رواية لإجلها الفصل السابع والاربعون 47الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية لإجلها الفصل السابع والاربعون 47الجزء الثاني بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات
الفصل السابع والأربعون
عجيبٌ أمر الدنيا... لا تُخطئ ميزانها أبدًا، وإن تأخّر الحساب.
فالذي يزرع شوكًا، لا بدّ أن ينزف من أشواكه يومًا،
والذي يسقي قلبه بالخير، يورق ولو بعد حين.
الجزاء لا يأتي دائمًا بصوتٍ عالٍ أو مشهدٍ دراميّ،
أحيانًا يأتي في صورة فراغٍ داخلي، أو خسارةٍ لا تُعوّض،
أو في لحظةِ وعيٍ متأخرة يدرك فيها المخطئ أنه خسر نفسه قبل أن يخسر غيره.
أما الطيبون...
فحتى وإن عبروا طرقًا مليئةً بالخذلان والوجوه الزائفة،
تظلّ قلوبهم بيضاء، لا تحمل سوى بقايا وجعٍ شريف.
يحافظون على نقاء سريرتهم، لأن الخير فيهم فطرة،
ولأنهم لم يجعلوا الظروف مبررًا للقبح،
ولا قلّة الاهتمام عذرًا للخيانة،
ولا الضعف سببًا لتبرير الشرّ.
وفي النهاية...
يبقى كلّ إنسانٍ أسير ما زرع،
فالنية بذرة،
والحياة تردّ لنا ثمار ما زرعنا مهما طال الزمن. 🌿
المراجعة والمخاطرة الروعة من المبدعة العائدة بقوة/ سنا الفردوس ( بطوط)
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
الفصل السابع والأربعون
وكأنها مهمة سرية لا يصح معها إلا الكتمان، وصل خليفة إلى الباب الخلفي لمنزل شقيقته، ليتلقاه زوجها صاحب المنزل خِفيةً ودون علمها أيضًا.
فسحبه من مدخل "الحوش" (الفناء)، ثم أغلق عليهما الباب، يلتقط أنفاسه ناظرًا إليه بصمتٍ وترددٍ بعض الشيء.
ليبادره خليفة بحنق:
ـ أنت مدخلني الحوش معاك عشان تقف تبص لي وتسكت؟! ما تتكلم يا منصور، إيه الأمر المهم اللي عايزني فيه؟... شغلتني يا عم!
لم ينتظر الأخير المزيد من التأخير، ليُخرج من جيب جلبابه كيسًا بلاستيكيًا ويرفعه أمام عينيه، الأمر الذي أثار استهجان خليفة:
ـ أنت هتلاعبني بالألغاز؟! دا كيس علاج تبع صيدلية الواد توفيق، ماله بقى؟
أجابه منصور وهو يُخرج شيئًا آخر:
ـ أنا لقيت الكيس ده مع العبوة الفاضية دي في الأوضة اللي بتسوي فيها اعتماد والمدرسات اللي معاها القهوة والشاي، يعني زي غرفة السعادة كده...
خطف خليفة منه العبوة الفارغة ليقرأ المدون عليها باللغة الإنجليزية، وسرعان ما استوعب، لتبرق عيناه نحو زوج شقيقته باستدراك:
ـ يبقى أكيد العبوة دي اللي اتحط منها في علبة القهوة، دا كده تبقى ساهلة قوي. نروح بيها على الحكومة أو نديها لكمال اللي متولي القضية دلوك، ويسحب الواد توفيق من قفاه وهو هيقر زي الكلب...
ـ هو أنا كنت مستنيك عشان تتحفني برأيك؟!
قاطعه بها منصور، يوقف هذيانه ويُخمد طاقة الحماس التي اشتعلت به. فسأله بتوجس:
ـ قصدك إيه يا منصور؟... ما تجيب من الآخر وخلصني.
أخرج الآخر تنهيدة مثقلة، قبل أن يحسم ويُخبره:
ـ أنا الكيس ده لقيته في سلة الزبالة قبل الحكومة ما تدخل المدرسة وتفتش أصلًا. شيءٌ "إلهي" خلاني أدخل وأديها جولة قبل الحكومة ما توصل، وعيني بالصدفة وقعت على السلة اللي بقالها كام يوم ما ترفعتش أصلًا، عشان أم صالح الساعية مش موجودة، واعتماد نفسها بقالها كام يوم ما بتروحش. وبالتالي عقلي راح على عطيات زميلتها، روحت واخد ديلي في سناني على الواد توفيق الزفت. مجرد ما سألته عن اللي اشترى العلبة منه، وعرّفته بالمصيبة اللي ممكن يروح فيها لو ما قالش الحقيقة، لقيته بكل برود حدفني بالرد اللي يخرسني خالص.
بخليطٍ من الاندهاش والغضب ثار به خليفة، شاعرًا بحلقةٍ مفقودةٍ في القصة:
ـ هو إيه اللي يخرسك ويزفتك؟ أنت روحت له ليه أصلًا؟ البوليس هو اللي يشوف شغله معاه، هو والزفت اللي خد منه عشان يعمل عملته، أكيد جوز أختها الحيوان، الواد ده عايز يخلص منها أنا عارفه.
ـ لاه، مش جوز أختها خالص يا خليفة.
تفوّه بها منصور قبل أن يردف بالحقيقة الصادمة:
ـ أنا اللي خلاني أروح له هو الشك، شك اتزرع جوايا مع غياب اعتماد، اللي سبقه زيارة غريبة من حد أنت تعرفه زين قوي... وللأسف، توقعي كان صح من اعتراف توفيق.
ردد خليفة من خلفه، وعقله عجز عن التخمين رغم تسرب الريبة لقلبه:
ـ توقع إيه اللي طلع صح؟ مين الحد ده يا منصور؟
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
ـ ها يا أَبلة عطيات، احكي وقولي اللي عندك.
سمعت منه المرأة لتسرد عليه ما تعرفه:
ـ هالة.
ـ هالة مين؟
سألها كمال بتوجس، وشيءٌ ما خفق بداخله، لتؤكد له بالشرح:
ـ هالة مرات خليفة وبت عمه. كانت جت زارت الأبلة اعتماد من كام يوم، وأنا سيبتهم واتحججت بإني أجيب عِدة القهوة لما حسّيت الجو فيه توتر ما بينهم، بما إنها خلاص هتبقى ضرتها يعني وكده.
المهم، بعد ما انتهت القعدة ما بينهم، اعتماد ما كانتش على حالها أبدًا، وكأنها هددتها أو قالت لها كلام صعب، الله أعلم. المهم إنها روّحت بدري عن ميعادها، وأنا عرفت بعدها إن الأستاذ خليفة جه خدها. وأنا ما قعدتش كتير وخرجت أروح على بيتنا أنا كمان، لكن وأنا ماشية في الطريق قابلتها في سكتي.
ـ هي مين؟
ـ هالة يا أفندم. كانت واقفة بتتحدت مع ابن أختها الكبيرة، واد صايع أنا عارفاه. أنا قربت منها أسألها إيه الحكاية؟ لقيتها بتقول لي إن الإسوِرة بتاعتها ضاعت منها، وهي شاكة تكون وقعت أثناء ما كانت في أوضة المدرسات عندنا.
سألها باهتمام:
ـ وبعدين؟
ـ قالت إنها مكسوفة ترجع تاني المدرسة تدور عليها... وطلبت مني الإذن لابن أختها يرجع يشوفها... أنا بصراحة صدجت واتعاطفت معاها عشان دي حاجة غالية جوي أنا شوفتها بعيني.
توقفت برهة بترددٍ قليلًا، فعاد يحثها على الاستكمال على الفور:
ـ كمّلي يا ستي.
ابتلعت ريقها تردف بحرج:
ـ إديتها مفتاح الأوضة وهي إدتهوله. وقفت معاها لحد ما راح ورجع بالإسوِرة في إيده، وهو بيقول إنه لقاها تحت الكرسي اللي كانت قاعدة عليه.
ضاقت حدقتاه بنوعٍ من الاستفهام، يأمرها ببعض الانفعال:
ـ وضّحي أكتر يا عطيات، إيه اللي خلاكي تشكي فيها؟
ـ الكذب يا أفندم.
خرجت منها سريعًا، لتردف:
ـ عشان الباشا اللي بيقول لاقاها تحت الكرسي، عرفت إنه ما دخلش الأوضة أصلًا. راح على طول على أوضة السعاة، دخل وخرج. وعم نوبي لما شافه قال له إنه دخل يشرب مية من التلاجة عشان كان عطشان. الكلام ده أنا عرفته تاني يوم من الراجل نفسه. واعتماد غابت كام يوم، واليوم اللي رجعت فيه حصل اللي حصل.
بدا على كمال بعض الاستيعاب، لكن سرعان ما عاد لتحقيقه:
ـ طب وإشمعنى القهوة؟ وليه اعتماد بس؟ ما حدش بيشرب قهوة غيرها؟
ـ اعتماد ليها قهوة مخصوص، ما حدش بيشربها غيرها، نوع معروف، وهالة شافته بنفسها. يعني سهل قوي تقول لابن أختها على اسم العلبة.
كان حديثها بالفعل مقنعًا، ولكن ماذا عليه أن يفعل؟ وما سر تلك المفارقة العجيبة؟ المرأة الوحيدة التي أحبها، وبعد سنواتٍ من هجره للبلدة بأكملها من أجلها، يأتي أول لقاءٍ له معها في تحقيقٍ عن جريمة شروعٍ في قتل؟... اللعنة.
توقف عن شروده ليعود متسائلًا:
ـ قولتِ لي الواد اسمه إيه؟
ـ اسمه حسني، عيل صايع ما يجيبش التمنتاشر سنة.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
دلف بغضبه إلى منزل عمه الذي وجده في الردهة يرتشف الشاي مع زوجته. ألقى عليهما التحية على عجالة ولم ينتظر حتى ردًا منهما أو استفسارًا، وقد اتخذ طريقه مباشرة نحو الدرج، مستأذنًا في الصعود دون أن يهتم بموافقته أو رفضه، غير مكترثٍ لدهشة الرجل الذي بهت يُطالعه بذهولٍ شديدٍ وتساؤلٍ عن سبب فعله.
وصل إلى الطابق المقصود في ثوانٍ قليلة، ثم ولج إلى داخل الشقة التي تتخذها مسكنًا لها ولبناتها، مُفاجئًا إياها بحضوره، وقد كانت في هذا الوقت تُرتب المنزل في غياب الأطفال الذين يلعبون في الخارج، وقبل أن تستوعب حتى، ألقى عليها ما حصل عليه من زوج شقيقته.
ـ إيه ده؟
صدرت منها بإجفالٍ قبل أن تتحقق من ما في يدها، فوقع قلبها من المفاجأة، ولكنها سريعًا تجاوزت صدمتها، لتعود بسؤاله مرة أخرى بلهجةٍ لم تُخفِ اهتزازها:
ـ إيه ده يا خليفة؟ في حد يخش على الناس هجم كده من غير "احمّ ولا دستور"؟
صاح ردًا لها:
ـ مش لما يكونوا ناس طبيعية... مش قتالين قَتَلة، ومتآمرين وفاقدين لنعمة الإحساس.
قوة صيحته أجبرت قدميها أن ترتد إلى الخلف بخطوة، لتجأر به، متخذة منهج الإنكار وعدم الفهم:
ـ أنت بتهلفط؟ بتقول إيه؟ اصحى لنفسك يا خليفة، لتكون شارب حاجة قبل ما تاجي!
ـ شارب من كِيعاني معاكي يا هالة!
صرخ ثم باغتها وعلى حين غرة، يقبض بكفيه على ساعديها، يرجّها بقوة:
ـ سنين وأنا عايش معاكي في مرار وشارب ومتحمل! شوفت في عينك اللي ما يتحملوش راجل، وبلعت وحطيت بلغة في حنكي عشان العيال اللي ربطت ما بينا. كان عندي أمل ولو واحد في المية إنك تتصلحي، لكن مفيش فايدة! صبرت عليكي وعلى غبائك لحد ما فاض بيا. ربنا وقعني في المرا الوحيدة اللي لقيت معاها نفسي، روحتلك وطلبت منك نفترق بما يرضي الله، لكن رفضتي وجولتي موافقة بيها ضُرّة، بتنيميني عشان تحطيلها السم ليه؟! عايزة تموتيها وتموتيني وراها بالحيااااة؟!
اكتسح خلاياها الرعب جراء هيئته المتوحشة، وقد كان علي وشك الفتك بها، فهذه أول مرة ترى ذلك الجزء المتخفي من شخصيته، انقلاب البحر الساكن الذي لطالما تساءلت داخِلها عنه. لترى الآن بأم عينيها قوة الأمواج العاتية القادرة على سحقها حية.
انعقد لسانها من الرعب، إلا أنه انطلق فجأة حين استمعت لآخر الحديث عن غريمتها وعشقه المتيم بها، لتنفض قبضتيه عن ذراعيها بعنف صائحةً به:
ـ حِلّ يدك عني يا خليفة! داخل واخدني كده على مشمّي؟! إيييه؟! خدوهم بالصوت لا يغلبوكم! جاي ترمي بلاك عليّا وتطلعني أنا اللي سمّيت شقيقة قلبك؟ من دلوك بتقلب عليا؟ أنا بت عمك قبل ما أكون مرتك!
ـ ما عدتيش يا هالة...
قاطعها بها ليردف بلهيب نيران قلبه المستعر:
ـ التحوير واللف والدوران مش لايقين عليكي عشان خلصت! توفيق اعترف إنك أنتِ اللي اشتريتي منه المادة الزفت، وهو اللي فهمك على طريقتها. علبة القهوة في يد الحكومة وهتعرف المادة من التحليل. وإحنا للمرة الألف بنغطي عليكي وبنحميكي غصب عنّا عشان عارنا... إنما أنا مش مجبر أكمل معاكي! لحد كده وفضّت الشركة ما بينّا. دلوك حالًا هطلع على المأذون أبعتلك ورقتك، كل حقوقك هتوصلك هي كمان، ولو حصل إني أبيع جلابيتي اللي عليّا عشان أكفي النفقة والمؤخر هاعملها، ولا إنك تجعدي على ذمتي دقيقة واحدة تاني.
روحي، وانتِ طالق يا هالة.
الجمود التام هو الشيء الوحيد الذي لون ملامحها الآن، عيناها كالزجاج تتابعه وهو يغادر بغضبه من أمامها، تُعيد على أسماعها الجملة مرارًا وتكرارًا...
هل هو بالفعل طلقها؟ أم أن العبارة لها معنى آخر؟!
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
بحث في كل زاوية وركن من الغرفة، ليتجه بنظره إليها في النهاية بيأس، وهو يحدثها:
ـ وبعدين بقى؟ شاحن الزفت! بقالي ساعة بدور عليه، اختفى يعني ولا ضاع؟
رفعت عينيها عن الهاتف الذي تدّعي الانشغال به، لترمقه بنظرة غير مبالية، ثم عادت لهاتفها مجددًا.
الأمر الذي جعله يصرخ بها، متخليًا عن تحفظه معها منذ الأمس:
ـ عاملالي فيها مش واخدة بالك يا ست ليلى؟ بكلم نفسي يعني ولا بكلم خيالك؟
تنهدت رافعة رأسها إليه بضجر:
ـ نعم يا أستاذ معاذ؟ أنت متضايق بجى وهتحط غلبك فيا؟ اتفضل يا سيدي.
طالعها بغيظ، واقترب منها حتى صار أمامها، قائلًا بهدوءٍ ما قبل العاصفة:
ـ أستاذ معاذ! مش ملاحظة يا هانم إنك مزوداها من امبارح؟
وأنا اللي مفوّت بمزاجي عشان بقول أنا الكبير واللي بفهم أكتر، لكن تتمادي فيها مش هسمحلك.
ـ أنت الكبير واللي بتفهم! اسم الله!
قالتها بنبرة استنكارية، لتردف بانفعال قطة تتأهب للهجوم:
ـ ده على أساس إني غلطت فيك وجرحتك بالكلام الماسخ، وبعدها نمت زي الشوال من غير ما أطيب خاطرك؟
ردد بدهشة وعدم استيعاب للوصف الذي قذفته به:
ـ أنا شوال يا ليلى؟
ـ أمال أنا اللي عايزة ونش يشيلني؟
قالتها لتخفف من حدته، وقد فهم عتبها، فصمت برهة وهدأ من وتيرة انفعاله قليلًا، ثم قال:
ـ أنا مش هعاتبك ولا أزعل منك، عشان عارفك واخدة على خاطرك.
بس أنا كنت تعبان يا ليلى، وما صدجت لقيت السرير واترميت عليه.
يمكن دبّيت معاكي، بس والله ما كان قصدي أعيب عليكي.
ما أنا عارف إن وزنك زاد من الحمل...
ـ وافرِض كان وزني زاد من غير حمل، ساعتها هيبقالك الحق برضه تتريق عليا؟
قالتها بنبرة مشددة يفوح منها التحدي، مثبتة عينيها في عينيه، فتبسم لها بحنو وهو يجيبها:
ـ لأ طبعًا ما ينفعش أتريق، أنا واد أصول.
بس إنتِ تلميها شوية، مش تفتحي في الأكل وبعدين معرفكيش من الدهون!
شهقت وتوسعت عيناها، لترد بعند وهي تضربه بقبضتيها:
ـ طب أنا بقى هاكل مخصوص عشان أزود في الدهون، إيه رأيك بقى؟ ها؟ إيه رأيك؟
أمسك بيديها الاثنتين، يضمّهما داخل كفه، ثم ربت بكفه الحر على خدها بتسلية:
ـ بالراحة على نفسك يا حلوة، لا يدك توجعك.
أنا سكتلك امبارح، بس مش هخليها تتكرر تاني.
مش أنا اللي أنضرب من مرتي يا بت!
ـ طب سيب يدي... سيب يدي لا تزعل يا معاذ!
تفوهت بها أثناء معافرتها معه، ليضطر لاستخدام قوته في الضغط على يديها، وهو يردد ضاحكًا:
ـ يا ستي ما أنا عايز أسيب، بس إنتِ اللي مش مضمونة.
واللي مصبرني عليكي حملك.
هتعقلي كده ولا هتخليني أرد الضربة بضربتين؟
توقفت عن المقاومة بتسليم مؤقت، ليضطر لإفلاتها، ثم اقترب يطبع قبلة على خدها:
ـ أيوه كده، خليكِ عاقلة.
وما كاد ينهض من جوارها، باغتته بواحدة على كتفه من الخلف، ليلتف إليها بيأس:
ـ يعني هي دي اللي ريحتك؟! يخرب بيت الهرمونات!
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
تأخرت اليوم عن الاستيقاظ في ميعادها، خلافًا لما اعتادت عليه كل يوم.
هذا ما عرفه من ابنه فور عودته من الخارج، كما علم أنها نهضت وهي تشعر ببعض التوعك حين أعدت للصغير وجبة إفطاره.
ورغم ذلك، ما زالت بعنادها تواصل العمل في المنزل، الأمر الذي جعله ينزعج ويبحث عنها.
حتى وجدها في منزل والديها، تحديدًا فوق السطح قرب برج الحمام، وقد كانت تطعم أحد صغار الحمام في حجرها.
أصدر صوت "همهمة" ليجذب انتباهها، فالتفتت إليه تبصق الحبوب من فمها، ليعلق بمرح:
ـ وكمان بتزغدي الحمام بخِشمِك! يا ريتني كنت الفرخ اللي في حِجرك.
ضحكت وهي تضع الصغير في عشه وتنفض الحبوب عن حجرها، قائلة:
ـ هتبص كمان للفرخ الصغير! على أساس إنك مش واخد حقك وزيادة يعني؟
ضحك حتى مالت رأسه للخلف، قبل أن ينحني على خديها يقبلهما من الجهتين بصوت عالٍ:
ـ هو في حد يشبع من العسل برضه؟
التوى ثغرها بابتسامة، تعلّق على فعله وقد سحب كرسياً خشبياً قديماً ليجلس أمامها:
ـ صدّقت خالتي حسنية لما قالت إن عمرك ما هتكبر واصل.
تبسّم يقرصها من خدها بطرفي الإبهام والسبابة، مخالفًا لها:
ـ وحد قالك إني كبرت من أساسه أصلاً؟ ما تنقي كلامك يا مرا انتِ.
أومأت برأسها طاعةً له، لتبدو عليها ملامح التعب، فتذكّر قول ابنه عنها.
ـ إيه الحكاية؟ الواد ريان كان عنده حق لما قال إنك تعبانة علي كده.
هو إنتِ سخنة ولا عندك برد؟
نفت، تبعد يده عنها:
ـ من غير ما تعس حرارتي يا حمزة. أنا لا سخنة ولا عندي برد، دول بس شوية هبوط.
ولدك بخياله الواسع بيهوّل من دماغه.
استنكر مرددًا من خلفها:
ـ يعني ولدي أنا بيهوّل؟ وإنتِ زينة وزي الفُل؟
زفرت بنزق ليس من عادتها:
ـ يووه يا حمزة، بقولك شوية هبوط، باه عليك!
وكأنه يسمع لغة جديدة منها، تمعّن النظر فيها جيدًا، ليلاحظ تهرّب عينيها منه، تدّعي الابتسام ولكن بها شيء غير مفهوم.
حتى لون بشرتها الذي يعرفه دومًا مشرئبّ بالحمرة، اليوم به بعض البهتان.
فتسرّب القلق داخله، يعاود الاستفسار بنبرة حازمة:
ـ دي مش حالتك الطبيعية يا مزيونة، وأنا لو أنكرتي من هنا للصبح مش هصدق.
جومي البسي، هاخدك على الدكتور.
قلبت عينيها بسأم، رافضة وهي تهمّ بالنهوض، لكن ما إن استقامت بجسدها حتى ترنّحت في وقفتها.
فأسرع هو باحتضانها وإسنادها:
ـ إيه الحكاية؟ لسه برضو هتنكري؟
تمالكت توازنها لتغطي على هذا الدورا برأسها بالمزاح معه:
ـ طب شيل يدك دي من على وسطي يا حمزة عشان أعرَف آخد نفسي؟
قطّب في البداية، لكنه سرعان ما استدرك لوضعها بين ذراعيه، فقد كان يضمها بقوة نتيجة هلعه عليها.
فابتسم مُشاكسًا:
ـ طب وما تتنفسي؟ حد حايِشِك؟ ولا هو النفس ما ينفعش غير بعيد عن حضني يعني؟
ـ ووَه يا حمزة، ما أنت بنفسك قايل دلوك إني تعبانة.
تمتمت بها بتعبٍ مُدلّل، ليعقب هو بتسلية أكثر:
ـ واهين يا جلب حمزة، وأنا لزمتي إيه غير إني أخفف عنك؟
تحبي أشيلك من هنا لحد بيتنا؟
شهقت محتجة تتململ بين يديه:
ـ يا مري ياد الفضايح! طب ابعد، ابعد يا حمزة، هو أنا معنديش رجلين عشان أمشي عليهم؟
ضحك بمرح وهو يُخمد مقاومتها، مصرًّا على إبراز روح التحدي لها، حتى اخترق صوتهما المرح صوت الهاتف الذي دوّى في جيب جلبابه.
ليضطر آسفًا لتركها، رفع الهاتف ليتفاجأ بالمتصل:
ـ ألو... أيوه يا كمال باشا... نعم! أيوه أنا قاعد في البلد، ليه في حاجة؟
تسرّب القلق إلى قلب مزيونة وهي ترى التغير الواضح على ملامح زوجها، التي كانت تتشنج وتنقبض وهو يستمع إلى فحوى المكالمة، وكأنه يُحدِّثه في أمر جلل.
حتى إذا انتهى منها، تمتم بأنفاس لاهثة:
ـ يا وجعة مربربة، يا وجعة طين، يا رب جمّلها معانا بسترك، واكفينا شر الفضايح.
ـ إيه اللي حصل يا حمزة؟ وكمال بلّغك بإيه؟
وكأنه لم يسمع سؤالها، تطلع إليها بأعين شاردة، يحاول تذكّر أمرٍ ما:
ـ خليفة... أنا لازم أشوف خليفة.
قالها وهو يرفع الهاتف ليتصل بالمذكور، ولكن لم يجد إجابة رغم محاولتين.
ليضطر للإتصال بشقيقه الأصغر يسأله عنه، فتصعقه الإجابة منه:
ـ طلقها، ومحدش دلوك عارف له طريق! كيف يعني؟
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
داخل منزل شقيقتها الذي حضرت إليه بغضبها وانهيارها، متخذةً طريقها نحو غرفة هذا البائس، غير عابئة بأي شيء، بعد أن استفاقت أخيرًا على الحقيقة المرة، والسبب ذاك المتسطح على سريره بالعرض، دافنًا وجهه في الفراش.
ـ يا زِفت أنت! اصحي، اصحي يا فاشل يا مدمن! أنا الحق عليّا إني اعتمدت عليك! أنا أستاهل ضرب البلغ!
جذبتها والدته من ذراعها تُبعدها عنه قليلًا، فقد تعدّت بهزّها لتكاد توازي الضرب، وهو يرفع رأسه إليها بدون وعي:
ـ بالراحة يا بت أبوي، هو الواد كان قتلك جتيل يعني عشان تمرمطيه كده؟
ـ لاه يا أختي! اتسبّب في طلاقي! أختك اتطلّقت يا هدي، والسبب وِلدك المدهول!
صاحت بها، لتضرب شقيقتها بيدها على صدرها بجزع:
ـ يا مري! يا وجعتِك السودة يا هدي! هبّبلك إيه الزفت ده؟! قوم يا واد يا حسني، جوم يا هباب البِرَك!
صرخت المرأة بالأخيرة، تَلْكُزُه بقوة أجبرته على الاستيقاظ، فنهض بجسده العاري معتدلًا، يردد بإجفال:
ـ إيه في إيه؟ البيت وقع؟
هتفت هالة تسقط على التخت المقابل بانهيار، مرددةً:
ـ لا يا خويا، بيتي أنا اللي اتخرب وبسببك... كان مخي فين وقتها عشان أعتمد على واحد مخبَّل زيك؟
تابعت تشهق بحرقة أثارت تعاطف شقيقتها التي لا تزال لا تفهم شيئًا، بينما ابنها، شريك هالة، لم يستوعب بعد.
ـ بس لو تقوليلي يا بت أبوي، هبّب إيه معاكي الجزمة ده؟ بدل ما أنا جاعدة قدامك زي الأطرش في الزفّة! بس ولدي عارفاه، خايب الرجا، محدّش يعتمد عليه في حاجة أصلًا.
خبطت هالة بكفها على ركبتها تنتحب بندم:
ـ نصيحة متأخرة، يا ريتني كنت خدت بيها من الأول، يا ريتني...
توقفت تلتقط أنفاسها، ثم توجّهت إليها قائلة:
ـ معلش يا بت أبوي، ممكن كوباية مَيّه؟
أذعنت شقيقتها لرغبتها، لتنهض وتذهب إلى الخارج. عندها انتفضت هالة لتحلّ محلها، ثم قبضت على ياقة قميصه الذي ارتداه للتو، هادرة به بصوتٍ خفيض:
ـ بقى دي عملة تعملها فيا يا بُوز الأخص؟! ضاقت عليك عشان ترمي كيس الصيدلية في سلة الزبالة؟!
ـ زبالة إيه؟
ردّت تضربه بقبضتها على عظام صدره:
ـ اللي كان فيه المادة اللي حطيت منها في قهوة اعتماد، ها نسيت؟
أجابها ببساطة:
ـ لأ، افتكرت، بس كنت هرميه فين بعد ما خلصت؟
ـ يخرب بيتك!
صاحت بها تضربه بكفّيها هذه المرة، لتواصل ضربه مرةً أخرى:
ـ الكيس وقع في يد منصور، ومنه راح لخليفة! جوزي طلقني بسبب غبائك يا حمار!
صمت حسني وقد بدا عليه بعض الاستيعاب، ليعقب بعد لحظات وكأنه يخفف عنها:
ـ خلاص بقى، احمدي ربنا إنها جت على كده، مش أحسن ما كان وقع في يد الحكومة...
وما كاد ينهي جملته، حتى صدح صوت هدي:
ـ الحقي يا هالة! الحكومة طَبَّت على البيت هناك يسألوا عليكي! أمك متصلة حالًا، بتقول إنهم بيسألوا عن ابني كمان! إنتوا نيلتوا إيه؟
ـ يسألوا عليّا أنا كمان! قوليلهم ابنِك بيصيّف يا أمّه!
هتف بها حسني، ينتفض ناهضًا من على فراشه، ليسرع بتناول حذائه وهاتفه ومحفظة نقوده، ثم قفز من الشرفة هاربًا.
طالَعته هالة بذهول، لتردف بتساؤل:
ـ والحكومة تسأل عليّا ليه؟! خليفة قال لي إنه لَمَّها!
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
في المستشفى
قبل أن تغادرها بتصريح من الأطباء، كان لها موعد للوقوف على آخر المستجدات في التحقيق معها.
ـ هالة! بتقول هالة يا فندم!
ـ مش أنا اللي بقول، زميلتك هي اللي وجّهت عليها الاتهام بمساعدة ابن أختها المدعو حسني. إيه أقوالك في الموضوع ده؟
صَفَنت اعتماد تطالعه بعدم استيعاب.
هل يُعقل أن يصل الحقد بقلب هالة إلى هذه الدرجة؟
لماذا لم تصبر حتى تتمكن هي من الابتعاد عن طريقها، حتى لو بترك البلدة بأكملها؟
يعلم الله أنها كانت تنوي على ذلك بالفعل.
ـ سرحتي فين يا اعتماد؟ أنا بسألك.
هتف بها كمال بحدة جعلتها تنتبه إليه، لتجيبه نافية:
ـ لأ يا فندم طبعًا، أكيد فيه غلط. أنا مفيش بيني وبين هالة غير كل خير.
لاحَت بزاوية فمه ابتسامة جانبية، يردد خلفها بسخرية:
ـ خير إزاي يا اعتماد، وإنتِ رايحة عليها ضُرّة حسب ما سمعت؟
ارتبكت بحرج، قائلة بتلعثم وكأن الكلمات قد هربت منها:
ـ أيوه يا فندم، بس... يعني ما كانتش خطوبة بمعنى خطوبة أو...
ـ خلاص يا اعتماد، مفيش داعي للتبرير. أنا بسألك لو بتتهميها إنتِ كمان؟
ـ لأ يا فندم، ما بتهمهاش. أرجوك، ما توصلش لقضية أصلًا. أنا سليمة وزي الفل، ومروّحة بيتنا كمان.
طالعها كمال بنظرة لم تفهمها، حتى تحدث بعد برهة من الوقت:
ـ للأسف هي بقت قضية فعلًا، حتى لو إنتِ شايفاها ما تستحقش. الحكومة ما عندهاش هزار في الكلام ده، وابن أختها أكد الاتهام بهروبه.
ـ طب أنا متنازلة.
هتفت بها برجاء قابله بابتسامة أسف، وهو يلملم أوراقه:
ـ تنازلك هيتحط في عين الاعتبار، لو ثبت عليها ممكن يخفف عنها، لكن ما بيبرّئهاش.
صمتت وقد كسا اليأس ملامحها، ليردف هو:
ـ أكيد لو هي طيبة زيك كده يا اعتماد، ما كنش ربنا وقعها في شر أعمالها.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
داخل قسم الشرطة الذي دلف إليه بخطواتٍ متسارعةٍ قلقة، حتى التقى بشقيقه الذي كان واقفًا بأحد الأركان برفقة عمه، والد هالة، والذي تلقّف حضوره بلهفة:
ـ حمزة يا ولدي، تعالَ الحقنا! شوف صاحبك الضابط ده، أو شوف أي طريقة نطلّع بيها الحزينة دي.
ربت حمزة على ذراعه كي يخفف عنه ويحاول طمأنته:
ـ اهدى يا عمي، ما تقلقش. أنا اتفقت لها مع محامي كبير، زمانه على وصول. هي فين دلوك؟
أجابه معاذ بقلق ورهبة:
ـ دخّلوها في أوضة جوه على ما ييجي الضابط اللي هيستجوبها، وأخوك بتصل بيه، تليفونه قافله خالص، وكأنه فص ملح وداب. وأمك جاعدة على نار، عاملة جنازة في البيت. هنتصرف إزاي يا حمزة في المصيبة اللي حطّت علينا دي؟
لوّح له بكف يده كي يهدأ حتى لا يزيد عليه، وهو أصلًا لا ينقصه، ليأمره بهمس:
ـ امسك نفسك شوية، لَعمّك يِقع فيها! كفاية علينا مصيبة واحدة. هدّي كده وخليك رزين.
أومأ له باستجابة، ليردف إلى عمه:
ـ أنا بحاول في كل النواحي يا عمي، وإن شاء الله ربنا يعدّلها. روح ارتاح في العربية وتابع معانا من هناك.
سقط الرجل على المقعد المجاور له بهمٍّ أثقل ظهره، يردد بيأس:
ـ يعدّلها كيف بس يا ولدي؟ ولا أنا هشوف الراحة واصل طول ما البِت دي جاعدة! يا ريته كان يقصف بأجلي عشان أخلّص منها ومن مصايبها... يا ريت.
✯✯✯ ـــــــــــــ بنت الجنوب ـــــــــــــــ✯✯✯
كانت اعتماد على وشك أن تضع جسدها على فراش سريرها أخيرًا، بعد الليلة التي قضتها في المشفى، فقد نجاها الله للمرة الثانية، أمر كانت تتعجب وتسخر منه مع شقيقتها الصغرى التي لم تفارقها ولو دقيقة.
حتى أتتها الزيارة المفاجئة من مزيونة لتطمئن عليها، رغم الظرف المؤسف الذي تمرّ به عائلة زوجها، والذي كان محطّ نقاشٍ بينهما الآن:
— والله يا مزيونة، أنا قولت للظابط إني متنازلة ومش عايزة قضية
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا

تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا