رواية لإجلها الفصل الخمسون الثانى وخمسون52 الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية لإجلها الفصل الخمسون الثانى وخمسون52 الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
الفصل الثاني والخمسون
الحياة… ليست مجرد خطوات نخطوها بلا وعي، بل هي خطوط تُرسم كل يوم بأفعالنا، وأفكارنا، وقراراتنا الصغيرة والكبيرة. كل تجربة نمر بها، كل فرحة ونكسة، تضع لبنة في شخصية كياننا، وتحدد الطريق الذي نسلكه. أحيانًا، ما نرغب فيه بشدة ليس هو الأفضل لنا، وما نتمناه بقوة لا يكون قدرنا.
نحتاج أحيانًا أن نتوقف عن المقاومة، أن نرمي سلاح التوقعات، ونسلم أنفسنا لنسيم القدر الذي يشكل حياتنا بهدوء لا نشعر به في لحظته. ليس الاستسلام ضعفًا، بل هو فن الحكمة، القدرة على قبول أن الطريق الحقيقي لا يُعرف دائمًا إلا بعد أن نخطو فيه.
من خلال هذه المسارات، نصبح أكثر وعيًا بأننا بناة حياتنا، لكننا في الوقت نفسه متلقون لتفاصيل لا نملك التحكم فيها، لنفهم أن القوة ليست في السيطرة المطلقة، بل في المرونة التي تجعلنا نواجه كل منعطف بشجاعة وصبر، ونجد في النهاية أن ما اعتقدنا أنه خسارة كان جزءًا من تشكيل ذاتنا، وأن كل صمت وتجربة وكل سقوط يحمل درسًا يصنعنا.
الحياة إذًا… ليست دائمًا كما نخطط لها، لكنها دائمًا كما نحتاج أن نصبح، وكل ما نمر به يترك بصمة على الروح، ويعلمنا أن نتعلم من أنفسنا، وأن نثق بالقدر الذي ينسج مساراتنا بصمت، ليجعلنا في النهاية أعمق، أقوى، وأكثر صراحة مع ذواتنا.
المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة/ سنا الفردوس (بطوط)
الفصل الثاني والخمسون
طاقةٌ من الفرح انتشرت وعمّت الأجواء في المنزل الصاخب بكثرة الحاضرين داخله، بمناسبة جميلة جاءت لتُنعش النفوس بعدل الخالق، وقد تحقق الحلم بعد التعب الشديد والجهد والصبر.
"ليلى نجحت بمجموع عالي"
هكذا كانت تردد مزيونة التي صارت بخفة الفراشة رغم عَرَج قدمها؛ فراحة الوصول بعد التعب الشاق لا يعرف لذتها إلا من جربها.
حسنية، المرأة الجميلة، كانت توزّع الحلوى على أطفال العائلة والأحفاد بعد سماع الخبر السعيد. ومن حقّها أن تفرح، فقد نجح أحد أبنائها وحقق التفوق، وانتصرت أسرتها في التحدي رغم المعوقات، بل رغم المشكلة الأكبر في حمل زوجة ابنها. بالصبر والجلَد تمت المهمة على أكمل وجه.
ـ بَسْ بَسْ، بالراحة… كلكم هتاخدوا وتفرّقوا على باقي الجيران كمان. بَسْ اهدوا كده، هي الدنيا طارت؟
ـ ربنا يعينكم عليهم يا أم الولاد.
تفوه بها وصفي، شقيق مزيونة، وقد أتى من عمله متوجهًا إليهم مباشرة فور علمه بالخبر، ليأتي إلى شقيقته التي غلبتها الدموع ويضمها في حضنه:
ـ مبروك يا بت أبوي… ربنا جَبَر بخاطرك إنتِ وبِنيّتك. يا فرحة قلبي بيكي يا مزيونة.
ـ يا فرحتي أنا بيك يا شقيقي يا غالي.
تدخل حمزة الذي أصابته الغيرة، يردد بمزاح مفتعل:
ـ ما خلاص عاد يا ولْية! طابقة في الراجل من ساعة ما وصل. سيبيه ياخد نفسه!
دوت ضحكة عالية من وصفي، يتركها بنظرة كاشفة نحو حمزة، منتبهًا لخجل شقيقته، فيضمها من كتفيها في ردٍّ مشاكس:
ـ يا سيدي تطبق براحتها ولا تكتم نفسي حتى! دي وحيدة أخوها، ومهما كبرت… فرحتها الأولى مع حبيبها أخوها الكبير هي الأهم.
جاء رد حمزة يدّعي التذمر، وغيرة حقيقية تلوح في نبرته:
― شوف عاد الراجل اللي مش مِعَدَّل ده كمان! عاجبِك كده يا محروسة؟
ضحكت مزيونة حين وجّه الكلام إليها لتراضيه:
ـ لا يا حبيبي، مفيش أهم منك طبعًا. بس هو شقيقي حبيبي اللي بلاقيه كل حين وحين… هي الفرحة في حضنه غير.
أما أنت… أنت الكل في الكل يا أبو ريان، حدّ برضك ينسى وجفتك معايا أنا وبتي؟ والله جميلك ده ما هنساهولك أبدًا.
أحرجته بردها، فسارع لتغيير الحديث:
ـ وهْ عاد… متقوليش الكلام ده! الفضل الأول والأخير لربنا وبعدها اجتهاد ليلى. هي فين صُح؟ اختفت فجأة هي وجوزها؟
أضاف وصفي هو الآخر:
ـ أيوه صح، أنا جاي مخصوص عشان أباركلها… هي فين؟
تبسمت مزيونة بمرح:
ـ راحوا يفرحوا صاحبهم التالت اللي معاهم… شريكهم في النجاح قال…
تساءل وصفي بعدم فهم:
ـ مين صاحبهم التالت ده كمان؟
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
ـ عزوز… حبيبي يا عزوز! أنت النهارده تاكل كل حاجة حلوة من يدي. والله لو أطول أَوكِّلك من الحلاوة ولا أشربك من شربات النجاح… والله كنت عملتها!
أنت أكتر واحد يستاهل الشكر، أنت الجندي المجهول في قصتي يا حبيبي.
تفوهت ليلى بالكلمات وهي تقبّل رأس الحصان وتضمه من عنقه بامتنان. فعَلّق زوجها مُتحنّقًا خلفها:
ـ ده على أساس إنه هو اللي كان بيشتري الشوكولاتة والبسكويت ويخبط على شباكك من نفسه يديهملك!
تبسمت تُناكفه بمكر، ثم ردت بشرود:
ـ طبعًا أنت اللي كنت شاريهم يا معاذ… بس ده ما ينكرش إنه شاطر ووش السعد عليّا. والله كنت باخد حاجتي منه وقلبي يرفرف من الفرحة، وبعدها أركز في الكتاب وكل فكري في المذاكرة. كانت أيام حلوة قوي يا معاذ.
حسنًا… لقد وضعت يدها على الحقيقة. كانت أيام اللوعة والاشتياق من أجل رؤيتها، وكان عزوز وحده يساعده في ذلك الوقت، وحده القادر على الاقتراب من نافذتها. كان حلقة الوصل بينهما… بل تميمة الحظ. إذن، هي لا تبالغ.
ـ نفسي أبقى خيّالة وأتعلم إني أركب عليه!
استفاق من نشوته يستوعب كلماتها:
ـ تبقي خيّالة كيف يعني؟
ردت بحماس تؤدي بيديها:
ـ يعني أركب كده، وأشد اللجام، وأطير بيه في البلد! عايزاك تعلّمني يا معاذ، ماشي؟ بس على ما نخلّف النونو… عشان ما ينفعش طبعًا…
ردّ معاذ بحزم، لايتقبل الفكرة إطلاقًا:
ـ ببطنك ولا من غير بطنك… مفيش أساسًا الجنان ده! حصلت كمان الحريم تركب خيل؟! لا وعايزة تطير بيه جوا البلد!
سمعت منه فاشتد غضبها:
ـ فضيحة ليه إن شاء الله؟ هطلع بيه بالبنطلون! وبعدين… أنا بقول نفسي يا عديم الإحساس! كان ممكن تجبر بخاطري بأي كلمة، لكن أنت ما تعرفش!
والله لو عمي حمزة… ما كان كَسَف أمي! ده مش بعيد يطلّعها على الحصان جدامه ويلف بيها، ولا حد في البلد كلها يقدر يعترض!
لكن أنت… غور يا معاذ، غور!
وبقبضة يدها ضربته على صدره تزِيحه من أمامها وتذهب. فتأوّه بألم، يعلّق خلفها:
ـ أبو الهَرْمونات دي اللي مطلعين عين أمي! ولا هي مجنونة من الأول وأنا اللي كنت معمي بس يا ربي؟!
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
خرجت ليلى بغضبها تضرب الأرض بقدميها، تفور ضجرًا وضيقًا منه. فرغم صغر سنه المناسب لعمرها، إلا أنه لم يأخذ من صفات عمها حمزة المتفهم الناضج إلا القليل، وهذا ما يزعجها ويجعلها تنفعل عليه دومًا. ربما هي مخطئة في أسلوبها… لكنه هو السبب.
ـ إيه بس يا ست أبوكي؟ سرحانة في إيه؟ طالعة ولا نازلة؟ إنتِ جاية منين أصلًا؟
تفاجأت ليلى بحضور والدها الذي لا يأتي إلا نادرًا. لقيها قبل أن تصعد درج المدخل، فقبّل وجنتيها وهنأها بالنتيجة:
ـ أهلًا يا أبوي، ربنا يخليك. أنا كنت جاية من عند الحصان تحت. تعالى اطلع معايا فوق. بس إيه اللي جايبه ومحمّله على يدك ده؟
أجابها عرفان بفخر:
ـ دي عِلَب حلاوة وشربات من الغالي… تفرّقي منهم على كيفِك، عشان تعرفي إن أبوكي فرح قوي بنجاحك يا بتي!
أومأت ليلى تدّعي الامتنان، رغم عدم تصديقها لحرف واحد منه، ودعته للدخول. فهي لا تملك إلا ذلك… لسببين:
أولهما: لأنه والدها مهما فعل.
وثانيهما: لأنها تحتاج أن تشعر بأن لها سندًا أمام زوجها وعائلته.
فالمرأة تحتاج تلك الميزة دائمًا… حتى لو كان أهل الزوج ملائكة من السماء.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
في منزل اعتماد التي استيقظت اليوم متأخرة، نتيجة سهرها على المكالمة التي أجراها معها خليفة، خطيبها — كما يرددها على ذهنها دائمًا حتى تحفظها — يلقي على أسماعها كلمات الغزل التي كانت تائهة عنها، ولم تكن تعرف حتى معناها. يُغذّي أنوثة كانت ضائعة منها، ويعيد تشكيلها من البداية؛ لتُصلِح من ذاتها وتُعدِّل أسلوب تعاملها مع الجميع، وليس معه هو فقط، لتتصالح مع الحياة نفسها بعد أن وجدت الأمان أخيرًا متمثلًا في رجلٍ يوعدها بالأفضل في القادم، وهي تثق فيه ثقةً تامة.
انتبهت إلى ترتيب المنزل وتنظيفه، لتستنتج بذكائها أن من قام بذلك هي شقيقتها الصغرى، والتي وجدتها أمام شاشة التلفاز تشاهد أحد برامج التوك شو، وعلى حجرها ابنة روضة.
ـ صباح الخير يا ست رغد يا نشيطة. ما شاء الله… البيت بيبرق من النضافة! لحقتي تمسحي وتروّقي؟ ده إحنا نمسك الخشب على كده!
ضحكت الأخيرة تعقّب ردًا عليها:
لا يا ستي، لا تمسكي الخشب ولا تتعبي نفسك. أنا ما عملتش حاجة أصلًا، آخري بس مسكت العفريتة الصغيرة دي.
كادت أن تسأل، إلا أن الإجابة وصلتها دون جهد من روضة التي خرجت من المطبخ، حاملة طبق الطعام الذي أعدّته لصغيرتها:
ـ البيت ما فيهوش غير رغد يعني؟ ما أنا برضك موجودة يا ست اعتماد!
ابتسامة مضطربة لاحت على فم الأخيرة لتبرر بحرج:
ـ لا طبعًا… أنا جصدي بس إنّك يعني معاكي بتك…
وعلى غير طبيعتها الحادة، جاء ردّ روضة بسكونٍ غريب عنها، وهي تضع ملعقة الطعام في فم ابنتها:
فاهمة يا إعتماد، أنا بس بنكشك ياخيتي.
بالطبع هذه الشخصية الجديدة لا تعرفها. قطّبت اعتماد جبينها وجلست على المقعد المقابل تسألها:
ـ مالك يا روضة؟ إنتِ في حاجة وجعاكي؟
رفعت إليها عينيها تردّ بأدب يخالف طبيعتها:
ـ هو اللي يشتغل ويتنشّط في بيته، دلوك يقولوا عليه عيان؟
"بيته"… تلك الكلمة التي لفتت انتباه اعتماد، ليزداد يقينها بأن شيئًا ما أصاب شقيقتها.
واضح إنك حنّيتي لبيتك، صُح يا بت أبوي؟ على العموم أنا نفسي هدّيت دلوك، والحكاية أصلًا طوّلت ومسخت. هشوف أمر رجوعِك وهتنازل… لا عايزة تعويض ولا زفت. هو بس يتقي الله فيكِ وفي بتك، وبس كده!
وبس كده!
تمتمت بها روضة ساخرة، ثم تركت من يدها طعام صغيرتها، وأردفت بنبرة منكسرة:
ما عدش ينفع خلاص يا خيتي… ولا باقي في بيت أصلًا. محمود راح وسافر إمبارح على بلد من بلاد برّه من غير ما يبلّغ حد من ناسه. الراجل جاله عقد عمل في شركة مقاولات، خد دهب أمه وصرف نفسه… ولا همّه عيلة ولا مرا ولا عيلة من دمه.
عن إذنكم.
ختمت قولها ونهضت راكضة نحو غرفتها، تاركة شقيقتها، اعتماد بحقدٍ يعصف بها نحو ذلك الأحمق الأناني، لا يرى إلا مصلحته… تمامًا مثلما فعل والدها، وكأن الزمن يُعاد مرة أخرى. لَعنة الله على تلك النوعية من الرجال.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
ها هو الضيف الثقيل يأتي إلى المنزل مرة أخرى، والحجة موجودة وهي فرحته بنجاح ابنته. وقد دخل بصحبتها ليأخذ وضعه ويشارك الجلسة التي تضم حمزة وصهره وصفي، والحجة حسنية ومزيونة التي كان يُركّز على العصا التي تمسك بها، ليستغل الفرصة مخاطبًا لها:
— دا أنا قولت هاجي ألاقيكي مزقططة من الفرحة بعد ما ربنا جبر خاطرك. يبقى دا حالك برضك؟ ألف سلامة عليكي يا أم ليلى.
"هل من المفترض أن تجيبه؟"
هذا ما سألت به نفسها قبل أن يرفع عنها زوجها عناء التفكير في التعامل مع هذا المتبجح، ليحمحم بخشونة مرددًا:
— منوّر يا أبو ناصر. تعبت نفسك شايل ومحمل. ما إحنا قايمين بالواجب وزيادة…
قابل عرفان توبيخه غير المباشر بابتسامة لزجة، يردّ ببرود:
— وماله يا أبو ريان؟ البركة فيك وفي جوزها. بس برضك أنا أبوها، وهفضل طول عمري أبوها… وبكرة عيالها هيبجوا أحفادي كمان.
— أبو برودك راجل لطخ!
غمغم بها حمزة حانقًا، فتدخلت حسنية لتخفف من حرب النظرات الدائرة بين الاثنين:
— ودي فيها كلام؟ ربنا يطوّل في عمرك وتفرح بعيالها وبجوازهم كمان. اشرب الشربات يا أبو ناصر. دي فرحة ليلى… مرّت ولدي بالدنيا وما فيها.
أضاف وصفي هو الآخر:
— آه والله يا أم الولاد. مش أنا ولدي عملها قبل سابق ودخل الكلية اللي عايزها، لكن ونعمة ربنا… ما حسّيت له بالفرحة اللي حسّيتها مع ليلى. أصل الموضوع ده ما يخصّهاش وحدها… لا، ده يخص شقيقتي وتعبها وسنين المُرّ اللي عاشتها عشان توصل للحظة دي. وه يا ولاد… دي حاجة ولا في الخيال.
كلماته البسيطة كان لها أبلغ التأثير على شقيقته التي طالعته بامتنان. أمّا عرفان فلم يكن غبيًا حتى لا يفهم المغزى خلف حديث وصفي، ومع ذلك كان مصرًا على نهجه المستفز:
— وأهي ربنا كرمها هي وبتّها.
صحيح… مبروك نجاحك يا أم ليلى.
إلى هنا، انتفض حمزة بغضب مطالبًا زوجته بالنهوض:
— يلا بينا أطلع بيكي فوج تريّحي. شكلك تعبانة.
استجابت مزيونة، فمدّت يدها إليه كي ينهضها ويبتعد بها عن محيط هذا الأحمق، والذي لا يحجزه عن الفتك به سوى وجود ليلى.
— عن إذنك يا أبو ناصر عاد… البيت بيتك.
قالها حمزة بجلافة واضحة، ليمضي بمزيونة من أمامه، فظلّت أبصار عرفان تتبعهم بحقد شديد، بعد أن علم أيضًا بحملها لتزداد الحسرة في قلبه.
قدِم إليهم فجأة معاذ يرحّب به:
— مساء الخير يا عرب.
وه! حمايا كمان موجود؟ منوّر يا أبو ناصر.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
ما بين الحب والبغض شعرة، ولكن حين يصل الأمر إلى الكرامة… تصبح النتيجة أنها تقف كأكبر حاجز، لو مال الأول إلى الثاني.
هو يعلم ذلك جيدًا، ومع ذلك لا يستطيع السيطرة على خوفه وقلقه، بعد أن شهد بأمّ عينيه ما جرى لها بسبب طبيعتها الحمقاء.
في داخل المشفى الذي أصبح يمرّ به يوميًا، قبل حتى الذهاب إلى عمله، وفي أوقات مختلفة من اليوم أيضًا، وصل إلى غرفتها. فتح الباب بهدوء ودلف إليها، وقد كانت نائمة في ذلك الوقت، فتأمّل ملامحها لتتسلّل الحيرة إلى قلبه، مثل كل مرة:
هل يتعاطف معها ومع ما حدث لها؟ أم يشمت بها؟
ليس ندلًا ليقوم بالثانية، ولا ملاكًا ليشعر كليًا بالأولى، لكنه في النهاية إنسان. ورغم حقده وكرهه القديم لها، إلا أنه بعد تلك السنين التي مرت عليه قد كبر وفهم ونضج، وأصبح يرى الأمور بوضوح وبنظرة أشمل.
فتحت عينيها فجأة وكأنها استشعرت وجوده، فناظرها بقوة دون اكتراث لما قد تظنه، واضعًا يديه في جيبي بنطاله بتحدٍّ.
همّت بالحركة لتنهض، فوجد نفسه — لا إراديًا — يساعدها حتى اعتدلت جالسة، فوضع الوسادة خلف ظهرها لتستند عليها، قائلًا بروتينية:
— عاملة إيه النهارده؟
أومأت برأسها وخرج صوتها بالكاد:
— الحمد لله… أحسن من الأيام اللي فاتت.
— اممم…
ــ زم فمه ليقول بمكر:
كويس أوي. يعني نشوف بقى الدكتورة تصرّحلك بالعودة للحجز لو…
— لاه! أبوس يدك… بلاش.
قاطعته بها فجأة، حتى إنه شكّ في أنه سمعها جيدًا، قبل أن يتأكد من نظرة واحدة لملامحها التي غلّفها الرعب… أو ربما الانكسار.
فردّ عليها بواقعية:
— ما هو انتي مش هتقضي فترتك كلها في المستشفى. لو لا قدر الله المدة طالت، ابن أختك ماشي ورا المحامي بتاعه وبيحوّر في مية اتجاه. لدرجة إن أبلة عطيات نفسها رمى عليها التهمة. هو من مصلحته يوسّع الدايرة. النيابة مضطرة تتحفّظ على الكل لحد ما تستقر على حل…
توقف قليلًا ثم تابع:
— يعني الطبيعي جدًا إنك ترجعي علي الحجز يا هالة.
— وإن قلت أنا الحقيقة ونهيت الموضوع؟
فاجأته بها، فأومأ بإهتمام وجلس على الكرسي المجاور لها يحثّها بحماس:
— يبقى أحسن حاجة تعمليها طبعًا. على الأقل اللي غلط ياخد جزاءه، وإنتِ لو بريئة تخرجي فورًا على بيتك ولأولادك.
أغمضت عينيها لحظات، كأنها تصارع تردّدها، ثم حسمت أمرها تخبره:
— أنا اللي اشتريت السم… وطلبت من ابن أختي يحطه في قهوة اعتماد، في مقابل إنه ياخد تلفوني الجديد.
ارتخت يده بالهاتف الذي كان سيسجل عليه اعترافها. ثم احتدت عيناه بغضب نحوها، وقبل أن ينطق بالتساؤل، تابعت هي تحكي:
— وفعلاً… وقفت عطيات في طريق رجوعها من المدرسة بحجة الأسورة، وراح حسني فضّى المادة اللي اشتريتها في علبة القهوة بتاعة إعتماد اللي كانت مميزة ومعروفة. ورجع في يده الأسورة اللي كان واخدها مني أصلًا.
ربّع ذراعيه فوق صدره ليحدثها بعملية هذه المرة وكأنه فقد الأمل في إنسانيتها:
— ها… كمّلي يا هالة. بعدين؟
قالت بجمود:
— ولا قبلين… الموضوع كان ماشي زي الفل. هخلص منها وأستريح، وكان مفيش حاجة حصلت. بعدها خليفة ما يلاقيش حد غيري ويرجعلي من تاني، نفتح صفحة جديدة… ونعيش أنا وهو والبنات. دا اللي كنت حطاه في مخي… بس…
ارتجفت أمامه فجأة تكمل برهبه:
— بس اللي حصل لما جيت أحط راسي على المخدة بالليل مقدرتش أنام. افتكرت إن المرة دي اللي هتروح فيها روح… يعني موت! وأنا طول عمري بغلّط وبلاقي التبرير اللي بريح بيه ضميري آخر العشية، عشان محسش بالذنب لكن المرة دي محصلش… مخي كان هيشت مني. وأنا بدور علي أي حجة أعلّق عليها ذنبي برضك ملقيتش. ساعتها خدت قراري و قمت لبست عبايتي وطلعت للراجل اللي بيبيع القهوة في البلد، جبت علبة زي اللي بتشرب منها اعتماد، وروحت بيها علي حسني ابن أختي.
— وبعدين، كملي ياهالة؟
سألها بتركيز وقد تخلي عن حموده.
فأجابت دون تردد:
— طلبت منه يطلع الصبح بدري علي المدرسة من تاني بأي حجة، ويبدّل العلبة المسمومة بالسليمة قبل ما اعتماد تروح المدرسة. وساعتها يبجي يادار مادخلك شر.
وادّيته التلفون اللي كنت وعداه بيه، وعليه عشر تلاف جنيه. خدهم مني وقال "أمين".
روّحت بيتي وحطيت راسي ونمت. تاني يوم الصبح كنت هتصل بيه وهتابع معاه، بس لقيت جنى بنتي تعبانة، السخونة كانت واصلة أربعين… جريت بيها علي أقرب عيادة ومنها الدكتور حولني علي المستشفي، عشان حالتها كانت صعبة. قعدت بيها في المستشفي يومين. ولما ربنا نجاها حسّيت إنها رسالة… حمدته وبوست يدي وش وضهر إني لحقت ذنب كبير قبل ما أعمله وبتي تروح مني بسببه.
كنت فاكرة إن حسني نفذ ومعدش في موضوع من أساسه … لحد ما أتفاجأت باللي حصل لاعتماد تالت يوم. اتصلت وقتها وسألته… قالي: "نسيت"!
— نعم؟!
تمتم بها كمال بعدم إستيعاب.
فتابعت هي بنبرة مختنقة بالبكاء:
— والله زي ما بقولك كده…
مكنتش أصلاً مصدقاه، بس ما باليد حيلة بعد السهم ما نفذ…
-- لكن وحق الله أنا صادقة في كل كلمة قولتها، وإسألوا بنفسك أو جيبه هنا يواجهني...
زفر كمال طاردًا دفعة كبيرة من الهواء الذي كان محبوسًا في صدره، ثم واصل التحقيق معها في باقي التفاصيل حتى وقف على أرضٍ صلبة في الأدلة التي تُثبت صحة قولها. وفي النهاية أغلق الهاتف الذي سجّل به اعترافها، لينهض بعد ذلك دون إضافة أي حرفٍ آخر، وصوت بكائها يتبعه حتى خارج الغرفة.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
— أنت بتتكلم جد يا كمال؟ يعني كده الواد فعلًا اعترف بالحقيقة؟
توجّه حمزة بالسؤال إليه بعد أن سمع ما قصّه عليه من أخبار مهمة أعادت الأمل داخله. فأجابه الآخر بتعب:
— عيل غبي، البرشام لحس عقله من كله. أهو اللي زي ده يعمل أي حاجة ولا حتى يحس بتأنيب الضمير، لأن عقله أساسًا مغيّب.
تذمّر حمزة يريد الإجابة على عُجالة:
— وووه يا كمال، مش وقته كلام عن الزفت! خلينا في المهم يا واد الناس، أنا عايز أعرف اللي حصل.
تبسّم الأخير مراعيًا لهفته، ليرد ويريح باله:
— ماشي يا سيدي… اللي حصل إن بعد اعتراف هالة اتجهتُ مباشرة ناحية ابن أختها عندي في الحجز. طبعًا هو حوّر ودخلني في مية سِكّة، بس أنا ضغطت وحاصرته من كل الجهات وبالأدلة اللي عرفتها من هالة، لحد ما أجبرته يعترف…
توقّف برهة بتفكير، ثم واصل:
— الولد الفاشل ده كان فعلًا عايز ينفّذ كلامها بس مش عارف يعملها إزاي المرة دي من غير البوّاب ما يشك فيه، بعد ما زنق عليه المرة الأولى لما شافوه داخل غرفة السعاة. قام مكلّم واحد من الجماعة اللي بيضربوا معاه في الزفت اللي بيشربوه. الشخص اللي كلمه ما صدّق سمع الحكاية منه، قاله: "سيب الأمر عليّ وأنا هتصرّف وأساعدك"، بحكم إنه بيدخل المدرسة عادي وبيعرف اللي شغالين فيها. حسني صدّقه واعتمد عليه وادّاله خمس تلاف جنيه. مكانش يعرف إن الباشا التاني لقى فرصته في الانتقام من اعتماد عشان يخلّص منها بسبب العداوة اللي ما بينهم.
— مين ده؟ واسمه إيه؟
سأل حمزة بتحفّز، فجاءت الإجابة منه بتساؤل:
— تعرف واحد اسمه محمود؟
— يا ابن الـ…
تمتم حمزة وهو يضرب كفًا بالآخر، يردف بالسباب على المذكور سبب البلاء على المرأة وشقيقاتها:
— ده جوز أختها! الله يخرب بيت أبوه! الواد ده يتسحب من قفاه وتحبسوه، وتفتحوا قضية اعتماد القديمة معاه لما كان عايز يخلّص عليها برضك. اللي زي ده حرام يقعد برّه السجن، لازم يتربّى!
وحين ظل كمال على صمته، صاح به حمزة:
— سكت ليه؟ ما تكمّل يا واد الناس! قول هتتصرف كيف؟
سمع ليرد بيأس:
— أقول إيه بس يا عم؟ ما أنا اتصرّفت زي ما إنت قلت كده، وبعتّ قوة تجيبه من قفاه، لكن للأسف اكتشفنا إنه سافر برّه مصر من غير ما يبلّغ أهله حتى. يعني لو بنت عمّك اتنازلت من البداية واعترفت بالحقيقة، كان زمانّا قابضين عليه وخلصانة الحكاية…
أغمض حمزة بقنوط متأوّهًا:
— آآه منك يا هالة… دايمًا تاعبة نفسك وتاعبة الناس معاكي.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
كان عرفان في طريقه لاستقلال سيارة تقلّه إلى المحافظة، من مدخل البلدة الذي يذهب إليه مضطرًا حين يكون في عجلة من أمره، متخذًا الطريق السريع الذي يصل به إلى وجهته في أقل من ربع الساعة.
أبصر من البعيد طيف ذلك المتخفّي عنه منذ فترة ليست بالهينة، يغادر متخذًا طريقًا مخالفًا، وكأنه وجد رفيق كأس آخر. لعنه في سرّه، فمنذ حادث الغجرية وهروبها منه، كأنه أصبح يتجنّبه، ولكن لما العجب؟ فهكذا هو دائمًا معه… ندل وقليل أصل.
تمتم بسبّة نابية عليه، قبل أن يتجه نحو غفير البلدة في مكانه المعروف على الأريكة الخشبية، يرتشف من الشاي الذي أعدّه على كومة النار أسفله.
بجواره كان سائق النقل الذي يتعامل معه في نقل مبيعات مزرعته من الفواكه والخضروات.
— سلام عليكم يا حسنين. إزيك يا عوض يا خسيس.
ردّ الأول التحية، وضحك الثاني يرد عليه:
— وه يا أبو ناصر! كده دايمًا تقابلني بالشتيمة من غير سبب! طب أنا عملتلك إيه بس يا بوي؟
عبس في وجهه موجهًا الخطاب إليه وإلى الغفير حسنين:
— قليل أصل ومبتسألش، يعني إن ما كانش فيه لقمة عيش وشغل ما بينّا، ولا كأنك تعرفني ولا أعرفك… بالظبط زي الواطي اللي طلع من البوابة جدّامك دلوك.
فهم الاثنان مقصده، فتدخّل الغفير مُلطّفًا:
— معلش يا أبو ناصر، الدنيا تلاهي يا ابوي، تلاقيه مسحول في الشغل. النقل ما بين البلاد حاجة مش هَيّنة، ربنا يعينه.
— والله ما كدبت.
قالها المدعو عوض ليواصل في التبرير إلي عرفان:
— إحنا ناس على باب الله يا عم عرفان، ما بنصدّق لقمة العيش تنادينا… نجري عليها طوالي، إن شاء الله حتى لو في الصين هنروح عليها. أمّا عطوة فدا حقك تلوم عليه، راجل حر، لا وراه مرا ولا عيال، عنده ورث أبوه بيصرف منه من غير ما يشتغل. ولا يمكن لاقي شغلته في البلد اللي رجله بقت رايحة جاية عليها… دي المرة التالتة أشوفه فيها في نفس الأسبوع وأنا ماشي في طريقي بعربيتي، يا داخل يا طالع منها.
ضاقت عينا عرفان بتفكير يستوعب كلماته، وشيء ما زرع الفضول داخله، ليقترب طالبًا منه:
— طب بقولك إيه… تقدر تعرفلي هو بيروح عند مين بالظبط في البلد دي؟
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
— جاعد في الضلمة لوحدك ليه يا حمزة؟
هكذا تحدثت إليه مزيونة حين استيقظت من نومها في منتصف الليل لتجد الفراش فارغًا من دونه. بحثت عنه حتى وجدته في غرفة مكتبه، متكئًا بنصف نومة على الأريكة الجلدية، مربّعًا ذراعيه فوق صدره بشرود.
انتبه إليها، فاعتدل فورًا ليتلقّاها وهي تدلف مستندة على عصاها. فساعدها حتى جلست وجلس بجوارها قائلًا:
— إيه اللي قومّك من نومك بس؟
— إنت… دي أول مرة تتأخر للوقت ده وأصحى ألاقي الفرشة باردة من غيرك. جاعد هنا من إمتى يا حمزة؟
رد يجيبها بفتور:
— يعني… يمكن من كتير وأنا ما حسّيتش بالوقت.
سألته بفراستها:
— إنت فيه حاجة مزعلاك صح؟
نفى كذبًا:
— لا طبعًا، مين قال الكلام ده؟ آآه…
— حمزة، ما تحاولش تنكر. إنت بالذات مكشوف… إن كنت فرحان ولا زعلان. ما بتعرفش تداري أصلًا زي باقي الخلق… بيبان على وشّك.
قاطعته بحدة حتي تقطع عليه كل سبل المماطلة،
فصمت، لا رغبة تدفعه للكلام، لتردف بإلحاح:
— حمزة… حنّ عليك وما تخبّي عليا.
قلّب عينيه بيأس، يعلم أنها لن تهدأ حتى تعرف، ليخرج عن صمته قائلًا:
— يعني لو اتكلمت براحتي مش هتفهميني غلط؟ من أولها عشان نبقى متفقين.
فكرت قليلًا ثم قالت بثقة:
— وإنت عارفني… قد كلمتي. قول اللي تقوله وأنا مش هفهمك غلط يا حمزة.
سمع منها، ثم اعتدل في جلسته، ليقابلها ساندًا ظهره علي ذراع الأريكة، ليفصح عما بداخله:
— هالة بت عمّي…
— مالها؟
— خايف أكون ظلمتها…
— نعم؟
تمتمت بها مزيونة، ثم سألت باستغراب:
— ليه بتقول كده يا حمزة؟
رد بنبرة يكسوها الحزن:
— عشان بصّيت لنفسي زمان، وما سألتش في نظرة الناس ليها، ولا نظرتها لنفسها لما اخترت واحدة غيرها، بعد ما كانت تقريبًا مكتوبة على اسمي بحكم عوايدنا وتقاليدنا… بس والله العظيم كان ليا أسبابي…
— وهي إيه أسبابك يا حمزة؟ اعتبرني واحد صاحبك واتكلم معايا عادي…
— ما هو السبب الرئيسي كان صاحبي يا مزيونة…
قالها بغموض، ثم تابع يوضح دون مقاطعة منها:
— أنا قولتلك إن كمال طلبها مني زمان… بس ما حكيتلكيش كيف. كمال كان صاحبي من سنين، وياما نِزِل عندنا وبات بالأيام كمان. كان دايمًا عندي ثقة كاملة في أدبه وأخلاقه، وعمره ما خيّب ظني. لحد ما جه اليوم اللي لقيته بيفاجئني ويطلب يد بت عمي هالة بالاسم. ساعتها مكنتش عارف أرد بإيه… لا عارف أزعّله عشان بصّ على بت عمي، ولا عارف أتعامل كأن الموضوع ما يخصّنيش. لأنها بصراحة مكنتش في بالي، حتى وأنا بسمع أهالينا من صغري يقولوا: "حمزة لهالة وهالة لحمزة"، مفيش مرة خدتها بشكل جدي، ولا بصّيتلها أكتر من إنها أختي. دي قلوب… وإحنا ملناش سلطان عليها. ومش هقولك عشان فيها عيب، لا والله. قلب الراجل لو بيهوى… ولابيأثر في اختياره أي عيب.
لذلك… لما حكمت ضميري… لقيت إن كمال هو الأحق بيها، على الأقل عشان حبها من قلبه، يبقى هو الأولى بيها مني.
تنهد يكمل بأسى وقد تغيّرت نبرته:
— ردّيت عليه وقلت: "أمين… هكلم أبوها وأرد عليك". وحصل… وروحت لعمي… ويا ريتني ما روحت…! الراجل عملها مشكلة كبيرة وكأني طعنته في قلبه، كبّر الموضوع وقعد يزعق، لدرجة إن أبويا زعل مني ومن صاحبي قليل الحيا اللي حط عينه على بت عمي، اللي في حكم خطيبتي. وهالة اللي حضرت الحديت، مشيت على كلام أبوها وراحت بخّت سمّها في وش كمال...
توقف يتابع رد فعلها، وقد كتمت بكف يدها على فمها بصدمة، ليتابع هو حديثه بثقل:
ـ لكي بقى أن تتخيلي لما يجي صاحب عمري ويواجهني إن أنا خبيث وإنسان مش كويس، وإن الحركة الناقصة دي متطلعش من راجل محترم... وكانت النتيجة إن القطيعة حصلت بيني وما بينه، وهالة بت عمي حرّمت عليا. دا القرار اللي مقدرتش أرجع فيه، لكني لحد دلوك بدفع تمنه... وأرجع تاني وأسأل نفس السؤال: هل أنا كنت أناني في رد فعلي معاها؟
ـ لا يا حمزة... أنت معملتش غير الصح.
قالتها مزيونة في رد مفاجئ تقطع به صمتها، ثم تابعت:
ـ يمكن خانتك الطريقة، لكن الجواز قسمة ونصيب، وربك هو اللي بيألّف القلوب. هالة نفسها كانت هتعرف كده لو ملقتش اللي يزن فوق راسها ويثبّت الفكرة في عقلها من وهي عيلة في اللفة. أهالينا بيمشوا بالتقاليد، ومحدش منهم بيبص للنفوس واللي بيجرى فيها نتيجة التفاصيل اللي زي دي. سيب أمرك لله، وادعيلها ربنا يفك كربها، ويهديها لحالها. أكيد اللي مرت بيه مش هيّن واصل على واحدة زيها.
حدق بها حمزة للحظات طويلة دون أن يعقب، وابتسامة ارتسمت جليًا على ملامحه، ليضمها إليه فجأة وبدون سابق إنذار، يحتضنها بقوة بعدما أراحت قلبه بكلماتها، فيستعيد عبثه:
ـ آآه يا أم الغايب، ريحتيني وريّحتي قلبي، حضنك حلو وكلامك حلو... كنتي غايبة عني فين بس؟
ضحكت، تربّت بكف يدها على ذراعه مرددة:
ـ ما قولنا النصيب يا أبو ريّان.
قطف حمزة عدة قبلات من وجنتها:
ـ وأنا بقولك إن نصيبي عسل... عسسسل!
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
في اليوم التالي، أتى على موعده ليجدها مستيقظة، جالسة على سريرها الطبي وكأنها كانت في انتظاره.
ـ صباح الخير.
ألقى عليها التحية، يخلع عن عينيه النظارة السوداء التي تكمل هيئته الأنيقة وتزيده هيبة.
صرفت نفسها عن تأمله سريعًا لترد تحيته:
ـ صباح النور.
سحب المقعد وجلس أمامها متابعًا:
ـ عاملة إيه النهاردة بقى؟
أجابته بصوت خفيف:
ـ الحمد لله… وجع راسي بدأ يهدى شوية، وباقي الإصابات تقريبًا بدأت تختفي، بعيد عن الدراع طبعًا.
إتجهت عيناه نحو الأخير المعلّق بالرباط الطبي في رقبتها، ليردف بتهوين:
ـ معلش، العضم بياخد وقته ويلمّ. المهم إنه بيشفي بعد ما يعدّي الوقت، مش زي حاجات تانية.
فهمت ما يقصد رغم عدم الإشارة إليه بصورة مباشرة، فأسدلت عيناها بخزي وقالت بخفوت:
ـ أنا كنت عايزة أتشكرك على اللي عملته. المحامي طمّنّي وقالي إن مسألة طلوعي مسألة وقت.
تنهد يجيبها برسمية:
ـ أنا ما عملتش غير واجبي. واجبي اللي بيحتم عليا أقبض علي المذنب وبس. السجن مش أداة لانتقامي من حد.
للمرة الثانية أدخل في عباراته معانٍ مقصودة، وهي لا تملك إلا الصمت، فتابع يجفلها بفضوله:
ـ معلش يعني… ده سؤال كان بيدور في دماغي من إمبارح، ومش هقدر صراحة أكتمه في قلبي.
التقط نظرتها إليه وكأنها إشارة، ليردف بحدة:
ـ هو أنتِ برضه مش كنتي مكتوبة لابن عمك الكبير حمزة، ووقفتي وقولتيها ببُقّك المليان إن محدّش يخطب واحدة من خطيبها؟ إيه بقى اللي غيّر الاتجاه وخلاّكي تروحي للأصغر منه؟ لا وكنتي على وشك ارتكاب جريمة عشان تحافظي عليه؟ للدرجادي بتغيري عليه؟ أمال حمزة كان دوره إيه؟
ـ حمزة كان وراح لصاحبة نصيبه، — هتفت بها لتردف بعدها، وبلهجة أخف:
ـ والجريمة اللي كنت هعملها عشان خليفة ما كنتش غيرة ولا حاجة… بس، تقدر تقول دفاع عن كرامة، انتقام لنفسي، أو غباء مني. قول أي حاجة… في كل الحالات عمرك ما هتفهم، لا أنت ولا أي حد فيهم.
ردّ ببساطة وابتسامة ساخرة:
ـ لا يا هالة… والله ما محتاجة غموض ولا تعب في التفكير. الناس كلها فاهمة أصلاً. إنتِ بس غرورك مهيألك إن محدّش واصل لذكائك.
أومأت وهي تحدّق فيه بنظرة ثابتة، ثم عقبت:
ـ يعني ذكائك وصلك لليوم اللي انكسرت فيه؛ اليوم اللي صبحت فيه لقيت ابن عمي مفضّل عليّ واحدة تانية، وكل اللي يشوفني يسألني عن السبب… سبب إنه يسيبني ويروح للغريبة؟ وأنا مش لاقية حتى رد أردّه عليهم. ولا إحساسي أنا بعد كده مع جوزي لما أشوف في عيونه العشق اللي ما شفتهوش منه يروح بسهولة لواحدة غيري.
استفزّه كلامها فأخرج شياطين غضبه المكبوتة، وصاح بها معقبًا:
ـ يبقى العيب فيكي مش فيهم. العيب فيكِ لأنك غبية وعمية بصر وبصيرة! لو كانت عينيكي شغّالة كويس، كنتي شُفتي اللي حبّك بجد واتقدّم لأهلك. لكنك استهزأتي بمشاعري ورفضتيني بكل ما فيكي، عشان وهم ابن عمّك اللي في الآخر برضه سابك وفضّل عليّكي واحدة تانية! وتفضّلي أنتِ لأخوه زي البضاعة البايِتة… وفي النهاية تكون دي النتيجة: نتيجة غبائك.
وكأنها لم تتأثر بثورته، بل أبدت ثباتًا يثير الدهشة حين أردفت لتصعقه بردّ هادئ:
ـ إممم… يعني على كده عارف إن أنت كنت السبب في رفض حمزة ليا، بعد المشكلة الكبيرة اللي حصلت بينّا نتيجة إن حضرتك اتقدمت لي من غير ما تسأل؟
أشار بسبابته نحو صدره بذهول:
ـ يعني أنا السبب في كل اللخبطة اللي حصلت في حياتك يا هالة؟
أسدلت أهدابها عن مواجهته؛ وكان في صمتها أبلغ رد على سؤاله. أخذ دورَه ليصدمها هو الآخر قائلاً:
ـ طب وإيه رأيك بقي لو أصلّح غلطتي؟
— سألته بعدم فهم:
--- قصدك إيه؟
...........................
عجبك الأيس كريم يا اعتماد؟
سألها خليفة ويدها محجوزة داخل يده، بعد أن ذهب بها إلى المحافظة لتقضي معه وقتًا ممتعًا معه، ثم التسكّع بالسير في الطرقات المرصوفة حتى يصل بها إلى كورنيش النيل، ليكملا وقتهما الجميل هناك.
وبناءً على طلبها، وقد كانت في حالة من السعادة لا تعرف وصفًا لها، وقد ارتاحت سريرتها بعض الشيء بالأخبار المطمئنة عن قرب خروج هالة، وهروب هذا الفاسد لتعود إليها شقيقتها، بعد أن زال سحره عنها، وانزاح الغيم عن عينيها في رؤية حقيقته:
ـ الأيس كريم بس؟ والقعدة نفسها دي هَيِّنة؟! ربنا يخليك ليَّ يا خليفة، حققت لي أمنية طول عمري كنت أتمناها، مع إنها كانت من المستحيلات بالنسبة ليا.
تبسّم مُقرِّبًا إياها إليه، أثناء ابتعادها قليلاً عنه، ليعقّب على قولها:
ـ عشان عوايدنا يعني والكلام ده؟
ردت تؤكّد:
ـ أيوة، أومال إيه؟ مش (ستّ)، وأنت عارف الكلام اللي بيتقال عن البتّ اللي تروح المولد في بلدنا ولا تدخل السيما. بالك أنت! وأنا في ثانوي كان المحافظ عامل يوم مخصوص للبنات بسعر رمزي، كل صحباتي البنات دخلوا وشافوا الأفلام اللي متذاعة وقتها، لكن أنا لأ… ما قدرتش، ولا جاتني الجرأة أصلًا. قوم يجي اليوم اللي أدخلها معاك كمان… دي حاجة عجيبة دي والله.
أطلق ضحكته المميزة حتى انتابهما الخجل من النظرات التي كانت تُوجَّه إليهما من المارَّة، ألا تكفيها وسامته الجاذبة للأعين دون جهد، حتى يزيد عليها بضحكته الرنانة، وقلوب النساء لا تحتمل من الأساس؟
ـ عشان تعرفي غلاوتك عندي يا ست العرايس، وعلى العموم برضو أنا جبتك في وقت بتبقى الدنيا فاضية أصلاً، وأنتِ شوفتي بنفسك عدد الحاضرين يتعدَّ على الصوابع. ده غير إن الفيلم اخترته زين، بحيث إنه يبقى ممتع وفي نفس الوقت ما يجيش فيه مشهد تتكسفي منه. احلمي أنتِ بس، وأنا هلاقي الطريقة اللي تريحك وتريحني في تحقيق اللي عايزاه.
وكأنها أصبحت طفلة بين يديه، لترد شاكرة صنيعه بامتنان شديد:
ـ إن شاء الله ربنا يخليك، ويبارك لي في عمرك يا رب يا رب، مش لاقية كلام يكفي اللي جوايا ناحيتك.
تبسّم خليفة قائلاً:
ـ لأ، أنتِ استكفي بكلمة واحدة قوليهالي، وأنا مش عايز غيرها…
ـ كلمة إيه؟
كاد أن يجيبها، ولكن أوقفه التوقف المفاجئ لإحدى السيارات أمامهم، ثم ترجلت إحدى النساء منها، موجهة الحديث إليه مباشرة:
ـ إيه ده خليفة؟ دا أنا افتكرت نفسي بشَبه والله.
تطلَّع إليها الأخير ليحدّد هويتها، بعدما رفعت النظارة الشمسية السوداء عن عينيها…
ـ مين؟ روان؟
... يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا

تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا