُون سَابق أنذَار ، وَقبل أَن يَنطق أَحداً بِحرف استَرسلت
تَستدير نَحو شَقيقها خَشيه أَن يُقاطعها اَحد
" مصطفى ..من الغبي الذي قال لك إنك فقدت قيمتك
الشمعة وإن انطفأت، لا تفقد حقيقتها، فهي تنتظر قبسًا يعيد إليها نورها
والكرسي وإن انكسر، يذكّرنا أن الثبات هشّ، وأن حتى ما نظنه آمن قد يخوننا
أتدري؟ ربما كنتَ أنت الشمعة التي ستضيء قلبًا مظلمًا، والدرس الذي يحمي أحدهم من سقوطٍ أعظم "
" ا..امنه ، اهدي ارجوكي "
كَان هَذا طَلب " مصطفى " لِتصيح " امنه " بِنبره مُرتفعه عَن ذي قَبل
" لا تقاطعني ! "
تَوقفت تُحاول التقَاط أَنفاسها بَينما "سالم" لَم يَطرف بِعينيه حَتى بَل بَقى يُطالعها فِي تَشتت واضطَراب
"وإذا كانت لغتك الوحيدة ياسيد سالم هي الأرقام لا المودّة والرحمة والحب ، فأعلم أن الأرقام بين يديّ أنا أيضًا ، فإن كان أخي قد تنازل عن إرثه، فأنا لم أتنازل، وأرثي كله ما زال قائمًا يَنتظرني فَقط لِلمطالبه بِه وَحين أحصل عَليه سأتنازل عَنه لِأخي بِكل بَساطه هَكذا "
كَانت أَنفاسها المُتسارعه هُو كُل مَا يُمكن لـ "موسى" سَماعُه بَينما هُو كَان مَذهولاً وَصامتًا رُبما لِكثرة كَلامها الذِي القَتهُ عَلى والدهُ كَسيلٍ مِن المَطر ، او رُبما لِأعجابه بِجرأتها تِلك
هَدأت " امنه" بَعدما أطلَقت تِلك الكَلمات أَخيراً ، ثُم جَعذت حَاجبيها بِتقطيبه مُشوشه لِأقترابُ "سالم" مِنها وَسماعه وَهو يَقول
" وهتحصلي على ورثك امتى ان شاء الله ، اديني وقت معين ورقم عشان احدد اذا كنت هوافق على الجوازه دي ولا مش هتيجي من وراها فايده"
اقتَرن حَاجبي " موسى" فِي ضِيق وَفكه مُتصلب وَقد وَقف بِوجهه فَور أَن تَفوه بِطلبُه هَذا
" ده بجد !! انت عايزاها تديك سعر لبنتك هي جوازه ولا شروه ، انا كنت فاكر انك مش موافق علشان خايف عليها وبتحميها ، زي اي اب ، بيخاف على بنته وعلى مصلحتها "
"انا عارف مصلحة بنتي كويس ، مش هتيجي انت وتعرفني "
" بس انتَ عمرك مافكرت في مصلحتها في يوم واللي زيك ما بيهمهوش عياله اللي من صلبه اهم حاجه الفلوس ومصلحتك وبس ، واقف تبيع وتشتري فيها وعايز تقبض سعرها "
طَالعهُ " سالم " وَقد بَدا القَلق وَاضحًا عَليه
" موسى خللي بالك على كلامك وافتكر انك بتكلم ابوك "
دَعك " موسى" صِدغيه مِن عَاصفة الأَفكار التَي بَعثرت أثَاث عَقله تَحدث دُون أَن يَعي عَواقب حَديثُه يَضغط عَلى فَكُه الذيِ كَاد أَن يُكسر مِن شِدة الضَغط
" ودي المصيبه اللي مش عارف اخلص منها ، انت لعنه وحطت علينا كلنا "
"موسى ، كفايه "
لَم يَهتم لِطلب شَقيقتُه بَل تقدّم "موسى" نحوه بخطواتٍ بَطيئه فتراجع "والده" خطوةً وقد احتل القَلق مَلامحُه
" أي حركة متهوره منك لو طلعت ياموسى ، أنت عارف مين اول واحد هيتأذي ، لو عايزها تبات في قبرها النهارده اتحرك خطوه تانيه ياموسى "
نَقر "موسى" صَدر "والده" بحدّةٍ فِيما تَتسارع أَنفاسُه
" دايمًا بتهددني بيها ، هي الكارت الكسبان اللي كل ماتخسر تطلعه عشان تقش بي من جديد ، لو مكانتش هي موجوده كنت زماني اخدت حبيبه ومشيت من زمان ، بس قبل ما امشي كنت دفنتك هنا وانت واقف "
كَانت "حبيبة" تَشد بِِيدها ذِراعه في محاولةٍ يَائسة لجرّه إلىَ الوَراء
" موسى عشان خاطري أهدى ، ماتتهورش ، ماتقولش كلام تخلينا نندم عليه بعدين انت عارف هو ممكن يعمل معانا انا وانت ايه ويقدر يأذينا فيها ازاي "
لَم تَعي " حبييه " عَلى نَبرتها التِي أَضحت أَكثر انكِساراً وَلا عِباراتها التِي أتَخذت طَريقًا لعُنقها حَتى وَجهها أَضحى مُحمراً
التَفت اليِها "موسى" والأدرينالين يَزيد مِن هَيجان عَاصفتُه خَشيه عَليها ، لِيحاول كَبت غَضبُه يُطالعها بِنظرات هَادئه وَكانت هَي تَتطلع مِنه أن يَحميها كَما يَفعل دَومًا
لَم تَهدأ إلا عَلى يَداه اليُمنى التَي أَضحت تِطوقها كَأنها الغَريقه وَهو حَبل النَجاه ، يطبع قُبله عَلى جَبهتها بِحنان قَائلاً
" ماتخافيش ياحبيبه انا هديت خلاص "
ابتَسمت " امنه " عَلى علاقة الشقِيقان وَطريقة مُعاملته لشَقيقتهُ الصُغرى كَيف لَه أن يَرسم بَسمه مُزيفه بِهذه البَراعه ليِشعرها فَقط بِالأمان
اتجَه نَاحية البَاب لِيَهم بِالخروج وَما أن وَضع كَف يَدُه عَلى المِقبض جَاء صَوت " والدُه" مِن الخَلف وَهو يَقول
" اعمل حسابك لو مانفذتش اتفاقنا اللي اتفقنا عليه مافيش جواز حتى لو امنه رجعت ورثها "
اَخذ " موسى " نَفساً عَميقٍ صَافعاً البَاب خَلفُه ، بَينما
" حبيبه " وَقفت تَتسائل بِداخلها عَن اتفَاقهما مَعاً
ثُم تَحدث "سالم " يِوجه حَديثه لـ "امنه"
" قدامك شهر ، لو معرفتيش ترجعي ورثك وتكتبيه كله باسم مصطفى ، وقتها مش عايز اشوف وش اخوكي هنا تاني واعرفي ان حبيبه هيتكتب كتابها على غيره ، المقابله انتهت "
رَحل "سالم" بِخطواتٍ بطيئة، يَخلّف وَراءه صمتًا أشَد وقعًا مِن كلماتُه، صمتًا يَشبه اليَقين بِالفقد.
.. .. .. .. 🍁. .. .. .. ..
السَقف ..عَينا " حبيبه" تَرمش بِوهن مُنذ سَاعتين نَحوه ، مُستلقيه عَلى السِرير ويَداها عَلى احشائها ، لاَ تَفعل شَيئاً سِوى التَفكير وَمشاهدة السَقف بِنقوشاته المُزخرفه ، تُحاول أبعَاد تِلك الأفكَار المُوحشه وَمنعها مِن التَسلل الىَ عَقلها ، شَددت بِيديها عَلى الغِطاء لِتحشُر رَأسها فِي الوِسَاده تَتقلب يُمنه ويَسارها دُون جَدوى
" موسى "
أَجابها وَهو يَقترب مِنها بِجلوسه عَلى طَرف السِرير
" لسه منمتيش ياحبيبه "
"مش جايلي نوم .. مش عارفه انام بعد اللي حصل من ابوك النهارده في الحفله ، انا خايفه اوي ياموسى"
كَانت نَبرتها تَحمل أَسَى وَخوف حَقيقي ، لِيعقب بَعدها بِتنهيدة تَعب
" كده تخافي وانا معاكي "
"بس انا مش خايفه على نفسي انا خايفه عليك انتَ ، ياترى ايه الطلب المره دي اللي طلبه منك ياموسى علشان يوافق على جوازي من مصطفى "
لَمح دِموعها السَاخنه عَلى وِجنتيها لِتعقب
"ياترى هتعمله ايه تاني عشان نتقي شره المره دي مش كفايه اخر مره "
شَهقاتها تَأذيه وَدموعها تَحرقُه ، ابتَسم بِعينين اكتَسبت دِفئًا خَاصًا مَليئاً بِخليط المَاضي وَعبير الطفوُله وَعبق الحُب النَظيف ، يَمسح دِموعها مِن عَلى وِجنتيها بِرفق
" هــــــوش ، ماتفكريش في اي حاجه ياحبيبه "
اعتَدل بِجلستُه وأسنَد ظَهره لِلخلف لِتتنحى هَي جَانبًا حَتى يَأخذ رَاحتُه بِالجلوس ، رَفع يَدهُ اليُمنى يطوقها اليِه ، لَقد كَان يَحكم عِناقها وَكأنها سَتتسرب مِن بَين يَديه
" فاكره ياحبيبه واحنا صغيرين اليوم اللي كنا فيه في اسكندريه واخونا هارون الله يرحمه كان معانا وامي كانت لسه على طبيعتها ومكانتش زي دلوقتي "
أَومَأت بِرأسها دَلاله عَلى تَذكرُه وَهتف هُو
"امنا وقتها ندهت على هارون عشان تديله السندوتشات وهو طلع من المايه وسابك ورحلها وانا كنت يادوب قاعد على الشط مابعرفش اعوم وبخاف من المايه اوي اخري ابلل رجلي مش اكتر"
ابتَسمت بِأتساع لِتضرب صَدرُه بِخفه ويُمناه تُكفف دمُوعها
" ايوه يابارد ، وانا كنت بقعد اقولك ما تسبنيش مع هارون الله يرحمه لوحدي ، عشان بيقعد يغرقني ويرش عليا مايه كتير "
طَالعها بِنظرات هَادئه وَهي مَازالت بِداخل أَحضانُه
" اليوم ده عمره ما هيتمسح من قلبي كنت مضطر اسيبك معاه ، كنت بخاف ، بس كانت عيني عليكي
فَجأه الموج خَطفك مِن عيني ، كُنتِ بتتخبطي في المايه وهارون كَان طلع عشان يفطر وكنا الصبح بدري ومكانش في ناس كتير لسه نزلت الشط ، لما شوفتك بتغرقي قلبي كان بيغرق معاكي وقتها عقلي اتشل ، ونزلت المايه زي المجنون كل اللي شايفه ايدك وانتِ بتغرقي قدامي ، مسكت إيدك، والموج شدّنا لتحت، بس والله حسّيت ساعتها إن الموت وهو ماسك إيدك أهون عليا من الحياة من غيرك ، معرفش وقتها طلعتك ازاي ولا هو ايه اللي حصل ، وازاي ايدي بقت تتحرك وتعوم ، ممكن لو كنت لوحدي وانتِ مش معايا كنت غرقت ، ومن لحظتها عرفت انا ايه اللي خلاني اقاوم واطبش في المايه واعوم واعمل كل اللي اقدر عليه عشان تعيشي ياحبيبه ، ووقتها بقيت عارف إنك مش أختي وبس، إنتِ عمري كله طول ما أنا عايش... إيدك في إيدي، والموج لو قام علينا ألف مرّة... أنا اللي أغرق، وإنتِ تطلعي"
لَم تَعي عَلى يَدها التي أَضحت تِطوقهُ أَكثر كَأنها كَأس عَلى وَشك الأنكِسار وَهو يُحاول جَاهداً عَدم إفلاتُه
" ايوه يا موسى بس اللي انتَ قولته ده خلاني اعيط اكتر "
تَحدثت بِتذمُر تُقرب مَعصمُه مِن أنفَها تَمسح دِموعها بِكمُه ، انتَشل مِعصمُه مِن يَدها ، فَكمُه لَيس مِلكيه عَامه حَتى يَستقبل هَذا الكَم مِن القَذاره وَمُخاط الأَنف يَهتف مُشمئزاً
" انتِ يابت مقرفه زي أنس ، حد قالك ان كمي كان مناديل بيتكم "
ابتَسمت بِاتساع وَقد بَان عَلى تَقاسيمها الرِضا
" ما انا مش لاقيه مناديل ياموسى ، واسكت بقى شويه خليني انام "
مَالت تَستند بِرأسها عَلى صَدره ، يَتسلل اليِها حَنانهُ بِدفء ، كَان بِالنسبه لَها سَنداً لاَ يَميل ، اشتَد عِناقُه ليُحرك يَدهُ عَلى رَأسها وَكم كَان هَذا مُهدأ لَها ، لاَ أحد يَدرك أنَها تَهدأ عِند العَبث بِشعرها سِوى "موسى " فَهو مَرهم لَها مِن نوعٍ خَاص
مَالت تَستند بِرأسها عَلى صَدره ، يَتسلل اليِها حَنانهُ بِدفء ، كَان بِالنسبه لَها سَنداً لاَ يَميل ، اشتَد عِناقُه ليُحرك يَدهُ عَلى رَأسها وَكم كَان هَذا مُهدأ لَها ، لاَ أحد يَدرك أنَها تَهدأ عِند العَبث بِشعرها سِوى "موسى " فَهو مَرهم لَها مِن نوعٍ خَاص
انتَظر هِو حَتى تَأكد مِن أنهَا قَد غَاصت بِنومٍ عَميق
انسَحب مِن جِوارها كَظل يَتوارى يَغلق البَاب خَلفُه بِحذر ، هَبط الدَرج مُسرعًا يَرتدي سُترته السَوداء لَكن خَطواته ارتَطمت بِجسد "روز" زَوجة أَبيه مُترنحه تَحت وَطأة الشَراب تَتشبث بِطرابزين الدَرج ، تَجاهلها يَخطو نَاحية اليَسار لِتخطو مَعهُ قَائله بِتقطع
" موسى ، ايه ده اخيراً ظهرت "
القَت بِجسدها عَليِه ، تَطوق رَقبتُه بذِراعيها
"كده ما تقطعش معايا كيكة عيد ميلادي "
أشَاح بَوجهه عَنها، يَفك قَبضتها بِبرود، وَزفرة مُختنقة بالاشمِئزاز تَسللت مِن صدرُه مَع رَائحة فَمها
" ابعدي عن طريقي ياروز احسنلك ، وبلاش تعملي حركاتك دي عليا ، أنتِ لو شربتي المحيط مش هتسكري ، اللي زيك زي التعالب تنام بعين وتصحى بالتانيه "
وَقفت مُستقيمه رَافعه حَاجبيها بَعدما تَغيرت نَظرتها بِنظره أُخرى
" انت بتعمل معايا كده ليه ياموسى "
تَركها يَخبرها وَهو يَهبط الدَرج بِنبره عَاليه
" علشان انا مش هو ، ومشكلتك انك عايزاني ابقى نسخه منه "
أخبَرتُه وَهي تَراه يَفتح بَاب القَصر بِصوتٍ بَان بِه عَصبيتها
" كده، طيب ياموسى ، لو انتَ فعلاً مش زيه يبقى مش هتعرف تنفذ اللي ابوك طلبه منك ، وارهنك هتنفذه "
ازدَادت الحِده بِنبرتها
" وكله عشان خاطر عيون حبيبه والست امك اللي مش معبراك ، وبتكرهك عارف يعني ايه بتكرهك "
صَفَع "موسى" البَاب خَلفه بِقوه عِند نِهاية حَديثها يُفرغ ما تَبقّى في صَدره مِن صَبر، وانحَدَر بخُطوات مُتسارعة نَحو دَرّاجته ، لم يَكن يَعرف إلى أَين يُقيدُه الطّريق، كُل ما أَراده أن يَبتعد
وَأن يَخلع عن صَدره ثِقَل ذَلك المكان الّذي يَضيق عَليه كَقفص ضَاق بِأجنحة طَائر
.. .. .. .. 🍁 .. .. .. ..
يا ليتني أملك من العمر بقية تكفيني لأردَّ لمصطفى شيئًا مما فقد ، لكن أيّام المرء تُساق كما تُساق الريحُ بين أطراف الغيم، وأنا على يقين أن ما تبقّى لي أقل مما مضى
أفكّر كثيرًا لمن أتركه؟
مَن سيمد له يدًا حين تنوء به وحدته؟
لم تَأتي يا "آمنة" منذ أعوامٍ طوال، وما زلت أرجو أن تعودي إليه، لأنه بلاكي غريبٌ في دنياه، وأنا بِحُكم سِني سُأغادر قبله فَهذه هي سُنة الحَياه ليبقى هو بلا سند، يتيمًا مرتين .. مرة في موت والداه، ومرة في غيابك
أَمنه يا ابنتي، لستِ تدركين كم يحتاج إليكِ، ولا تعلمين أن قلبه الضعيف يتكأ عليك كما يتكأ الأعمى على عكازه
سامحيني إن خطَّ قلمي ما لم يجرؤ لساني على قوله، لكنني رجلٌ أنهكته السنين، وأدرك أن الحروف آخر ما تبقّى لي من الحياة، وما تبقى لي غَير هَذا الحبر أقاوم بِه الفَناء"
أَغلق " جِد مُصطفى " دَفترُه الأَصفر القَديم الذِي قَد دَون فِيه كَلماتُه حَالما سَمع صَوت طَرق عَلى البَاب حَيثُ استَقام مِن عَلى الكُرسي يَخفي دَفترُه وَهو يَتوجه لِفتحُه
" اسف ياجدي اني صحيتك من نومك ، بس الظاهر اني نسيت اخد معايا مفتاحي "
قَابل " الجد " اعتِذارت " مصطفى " بِرقرقه فِي عِينيه حِينَ رَأى " أمنه " تَدفع عَجلات شَقيقها لِلدخول ، ابتَسمت " امنه" نَحوه لِيطرف عَينهُ
لِيفَاجأها بِمُعانقته لَها تَشد عَليها بِقوه
" امنه ، حبيبتي انتِ جيتي من السفر امتى "
أَشَار "الجد" بِسُبابتُه خَلفه بِيدٍ مُرتعشه
" انا ، انا كنت لسه بكتبلك جواب عشان ترجعي من غربتك وتبقي مع مصطفى "
اجتَاح " امنه" الاستِغراب لَحديثُه وَلضمها هَكذا وَكأنهُ لَم يَراها مُنذ أَعوام عَلى الرَغم مِن غِيابهُا عَنه فَقط بِضع سَاعات ، فَصل " الجِد " العِناق يَبحث بِعينيه خَلفها
" امنه فين شنطك ، انتِ مش ناويه تقعدي معانا "
أَطلق " مصطفى " تَنهيده مُستاءه يُحرك عَجلاتُه نَاحية الدَرج لِيخرج عُلبة الدَواء مِن دَاخلها نَابسًا
" جدي انتَ اخدت الدوا بتاعك النهارده "
ابتِسامة " الجد " تَلاشت حَالما خَتم " مُصطفى " كَلماتُه لِيدرك أنهُ قَد نَسي أمر حَفيدتهُ وَانها هُنا بِالفعل
" تعالى معايا ياجدي "
امسَكت " امنه " بيِدهُ ليَتكأ عَليها ، تَوجهت نَاحية غُرفته تَغلق البَاب خَلفها تُساعده فِي الأستلقَاء عَلى السرير ثُم أتَت لهُ بِكوب مِن المَاء البَارد
" اتفضل ياجدي الدوا بتاعك "
رَفع بِمقلتِيه نَحوها وَقد بَدا مُتردداً وَحائراً ، لِتكمل كَلماتها
" لازم تاخد الدوا ياجدو علشان تبقى احسن "
أَومأ فِي ابتِسامه لِينصاع لَها ، يتَناول مِن يِديها حَبة الدَواء بِأصابع مُرتجفه ، لِتناوله بَعض المَاء
طَالع القَلق فِي عِينيها لِيُربت عَلى مَنكبيها بِقول
" ماتقلقيش انا مش ناسي الوعد اللي وعدتك بي
انا هاخدك معايا بكره المكتبه بتاعتي ونفتحها وتقري فيها زي ما انتِ عايزه ، مش هقولك لاء
الناس اصلها مابقيتش تقرا زي زمان "
شِبه ابتِسامه ظَهرت عَلى شَفتيها مُجبره ، والدمُوع تَملىء مِقلتيها ، تَجبرهما عَلى عَدم النِزول ، تَدثر
"الجِد " دَاخل فِراشُه
" ارتاح دلوقتي ياجدو ، انت تعبان ، بكره ان شاء الله هنعمل اللي انت عايزه "
انتَظرت بِجواره حَتى أغمَض عِيناه ثُم اتَكأت عَلى طَرف السِرير تَغوص بِمقلتيها بِين ثَنايا وَجهه هَامسه لِنفسها
" يا الله ، كيف مضي العمر بِجدي هَكذا
يُسقط عَقله ما حمله من صورٍ وصوتٍ وروائح، كما لو أنّ ذاكرته تُعاني نزيفًا لا يتوقف
أول لحظة خفق فيها القلب عند رؤية أحفاده أو أوّل انبهار بضوء العالم وألوانه، أو حتى وقع المطر على النوافذ ، كيف يمحى كل هذا من ذكرياتُه
أيعني خفوت العقل موت القلب؟ وهل الغياب عن التذكر خيانة للحياة ذاتها؟
غياب الذاكرة موتٌ يتسلل بلا نعشٍ ولا قبر
لكنه موتٌ بطيء، يجعلنا نشعر أن كلّ ما عشناه لم يكن يومًا لنا
كيف يمكن ان ينسى جدي يوماً ما اسمي او ملامحي ، أو الطَريق الى مَكتبته التي لَطالما قرأ لَنا بِها ، ذلك ليس مجرّد نسيان، إنما اقتلاع للجذور
أليس هذا أقسى ما يُبتلى به إنسان ، أن يخسر كلّ الألوان التي كان يراها في الحياة، أن يتحوّل كيانه إلى ورقةٍ باهتة لا ظلّ لها
نَهضت " امنه" لِتراه قَد نَام بِالفعل . أَغلقت البَاب خَلفها مِتوجهه نَاحية غُرفتها أَلقت بحَقيبة يَدها بِعَشوائيه لِينزلق مَا بِداخلها عَلى الأَرضيه ، شَردت أثناء تَغيير مَلابسها بَين زَحمة أفكَارها لِتتكأ عَلى المَنضده بِجانب النَافذه تَنظر لِلخارج وَلا تَعلم كَيف وَقع نَظرها عَلى موتور يَتحرك بِسرعه كَبيره عَلى الطريق
" أ .. ايه اللي ممكن اقدمهولك قصاد أنك ترجعلي سواري ، لو عايز فلوس انا ممكن اتصرفلك و "
" انا عايز حاجه تانيه قصاده "
" حاجه تانيه "
هَززت رَأسها تَطرد تِلك الذِكرى مِن عَقلها هَاتفه لِنفسها
"لِماذا خُفاش السوُء هَذا يَأتي وَيحشُر نَفسُه فِي عَقلي كَالجرثومه ، لِماذا يَأتي وَيقتحم ذَاكرتي "
لَامست مِعصمها بِيدها الأُخرى تَبتسم بِهدوء
" لابد أنني أَفتقد لِسواري فَبفقدانه كَأنني أفقَد أُمي لِلمره الثَانيه "
شَيء مَا نَقر عَلى زُجاج نَافذتها ، جَعلها تَرجع رَأسها نَحوه لِتجد طَائر اليَمام يَحمل بَين مُنقاره قَشه صَغيره وَقد اتَخذ مِن سُور نَافذتها بَيتٍ لهُ ، ابتَسمت وارتَفعت تَعتدل فِي جَلستها وَثنيت رُكبتاها تَتكأ عَليهما وَقد فَتحت النَافذه عَلى مِصرعيها
أَخرجت رَأسها وَيداها تُداعب رَأس الطَائر الذِي يَحتمي بِها
"رائع هُناك مَن يَحتمي بي فِي هذا العالم "
ابتَسمت تُحادث الطَائر بِنبره هَادئه وَأناملها تَمسح عَلى رَأسه بِبطىء ، لِيقع بَصرها عَلى جَارها الذي يَشعل لِفافة تَبغُه لِتجبرها ذَاكرتها عَلى تَذكر مَا تَتعمد نِسيانُه
" بس انتَ ماقولتش ايه الحاجه التانيه اللي انت عايزاها عشان ترجعلي السوار بتاعي "
أنهَت حَديثها ثُم استَقام لِيتجَاوزها وَقد أَخرج قِداحتُه الفِضيه تِلك ثُم اقتَرب مِن النَافذه يَسدل سَتائرها
" قبل ما اقولك ، حطي في بالك انك لو عرفتي اللي انا عايزه هتنفذيه ، وهعتبرك شريكه واللعبه دي مافيهاش تراجع "
تَحدثت هَي بِنبره خَافته مُستهتره
"شريكه معاك !! انا مش فاهمه ، في ايه بالظبط"
مَع نِهاية سُؤالها لَمحت لَمعه حَاده تَطوي عَن الكَثير بِالأستمتَاع بِعينيه ، أَدركت هَي بَعدها أَن حَديثُهم هَذا سَيكون مُفخخًا بِالألغاز لِذا تَراجعت هَي بِقول
" ولو قولتلك اني خَلاص مش عايزه اعرف "
اعتَدل أَكثر وَقد دَس كَفيه فِي جَيب سِرواله ليُخرج السِوار يَقبض عَليه بَين أَناملُه لِيُكمل وَقد غَير نَظرتُه بِنظره أُخرى
" اعرفي ان السوار بقى ملكي "
تَعالت أَنفاسُها وَطالع هُو عَيناها التِي تَتأرجح بَينه وبَين السِوار فَتحدثت بِنبره هَادئه وَهي تَقضم شَفتيها
" ايوه بس انت كده بتستغل الفرصه "
أعَاد السِوار الىَ دَاخل جَيبه فَأخذ يَفتح قِداحتُه وَيغلقها ولاَ يَزال يَنظُر لَها بِنظرُه مِن تَحت رُموشه الغُرابيه
" وِهي الحياه ايه غير فرص وشوية اختيارات زي بالظبط لعبة الشطرنج واللي يرفض يحرك قطعه هو نفسه بيتحول لقطعه غيره يحركها "
قَطبت مَا بَين حَاجبيها بِأستغرَاب ، ليومَأ هُو بِرأسُه يُكتف سَاعديه بِهدوء ليُعقب
" لكن انا هديكي الاختيار عايزه تبقي مجرد قطعه ولا تبقي انتِ اللي بتلعبي وعشان ابقى عادل معاكي حق الاختلاف هيبقى دايماً مُباح "
اقتَربت مِنهُ وَقد عَقدت يَداها خَلف ظَهرها حَتى تَوقفت قِبالتهُ هَامسه بِداخلها
"هل يمنحني اختيارًا حقًّا... أم يتركني أتوهّم أني أختار "
دفع هُو بِثقله لِيصبح أَمامها فَظهر فَرق الطُول الذِي بَينهُم لَم تَكن قَصيره وَلكنه ُ كَان أطول مِنها يَديه لاَ تَزال مُتكتفه يَرتدي قِناعه وقفازيه الجلديين
"ماذا يقصد بكلمة حق الاختلاف دائمًا سيكون مباح ، هل أراد بها طمأنتي، أم كان يزرع في داخلي بذرة شك جديدة
هل يعني أنّه سيتقبّل اعوجاج آرائي كما هي، أم أنه سيُعيد تشكيلها على هواه حتى يخيّل إليّ أنني مختلفة، بينما أنا أسيرة اختياراته
لا ، لا عَلي الخروج مِن هُنا .. عَليّا الابتِعاد ..
لَكن خَطواته سَبقتها حِين اتَكأ على البَاب يُكتف سَاعديه يُطالعها بِنظرات مُتجمده تَتحدث لُغة الفِراغ لِتهمس بِداخلها
لماذا لا يمد يده بالسوار كما لو أنه لا يزن شيئًا
لا أحد يدرك أن هذا السوار ليس مجرد معدن يلمع... بل هو ذاكرتي، حياتي المختصرة في حلقة صغيرة ، ألا يعلم أنني أتنفّس فيه ملامح من رحلوا ، إنه آخر خيط يربطني بمن غابوا، أنفاسي تخرج منه وتعود إليه، كأنني أستنشق أرواحهم عَبرُه
بِالتأكيد قرأ قيمة السوار في عيني... واكتفى بأن يتركني أغرق في عجزٍ يعرفه"
" هتفضلي ساكته كده كتير "
سَأجاريه وأُغافله لِأخرج مِن هُنا وَكم اتمَنى أن أخرُج وَمعي سِواري
" بتقول ان حق الاختلاف دايماً مُباح ، لو اختلفت معاك هتتقبل اختلافي "
" الاختلاف هيبقى مسموح بأفعالك اللي دايماً هتبقى مربوطه بخطواتي انا "
" أهو يَظنُ أنني رُقعه فِي لعبتُه ، إنّه يهبني اللغة ويأخذ الفعل أيُّ عدلٍ هذا ؟
وإذا صرتُ شريكةً في شروطه، أأكون قد اشتريتُ السِّوار... أم بعته
ومن ذا الذي يربح لعبة كهذه إلّا مَن اخترع قواعدها "
تَحرك نَحوها ليُِتابع وَقد انحَنى صَوبها لِيصبح طولَها بِطوله
" ودلوقتي من غير تفكير كتير ، ايه قرارك ؟ "
رَجفه سَرت عَلى طول ذِراعها فابتلعت رِيقها بِأضطراب مِن نَبرتهُ تِلك ، لِتجد نَفسها تَخبرُه بِصوتٍ مُتردد
"وانا ماقدرش اني اوافق ادخل .. ادخل لعبه انا مش فاهمه قواعدها ، وادي لواحد معرفهوش حق التصرف فيا "
اقتَرب بِخطواته المُتباطئه نَحوها وَمع كُل خَطوه خَطاها كَان خَافقها يَفقد تَوازن نَبضاتُه حَتى تَوقف عَلى مَقربه شَديده مِنها فَأضحى هَمسُه يَصم الأُذن
" يبقى كده انتِ اختارتي وده الاختيار الوحيد اللي هنفذه "
حَبست أَنفاسها دَاخل رِئتيها لِتراهُ يَبتعد عَنها شَيئًا فَشيئاً ، وبين شدّ القلب وعناد العقل، انهَزم الصَمت، فَخرج مِنها الهَمسٌ
"استنى... أنا موافقة"
وَعند هَذه النُقطه قَد ارتَخت خَفقاتها فَهذا اليَوم مِن السَنه كَان عَلى غَير البَاقي
دَفعت رِيحٍ قَويه بِخصُلاتها القَاتمه مِما جَعلها تَفوق مِن شُرودها وَتهَفتت قَطرات المَطر عَلى يَديها وَمازالت أناملها تَمسح عَلى رَأسُ الطَائر بِبطىء ابتَسمت تُحادثهُ بِنبره هَادئه
" ايه رأيك تدخل اوضتي لحد ما المطره تقف .."
سَحبتُه مِن النَافذه بَين كَفيها وَأغلقت السَتائر رَفعت نَظرها نَحو السَاعه الحَائطيه حَيثُ بَندول السَاعه يُسابق الزَمن وَقد حَلت الثانيه صَباحاً بِالفعل
رفرف الطائر بجناحيه ليتملّص من قبضتها، يدور في أرجاء الغرفة بارتباك، فابتسمت وهي تلاحقه ببهجة عابرة، حتى تعثّرت قدماها بثنايا السجاد. انحنت تجمع ما تناثر من حقيبتها أسفل السرير، لكن عينيها وقعتا على ورقة سوداء مطوية بعنايه
مدّت يدها تسحب الورقة السوداء، وما إن انكشفت لها ملامحها المطويّة حتى عرفت هذا الشكل من قبل...
انهُ ذَاتُه ، رأته بين أصابعه وهو يحوّل الورقة العادية إلى تنّين بجناحين قصيرين
انعقد ما بين حاجبيها في حيرة وَهي تَتساءل
"كيف وصلت هذه الورقة إلى هنا؟ ومن أين تسلّلت بين مقتنياتي الصغيرة؟"
اعتَدلت بِجلستها وَهي تتفحّص الطيّات قَائله
"أهي صدفة أن أجد وَرقتُه هُنا ، أم أن الصدف لا مكان لها حين يكون هو اللاعب "
جَلست عَلى طَرف الفِراش تُفتش بَين طَيات الورق رُبما تَجد مِنهُ رِساله او شَيٍء مَا لَكنها لَم تَجد سِوا مُجرد نُقط صَغيره لَم تَفهم معناَها ، لِتزداد اسئلتها
"أي دلالة يُخفيها هذا التنين الورقي؟ وما الذي أراده حين دسّه بين مقتنياتي... أهو اللعبة الذي اراد ان العبها معُه ام انه رساله لا استطيع فك شفراتها بعد "
.. .. .. .. 🍁. .. .. .. ..
وَقف " نوح " يَدس اي شَىء فِي فَمُه يُقابله فِي المَطبخ لِيمنعُه " أنس " نَابسًا
" استنى يابني ما تطفحش دلوقتي هعملكم شوية مكرونه بالجمبري هتاكل صوابعك وراها "
طالعُه " نوح " ولَم يَتوقف عَن المَضغ قَائلاً
" الله اكبر ، ليه هي نجاح بطلع في الروح ولا ايه "
ابتَسم " أنس " يَلتفت نَاحية صَنبور المِياه
" ياشيخ حرام عليك ماتسيب الوليه في حالها "
دَندن "أنس" بنغمةٍ لا يدريها، والابتِسامة تلوّن مَلامِحُه ، أخرَج القَدر ووضعُه عَلى النَار وَكل شَيء حَوله يَرقُص عَلى إيِقاع مزاجهُ الرائَق ، تَحولت الدَندنه الىَ صَفير بِلحن لِعبد الحليم حَافظ
"بكره وبعده .. اللي وعدني هيوفي بوعده " أثنَى جَسدُه يَبحث بَين الأرفُف عَن كِيس البَاستا وَجسدُه يَتمايل مَع النَغمه التِي يَصدرها بِفمُه ، شَعر بِيدٍ وِضعت عَلى مَنكبيه مِن خَلفُه ، ارتَبك الصَفير وَتوقف وجاءه الصَوت مِن خَلفُه
" روح يابني ربنا يروق بالك دايمًا "
التَفت الأثنَان سَريعًا الىَ والدهُما الحَج " نصار " ليِتوقف " نوح " عَن ابتِلاع الطَعام ، ضَم " نصار "
مَا بَين حَاجبيه قَائلاً
" ليه يابني كده ليه وقفت اكل ، كمل اكلك يابني "
ابتَلع "نوح" مَا في جَوفه نَافيًا
" لا ياحج مافيش انا كنت بدوق بس .. عشان ده اكل بكره ..."
ابتَسم " نصار " بِحنان عَلى رَده ويُحذره
" ياواد انا مش نعيمه عشان تقولي كده ، كُل اللي انتَ عايزُه وانا بُكره هجيب تاني ، بس اوعى توقف اكل كده تاني بسرعه واللقمه بعد الشر تقف في زورك "
هَتف " أنس " بِلهجه سَاخره وَهو يَشير عَلى شَقيقه
" يقف في زوره ايه بس ياحج ، دي اللقمه ما بتعديش على البلعوم حته ده بيبلع ما بيمضغش "
" لا ياض عسل ، يخربيت الخفه "
هَكذا نَطق "أنس " وَهو يَقترب مِن والدهُ سَاخراً
" بس ايه اللي مصحيك لحد دلوقتي ياحج ، هي نعيمه مسهراك ولا ايه "
ابتَسم لهُ عَلى حَديِثه لِتملأ التَجاعيد حَول مِحجريه نَافيًا
" لا ، مسهراني ايه دي نايمه في سابع نومه انا بس قومت ادخل الحمام مش اكتر وبالمره اشوف ناقص قد ايه على الفجر "
انتَبه " نصار " الى " أنس " يَتفحص مَلامحُه
"بسم الله ما شاء الله .. قولي وشّك منوّر كده وشايفك بتطبخ ببال رايق "
ابتَلع " انس " رِيقه قَائلاً
" ابداً ياحج مافيش مبسوط بس شويه "
"الله يريح بالك ويشرح صدرك ، وأشوف الضحكة دي منوّرة دايمًا وشّك "
هَكذا دعا " نصار " لِأبنه وَهو يَرحل ، فأوقَفه
" انس " بِقول
" استنى ياحج رايح فين ، مش هتاكل معانا ده انا هعملكم بقى مكرونه اسباجتي بالجمبري منقيهم جمبريايه ، جمبريايه بس ايه تستاهل بوقك والله"
أَشار " نصار " عَلى مِعدتُه قَائلاً
" لا ما خلاص انا مابقيتش اقدر اكل بالليل انا لو اكلت بالليل الاكل يطبق على نفسي وافضل انهج ومعرفش انام ، كلوا انتوا بألف هنا وشفا اوعوا بس تنسوا تصحوا ادم عشان ياكل معاكم "
التَفت " نصار " يَبتعد عَنهم نَابساً
" يلا اما اروح اريح جنب نعيمه بقى تصبحوا على خير "
التَفت " نوح " الى شَقيقه بَعد مُغادرة والدُه يَشير اليِه بِالشوكه التيِ بَين أناملُه
" قولي بقى من ساعة ما جيت من الفرح وانت وش امك بيضحك لوحده حصل ايه "
هَز " نوح " رَأسُه اليِه بَاسمًا لِيُعقب
" هي سمر كانت هناك ولا ايه "
طالعهُ "انس" وَهو يُقطع الطَماطم بِحاجبان مُنعقدان
" هتموت وتعرف انت "
اتَجه " نوح " لِيشعل النَار فَوق المَوقد مِتوجهًا نَحو الخَزائن
" والله ولا هموت ولا حاجه ، انت اللي هتموت وتحكي وعينك باينه اهيه "
أَومأ لهُ " أنس " لِيتكىء عَلى طَاولة التَحضير يَنتظرُه أن يُكمل
" من الاخر كده روحت فرح ام محمد يلا مع امك "
قَطب " نوح " حَاجبِيه سَائلاً
" ام محمد مين "
" يسطا ام محمد بطيخه يسطا اللي ساكنه على اول الشارع جنب مقلة الواد اشرف لِبه"
ضَرب " نوح " عَلى جَبينُه
" ايوه ، ايوه افتكرت ام محمد بطيخه اخو نوران الجامده "
طَالعهُ " انس " وَاردف
" أيــــوه ، هي دي عقبال عيالك كده ،فرحها كان النهارده "
أشَار " انس " بِكفه مِن خَلفه
" هات بصلايه من وراك كده وقشرها"
اسَتدار " نوح " يَلتقط حَبة مِن البَصل يَقشرها بِتنهيده
" يابخت الجامد اللي اخدها "
" ياعم عيب ياعم اعتبرها امك ياعم "
هَكذا أخبرهُ " أنس " ليغَمز " نوح " لهُ يَشير بِيديه بِحركه دَائريه
" يــاريــت تبقى امي وانا اكره .. المهم سيبك كمل وبعدين "
" المهم يلا دخلت الفرح انا وامك لاقيتلك سمر كانت مخنوقه وبتاع وقاعده زهقانه وهتموت وتروح البيت ، راح العبدلله طلع السوبر مان اللي جواه وقال انا هروحها "
رَفع " نوح " زُجاجة الميَاه يَرتشف مِنها القَليل مِن المَاء وَهو يَقول
" روحتها على فين يسطا طلعتوا على اقرب شقه ولا ايه "
سَألُه ليِنظر لهُ " أنس " نَظره مُتهكمه بَعدما سَبُه نَابساً
" ايه يسطا ..اللي بتقولوا ده يسطا .. في ايه .. هي هَوت منك ولا ايه ، انت فاكرها من الشمال اللي تعرفهم "
أَومَأ " نوح " ليُكمل تَقطيع البَصل دمُوعه بَدأت تَهطل بِسبب مَادة الكَبريت فِيها
" يسطا فكك ماقصدش ، بس كُر يلا أم الشريط وسِفه ارحم فضول اخوك التعبان أخدتها فين "
غَمز " أنس " بِطرف عِينيه بِبسمه وَاسعه
" أخدتها المدرسه .."
.. .. .. .. 🍁. . .. .. .. ..
أَعوذُ بِالّٰله مِن الشَيطَان الرَچيم
بِسم اللّٰه الرَحمٰن الرَحيم
هَكذا شَهقت السَيده " نعيمه " حِين استَيقظت مِن نَومها ، تَضع يَدها عَلى قَلبها مِن كَثرة ضَرباتُه طَالعها " نصار " بِنظرات مُستاءه لِتبتلع هَي غَاصتها
" مالك يا ام لقمان خير ، شوفتي كابوس ولا ايه "
فَتحت السَيده " نعيمه " شَفتاها رَاغبه فِي الحَديث
وَلكنها لَم تَقل سِوا
" مـــــوســــى .. "
نَهضت والتَوتر بَدأ يَضرب عَلى مِعدتها ، تَبحث بِعينيها عَن حِجابها ، أَردف "نصار" يُحاول ايقافها لَكنها نَظرت نَحو بَاب غُرفتها قَائله بِصوتٍ هَادىء
" موسى جه يانصار ، انا طلعاله فوق السطوح ، حساه مش بخير "
ابتَسم بِسخريه يَتجاوزها فَتبعت هَي خَطواته وَحاورها يَتحدث بِنبره مُستفهمه
" يانعيمه عرفتي منين بس انه جه وكمان فوق السطوح موسى لو كان جه كان زمانه مع العيال بره دلوقتي "
تَمتمت وَكأنها أضحَت مِلوله مِن حَديثُه
" كل مره بتقول كده وبطلع انا الصح ، موسى ده ابني وانا الوحيده اللي بحس بي مافيش غيري "
ابتَعد عَنها يَعود بِأدراجُه نَحو فِراشُه لِتستَغل الوَضع تَتحرك نَحو الخَارج تَغلق البَاب خَلفها لِيسخر هو مِنها قَائلاً
" لما تدوري عليه وماتلاقيهوش اوبقي تعالي سايبلك مكان جنبي "
قَضمت شَفتاها صَافعه البَاب خَلفها لِتصعد الدَرج بِحذر حَتى صَعدت الى السِطوح ، فأختفى الدفء مِن جَسدها واحتَل البَرد القَارص أطرَافها وأَناملها التي أضحَت مُحمره ، تَبحث عَنُه بِعينيها ، فِي كُل رُكن فيه ..
تنَهدت ، وَفي صَدرها ارتِجاف صَغير كَاد يَفضح خَيبة إحسَاسها
التَفتت نَحو البَاب رَغبه فِي النِزول ، وَقبل أن تَعود أَدراجها جَفلت لِصوت سقوطٍ خَفيف مِن الأعلّى
رفَعت رَأسها، وابتِسامة هَاربة سَبقت كَلماتها
"أنا برضه بقول إحساسي ما يخيبش أبداً "
رفعت بَصرها، فوجدته فوق الغيّة، يَطل عَليها بِضحكه ردّ علّى ابتِسامتها
"حسّيتي بأيه يانعيمه المره دي "
تَقدّمت نَحو السِلم الخَشبي، مَدت يَدها بتردّد، ثُم سَحبتها خَوفًا مِن الخَشب نَفسه يَفضح ثُقلها
هزّت رأسَها بمرارةٍ دَافئة
" بيك ياروح نعيمه ، وانزل بقى هنتكلم وانت فوق كده "
ضَربت بِكف يِدها الأَخر
" مش عارفه انا ايه غيتك في الاماكن العاليه دي
تفضل تتنطط فوقيها زي النسناسه اللي في جنينه انيسه ، فاكرها ياولا لما كنت بوديك هناك زمان وتفضل تبص عالنسناس لما كان بيتنقل من شجره لشجره ، وتبقى هتموت وتنط زيه "
" انتِ ما بتنسيش أبداً ، ايه رأيك بقى ان النسناسه دي سبب اساسي خلاني احب الباركور كده "
زَفر " موسى " تَحت أَنفاسُه فِي رَاحه لِيرخي قَبضتُه وَهو يَهبط مِن الغِيه بِقفزاتُه المُعتاده لِتردف هَي بِقلق
"باركور ايه وزفت ايه بلا خيبه ، لما تتقطم رقبتك بعد الشر هبقى اعمل ايه انا وقتها "
طَالعتُه بِقلق وَهو مَازال يَقفز الى الأَسفل
" بالراحه ، بالراحه لا تقع "
وَقف أَمامها يَبتسم ابتِسامه دَافئه
" مايقع الا الشاطر يا نعناعه .."
فَتحت السَيده " نعيمه " ذِراعيها وَهو يَقترب مِنها ليِعانقها جَانبيًا ، تَحدثت مُغمضة العِينين تَستمتع بِسلامُه بِقربها
" مالك يانن عين امك ، فيك ايه "
هُو أَفلت يَدها ، حَاول التَظاهر بِأنهُ بِخير وانهُ لَيس مُستاءاً لَكن يَبدو أن السَيده " نعيمه " تُجيد الكَشف عَليه كَما يَكشف الطَبيب عَلى جِروح مَرضاه
" هتخبي عليا برضوا ، ايه اللي جابك في نص الليل ياموسى تقعد في وسط غية الحمام غير ان اكيد قلبك مليان زي ما كان بيحصل زمان "
تَنهيده ثَقيله حَاده غَادرت ثِغر " موسى " فَمسح بِأبهامه بَين حَاجبيِه وَتحدث
" مافيش ياامي ، مافيش ، حسيت بس اني محتاج اكون هنا ركبت المكنه ومعرفش جيت ازاي
اول ما جيت حسيت اني بقيت مرتاح، ماتشغليش بالك بيا "
تَعرف دُون شَك، أنَ كَلمات قلبُه لَن تَرى النُور أبدَاً، مَهما حَاولت أن تَقترب مِن صَمتُه، تَقف عَاجزة أمَام صَخرة مَجهولاته الدَاخلية ، لِذا عَادت إلىَ طَريقتها القَديمة، التي زَرعتها فِي قَلبُه مُنذ صِغره، حِين كَانت تَبتكر ألف وَسيلة لِتخرج مِنهُ مَا يَرفض لِسانه نُطقه
" الـلـــه ، شايف القطه ، اللي قدامك دي ياموسى "
قَطب " موسى " حَاجبيه يَقترب مِن السور ، لِترفع السَيده"نَعيمه " سُبابتها تَشير عَلى السَطح مُقابلها
" اهيه يابني اللي على سطح ام ابراهيم اللي قدامنا "
أَومأ وَنظرُه مِصوب نَحو الصَندوق فَوق سِور خَشبي مُتهالك
"من أول ما ولدت صغارها، عرفت القطة إن حياتها اتقلبت ، نومها بقى أقل، وأكلتها توفرها لعيالها ، وكل تفكيرها بقى في دفى صغارها وأمانهم
تبص عليهم كل شوية، تعدهم واحد واحد، خايفة يزحلق واحد منهم أو يتوه وهي مش واخدة بالها
ولما الجو يعكّر أو المطر ينزل ، تاخدهم في حضنها ، وتخبيهم من أي شر
هَزز رَأسُه لِترخي السَيده " نعيمه " بِجزعها عَلى السور تُكمل مُسترسله
"وبعدين ييجي اليوم اللي قلبها يتشقلب
اليوم اللي لازم تخلي صغارها يجربوا العالم، يجروا ويلعبوا بعيد عنها لأول مرة
تقعد تبص عليهم من بعيد، عينها عليهم ، قلبها بيبقى مليان فرح وخوف مع بعض، وهي عارفة إن جناحها مش هيفضل الحماية الوحيدة ليهم
ساعتها لازم قلبها يبقى صخرة، ما يتهزش بدمعة ولا برجفة، رغم إن كل خلية فيها عايزة تخليهم جمبها "
لِلحظه خَاطفه تَجمعت طَبقه زُجاجيه عَلى عَيناها
ثُم نَبست
"عارف ياموسى دي بتبقى أصعب لحظة تمر على أي أم...
اللحظة اللي العيال فيها لازم يواجهوا الدنيا لوحدهم، من غير حضنها اللي كان كل الدنيا بالنسبة ليهم
يَعلم دُون شَك لِماذا قَصت لهُ قِصة القِطه ، فَهي تَحمل عَلى عَاتقها ذَنب مَا يَحملُه
قَبض حَاجبيه لِسقوط دَمعتها عَلى وِجنتيها ، الوُجوم جَعل مَلامحها تَبدو ذَابله لِلغايه وَهي تَهتف
" انا وامك زي ما انت عارف توأم كنا دايمًا سوا بس هي كانت عكسي في كل حاجه ، انا كنت برضا بالقليل بس هي مكانتش بترضا وناقمه دايماً على حياتنا ، كان دايمًا نفسها تعيش عيشه غير عيشة اهلها ، كان جدك الحج "نعمان" اللي هو ابويا لي صاحب اسمه الشيخ "غنيم" وطبعاً انت عارف كويس مين الشيخ غنيم
تردّد " موسى" فِي مَسح دَمعتها، ثُم حَسم الأَمر بيدٍ حَنونة وَصوتٍ نَافد الصَبر..."
" عارف يانعناعه ، عارف جدي الشيخ غنيم ابو ابويا كويس وعارف برضوا كل اللي هتقوليه لأنك حكتهولي قبل كده اكتر من مية مره وحافظ كل كلمه هتقوليها فمالوش لازمه الكلام اللي هتقوليه تاني ووجع القلب "
قَابلت كَلماتُه بِأصراراً قَاطع
" لاء .. هتسمعه للمره الالف كمان ياموسى ، لحد اما اشوف نظرة اللوم في عنيك دي من ناحيتي تروح خالص وتعرف اني ماليش ذنب في كل اللي حصل انت فاهمني ياموسى "
أومَأ "موسى" بِرأسه إيماءةً ثَقيلة، لا تَحمل مِن الصِدق إلا قشورًا وَاهية ، كَان صَمته أشبَه بِرداءٍ يَتدثّر بِه، يَخفي خَلفُه تَحفظاً لا يُريد أن يَفضحه، وكأنّه يَرضيها بِالموافَقة البَكماء
" قولي يانعناعه ماله جدي ابو ابويا "
" وقفت لحد فين انا نستني ياموسى .. اه .. اه افتكرت
المهم جدك الشيخ غنيم ده كان عايش في سينا بس بالرغم من كده كان هو وابويا دايمًا مع بعض في كل حاجه ودايمًا كنا بنروح نزوره وهو كان ييجي يزورنا كنا وقتها لسه عايشين في اسكندريه ، بس ياخساره رغم طيبة الشيخ "غنيم" كان عنده ابن منغص عليه عيشته وموريله المرار الطافح وصدق اللي قال .."
تَنهدت بِحزن جَامح لِترفع مِقلتاها نَحوه
" يخلق من ضهر العالم فاسد ، بس الشيخ غنيم كان صابر عليه ده مهما كان ابنه الوحيد ، كان دايمًا ييجي يحكي لابويا قد ايه سالم ابنه مبهدله معاه وكل شويه يطلعه من الاقسام ولأنه شيخ ولي هيبته في سينا الظباط كانوا بيحترموه وبيعملوله حساب في الحاجات الصغيره الغلط اللي ابنه كان بيعملها ، بس سالم ابنه ماتعظش بالعكس بقى بيتمادى اكتر وبقى بيشتغل صبي
مع بتوع السلاح شويه ، والمخدرات شويه حتى التهريب ماسابهوش ، ومره واحده الشيخ غنيم مالقهوش ومابقاش سالم ابنه يسأل على الشيخ غنيم .. سنه في التانيه لحد ما بقاش يعرفله طريق
في الوقت ده ابويا الحج نعمان الله يرحمه عمل حادثه مره واحده ومات ، وامي مكانتش عارفه تصرف علينا ازاي ، والشيخ غنيم وقتها طلب منها
ان احنا نروح نعيش عنده في سينا وهو هيقوم بمصاريفنا ونبقى تحت عنيه وحمايته وحصل كده فعلاً ، بقيت ارعى الغنم معاه وكانت نازلي أمك ماترضاش ابداً وتقول انها نفسها تطلع من اللي احنا فيه بأي طريقه ، مع انها كانت حياه هاديه وجميله ويعلم ربي قد ايه انا كنت سعيده فيها
وكبرنا تحت جناح الشيخ نعمان لحد ما امي توفاها الله وقتها كان عندي ١٩ سنه تقريبًا
الشيخ غنيم مارضاش يخلينا نعيش في دار لحالنا وصمم اننا نعيش معاه في داره وهو راجل كبير عايش لوحده وروحنا وعيشنا معاه ، وبقيت انا ونازلي تحت العيون متشافين ، بس نازلي غيري ، نازلي كانت شايفه نفسها حبتين تهتم بلبسها وبشكلها اوي غيري خالص ، كان كل ما يجيلها عريس على قد حاله كانت ترفضه عشان دايمًا كانت بتقول انها عايزه العريس الغني اللي ينتشلها من اللي هي فيه ، وفي يوم لقينا عربيات سودا فخمه متفيمه وقفت قدام بيت الشيخ غنيم ونزل منها سالم ابنه
على قد فرحة الشيخ غنيم برجوع ابنه على قد ما قلبه اتقبض .. منين الغنى ده كله وبودي جاردات ماشيه وراه والوشم مدقوق على ايديه ، القلوب اتقبضت من شكله ما بقاش مننا بس هيئته بهرت نازلي وشافت في العريس اللي بتتمناه وتحلم تعيش معاه
يقوم بقى ايه سالم ابوك يشوفها وتعجبه ، والشيخ غنيم اللي هو جدك قاطع ابوك لما عرف مصدر فلوسه منين ، مع انه كان دايماً بيدعيله بالهدايه ، بس للأسف لقاه مش بس بقى مجرد صبي لاء ده بقى كمان معلم كبير في التهريب ومشغل تحت ايده صبيان
ابوك سالم اضايق ان الشيخ غنيم مارضاش يستقبله ولا يروح معاه في القصر بتاعه وقاله انه هيفضل عايش لحد ما يسترنا ، والشيخ غنيم فَضل انه يربينا انا واختي بالحلال
سالم ابوك مشي غضبان ، عمري ما هنسى اليوم ده ابداً كان عامل زي الشيطان وعمري ما هنساه وهو قاعد بره في الصاله لما قاله
" انتَ بتفضل بنتين مش من صلبك على اللي من دمك "
جدك وقتها قاله ان البنتين دول انضف منه ومن اللي بيعمله وانه لقى فينا العوض عنه ، سالم معجبهوش الكلام وزي ما يكون اخد كلامه واتحداه بي ، وبقى يقرب من نازلي اكتر ويقابلها من وراه ، انا لما عرفت نصحتها كتير بس كانت دايمًا مابتقبلش مني اي نصيحه ، لحد ما ضحك عليها وغواها وهربت من بيت الشيخ غنيم وكسرت قلبه وقلبي بهروبها ، لما راحتله واتجوزها وراحت عاشت في القصر اللي في القاهره ، لبست زي ما اتمنت وأكلت وشربت وعاشت العيشه اللي بتتمناها لحد اما ابوك زهق منها وبان على حقيقته
وبقى بيضربها كل يوم ويحبسها وكان يتلذذ اوي لما يلاقيها رايحه تشتكي لابوه وهي مضروبة زي ما يكون بينتقم من ابوه فيها ، الشيخ غنيم حاول يطلقها منه كتير لما رجعت ندمانه بس ماعرفش
كان سالم بييجي ياخدها ويجرجرها من شعرها قدام جدك ، وجدك كان يقف قدامه بس هو طلبها في بيت الطاعه ، ويأذيها اكتر عشان عارف ومتأكد انه كل ما يأذيها هيأذي أبوه فيها ودي كانت متعته
وانا وقتها كنت اتجوزت " نصار " كان يعرف الشيخ غنيم وشافني هناك وعجبته ولاقيته بيتقدملي واتجوزت في دار جنب دار الشيخ غنيم
وقتها كان معايا لقمان كان عنده ييجي سنه وقتها
كانت نازلي تيجي تبكي لينا بالساعات وتصعب على الكل
لحد ما ابوك اتمسك في قضيه وهرب بره مصر وسابها حمدنا ربنا انه اخيراً بعدها عنه وقولنا تبدأ حياتها من جديد بس الظاهر ان مافيش فايده ، لاقيت نفسها حامل في نفس الشهر اللي ابوك هرب فيه ، الشيخ نعمان قال انه العيل ده هديه من ربنا وانه هيربيه بس سالم في ناس بلغوه ان مراته حامل ويوم ولادتها ولدت في بيت الشيخ غنيم
وانا كنت بولدها لاقينا في ستات دخلوا علينا وخطفوا الواد من حضنها ، بقينا مش مصدقين اللي بيحصل البيت اتقلب والشيخ غنيم بقى يمرح
وراهم رمح ، ولاقيت امك بتصرخ من تاني ولاقيت المولى عز وجل بيكرمها بالتاني وطلعتوا اتنين توأم ، اخدتك بين ضلوعي وقطعت حبلك السري بأيدي ، وبعدها بأيام سالم بعت لامك انها لو عايزه تربي ابنها هيعرف يوصلها
الشيخ غنيم خبى على الكل ان نازلي جابت توأم علشان سالم مايعرفش ونازلي اديتك ليا وقالتلي انك معايا هتعيش نضيف ، وانها لازم تسافر عشان تقدر تحافظ على ابنها التاني من بطش ابوه واللي هيربي عليه ، وابوك كان حاطط عيون كتير على بيت الشيخ غنيم اخدتك انت ولقمان ونصار رجع بلده اللي هي السويس وفضلنا عايشين فيها
نازلي وصتني اني ماجيش ابداً سينا ولا اخطيها برجلي وجينا هنا واستخبينا من ابوك علشان ما يعرفش انه لي ابن تاني السنين عدت وانت بقيت تكبر قدامي انا اللي سميتك بأسم موسى وانا اللي ربيتك
فضلنا هنا ١١ سنه حياتنا كانت هاديه وبسيطه
لحد ما جه اليوم اللي جاتلي في رساله ان الشيخ غنيم تعبان ولازماً اجيله عشان عايز يشوف حفيده وبالرغم من ان الشيخ غنيم منبه عليا اني مهما يحصل مارجعش سينا ، ونازلي واخده عليا عهد اني ماخطيهاش مره تانيه الا من غبائي صدقت وروحت بيك ياموسى ، ورجالة سالم شافوا الشبه اللي بينك وبين هارون اخوك انتوا فوله واتقسمت نصين
وبلغوا سالم باللي شافوه وعرف انه عنده توأم
وقتها الحكم كان اتحكم فيه وخلى حد من صبيانخ يشيل الليله ويرجع مصر تاني وبقى بيهددني بعيالي لحد .. لحد
لَم يَستطع رُؤيتها تَكبت شَهقاتها وَهو واقَف يُشاهد
بَتر حَديثها
" نعيمه ، بلاش نتكلم في الموضوع ده اللي حصل ده كان مكتوب أنتِ مالكيش اي ذنب فيه ، سواء وادتيني لجدي او لاء ده كان قدري "
وَكأن " موسى " قَد اقتَلع جُزئه مِن دَاخل والدتُه ، حِين تَركها تَنزف لِذلك الضِلع المَفقود ، زَاد نَحيبها وَهي تَهتف
" لاء ، انا السبب ان ابوك يعرف ان لي ابن امك نبهت عليا اول ما ولدتك ، مكنتش بتكلمني غير كل فين وفين عشان تطمن عليك ، لو مكنتش بغبائي روحت مكانش رجالته شافوك ، كنت زمانك عايش عيشه طبيعيه ، كنت هتعيش نضيف ، مكنتش هتبقى مذلول لي كده ، انا السبب ياموسى
انا السبب"
هُو رَبت بِيدهُ عَلى ظَهرها ، يَضمها اليِه بِحنان ، لِتغمض عَيناها عَل مَدمعها يَجف
" ياريت البكى كان بيرجع اللي فات يا امي ، كنا فضلنا نبكي عمرنا كله ، بس كل حاجه بتحصل ربك لي حكمه فيها ، وانا لما رجعت عرفت حكمة ربنا "
هَمهمت لهُ لِتنبس
" تقصد حبيبه اختك "
أَومَأ يُربت عَلى مَنكبيها بِحنان وَهو يَردف
" بالظبط لو مكنتش انا رجعت كانت هتعيش ازاي وسطهم ، انتِ عارفه كويس بابا وهارون الله يرحمه كانوا بيعاملوها ازاي ، دي كانت زمنها قتلت نفسها وقتلت كل اللي في البيت ياشيخه "
أَردف سَاخراً جُملته الأَخيره دُفعه وَاحده لِيلمح طَيف ابتِسامتها ، فَصل " موسى " العِناق حِين شَم رَائحة الطَعام القَادمه مِن الأَسفل وَأنفُه لَم يَخطىء
حَيث لَمح " لُقمان " يَتخطى عَتبة السَطح وَبيدُه أطبَاق الطَعام وَكذلك بَقية أَشقائه وَالأبتِسامه تُكاد تُمزق وَجهه حِين رَأه
" اه، انا قولت برضوا السطح نور ليه"
ابتَسم " موسى " ليِقترب مِن "لقمان " يَضمه الى أحضَانه
" ده بس عشان انتوا طلعتوا عليه "
وَحالما أَنزل " أنس " طَبقه عَلى الأَرضيه اجتَاحت
رَائحة المعكرونه بِالروبيَان ، والبُهارات ثِقوب أنفُه
" الله ، ايه الريحه الحلوه دي ، هات ياعم هات "
ابتَسمت السَيده " نعيمه " تَشير لِأنس بِأصبعها
" واد يا ادم هات الكبرتايه من ورا العشه عشان نقعد عليها "
"يلا ، يلا كله يقعد بسرعه قبل ما الواد نوح يخلص على الطبقه كلها "
هَكذا نَبس " أنس" أَسرع " أدم " بِفرش المِلائه سَريعًا ، تَجمع الجَميع حَول الأطبَاق ، وابتَسم "نوح" وَهو يَجلس فِي مَكانُه ليِشرع فِي التِهام مَاهو أَمَامُه ، وَمذاق الطَعام يَجعل هِرمون الاكسِيتوسِين يَندلع فِي اهتيِاج دَاخل جَسدُه
" ما بالراحه يا نوح هو حد بيجري وراك "
ضَحك الجَميع بَينما رَمش " نوح " فِي ارتِباك
" وهو احنا كل يوم بناكل مكرونه بالجمبري ياما
ده لولا بس انس مبسوط ان سمر عبرته النهارده ولا كنا دوقناها "
رَمش " أنس" يُطالعهم فِي ارتِباك مُتمتمًا
" يابن ال... "
أَومىء " نوح " يَكمل طَبقُه يَتجاهل " انس" الذِي
سَبُه الأن ، أَخذت السَيده " نعيمه " نَفسًا عَميقًا بَعدما جَاءت كَلماتُه النَابيه لِمسمعها
" اشتمه ، اشتمه يا انس ما انت وهو تربيه و.. "
قَطعت السَيده " نعيمه " حَديثها قَبل أَن تَنطقه وَحالما مَسح " نوح " الطَبق عدن بَكرة أَبيه أَكمل جُملتها بِقول
" قولي .. قولي ما تتكسفيش احنا عيالك يبقى اكيد هتبقى تربيه *** "
ابتِسامة الجَميع عَلى كَلماتُه جَعلها تَعقد حَاجبيها فِي غَيظ
" ماشي ياتربيه نضيفه منك له .. حسرتك على عيالك يانعيمه
واحد مع كل واحده شويه والتاني بيحب واحده مخطوبه والبكري هيتجوز واحده مافيش حد بيحبها ده هي نفسها مابتحبش نفسها .. انت طايقها ازاي دي يالقمان "
وَضع " ادم " اللُقمه فِي فَمه مُتمتماً
" فِي دي عندك حق يانعيمه "
فَتح " لقمان " فَمُه فِي تَفاجىء مِما قَالُه هؤلاء ، لَكنهُ قَد لاَذت كَلمات " نوح " بِالفرار مِن فَمه
" اسكت يلا انت وهو ده في حتة بت وَتكه كَانت فِي الچيم عَند لقمان النهارده ، بس ايه وقفت الحَاره عَلى رجل وجت وبتسأل عليه بالاسم "
تساقطت العيون على "لقمان" دفعةً واحدة، تُحاصره بالأسئلة كأنها تُضيّق لِيثأر هُو بِالصمت، فاندفع "أنس" و"موسى" نحوه بملاطفةٍ خبيثة، تُخفي في مرحها شيئًا من الإلحاح
تَعالت ضحكاتهم وَضرباتهم المُمازحه لهُ فَوق السطح، تتشابك مع محاولات السَيدة "نعيمة" أن تفرّق بينهم، وجد "لقمان" في الفوضى مهربًا، فانطلق يَركض ، لتتحوّل اللحظة كلّها إلى مطاردة دافئة، تُذكّرهم بطفولتهم، حيث الضحك يسبق الخُطى
في زحمة الضحكات وصخب الركض فوق السطح، كان "موسى" يُلقي بأحمال قلبه خفية، يذوب وجعه بين خطواتهم، كأن المرح نافذة يتسلّل منها بعض النور. ومع كل قهقهة، كان يخفي جرحًا أعمق، يعلّقه على كتف الطفولة التي تعود لتزوره كلّما ضاقت به الدنيا
.. .. .. .. 🍁. . .. .. .. ..
دَفنت " امنه " رَأسها أَسفل الوِسَاده مِن صَوت بُوق السَيارات التّي تَتشاجر أَسفل نَافذتها ، أذ أنها قَد هَربت مِن صَوت زَميلتها بِالغرفه التٌي كَانت تَيقظها بِصوتٍ صَارم ، فَهي انتَقلت الى مُعضله أَبشع بِكثير
نَهضت وَخطوط تَملأ ذِراعيها ، يَبدو أنها نَامت بِشكلٍ عَميق حَد المَوت ، لِتنهض تَدعك صَدغاها فِي تَكاسُل لَأنها لاَترغب فِي النِهوض فَالفراش دَافىء وَطري والغِطاء مُنعش المَلمس لِاقدامها
لَكن اليَوم عَليها أرتِياد مَكتبه جِدها كَما وَعدته بِالأمس ، نَهضت الىَ الحَمام وَهي تَشعر بِأن العَالم يَتموج مِن حَولها
" صباح الخير يا أمنه ، اي كل ده نوم احنا قربنا عالعصر "
طَالعها " مصطفى " في ابتِسامه خَافته لِتجَحظ عَيناها تُطالع دَقات السَاعه عَلى الحَائط لِتجدها الثَالثه عَصراً
W... was, wie chan i so lang gschlafe ha, und wo isch dä Grossvati? I ha ihm's zuegseit, i wett s'Verspreche nöd bräche
نَبست بِها " امنه " بِلغتها الألمانيه حِين يَتملكها التَوتر ، ليِقبض " مصطفى حَاجبيه مُتسائلاً
" بتقولي ايه .. ومالك اتاخدتي كده ليه "
" اين .. اعني .. فين .. اقصد فين جدي ، انا كنت واعداه اني هاروح معاه المكتبه النهارده من اول النهار "
ضَحك " مصطفى " وَهو يَدفع بِعجلاتُه يَضع طَبقًا مِن الفَطائر بِجانب قِدح القُبقب
" جدك ايه بس ، اكيد مش هيستناكي كل ده نزل من الصبح بدري وفتح المكتبه ، تعالي افطري انا مارضيتش افطر الا لما تصحي عشان عايزين نتكلم سوا "
تَجاهلت حَديثُه تَعود الى غُرفتها عَلى عَجل تَتقدم مِن خِزانتها ، ارتَدت اول فُستان وَقعت علِيه عَيناها
" افطر ايه بس يامصطفى ، ازاي سيبت جدو ينزل وهو الزهايمر بياكل عقله عرفت منين انه وصل اصلاً انت مش شوفت حالته امبارح كانت عامله ازاي ، ازاي سيبته يمشي بس "
قالتها وَهي تَفك جَدائلها تَتفقد حَاجيات حَقيبتها لِتخرج عُقده حَمراء وَهي تَسأله
" الفيونكه دي لونها ايه "
" حمرا"
" يعني تليق على لون الفستان "
هَزز رَأسُه نَافيًا وَلكنها لَم تَهتم بِأناقتها فَكل مَا يَشغل تَفكيرها جِدها
.. .. .. .. 🍁. . .. .. .. ..
لَم يَكُن "نوح " في مَخبز الفُرن حِين ذَهب " بِشر " اليِه ، أَوقف التروسيكل خَاصته جَانباً يُطَالع عَقارب سَاعتُه ليِجدها الرَابعة عَصراً
رُبما لَيس لَهُ سِوا أَن يَعود لِلمنزل، لِيتفاجأ بِشقيقتهُ الصُغرى أَمامُه
" هدى ؟ بتعملي ايه هنا "
نَبس فِي قَلق حِينما رَأها ، التَقطت هِي أَنفاسها لِتخبرُه
" ماتقلقش انا حاولت اتصل بيك كام مره قبل ما اروح الدرس لاقيت تليفونك مقفول ، قولت اكيد هتبقى عند فرنة نوح "
" ليه في حاجه ولا ايه ، وجايه بتنهجي كده ليه ، امي وهيما كويسين"
حَاولت شَقيقتُه أن تَبث فِي قَلبُه الطَمأنينه بِكلمَاتها القَليله
" اهدى ياخويا مافيش حاجه والله انا بس .."
صَمتت لِثواني تُجمع الكَلمات بَين شَفتيها
" انا بس .. بص انا عارفه والله ان انا بتقل عليك ومصاريفي زادت وخصوصاً اني كنت لسه واخده منك فلوس الدروس .. بس هما "
تَبادلا الأَنظار سَوياً ثُم زَفر هو فِي حَنق
" يخرب مطنك خضتيني .. فلوس يعني عايزه فلوس"
أَومَأت بِرأْسها ، لِيُفرق هِو بَين شَفتيه لِيتحدث
" طيب ماستنتيش ليه لما ارجع البيت ، بدل ما انتِ جايه تجري تدوري عليا في الشوارع كده "
أَجابت عَلى شَقيقها بِصوتٍ مِنخفض
" انا اصل متأخره اوي عندي شامل ولازم احضره بس في نفس الوقت لازم ادفع فلوس الامتحان ومصاريف السنتر عشان ادخله ، وبصراحه كمان عايزه اجيب مذكرة خالد صقر ، عشان قربت تخلص "
" قولي ياهدي عايزه كام "
سَألها لِيرى مَلامحها تَتبدل لِلأستِياء
" عايزه ٧٠٠ جنيه "
زَفرت لِتقضم شَفتيها مُكمله فِي ابتِسامه مُنكسره
" انا عارفه اني مضيقه عليك وعلى البيت كله بس والله يابشر مستر خالد عامل مسابقه واللي هيطلع الاول في الشامل هيديله ٥٠٠٠ جنيه وانا متأكده اني هطلع الاول وهساعد معاك في مصاريف البيت"
تَمتمت لِتراهُ يُحملق بِها وَقد وَضع يَدهُ عَلى جَيب قَميصهُ الأَمامي هَاتفاً
" انك تطلعي الاولى ده العادي ده أنتِ بكره هتبقي دكتورتنا ، بس مصاريف ايه بقى اللي تساعدي بيها معايا انا قصرت معاكي في حاجه "
أَخرج النقُود وَهو يَقوم بِعدها بِأنكسَار
" انا ما تأخرش عنك أبداً ، انا بس ماشتغلتش النهارده غير ب ٢٥٠ "
حَبست أَنفاسها دَاخل رِئتيها وَاختفت ابتِسامتها شَيئًا فَشيئًا ، لَم تَفتهُ هُو نَظرات الضِيق بِعينيها ثُم أَجبرت شَفتيها عَلى الأبتِسام
" خلاص مش مهم المُذكره "
جَاء " نوح " يَضرب عَلى رَأْس " بِشر " بِكفه مِن الخَلف
" انتَ عبيط يلا ، كده تنسى معايا ال ٥٠٠ جنيه اللي ادتهملي أمبارح "
وَقع نَظر "بشر" عَليه فَعبرت عَيناهُ عَن شُكر مَا كَان لِيستوعبه الكَلام ، دَس " نوح " الأورَاق النَقديه فِي جَيب "بِشر" الأَمامي وَنبس
" خد ما تبقاش تنساهم معايا تاني بقى "
أَومَأ " بِشر " بِأمتنان لِصديقه يَخرج مِن جَيبه النقود لِشقيقته
" خدي ياستي ، هاتي المذكره ، ولا مابقتيش عايزه المذكره خلاص "
نَفت " هدى " ضَاحكه لِتهم فِي عِناقُه
" ربنا يخليك ليا يا اجمل بشر في الدنيا "
أَشار "بشر" نَحوها
" اركبي يلا عشان اوصلك أنتِ اتأخرتي اوي "
صَعدت فِي ارتيِاح ليِسألها عَلى العنوان ، اعتَدلت بِجلستها وَهي تُجيبه
" سنتر نقابه التجاريين جنب مدرسة حافظ سلامه "
قَفز "نوح " عَلى الجَانب الأخر فَور سَماعه لِوجهتهما
" حلو اوي انا كمان كنت رايح هناك عشان اجيبلي طقمايه كده هبقى اقولك سببها بعدين "
عَقد "بشر" حَاجبيه بِاستغراب
" منين ده كله ، اوعى تكون سرقت الحاج ابوك "
" سرقت مين ياعم دول الف جنيه انا ابويا بيعد لحد ١٠٠ بس "
انفَرج شَفتي " بشر " سَاخراً
" لا في دي عندك حق ، بس برضوا جيبت الفلوس دي منين "
"ياعم بتوعي ياعم ، او بأمانه كده صحيت لاقيتهم تحت المخده وعرفت ان موسى هو اللي سايبهم "
" لا طالما موسى سابلك فلوس يبقى انت اكيد محتاجهم ، انا بس يومين كده هعمل مصلحه وارجعلك ال ٥٠٠ جنيه بتوعك "
أشَار " نوح " بِيده بِحركه بَهلوانيه
" ياعم اتنيل انتَ لاقي تاكل ، واطلع بقى بدل والله احلف ارجع في كلامي واخدهم منك تاني "
انطلق "بشر" بالمركبة يشق الطريق وسط الزحام، حتى بلغوا مقصِدهم أبصر جمعًا من الطلبة يحدّقون بفضولٍ ، متسائلين في صمت عن وصولها على هذا النحو. شعر "بشر" بحرارةٍ تعتصر صدره حرجًا من أجلها، فالتفت نحوها هامسًا
انطلق " بشر " بالمركبه يقطع الأزقّة المتشابكة، حتى بلغوا مقصدهم ليجد عيون الطلاب ترمق شقيقته بنظراتٍ متفحصة ، شعر للحظةٍ بالحرج يتسلل إلى صدره، فتمنى لو أنه أوقف المركبة أبعد قليلًا مَال عَليها يَهمس لَها
"مش كنتِ وقفت بعيد شويه يا هدى؟"
عَقدت حَاجبيها بِعدم فهم ، ثُم طَالعت الجِوار لِتطالع نَظرات الطُلاب لَها
" ليه ياخويا بتقول كده ، ده انا اتشرف بيك في اي حته وفي اي وقت وسيبك منهم دي عيال مالهاش لازمه ، واذا كان على التروسيكل ، فانا افتخر بي ، كفايه انك شغال عليه بالحلال "
ارتَسم عَلى شَفتيه ابتِسامة رِضا لِتقبل هِي جَبهتُه تَتركه وَترحل عَلى استِعجال الىَ الدَاخل
كانت زميلاتها هواتفهن تلمع كشراكٍ تُلقيها على العابرين، والضحكات تتطاير حولهن بفراغٍ صاخب
يَبثون مَقاطع لَدى تَطبيق "التيك توك" الشَهير مدت إحداهن يدها إليها، كمن يعرض وهماً في ثوب بريق
ـ"تعالي يا هدى... وإنتِ زي القمر كده ، اطلعي معانا. العلم ما جابش حاجة، واللي معاه فلوس هو اللي بيكسب في الاخر "
أفلتت "هدى" ذراعها بهدوءٍ وابتسمت ابتسامة قصيرة لا دفء فيها
ـ "لا... ماليش في ، أنا عارفة إن اللي بيتعب بيلاقى، وإن الطريق اللي اخترته هو الصح... طريقكم ده اخرته مصيبه "
تَركتهم لِترحل فيما تناهى إلى أذنها تعليقٌ خافت
"وش فقر"
لم تلتفت، فقد كان في قلبها من اليقين ما أغناها عن كل التفاتة
بَينما "بشر"، ظَل يَستمع لِما بِجعبة صَديقه
"بص يا صاحبي... المرة دي اتعرفت على حتة بت متريشة آخر ٢٩ حاجة، وعايز أجيب طقمايه كده عشان أقابلها بيه"
زَفر "بشر" مُضجراً
"تاني يا نوح ، إنت ما بتزهقش أبداً من الحوارات دي"
ردَّ عليه "نوح" بثقةٍ
"لا يا سطا ، المرة دي غير، والله العظيم ،بقولك متريشة أوي... وواقعه اوي اوي اوي "
ضحك وهو يضرب كتف "بشر" ضربةً خفيفه
"ها يا سطا... هتيجي معايا ولا ايه"
أطال "بشر" النظر إليه، ارتسمت على محيّاه ابتسامة هادئة تُخفي وراءها إدراكًا عميقًا بطبيعة صديقه، ثم أومأ بعينيه قبل أن يجيبه
"اكيد جاي يسطا .. اكيد جاي ... هو أنا ليا غيرك "
كان في تلك الإيماءة أكثر مما تحمله الكلمات صداقةٌ ضاربة الجذور، تُلزم القلب قبل اللسان
.. .. .. .. 🍁 .. .. ..
وَلجت " أمنه " الىٌ المَكتبه لِتلمح جِدها يُحادث رَجُلاً مُسنًا أَقعدهُ الشِيب أومَأ لَها جِدها فِي شِبه ابتِسامه لِتزفر فيِ رَاحه عِند رُؤيته لِتتوجه هَي نَحو قِسم روايَات الجَريمه والغمُوض
"معقوله !! "
هَمست فِي غَير تَصديق لِكتاب "القهوه السوداء" يَتحدث عَن الجَريمه والغِموض فَهو مِن الأَعمال النَادره نِسبيًا لِكاتبتها المُفضله دَائمًا وَابداً
" اجاثا كريستي " إذ التَقطتهُ كَكنزاً ، تَتلمس غُلافه الجِلدي العَتيق فِي حَذر
وَحالما فَتحتهُ تُقلب بَين صَفحاتُه العَتيقه انتَبهت للطرف الأسود يطلّ من بين الصفحات، سحبته بارتجافٍ خفيف، لتجد ورقة أخرى، مطوية على هيئة تنين صغير... الثاني في طريقها
تجمّدت في مكانها، رمشت بعينيها غير مصدّقة، ثم التفتت حولها سريعًا، كأنها تفتّش عن عينٍ خفية تراقبها بين الرفوف
لكن لا شيء سوى سكون الكتب ورائحة الورق القديم
شدّت الورقة بيديها، وأفكارها تتصادم
"كيف له أن يتتبعني إلى هنا؟ وكيف عَلِم بطريق مكتبة جدي ؟ وما معنى أن أجد هذا التنين الورقي يتكرّر أمامي؟ أهو رمزٌ لشيء لم أفطن له بعد، أم رسالة لا يجرؤ على البوح بها وجهًا لوجه"
لَم يَفُت " امنه " نَظرات جِدها مِن أخر المَمر حِين رَأى تَخبُطات وَجهها فَخرجت بخطوات متردّدة إلى خارج المكتبة وَهي تَومأ لهُ فِي شِبه ابتِسامه
رفعت الورقة نحو ضوء الشمس، تدقّق في طيّاتها بشغفٍ ، حتى تسرّب النور من خلالها، وكشف ما جعل أنفاسها تُحبَس في صدرها...
🍁.. .. .. 🍁. .. .. .. .. 🍁. .. .. ..🍁.. .. .. .. .. 🍁
إن كَانَتْ كَلِمَاتِي قَدْ وَجَدَتْ لَهَا مَقَامًا فِي قَلْبِكِ، فَلَا تَبْخَلِي بِقلب يَضيء لِي الدَّرْبَ، وَتَعْلِيقِ يُنْبِتُ فِي رُوحِيَ الرَّغْبَةَ فِي الاسْتِمْرَارِ✨
𝓜𝓪𝓱𝓮𝓮 𝓐𝓱𝓶𝓮𝓭🥀
انا عارفه اني قولت الكلام ده قبل كده ومش بلتزم بميعاد بس معلش جربي المره دي كمان مره اخيره يوم الخميس اللي جاي لو كان لينا عمر على الدنيا الروايه بأذن المولى هتنزل الساعه ١٢ ادخلي جربي وشوفي اذا كانت نزلت ولا لاء مش هتخسري حاجه
تصبحوا على خير ♥️🍁
اتمني بس الاقي تعليق منك يشجعني عشان اكمل ارجوكي ، ودوسي على القلب خللي ال موسى تنبض بقلوبكم ♥️
تكملة الرواية من هنااااااا
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا