رواية انا بحبك اوي بجد. كاملة لمدونة قصر الروايات
رواية انا بحبك اوي بجد. كاملة لمدونة قصر الروايات
_انا بحبك اوي بجد.
-وانا كمان!
قالي كده ببرود كأنه بيقول كلمه عاديه و انا ابتسمت و سكت و معلقتش
علي أي حاجه.
---
_أنا مضايقه اوي يا عمر.
كان صوت شهقاتي عالي وانا بكلمه في الموبايل،
قاطعني وهو بيقول بحده:
-حنين روقي كده انتِ مش طفله يا ماما عشان كل شويه تيجي تعيطيلي.
_بس..
قاطعني:
-ما بسش.. انا هقفل دلوقتي عشان عندي شغل و نبقي نتكلم بعدين.
قفل في وشي الخط من غير حتي ما يسمع ردي..
قفل وهو حتي ما اهتمش انه يعرف ايه اللي واجعني عشان كده بعيط للدرجادي!
للدرجادي انا بقيت مهمشه بالنسباله!
ولا انا طول عمري مهمشه بس انا اللي كنت مغمضه عيني؟!
---
قعدت أبص فالموبايل بعد ما قفل...
الشاشة سكتت، بس وداني لسه فيها صدى صوته.
الكلمة اللي قالها “هقفل دلوقتي” كانت تقيلة... تقيلة لدرجة حسيت إنها وقعت على قلبي مش على أذني.
فضلت ماسكة الموبايل كأني مستنية يرجع يتصل، كأني مش مصدقة إنه فعلاً قفل من غير حتى ما يعرف بعيط ليه.
دموعي كانت نازلة بهدوء، مش شهقات المرة دي… دموع ساكتة، كأنها خلاص تعبت من الشكوى.
بصيت حواليّ، الأوضة كانت ضلمة، نور الموبايل هو الوحيد اللي منور وشي، بس حتى النور ده كان بيوجعني.
قمت ببطء، رميت الموبايل على السرير، وقعدت على الأرض.
مكنش في صوت غير نفسي اللي بيطلع متقطع، كأني بنهج من وجع مش من جري.
حسيت إني اتعرّيت من جوّه، كأني فضّلت أديله كل حاجة، حبّي، كلامي، ضعفي… وفي الآخر، لما احتجته، كان مشغول.
كل حاجة بينّا بقت عادية، حتى وجعي بقى بالنسباله حاجة “مكررة”.
فضلت أفتكر أول مرة قالي فيها “يا ماما” بلُطف… مع اني ماكنتش بحب الكلمة دي، بس كانت بتحسسني إننا قريبين، بس النهارده نفس الكلمة جرحتني، كأنها صفعة على وشي.
إزاي نفس الحروف اللي كانت بتطمني، النهارده تبكيني؟
قمت وغسلت وشي، وبصيت في المراية.
وشي كان مرهق، عينيّ منفخة من كتر البكا، وشعري منكوش… بس اللي وجعني إنّي فعلاً مشفتش نفسي من زمان.
كل يوم كنت بحاول أرضيه، أفرحه، أهون عليه، وفي النص نسيت أهون على نفسي.
ضحكت سخرية وأنا بمسح دموعي، وقلت لنفسي بصوت واطي:
واضح يا حنين إنك كنت بتحبي لوحدك... وهو كان بيتسلى بالعِشرة.
رجعت سريري، أخدت الموبايل، فتحت الشات بينّا، قريت آخر رسالة كنت باعتاها له من كام يوم… كانت “وحشتني.”
ضحكت تاني، بس المرة دي كان الضحك باهت، مفيهوش حياة.
قفلت الشات، وبمسح دمعة نزلت بالعافية، قلت لنفسي:
مش عايزة أعيّط تاني… هو مش مستاهل وجع تاني.
بس الحقيقة؟
كنت عايزة أعيّط.
بس المرة دي مش عشانه… عشاني أنا.
---
الليل كان ساكت بشكل غريب…
والهدوء اللي مالي الأوضة كان بيخنقني، مش بيهديني.
قعدت على السرير، حطيت الموبايل جنبي، وفتحت النوتس.
إيديا كانت بتترعش وأنا ببدأ أكتب، كأني بخاف من أول كلمة.
كتبت:
"عمر..."
وقفت.
فضلت أبص فالإسم كأنه بيطّلع فيا.
قد إيه الاسم ده تعبني، وقد إيه كنت بحبه.
كملت:
"أنا مش عارفة ابتدي منين، يمكن لأني نفسي مش فاهمة أنا وصلت لإيه.
أنا مش بزعل عشان قفلت في وشي، أنا بزعل عشان بطّلت تلاحظ إني موجوعة."
وقفت لحظة ومسحت دمعة نزلت على الموبايل، كأنها نقطة حبر شردت من الكلام.
"عارف يا عمر، أنا كنت بفرح لما كنت بتسألني: مالك؟
كنت بحس إن في حد شايفني، بس دلوقتي… بقيت بعيّط ومحدش بياخد باله.
بقيت بحس إني لو اختفيت، مش هتلاحظ حتى."
نفسي اتقطع وأنا بكتب، بس كملت.
"أنا كنت فاكرة إن الحب معناه إننا نطّبطب على بعض، نسمع بعض، نِخاف على بعض.
بس أنت خفت مني، مش عليّ.
كل ما كنت أقرّب، كنت بتبعد كأن وجودي وجعك."
وقفت شوية، قلبي كان بيخبط بسرعة، كأن كل كلمة بكتبها بتوجعه أكتر.
"أنا مش بلومك، يمكن دي طريقتك في الحب… البرود.
بس أنا مش بعرف أحب كده.
أنا لما بحب، بدي كلّي، ومش بسيب مني حاجة."
أخدت نفس طويل، وبصيت في الجملة الأخيرة.
كنت حاسة إن دي النهاية، مش بس نهاية الرسالة… نهاية كل حاجة.
كتبت آخر سطر:
"مش هبعت الرسالة دي، بس كان لازم أكتبها… عشان أفتكر أنا كنت بحب إزاي، ومين كنت."
قعدت أبص للكلام شوية، وبعدين قفلت النوتس.
رميت الموبايل جنبي، واتكيت على الحيطة.
كان في دمعة بتتحبس في عيني، بس ما نزلتش.
مكنش فيّ طاقة للبكا تاني.
الليل كمل صمته، وأنا كملت سكوتي.
بس لأول مرة من فترة طويلة…
السكوت كان راحة مش خنقة.
---
صحيت تاني يوم على صوت المنبّه.
كنت نايمة نص نوم، وجسمي تقيل كأني ما نمتش أصلًا.
مدّيت إيدي وقفلته، بس فضلت ممددة مكانِي شوية، ببص في السقف… بحاول أفتكر أنا المفروض أعمل إيه النهارده، بس مخي كان فاضي.
الليلة اللي فاتت رجعتلي في ثانية، كأنها ما خلصتش…
الكلمات اللي كتبتها في النوتس كانت لسه محفورة جوا دماغي، وكل سطر كنت حاساه كأنه وشم على قلبي.
قمت بالعافية، غسلت وشي، وبصيت في المراية…
نفس الملامح، بس العيون مختلفة.
فيها نظرة غريبة، مش حزن بالظبط، أكتر زي استسلام.
نزلت أكل مع ماما، كانت قاعدة بتتكلم عن حاجات عادية جدًا: الأسعار، الجيران، الأكل.
وأنا قاعدة قدامها بهز راسي وبضحك خفيف كأني سامعة، بس الحقيقة إني كنت في حتة تانية خالص.
كنت بفكر… هل لو حكيتلها عن اللي جوايا هتفهم؟ ولا هتقوللي "كبّري دماغك يا حنين، دي حاجات تافهة"؟
خلصت أكلي بسرعة وقمت أساعدها في المطبخ.
كنت بحاول أعمل أي حاجة تشغلني، أغسل أطباق، أمسح ترابيزة، أرتّب حاجات…
بس كل شوية عيني تروح على الموبايل اللي على الرخامة.
كنت بحاول أقاوم رغبة غبية جوايا… إنّي أبص لو بعِتلي.
بس مفيش حاجة، كالعادة.
فتحت الشباك، الهوا البارد دخل على وشي، حسيت بلحظة هدوء صغيرة، لحظة واحدة بس.
بس حتى الهوا فكرني بيه…
لأن عمر كان بيحب الهوا البارد، وكان دايمًا يقولّي:
"الجو ده بيخليني أفتكر إن الدنيا ممكن تبقى بسيطة."
ضحكت غصب عني، بس بسرعة اتحولت الضحكة لدمعة.
مسحتها بسرعة وأنا بقول لنفسي:
كفاية يا حنين… كفاية تعيشي في دايرة هو مش فيها.
رجعت أوضتي، قعدت على السرير، فتحت النوتس، قريت الرسالة اللي كتبتها بالليل…
ما مسحتهاش.
بس ضفت سطر جديد تحتها:
"يمكن في يوم أبطل أكتب عنك، ويمكن لأ، بس أكيد ان في يوم هبطّل أحبك."
قفلِت الموبايل، وخدت نفس طويل،
وبصيت ناحية الشباك المفتوح…
النهار بدأ يدخل الأوضة، والنور بدأ يطرد الضلمة.
بس جوايا لسه فيه شوية عتمة…
بس المرة دي، حسّيتها مش بتوجع زي قبل.
كأنها بداية هدنة بيني وبين نفسي.
---
قررت أخرج النهارده.
مكنتش عايزة أقعد في البيت أكتر من كده، حسيته بيخنقني.
لبست هدومي بسرعة، وقلت لنفسي إن الخروج ممكن يخفّف شوية، حتى لو بكذبة صغيرة.
روحت الكافيه اللي متعودة أروح مع صحابي فيه، نفس المكان، نفس الترابيزة اللي دايمًا بنقعد عليها، نفس الضحك اللي بيحاولوا يصنعوه.
كنت بحاول أندمج، أضحك، أردّ، أتكلم كأن كل حاجة عادي.
واحدة فيهم قالت وهي بتبصلي:
– حنين، مالك؟ شكلك مرهقة أوي.
ضحكت، ابتسامة باهتة، وردّيت:
– لا خالص، بس مش نمت كويس.
ضحكنا تاني، وكملت أتكلم معاهم عن حاجات تافهة، عن الشغل، وعن لبس البنات اللي معدّيين، وعن القهوة اللي بردت بسرعة.
كنت ببص في الموبايل كل شوية، كعادة غبية بقت جزء مني.
بس المرة دي حاولت ما أعملش كده… حاولت أكون موجودة.
وفجأة سمعت واحدة منهم تقول وهي بتبص ناحية الباب:
– هو مش ده عمر؟
حسّيت إن كل الأصوات اختفت.
كأن الكافيه كله سكت، ومفيش غير دقّات قلبي اللي بقت سريعة بشكل مرعب.
ببُص ناحية ما كانت بتشاور، و...
كان هو.
قعد على ترابيزة مش بعيدة، ضهره ناحيتي، بس كنت عارفةه من أول لحظة.
طريقة قعدته، حركته وهو بيضحك، إيده اللي دايمًا بيحركها وهو بيتكلم…
كل حاجة فيه مألوفة.
كل حاجة بتوجع.
بس الوجع الحقيقي بدأ لما شُفتها.
كانت قاعدة قصاده، بتضحك، وشعرها نازل على كتفها، وكان باين عليه الارتياح…
نفس الارتياح اللي بطّلت أشوفه في عينيه لما كان معايا.
قلبي اتقبض، حرفيًا.
مش عارفة أوصفها، بس كنت حاسة كأني بتفرج على مشهد كنت المفروض أكون أنا اللي فيه، بس حدّ تاني أخده مكاني.
صحابي لسه بيتكلموا وبيبصوا عليه، وأنا حاولت أخفي كل حاجة بضحكة صغيرة:
– آه، شكله هو فعلاً… يمكن صدفة.
قلت الجملة وأنا باخد رشفة من العصير بإيد بتترعش خفيف.
بصيت بعيد بسرعة، كأني بتجنب أشوف اللي مش قادرة أتحمّله.
بس عيني رجعت له تاني، غصب عني.
هو ضحك، وضحكته كانت سهلة، خفيفة…
ضحكة أنا كنت بستناها بالساعات، ومكنتش بتجي.
حسيت إن في حاجة جوايا اتكسرت ببطء… مش وجع حاد، لا،
وجع ناعم، هادي، بس عميق جدًا.
قمت من مكاني وأنا بحاول أظهر عادي:
– هدخل الحمّام دقيقة، راجعة.
بس وأنا ماشية، كنت حاسة إن كل خطوة بتبعدني مش عنه… عن نفسي القديمة.
دخلت الحمّام، قفلت الباب، وسندت ضهري عليه.
نفسي كان متقطع، ودموعي كانت واقفة في عيني بتقاوم.
بس نزلت.
نزلت غصب عني،
وفي اللحظة دي، فهمت إنّي خلاص ما بقتش زعلانة بس…
أنا بقيت فاضية.
غسلت وشي بسرعة، ومسحت دموعي بإيدي كأنّي بحاول أمسح الوجع معاها.
بصيت في المراية، عيني كانت حمرا، بس حاولت أعدل نفسي على قد ما أقدر.
قلت لنفسي وأنا بأخد نفس عميق:
تمام يا حنين… انسي، اطلعي، كأنك ما شفتيش حاجة.
فتحت باب الحمّام، وخطيت أول خطوة لبرا…
وفجأة وقف الزمن.
هو.
قدامي بالظبط.
واقف ووشه متجمد، وعينيه متعلّقة فيّ كأنه بيشوف شبح.
اتجمدت مكاني، حرفيًا، الموبايل اللي في إيدي كان ممكن يقع مني.
عينينا اتقابلت ثانية… ثانية واحدة بس، بس كأنها عمر بحاله.
هو اللي اتكلم الأول، بصوت واطي فيه ارتباك:
– حنين…؟
ردّيت وأنا بحاول أبان عادية:
– أيوه.
فضل ساكت شوية، بعدين قال:
– انتي… بتعملي إيه هنا؟
سؤاله كان زي السكينة.
فيه نفس النبرة اللي فيها استغراب وكأنه هو اللي ليه الحق يسأل.
ابتسمت ابتسامة خفيفة جدًا، بس كانت موجوعة:
– نفس اللي انت بتعمله تقريبًا… بقابل صحابي.
بصلي لحظة، كأنه مش عارف يرد.
قال بعدها وهو بيحاول يخفّي توتره:
– آه، تمام… تمام يعني.
سكت، وبص بعيد شوية، كأنه بيهرب من عيني.
بس أنا كنت شايفة كل حاجة.
شايفة الارتباك، وشايفة محاولته يكون “كوول”، وشايفة البنت اللي مستنياه هناك على الترابيزة.
قلت بهدوء:
– واضح إنك مبسوط.
بصلي بسرعة، وكأن الكلمة خبطته في وشه.
– لا، مش كده يا حنين…
– لأ، بالعكس، كويس إنك بخير.
ضحكت، ضحكة صغيرة ومكسورة، وكمّلت:
– أنا كنت فاكرة إنّي هتوجع لو شفتك تاني، بس الحقيقة… أنا حسّيت إني خلاص ما بقتش نفس البنت اللي كانت بتستناك.
سكت، واضح عليه إنه مش عارف يقول إيه.
فضل يبصلي كأنه عايز يتكلم، بس مفيش كلام طالع.
قلت وأنا بعدي جنبه بخطوة هادية:
– خد بالك من نفسك يا عمر.
عدّيت، بس وأنا ماشية، كنت حاسة إن قلبي بيترعش جوا صدري، مش من وجع…
من النهاية.
من إدراكي إن اللحظة دي كانت آخر حاجة ناقصاني عشان أفهم…
إن الحب خلص فعلاً.
خرجت من الكافيه بعد ما سلّمت على صحابي، الجو كان بدأ يبرد شوية، والهوا بيضرب في وشي بهدوء.
كنت ماشية بخطوات بطيئة، لسه بحاول أستوعب اللي حصل، لحد ما سمعت صوت ورايا بيقول:
– إزيك يا حنين؟
اتلفِت بسرعة، وقلبي وقع في مكاني.
وشي اتجمّد، ونفَسي اتقطع من الصدمة…
---
يتبع..
-ازيك يا حنين!
اتلفِت بسرعة، وقلبي وقع في مكاني.
وشي اتجمّد، ونفَسي اتقطع من الصدمة…
_يوسف؟
قلت اسمه وقلبي بيرجع سنين ورا، قبل كل الوجع ده، قبل عمر، قبل ما الدنيا تبهدلني بالشكل ده.
ضحك بخفّة وهو بيقرب مني:
– أيوه يا ستي، أنا! مش مصدقة عينيك ولا إيه؟
فضلت أبصله ثواني، مش مصدقة إنه قدامي فعلاً.
يوسف اللي كان صاحبي في المدرسة، اللي كنا بنقعد نحكي لبعض كل حاجة ونضحك على تفاهات ملهاش معنى، واللي سافر فجأة من غير حتى ما نودّع بعض كويس.
قلت وأنا لسه مصدومة:
– يوسف انت هنا بجد؟
– أهو قدامك أهو، لسه راجع من السفر من يومين.
ابتسم وهو بيكمّل:
– والله أول ما شوفتك افتكرت كل حاجة… نفس الضحكة، بس يمكن العيون تغيّرت شوية.
ابتسمت ابتسامة خفيفة، بس جوايا كانت الموجة بدأت تتحرك.
– العيون دي شافت كتير يا يوسف.
قال بهدوء، وهو بيبصلي:
– باين… باين أوي.
فضلنا ساكتين لحظة، والهواء البارد اللي داخل من الباب حسّيته بيعدي من جوايا، كأنه بيفكرني بكل اللي راح.
قال بعدها بصوت خفيف:
– تفتكري لما كنا بنزوغ من الحصص عشان نروح نقعد على الكورنيش؟
ضحكت رغمًا عني:
– أيوه، كنا بنقعد ناكل بطاطا ونرسم خطط عبيطة للمستقبل.
– وكنتِ دايمًا بتقولي إنك هتكتبي رواية تبكي الناس.
بصيت له وأنا بضحك بخفوت:
– شكلي نجحت في الجزء بتاع البُكا بس.
ضحك، ضحكة دافية، خلت قلبي يهدا للحظة.
قال وهو بيتأمل وشي:
– اتغيرتي يا حنين، بس مش عارف أقول اتغيرتي حلو ولا لأ.
قلت وأنا ببص في الأرض:
– يمكن الاتنين…
سكت لحظة وبعدين كملت:
– الحياة علمتني حاجات ما كنتش عايزة أتعلمها.
بصلي وهو بيهز راسه بتفهم:
– أنا كمان يا حنين، السفر بيغير فينا أكتر ما كنا فاكرين.
– رجعت ليه؟
– وحشتني البلد… والناس.
ابتسم وقال بخفّة:
– يمكن كنت محتاج أرجع أفتكر أنا مين قبل ما أنسى خالص.
الكلمة دي وجعتني، كأنها طلعت من جواي أنا مش منه.
قلت وأنا ببص ناحيته:
– أنا كمان كنت محتاجة أفتكر نفسي… بس الطريق وجّعني شوية.
وقف لحظة، وبعدين قال بهدوء:
– بس أنتي لسه أنتي يا حنين… حتى لو الدنيا دوختك، أنا شايف فيكي نفس البنت اللي كانت بتضحك من قلبها.
ضحكت بخفّة:
– ضحكة دي راحت في إجازة طويلة، يمكن ترجع بعدين.
قعدنا في مكان جنب الكافيه، بعيد عن الزحمة والضوضاء.
كنا بنتكلم زي زمان، بس في كل كلمة كان في وجع بسيط مستخبي.
حكيت له عن السفر اللي ما حصلش، عن أحلامي اللي كنت فاكرة هتتحقق، عن الكتابة اللي بقت المتنفس الوحيد ليا.
وهو كان بيسمع… بيسمع بصدق حقيقي، بنظرات فيها اهتمام مفقود من سنين.
قلت وأنا ببص بعيد:
– فاكر لما كنت بتقول إننا لما نكبر كل حاجة هتبقى أوضح؟
– آه فاكر، وطلعت أغبى جملة قلتها فحياتي.
ضحكت، بس الدموع كانت بتلمع في عيني.
قال لي بهدوء:
– بس رغم كل حاجة، أنتي لسه عندك النور ده…
– نور إيه؟
– النور اللي جواك. مهما انطفى حواليك، بيبان فآخر كل جملة بتكتبيها.
كلماته سكتتني، حسّيت كأن حد رجّعلي نفسي القديمة بلُطف.
كنت ببصله، وبحس إني لأول مرة من زمن، في حد شايفني فعلًا… مش النسخة اللي بحاول أظهر بيها.
قالي فجأة وهو بيبتسم:
– تعرفي؟ أول ما شفتك، قلت في نفسي… الدنيا لسه فيها صدَف حلوة.
ضحكت بخجل بسيط، وقلت وأنا بحاول أخفّي ارتباكي:
– وأنا أول مرة أقابل حد من الماضي ومش أهرب منه.
فضلنا قاعدين نحكي عن كل حاجة وأي حاجة… عن أيام المدرسة، وعن الأصدقاء اللي ضاعوا، وعن البحر اللي كنا بنحبه.
كل ضحكة كانت بتنضف نقطة وجع، وكل ذكرى كانت بتلمّ كسرة صغيرة من جوّا قلبي.
وفي لحظة سكون قصيرة، بصيت له وسألته:
– يوسف… تفتكر الواحد ممكن يبتدي من أول وجديد؟
بصلي بعمق وقال بثقة:
– مش بس يبتدي، ده ممكن يخلق نفسه من تاني، بس أول خطوة إنه يقرر يعيش… مش يستنى حد يعيش معاه.
الكلمة دخلت جوايا زي نسمة دفا، وأنا ساعتها فهمت إن وجوده النهارده مش صدفة…
يمكن ربنا بعته عشان يفكرني إن فيه لسه حاجات حلوة ممكن تحصل…
حتى بعد ما نحس إن كل حاجة خلصت.
---
قعدنا وقت طويل، والوقت عدى من غير ما نحس.
كأن الزمن وقف يحترم اللحظة، مديّنا فرصة صغيرة نرجّع فيها نفسنا القديمة.
كنت بحكيله وهو بيسمعني، من غير ما يقاطع، ومن غير ما يحاول يسهّل الدنيا زي ما الناس بتعمل…
كان بس بيسمع، وده كان كفاية.
لما قمنا نمشي، الشمس كانت بتغرب، لون السما كان مايل للبرتقالي… اللون اللي دايمًا بحبه، بس النهارده كنت حاساه أهدى من أي مرة.
مشينا جنب بعض في صمت بسيط، صمت مريح مش خانق.
كل شوية عيونه كانت تروح عليّا، وأنا عاملة نفسي مش واخدة بالي.
وأنا كمان كنت ببصله في السر… بحاول أصدق إن الزمن ممكن يسيب فينا أثر حلو بعد كل الخراب اللي بنعدي بيه.
وقف، وقال بخفوت:
– ممكن رقمك؟
بصيت له لحظة، حسّيت إن السؤال بسيط… بس جواه حاجة كبيرة.
مش مجرد رقم، لأ… كأنه وعد إن ده مش آخر لقاء.
قلت بابتسامة خفيفة وأنا بمدّله الموبايل:
– سجله بنفسك.
خده، وكتب رقمه،
بعدين قال وهو بيبتسم:
– خلاص… مش هتوه المرة دي.
ضحكت بخفّة، وردّيت وأنا ببص في الأرض:
– يا رب.
اتبدّلنا نظرات صامتة، مفيهاش وعود، بس كلها إحساس.
وهو قال وهو بيبصلي بعمق:
– هشوفك تاني يا حنين.
مكنتش محتاجة أرد… بس ابتسمت، ابتسامة فيها صدق غريب.
هو فهمها، وابتسم بدوره، مشي خطوة، وبعدين رجع بصلي تاني.
كان بيبص كأنه بيودّع حاجة لسه رجعتله.
فضلت واقفة مكاني لحد ما اختفى وسط الناس.
الهواء بدأ يبرد، بس المرة دي البرد كان خفيف… مش قاسي زي قبل.
يمكن لأن جوايا كان في حاجة دافية بتتحرك بهدوء، حاجة اسمها “أمل”.
رجعت البيت، دخلت أوضتي، وكل حاجة كانت زي ما هي…
بس حسّيت إنها مش نفس الأوضة اللي خرجت منها الصبح.
كأن فيها نسمة مختلفة، كأنها اتنضفت من الوجع شوية.
رميت الشنطة على الكرسي، وقعدت على السرير، الموبايل في إيدي.
فتحته، وبصيت على النوتس اللي كنت كاتبة فيها رسالة عمر.
فضلت أبص فيها شوية، وبعدين قفلتها…
ومسحتها.
مكنش قرار صعب، بالعكس…
كان طبيعي، هادي، زي النسمة اللي دخلت من الشباك دلوقتي.
الموبايل رن فجأة.
نغمة إشعار بسيطة، رسالة واتساب:
“ماتنسيش إنك لسه مديونة ليا بقعدة تانية.”
كان يوسف.
ضحكت، ابتسامة حقيقية أول مرة من فترة طويلة.
كتبت رد بسيط:
“تمام… بس المرة الجاية البطاطا عليّ.”
قفلِت الموبايل، وسندت راسي على الحيطة.
لأول مرة من شهور، حسّيت إن قلبي مش موجوع… بس دافئ.
مش حب، لأ… راحة.
راحة إن في لسه ناس ممكن يكونوا ضيّعوا منك زمان، ويرجعوا دلوقتي في الوقت الصح.
بصيت ناحية الشباك المفتوح، والليل بدأ يغطي السما بهدوء.
ضحكت لنفسي وأنا بهمس:
"يمكن دي مش بداية حب جديد…
بس أكيد دي بداية راحه جديدة."
---
صحيت تاني يوم، والشمس كانت داخلة من الشباك بخفه كأنها بتحاول تفوقني بالعافية.
عيني وقعت أول ما فتحت على الموبايل اللي كان بيرنّ نغمة الإشعارات.
مدّيت إيدي بكسل، بس أول ما شفت الاسم… كل حاجة جوايا وقفت.
"عمر"
اسمه كان كافي يوقظ كل الذكريات اللي كنت لسه امبارح بدفنها، واحدة واحدة.
فتحته… لقيت رسائل كتير.
"ينفع نتكلم؟"
"ردي عليا بالله عليكي."
"أنا محتاجك."
وآخر رسالة كانت من ساعة واحدة بس.
قلبي اتشدّ، بس عقلي قالّي لأ.
فضلت أبص في الشاشة كأنها ساحة حرب، فيها جزء مني بيحنّ، وجزء تاني بيصرخ “كفاية”.
نفسي كان بيزيد، وإيدي كانت بتتهز.
قعدت على السرير، مسكت الموبايل بقوه كأني بخنقه، وبعدين... فجأة خدت قرار.
دخلت على اسمه…
ضغطت على “حظر”.
وبعدين “حذف المحادثة”.
وبعدين “احذف الرقم”.
الشاشة بقت فاضية… زيي كده.
بس الغريب إن قلبي ما وجعنيش زي الأول.
حسّيت بحاجة تشبه الارتياح… حاجة صافية كده،
كأنك أخيرًا سكّرت باب كان بيصفر كل شوية في وشك.
قفلت الموبايل، ورميت نفسي على السرير.
غمضت عيني، وسابني النوم بهدوء غريب، وأنا بيتردد في ودني صوته بيقول “أنا محتاجك” بس المرة دي، ما هزتنيش الكلمة.
---
عدّى يومين من آخر مرة شُفت فيها يوسف.
عدّى يومين كأنهم شهرين.
قافلة الموبايل من ساعتها، مش عايزة أتكلم مع حد… ولا حتى أفسّر.
مش زعلانة، بس تعبت من كل الكلام اللي ما بيخلصش.
حسّيت إن الصمت بيريّح أكتر من أي صوت.
خرجت النهارده من غير سبب واضح، يمكن علشان أتنفّس.
رجليّ خدتني لوحدها على الكافيه اللي جمب البيت، مكاني المفضل اللي بقيت بروحله لما بحس إني تايهة.
الكراسي نفس اللون، والريحة نفس الريحة، والموسيقى هادية زي كل مره.
طلبت نسكافيه بالرغوة الكتير اللي بحبها، وقعدت في الركن المعتاد.
كنت حاسة إن المكان بيحضني بلطف، من غير ما يسألني “مالك”.
رفعت الكوباية وشربت أول رشفة، سخونة النسكافيه نزلت في بطني كأنها بتمسح البرد اللي جوايا.
كنت لسه باخد نفس عميق لما سمعت صوت مألوف أوي:
– المكان ده لسه زي ما هو.
اتلفت بسرعة… وقلبي وقع.
يوسف.
وقف قدامي بنفس الهدوء اللي قابلته بيه أول مرة، كأنه مشي خطوتين بس من المرة اللي فاتت.
قلت وانا بحاول أستوعب:
– إنت بتعمل إيه هنا؟
ضحك بخفة وقال:
– كنت متأكد إني هلاقيكِ هنا.
رفعت حاجبي باستغراب:
– وليه متأكد اوي كده؟
قعد قدامي من غير ما يستأذن، وقال وهو بيبص حواليه:
– عشان كنتي دايمًا بتحكيلي عن المكان ده، عن النسكافيه اللي بتقولي بيريّحك، وعن الكرسي اللي بتقعدي عليه دايمًا لما تكوني مش قادرة تتكلمي مع حد.
ابتسمت بخفة وأنا بقول:
– شكلك فاكر كل حاجة.
– في حاجات معينة ما بتتنسيش، يا حنين.
سكتّ، وبصيت في الكوباية اللي في إيدي.
_أنا كنت محتاجة الهدوء، اليومين اللي فاتوا كانوا تقال.
قال بلُطف:
– واضح… بس شكلك أهدى النهارده.
ضحكت بسخرية صغيرة:
– الهدوء ده مش دايم، هو بس استراحة محارب قبل الجولة الجاية.
قعد لحظة ساكت، وبعدين سأل:
– حصل حاجة بعد ما مشيتِ؟
نظرت له بثبات وقلت:
– لأ، بس قررت أقفل باب كان لازم يتقفل من زمان.
عينيه رقّت وهو بيهمس:
– عمر؟
ما رديتش، بس نظرتي كانت كفاية.
قال بهدوء:
– ساعات الباب اللي بنقفله ده مش بينهي الحكاية… بس بيبدأ راحة جديدة.
ابتسمت بخفة، أول مرة أحس إن جملة من حد غيري ممكن تكون صحيحة بالشكل ده.
قلت وأنا بسند ورا:
– يمكن فعلاً الراحة دي أول خطوة إني أبدأ أعيش من تاني، مش أهرب.
قال وهو بيضحك بخفة:
– أهو كده الكلام. على فكرة، كنت ناوي أكلمك من امبارح بس قلت أسيبلك وقتك.
– عملت صح… كنت محتاجة أهدى.
– وأنا كنت محتاج أشوفك النهارده، يمكن عشان أفتكر إن الدنيا لسه فيها حاجات مش صدفة.
ضحكت وأنا ببص له:
– أنت مصمم تخلي وجودك دايم في حياتي ولا إيه؟
– لأ، بس يمكن نفسي أكون سبب إنك تبتسمي شوية.
ضحكت، بس المرة دي كانت ضحكة حقيقية… فيها دفء.
سكتنا شوية، والموسيقى الهادية كانت شغالة في الخلفية.
حسّيت إن الجو حوالينا مريح بطريقة غريبة، لا هو فرح ولا حزن… هو بس “راحة”.
قال بعدها:
– على فكرة، المرة اللي فاتت قولتي إنك مديوّنة ليّا بقعدة تانية.
– وها هي، حصلت فعلاً.
– لأ، دي لسه البداية. المرة الجاية أنا اللي هختار المكان.
ضحكت وأنا برفع الكوباية:
– بس النسكافيه هيكون زي ده بالظبط، مفهوم؟
– مفهوم يا حنين.
اتقابلت عيوننا لحظة…
مفيهاش وعود، ولا نوايا كبيرة، بس فيها طمأنينة.
زي إنك تلاقي في وش حد “راحة” من غير ما تطلبها.
---
فضلنا قاعدين شوية، الوقت عدى من غير ما نحس.
الكافيه بدأ يفضى، والموسيقى تغيّرت لنغمة هادية كأنها بتودّعنا بلُطف.
شربت آخر رشفة من النسكافيه، وقلت بابتسامة صغيرة:
– شكلي كده خدت الجرعة اليومية من الهدوء.
ضحك يوسف وقال:
– وأنا خدت الجرعة اليومية من الكلام الحقيقي.
طلعت صوت ضحكة خفيفة منّي، بس جوايا كنت حاسة بحاجة أغرب من الراحة.
في دفء كده كان ماشي في جسمي ببطء، كأنه بيقولّي “انتي تمام”.
بس في نفس الوقت، في خوف بسيط كان بيهمس:
“بلاش تتعلّقي، يا حنين.”
خرجنا من الكافيه، والهوا كان عليل، والشمس بدأت تميل للغروب.
الشارع هادي، والألوان حوالينا كانت بتتحول للبرتقالي اللي دايمًا بحبه.
مشينا جنب بعض في صمت مريح، خطواتنا ماشية على نفس الإيقاع.
كنت سامعة صوته وهو بيقول فجأة:
– عارفة يا حنين، يمكن ربنا كان عايز اللحظة دي تحصل بالضبط كده، في التوقيت ده.
– تقصد إيه؟
– أقصد إنك كنتِ محتاجة تشوفي إن لسه فيه ناس ممكن تقعد معاكي من غير ما يوجعوكي.
الكلمة وجعتني رغم طيبتها، حسّيت عينيّ بتلمع، بس ابتسمت بالعافية.
– يمكن… بس أنا بقيت بخاف من الطيبة أوقات.
– الطيبة مش خطر يا حنين، اللي خطر إننا نديها للي ما يستاهلهاش.
كلامه كان بسيط، بس دخل فيّا بعمق.
ما رديتش، بس بصيت له لحظة، وقلبي قالّي “خلي بالك… المرة دي مختلفة”.
وصلنا عند أول الشارع اللي بيودّي لبيتي، وقفت وقلت له بابتسامة خفيفة:
– هكمّل من هنا.
قال:
– طب وعد، المرة الجاية أنا اللي أجيب النسكافيه.
– ماشي، بس تكون بنفس الرغوة.
ضحك وقال:
– وعد.
ودّعني بابتسامة فيها دفء مش عايز يخلص، ومشي.
فضلت واقفة أبص وراه، لحد ما اختفى زي المرة اللي فاتت… بس المرة دي، ما كانش في وجع.
كان في سكون.
رجعت البيت بخطوات خفيفة، فتحت الباب، حسّيت كأن الضلمة في الشقة مش تقيلة زي العادة.
رميت الشنطة على الكرسي، ورحت على المكتب، لقيت النوتة القديمة بتاعتي مفتوحة على صفحة نصّي اللي ما كملتش كتابته من شهور.
مسكت القلم، وكتبت أول سطر جديد:
“أحيانًا، الناس اللي بيرجعوا بعد وقت طويل، مش بيرجعوا عشان يعيدوا القصة…
بيرجعوا عشان يثبتوا إن النهاية كانت غلط.”
وقفت لحظة أبص في السطر، حسّيت إن قلبي بينبض بهدوء.
مكنتش متأكدة هو بداية جديدة… ولا مجرد استراحة قبل فصل جديد.
بس كنت عارفة حاجة واحدة بس:
إني مش خايفة من الحياة زي الأول.
رفعت عيني ناحية الشباك، والسماء كانت بتتحوّل للّيل.
همست لنفسي وأنا ببتسم:
– يمكن المرّة دي، أكون أنا اللي أختار البداية… مش أستناها.
---
عدّى تلات أيام من آخر مرة شوفت فيها يوسف.
كنا بنتكلم فون كل يوم، بس لسه ما اتقابلناش.
كل حاجة كانت ماشية بهدوء غريب… يمكن أكتر من اللازم.
الصبح بقى خفيف، والليل ما بقاش يخوّفني زي الأول،
بس جوايا كان في إحساس صغير بيهمسلي:
"الهدوء ده مش طبيعي."
كنت قاعدة على مكتبي، قدامي نوتة الرواية الجديدة،
آخر كلمة كنت كاتباها فيها: "يمكن دي بداية راحة جديدة..."
ابتسمت وأنا بقراها، حسّيت إن الجملة دي فعلاً بتشبهي.
قمت أحضر قهوة، يمكن علشان أفصل شوية عن التفكير.
رجعت بالكوباية، ولسه بدوّر على مكاني،
سمعت صوت إشعار خفيف من الموبايل.
قلبي اتقبض للحظة مش عارفه سببها…
مدّيت إيدي بتردد، وفتحته.
رسالة واحدة.
من رقم غريب.
مفيش اسم، بس الكلمات كانت كفيلة ترجّع كل الخوف اللي كنت لسه ناسيه:
"انتي فاكرة إنك خلصتِ من الماضي؟
ما خلصناش يا حنين… لسه في حساب مفتوح."
اتسحب الهوا من الأوضة فجأة.
فضلت واقفة، والموبايل بيرتعش في إيدي،
قلبي بيخبط في صدري كأنه بيحاول يهرب.
قريت الرسالة تاني، وتالت…
كل كلمة فيها كانت مألوفة بشكل مرعب.
همست بصوت واطي، كأني بحاول أقنع نفسي:
– مستحيل… يكون هو.
النور اللي داخل من الشباك وقع على وشي،
نصه منور… والنص التاني غرقان في ظلّ،
زيي بالظبط.
رفعت الموبايل تاني، وبدأت أكتب ردّ،
إيدي كانت بترتعش، وعقلي مش قادر يركّز.
بس قبل ما أضغط "إرسال"،
جت رسالة جديدة… أسرع من أنفاسي:
"المرة دي، أنا اللي هكتب النهاية."
وقتها سبت الموبايل يقع من إيدي.
الصدمة كانت أكبر من إني أتحرك أو أتكلم.
حسّيت بدقّات قلبي بتزيد،
وبالهوا بيتسحب من المكان كأنه بيرفض يخلّيني أتنفّس.
ولأول مرة من فترة طويلة،
فهمت إن الهدوء اللي كنت فيه،
ما كانش سلام…
كان استراحة قبل العاصفة.
همست لنفسي بخوف:
_مستحيل يكون هو؟!،
ما ينفعش يرجع.. ما ينفعش!
---
يتبع..
سمعته بيقول بصوته اللي فيه دايمًا دفء:
ـ حنين، روحتي فين؟ أنا بكلمك بقالي نص ساعة وإنتِ مش معايا خالص، في إيه اللي شاغل تفكيرك كده؟
كنت قاعدة قصاده، بس مش شايفاه.
كلامه كان بيعدّي جنبي كأن صوت بعيد... مش قادرة أركّز في ولا كلمة.
هو بيضحك وبيتكلم عن الشغل وعن الناس، وأنا ذهني في مكان تاني خالص.
رفعت عيني له، حاولت أبتسم، بس طلعَت ابتسامة باهتة أوي.
ـ لا... مفيش. أنا كويسة، بس يمكن سرحانة شوية.
بس حتى وأنا بقول كده، كنت حاسة إن صوته بيشُقّ المسافة بينا.
هو لاحظ، عينيه كانت مليانة قلق.
ـ لأ، مش شوية... انتي مش هنا أصلًا.
تنفست بهدوء، كنت حاسة قلبي بيدق بسرعة، وإيدي بتتلج.
فضل ساكت مستني، وأنا بحارب نفسي أقول ولا لأ.
بس الكلام بدأ يخرج غصب عني.
ـ امبارح... جالي مسچ.
رقم غريب.
كلمة واحدة بس... "أنا رجعت."
وأول ما شُفتها، كل حاجة جوايا اتجمّدت.
حسيت كأني رجعت طفلة تاني، مستخبية تحت السرير، بدعّي إن الصوت اللي برّه يختفي.
بصيت ليوسف، كنت شايفة في عينيه خوف عليّا، بس برضه فضول.
ـ رجع؟ مين؟
بلعت ريقي بالعافية، وبصوت واطي جدًا قلت:
ـ بابا.
الكلمة وجعت لساني وأنا بقولها.
أنا سنين ما قلتهاش، ولا حتى بيني وبين نفسي.
ـ هو كان في السجن من زمان... من وأنا صغيرة.
سكت شوية، وبعدين كملت:
ـ الناس كانت بتقول إنه اتغير، بس أنا عارفة إنه مستحيل.
هو مكنش إنسان سهل... ولا طبيعي.
كان ممكن يدخل البيت وهو ساكت، وفجأة الدنيا تتقلب.
صوت كوباية تتكسر يبقى سبب كفاية علشان يضرب ماما، ويقفل علينا باب الأوضة بالساعات.
كنت أستخبى تحت السرير، أقفل وداني علشان مش أسمعها وهي بتصرخ... بس دايمًا كنت بسمع.
كنت حاسة إن الحيطة كلها بتوجع، مش أنا بس.
وقفت دموعي عند أول عيني، بس موقعتش.
ـ كنت بحلم إنه يتسجن، ولما حصل، حسّيت إن ربنا أخيرًا سمعني.
ومن يومها، كل ما كنت بسمع صوته في خيالي، كنت بقول لنفسي: خلاص، مش هيرجع تاني.
بس امبارح... الرسالة دي خلّتني أشك في كل حاجة.
يمكن خرج؟
يمكن ناوي يرجع؟
يمكن هيكون لسه زي ما هو؟
قلبي وقتها وجِعني، وجسمي كله اتقفل.
حتى الهوا بقي تقيل.
رجعت كل الذكريات مرة واحدة... إيده، صوته، وشّه لما يغضب...
أنا وماما كنا بنعيش في خوف مستمر، والخوف ده لسه جوايا لحد دلوقتي.
يوسف كان ساكت، بس كنت حاسة إن كلامي وجعه.
قال بهدوء:
ـ يمكن الرسالة مش منه يا حنين؟
هزّيت راسي وأنا بحاول أضحك ضحكة قصيرة، كلها مرارة.
ـ لأ، دي طريقته. حتى الكلمة، نفس الطريقة اللي كان بيقول بيها إنه "رجع" بعد كل خناق.
كان دايمًا يرجع...
ومع كل رجعة، كنا بنخسر حاجة جوانا.
سكت شوية، وبعدين قلت وأنا ببص له بعينين مرهقتين:
ـ أنا مش قادرة أعيش الرعب ده تاني يا يوسف.
أنا تعبت من الخوف.
كل مرة بحاول أبدأ من جديد، حاجة بترجعني نقطة الصفر.
اتنهدت، وبصيت في الأرض وأنا بقولها بهدوء:
ـ أنا مش عايزة أكون قوية تاني...
عايزة أرتاح، حتى لو ليوم واحد بس.
من غير خوف، من غير كوابيس، من غير وجع بيصحّيني بالليل.
سكت شوية، ورفعت عيني له تاني:
ـ يمكن الرسالة دي ملهاش معنى عند أي حد، بس بالنسبالي دي حرب جديدة.
وأنا مش متأكدة إذا كنت لسه عندي طاقة أحارب تاني... ولا خلاص خلصت.
سكت بعد آخر كلمة خرجت مني،
والهدوء بقى تقيل جدًا كأن الهوا في الكافيه وقف فجأة.
كنت حاسة بنظرات يوسف عليا،
نظرات فيها وجع ودهشة،
كأنه بيشوفني لأول مرة بعد غياب طويل.
مد إيده ناحيتي وقال بهدوء خافت:
ـ حنين... تعالي هنا
اترددت لحظة، قلبي كان بيخبط بسرعة غريبة،
بس في الآخر، أخدت خطوة صغيرة ناحيته.
ولما لمس أطراف صوابعي، قال بصوت مطمن
ـ خلاص، خلاص… مفيش حاجة هتحصل، أنا معاكي
كلماته كانت دافية، بس أنا سحبت إيدي بسرعة
وقلت له وأنا حاسة بصوتي بيرتعش:
ـ لأ يا يوسف، متقولش كده
أنا عارفة النوع ده من الناس
مفيش خلاص معاهم، ولا مش هيحصل تاني
هو طول عمره لما بيقرر يؤذي، بيعملها
من غير ندم، من غير تفكير
قرب أكتر وقال بحزم هادي:
ـ يمكن المرة دي لأ
يمكن المرة دي في حد هيقف بينه وبينك
بصّيت له وأنا حاسة بتعب الدنيا جوايا:
ـ هو ما بيخافش من حد، ولا حتى من ربنا يمكن
بيخاف بس لما يشوف الدم
بس لما الدم ينشف، بيرجع تاني كأن ما حصلش
اتنهد يوسف وسكت لحظة كأنه بيحسبها جواه
وبعدين قال:
ـ طيب، لو فعلاً خرج، لازم نتحرك
مش هتستني تعرفي من الصدفة
هنشوف بنفسنا، ولو طلع صح
هنروح نعمل بلاغ، أو نتكلم مع محامي، أو أي حد يمنعه يقرب منك.
ضحكت ضحكة فيها وجع وسخرية:
ـ بلاغ؟ يوسف، محدش بيحميك من اللي كنت بتسميه أبوك
الناس شايفاه راجل كبير غلط زمان وخلاص
بس محدش يعرف إنه وحش متغطي بلحم بني آدم
قرب مني أكتر، وقال بنبرة فيها حنية غريبة عليّ:
ـ اسمعيني، مش عايزك تشيلي ده لوحدك تاني
حتى لو الناس مش شايفاه وحش… أنا شايفك
شايف خوفك، وشايف قد إيه حاربتي علشان تكملي
اتكسرت نبرتي وأنا بقول:
ـ أنا فعلاً حاربت يا يوسف.
كنت بقول لنفسي كل يوم هو مش هنا، خلاص انتهى
بس الظاهر إن الشياطين مش بتموت بالسجن
بتنام شوية… وتصحى لما نحاول نعيش
قرب أكتر، صوته كان واطي بس وجعني:
ـ لو رجع، هنرجع نحاربه سوا
مش هيقربلك، ولا لمامتك
بس أوعديني إنك مش هتهربي المرة دي
بصّيت له، والخوف مالي عينيّ:
ـ يوسف… أنا مش بخاف منه قد ما بخاف من نفسي لما يرجع
كل المرات اللي كنت بحلم إني أنتقم فيها
كنت بحس قلبي بيظلم
وأنا مش عايزة أتحول لنسخة منه
سكت لحظة وقال بهدوء غريب كأنه بيكلم وجعي مش أنا:
ـ اللي جواكي مش ظلمة يا حنين
ده أثر النار اللي سبها فيكي
بس النار لما بتتبقى، ممكن تدفي، مش بس تحرق
خليها قوتك المرة دي، مش وجعك
الدموع نزلت بهدوء
مش بكاء عالي، بس دموع صادقة،
كأنها بتغسل كل اللي محبوس فيا بقاله سنين
مد لي منديله، خدته من غير ما أبصله
وقلت بصوت شبه الهمس:
ـ نفسي أصدقك يا يوسف
بس الخوف دايمًا أسرع من التصديق
ابتسم ابتسامة حزينة وقال:
ـ عادي، مش لازم تصدقي دلوقتي
بس لما تخافي، افتكري إنك مش لوحدك
مش المرة دي
ولأول مرة من سنين
حسّيت إن جملة مش لوحدك
مكنتش مجرد كلام
كان ليها معنى… يمكن لأول مرة
---
خرجت من الكافيه، والهوا البارد ضرب وشي أول ما فتحت الباب.
كنت ماشية من غير ما أحس برجلي،
كل خطوة بحسها تقيلة، كأن الأرض بتمسك فيا ومش عايزاني أتحرك.
الليل كان هادي، بس جوايا دوشة كبيرة.
كلام يوسف لسه بيرن في دماغي
"مش لوحدك"
الكلمة دي بسيطة…
بس بالنسبالي كانت تقيلة كأنها وعد.
ويمكن أنا بطّلت أصدق الوعود من كتر ما اتكسرت.
رفعت راسي وبصيت للسما،
كانت سودة، بس فيها نجوم صغيرة
فكرت قد إيه أنا وماما كنا بنبص للسما لما كنا بنخاف،
كنا بنقول لبعض "ربنا شايفنا"
بس لما بابا بدأ يتحول للوحش اللي عرفناه،
ماما بطّلت تبص للسما…
وأنا بطّلت أصدق إن في نور.
وقفت عند الرصيف، والشارع فاضي،
والإضاءة من عمود النور كانت ضعيفة،
بس كفاية إنها تخليني أشوف إيدي وهي بتترعش.
كنت بحاول أثبتها، بحاول أقنع نفسي إن الخوف ده مش دليل ضعف…
ده مجرد رد فعل… على وجع قديم.
فكرت فيه، في وشه، في صوته وهو بيزعق،
في الليالي اللي كنت بخبي فيها ماما ورايا وأنا عيلة صغيرة.
في الوجع اللي كنت بحس بيه لما كنت أسمع ضحكته بعد ما يؤذينا.
الضحكة اللي عمرها ما كانت ضحكة أب.
نفسي أصدق إن السنين اللي فاتت كانت كفاية علشان أنسى،
بس الحقيقة إن في حاجات ما بتتنسيش…
بتتخزن جوا الجلد، في النفس،
بتفضل تصحى كل مرة تسمع فيها صوت شبهه أو تشوف ظل يشبهه.
رجعت أسمع صوت يوسف في دماغي تاني
"لو رجع، هنحاربه سوا"
جملة غريبة…
مكنتش متعودة إن حد يقول “هنحاربه سوا”
كنت دايمًا أنا وماما لوحدنا.
يمكن علشان كده قلبي وجعني وأنا سمعاها،
زي ما الوجع بيوجع لما بيبدأ يخف.
طلعت موبايلي من الشنطة،
لقيت رسالة جديدة.
مجرد سطرين، بس كفاية يهزّوا حياتي كلها:
"هخرج قريب… استنيني يا بنتي"
اسمي في آخر الرسالة كان كأنه لعنة.
الطريقة اللي كان بيقولها بيها زمان،
مش بحب، لا… بسيطرة.
كلمة “بنتي” عمرها ما كانت نعمة على لسانه.
نفسي أصدق إن يوسف يقدر يحميني،
بس أنا مش متعودة على الحماية،
متعودة أهاجم قبل ما أتأذي.
ومتعودة أهرب لما أحس إن حد بيقرب.
بس المرة دي… معرفش ليه،
وأنا ماشية في الشارع، وسط البرد والهدوء،
كان في إحساس صغير جوايا بيهمس
“يمكن فعلاً المرة دي مش لوحدي.”
---
لما وصلت البيت،
كنت حاسة إن كل صوت حواليّ بقى أوضح من الطبيعي…
صوت المفاتيح في إيدي، خشخشة الكيس، حتى أنفاسي.
الهدوء اللي كنت بدوّر عليه وأنا ماشية،
اتحول لوحشة أول ما وقفت قدام باب الشقة.
فتحت الباب بهدوء،
ريحة البيت خبطتني أول ما دخلت،
ريحة العشا اللي برد على السفرة،
وريحة البخور اللي ماما دايمًا بتولعه لما تبقى قلقانة.
ماما كانت قاعدة على الكنبة،
وشها باين عليه السهر والتعب،
بس أول ما شافتني حاولت تبتسم…
الابتسامة دي اللي بحس إنها بتحارب العالم كله.
قلت لها وأنا بحاول أبان طبيعية
ـ اتأخرت شوية، كنت مع يوسف
ما ردتش على طول،
فضلت تبصلي كأنها بتفتش في ملامحي.
وبعدين بصوت واطي قوي، فيه رعشة بسيطة، قالت
ـ حنين… أنا سمعت حاجة النهارده
اتجمدت.
صوتها بس كان كفاية يخلي كل حاجة جوايا تقف.
حاولت أضحك بخفة:
ـ خير يا ماما، في إيه؟
اتنهدت، وعيونها بدأت تلمع،
ـ حنين… باباكي خرج من السجن.
الكلمة دي وقعت في وداني كأنها طلقة.
جسمي سخن فجأة، وبعدين برد…
مش عارفة أتنفس.
كل الأصوات اللي كانت في الشارع برا،
اختفت.
كأن الدنيا وقفت لحظة علشان أسمع الصدى جوا دماغي.
بابا خرج.
الكابوس فعلاً خرج.
حاولت أقول كلمة بس لساني اتقل.
قعدت على الكرسي اللي جنبي من غير ما أحس،
ولما اتكلمت، صوتي طلع شبه همس
ـ خرج… إزاي؟ مين قالك يا ماما؟
قالت وهي بتحاول تمسك نفسها
ـ جارنا القديم، شافه في القسم الصبح، بيخلّص أوراقه.
بيقول إنه كان بيضحك وبيقول "أنا راجع بيتي".
بيتي؟
الكلمة دي وجعتني أكتر من أي حاجة.
بيتي؟
ده المكان الوحيد اللي حاولت أبنيه بعد ما دمرنا.
حسّيت إيدي بتترعش،
وراسي بتلف،
والدم بيسحب من وشي كأن حد بيشفطه.
ماما قربت مني بسرعة وقالت بصوتها اللي بيحاول يكون هادي
ـ حنين، اسمعيني… كل حاجة تحت السيطرة.
هو مالوش مكان هنا، البيت باسمنا، ومش هيقدر يقرب.
اطمني يا بنتي، خلاص، خلاص.
بس أنا كنت سامعة كلمة "خلاص"
زي ما يوسف قالها النهارده…
ونفسي كانت بتتقطع من الخوف.
بصّيت لها بعينين كلها هلع
ـ ماما، هو لو رجع…
لو رجع، هيعملها تاني.
انتي نسيتي إيه عمله فينا؟
نسيتي إزاي كنا بنستخبى في أوضة المطبخ،
وهو بيزعق وبيقذف كل حاجة حوالينا؟
ماما حطت إيديها على وشي وقالت وهي بتحاول تمنع دموعي تنزل
ـ لأ يا حنين، مش هيقرب.
إحنا مش زي زمان، أنا مش ضعيفة زيه، ولا انتي الطفلة اللي كان بيكسرها.
هو ممكن يكون خرج من السجن،
بس إحنا اللي خرجنا من خوفنا.
الكلام حلو،
بس جوايا في صوت تاني بيضحك بسخرية…
صوت الخوف القديم اللي مش بينام.
قمت من مكاني وأنا مش حاسة برجلي،
دخلت أوضتي وقفلت الباب ورايا.
فضلت أبص في المراية،
وشي كان باهت، وعيني مرهقة.
كل حاجة فيه كانت بتقول “انتي مش جاهزة تعيشي ده تاني.”
قعدت على الأرض،
ظهري للحايط،
ومسكت الموبايل.
الرسالة لسه موجودة.
“هخرج قريب… استنيني يا بنتي.”
بس المرة دي الرسالة ما بقتش تهديد.
بقت حقيقة.
وأنا…
أنا اللي رجعت أعيش جوه نفس الكابوس اللي كنت فاكرة إني صحيت منه.
بس رغم الخوف،
رغم كل حاجة،
كان في صوت صغير جدًا جوايا،
صوت يوسف،
بيقوللي بهدوء
“مش لوحدك.”
يمكن أكون مرعوبة،
بس المرة دي…
مش ههرب.
---
صحيت على صوت خبط جامد على الباب،
كنت لسه نايمة، والمكان كله ساكت إلا الصوت ده اللي كان بيخبط كأنه عايز يهدّ الحيطان.
فتحت عيني بسرعة، قلبي كان بيدق بطريقة وجعتني.
قعدت على السرير، سمعت صوت ماما وهي بتزعق، صوتها عالي ومتوتر،
بس مش قادرة أميّز الكلام من كتر ما نفسي بقي تقيل.
قمت وخرجت من الأوضة،
لقيت ماما واقفة عند الباب، وشها شاحب وإيديها بترتعش وهي مسكة المفتاح.
ولما شافتني قالت بخوف واضح:
ـ ادخلي جوه يا حنين، ما تطلعيش بره.
صوتها لوحده كان كفاية يفهمني إن في حاجة غلط،
قربت منها بخطوة صغيرة وسألتها بصوت واطي:
ـ مين اللي برا يا ماما؟
ما ردتش،
بس عينيها قالت كل حاجة قبل ما تنطق:
ـ أبوكي.
اتجمدت.
حسيت إن الهوا اللي بتنفسه اتسحب من الدنيا كلها.
جوايا صوت صغير كان بيقول "مستحيل"،
بس صوت تاني، أهدى منه، كان بيقول "اتأكدتِ دلوقتي؟".
فضل الخبط يزيد،
وصوته هو اللي بيزعق من ورا الباب.
الكلمة اللي كنت بخاف أسمعها اتقالت:
ـ افتحي يا حنين.
قلبي وجعني أكتر من الخوف،
وجعني من الذكرى اللي رجعت في ثانية،
من صوته، من الطريقة اللي كان بيقول بيها اسمي زمان وهو غاضب.
نفس النبرة… نفس التهديد.
ماما جريت وقفلت المفتاح تاني،
وأنا وقفت في مكاني مش عارفة أعمل إيه.
كنت حاسة إني برجع تاني لطفلة صغيرة مستخبية وراها،
بس المرة دي كنت عايزة أوقف قدام الخوف مش أهرب منه.
رُحت ناحية الباب،
وماما شدتني من دراعي وقالت بصوت بيرتعش:
ـ بلاش يا بنتي، هيسيءلك.
بس أنا سحبت إيدي وقلت بهدوء:
ـ كفاية خوف يا ماما.
قربت من الباب،
وصوتي طلع واطي، بس ثابت:
ـ امشي من هنا، ارجع السجن تاني، ما تقربش مننا تاني.
سكت لحظة،
الهدوء اللي بعدها كان مرعب أكتر من الصوت.
وبعدين سمعت ضحكته، نفس الضحكة اللي كنت بحلم بيها في الكوابيس.
ضحكة باردة، مش فيها حياة ولا رحمة.
قرب أكتر، صوته بقى واضح قوي،
وقال بنبرة متوحشة، باردة لدرجة وجعت قلبي:
-هقتلك يا حنين.
---
يتبع..
-هقتلك يا حنيين!!
صدقيني هقتلك، مش هسمحلك تعيشي فرحانه طول مانا عايش،
انا اللي عملتكم فاااهمه؟!
كنت سامعة صوته وهو بيزعق وبيخبط كأنه عايز يهدّ الدنيا.
قلبي كان بيخبط في صدري بنفس الإيقاع، بس عقلي كان فاضي…
مافيش غير فكرة واحدة: ماينفعش المرة دي أهرب.
شديت الموبايل بسرعة، وإيدي بتترعش،
اتصلت بيوسف… أول ما رد، صوتي طلع متكسر:
ـ يوسف… هو هنا، بابا واقف على الباب وبيخبط، أرجوك بلّغ البوليس، بسرعة!
قال وهو متوتر:
ـ متقفليش، أنا جاي حالًا، بس اقفلي الباب كويس، حنين متفتحيش له!
ـ يوسف، أنا مش ههرب المرة دي.
ـ حنين بالله عليكي متعمليش حاجة لوحدك، أنا جاي!
قفل الخط، وأنا كنت لسه واقفة،
إيدي على المفتاح، وماما ورايا صوتها بيترجف:
ـ حنين، ادخلي جوه يا بنتي، ادخلي جوه!
قلتلها وانا ببصّلها في عينيها:
ـ خلاص يا ماما، كفاية خوف.
في اللحظة دي سمعنا صوت تكة قوية،
المفتاح اتكسر، والباب اتفتح بعنف.
وقف قدامي…
نفس الملامح اللي كنت بشوفها في الكوابيس،
نفس العينين اللي فيها سواد مش عارفة لونه.
بس الزمن كان عامل شغله…
شعره شايب، ووشه متغضن،
لكن الرعب… الرعب زي ما هو.
قال بصوت خشن، مليان غضب:
ـ ما وحشتكيش يا بنتي؟
ضحك، ضحكة باردة كأنها سكينة.
خبيت ماما ورايا، ومدّيت إيدي، كأنّي أقدر أوقف جبل:
ـ ابعد عننا… كفاية اللي عملته فينا.
سيبنا في حالنا، احنا مش عايزينك في حياتنا تاني.
قرب خطوتين، كل خطوة كانت بتكتم نفسي.
قال وهو بيبصلي باستهزاء:
ـ حالكم؟ حال إيه يا بت؟
البيت ده بيتي، والست دي مراتي، وانتي بنتي…
إزاي أسيب "حالي"؟
رفعت صوتي لأول مرة،
صوتي اللي كان دايمًا بيتكسر وهو موجود:
ـ لا!
انتهى، انت خلاص انتهيت من زمان،
البيت ده مش بيتك،
وانا مش بنتك،
أنا ضحيتك!
ضحك وهو بيخرج حاجة من جيبه،
سكينة صغيرة، لامعة، كأنها بتضحك معاه.
عيوني راحت ليها قبل حتى ما عقلي يستوعب.
قلبي بدأ يجري أسرع من أي مرة قبل كده.
ـ هو انتي لسه بتعصبي زي أمك؟
قالها وهو بيقرب،
كل كلمة كانت بترجعني سنين لورا،
للليالي اللي كنا بنستخبى فيها في الضلمة.
قلت وأنا بحاول أتكلم،
وصوتي بين الكلمة والتانية كان بيتهز:
ـ إنت بتفتكر نفسك إيه؟
إنت اللي كنت بتكسر كل حاجة فينا وتقول ده حب؟
كنت بتعذب ماما وتقول إنك بتحافظ علينا؟
إنت عمرك ما كنت أب…
إنت كنت الكابوس اللي بيتنفس في وشنا كل يوم!
قرب أكتر، لدرجة حسيت بأنفاسه الباردة على وشي،
ورفع السكينة وهو بيقول:
ـ اخرسي، لولا أنا مكنش حد شالكوا من الشارع!
أنا اللي كنت بصرف، أنا اللي كنت راجل البيت!
صرخت في وشه، دموعي نازلة غصب عني:
ـ كنت راجل؟
الراجل ما يخافوش منه ولاده!
الراجل ما يخليش مراته تستغفر كل مرة تدخل عليه!
إنت كنت مجرد جلّاد…
جلّادنا كلنا!
اتوتر، ووشه اتغير،
مد إيده وشدني من دراعي بقوة،
حسيت النار في جلدي، بس ساعتها ما حسّتش بالخوف…
حسّيت بالغضب.
قلت له وأنا ببص في عينيه،
بصوت ثابت أول مرة يخرج مني من غير ارتعاش:
ـ إيدي دي اللي كنت بتضربها زمان؟
جرب تضربها تاني وشوف هتلاقي نفس البنت؟
اتجمد لحظة،
يمكن اتفاجئ، يمكن افتكر إن الطفلة اللي كان بيكسرها رجعتله.
بس لا… دي مش هي.
ساعتها سمعنا صوت صراخ ماما ووراها صوت صفارة بوليس من بعيد.
يوسف كان جاي… كنت حاسة،
الخطوات على السلم، الأصوات، كله بيقرب.
هو اتوتر، وبص للباب.
قال بنبرة كلها غضب:
ـ اشتكي براحتك، محدش هيصدقك، أنا أبوكي!
ـ لأ، المرة دي هيصدقوني…
لإنك ما بقيتش تخوفني.
رفع السكينة،
بس قبل ما يقرب، الباب اتفتح بعنف،
يوسف دخل مع ظابطين،
صوته كان عالي وهو بيزعق:
ـ سيبها!
الظابطين مسكوه بسرعة،
هو كان بيحاول يفلت وهو بيزعق شتيمة،
بس ماقدرتش أسمعها.
كنت واقفة…
كل حاجة حواليّ كانت بطيئة،
كأن الوقت نفسه تعب.
السكينة وقعت على الأرض،
وصوتها وهي بتخبط على السيراميك كان آخر صوت للخوف القديم.
ماما كانت بتعيط، ويوسف كان بيحضنها ويطمنها،
أما أنا…
أنا كنت واقفة في مكاني،
ببصّله وهو بيتسحب من المكان،
وشه كله غضب،
بس جوايا كان في صمت غريب…
مش خوف، مش وجع،
كان هدوء.
رفعت راسي،
بصيت في المراية اللي في الصالة،
وشفت نفسي للمرة الأولى من غير ارتجاف.
أنا مش الطفلة اللي بتستخبى،
ولا البنت اللي بتخاف.
أنا اللي واجهت الكابوس وفضلت واقفة.
سمعت صوت يوسف بيقولي ورايا:
ـ خلصت يا حنين…
مفيش حاجة تانية.
بصيت له، وابتسمت ابتسامة صغيرة جدًا،
النوع اللي بيطلع بعد حرب طويلة:
ـ لأ، دي أول مرة أبدأ أعيش.
---
عدّى أسبوع بعد اللي حصل.
الأيام بقت تمشي أبطأ من الأول، بس المرة دي مكنش في خوف…
كان في فراغ.
زي ما تكون المعركة خلصت، بس سابت جوايا أرض فاضية محتاجة تتعمر من جديد.
يوسف كل يوم كان بيتطمن عليّ.
مش بالكلام الكتير، بس بطريقة عينيه لما يشوفني،
وبصمته اللي بيقول كل حاجة مش قادر يقولها.
النهارده هو اللي طلب يشوفني،
وقاللي نروح البحر… نفس المكان اللي كنت بروح له لوحدي دايمًا.
قعدنا على السور، والبحر قدامنا بيمدّ موجه كأنه بيحضن الدنيا كلها.
الهوا كان فيه ريحة ملح، وريحة حياة.
بصلي وقال بهدوء:
ـ شكلك بقيتي أهدى.
ضحكت خفيف وقلتله:
ـ ولا هدوء ولا حاجة، يمكن بس تعبت من الخوف.
ـ بس وشك متغير يا حنين… كأنك رجعتي تتنفسي.
بصيت له لحظة طويلة، وبعدين قلت:
ـ يمكن.
أنا طول عمري كنت فاكرة إن النجاة معناها تهربي من الألم…
بس دلوقتي فهمت إنها إنك تبصي له في عينه، وتقول “مش هتغلبني”.
اتنهد وقال:
ـ كنت خايف عليكي أوي يومها… كنت حاسس إني ممكن أوصّل متأخر.
ـ بس وصلت في الوقت الصح يا يوسف.
يمكن لو اتأخرت لحظة كنت أنا اللي انتهيت.
سكت شوية وبعدين سألني:
ـ ولما شُفتيه… حسّيتي بإيه؟
فضلت ساكتة، بفكر في السؤال.
ـ حسّيت إني صغيرة تاني…
بس كمان حسّيت إن الصغيرة دي خلاص كبرت.
كنت عايزة أصرخ، بس اللي خرج مني كان هدوء… هدوء غريب كده، كأنه بيقول "كفاية".
يوسف مد إيده، بس ما لمسنيش.
قربها مني، كأنه بيطمنّي من غير ما يخليني أتقيد.
قال:
ـ فخور بيكي، عارفة؟
ـ فخور؟ أنا؟
ضحك وقال:
ـ آه، مفتخر بيكِ إنك لسه هنا.
بصيت للبحر وقلت وأنا بتأمل الموج:
ـ كنت فاكرة النجاة شكلها بطولي، زي الأفلام…
بس طلعت شكلها بسيط جدًا،
إنك تقدر تصحى تاني يوم، وتشرب كوباية الشاي بتاعتك،
من غير خوف، من غير صوت بيكسر جواك.
فضلنا ساكتين شوية،
بس السكات ما كانش وحش.
كان فيه سلام، وده في حد ذاته معجزة.
بعدها يوسف قال وهو بيبص بعيد:
ـ حنين… ناوية تكتبي عن اللي حصل؟
ابتسمت، ونظرت له:
ـ يمكن. بس مش علشان أحكي عن الوجع،
علشان أحكي عن النجاة…
عن البنت اللي كانت بتخاف من صوت الباب،
وبقت بتفتح بابها بإيدها.
ضحك وقال:
ـ ساعتها، عايز أكون أول واحد يقراها.
قلت وأنا ببص للموج اللي بيكسر عند رجلينا:
ـ هتكون أول واحد يعرف نهايتها.
ـ ونهايتها هتبقى إيه؟
ـ لسه معرفش… بس المرة دي، أنا اللي هختارها.
سكتنا تاني،
بس المرة دي كان في دفا في الهوا،
زي لمسة شمس في آخر النهار.
وأنا حسّيت… إن الخوف خلاص مات،
وإن الحياة بتبدأ بهدوء،
زي أول موجة بتوصل للشط بعد العاصفة.
---
رجعنا بالعربية في سكوت شبه كامل.
الطريق كان فاضي، والليل ساكن كأنه بيسمعنا.
النور الخفيف اللي جاي من أعمدة الشارع كان بيعدّي على وش يوسف،
وبيفكرني بكل المرات اللي وقف فيها جنبي من غير ما أطلب.
كنت باصّه في الشباك، والبحر لسه صوته في وداني.
يوسف قال فجأة:
ـ عارفة يا حنين، عمري ما كنت فاكر إنك هتبقي قوية بالشكل ده.
بصّيت له بهدوء وقلت:
ـ وأنا برضه ما كنتش فاكرة إني ممكن أعيش بعد اللي حصل.
ضحك وقال:
ـ انتي مش بس عايشة… انتي بدأتِ.
وصلنا تحت البيت.
الهوى كان بارد، بس مش مؤذي.
نزلت من العربية، وهو نزل ورايا.
وقفنا قدام باب العمارة، نفس الباب اللي من أسبوع كان بيخوفني،
بس المرة دي… كنت واقفة وراسي مرفوع.
قاللي بصوت واطي:
ـ هتقدري تنامي النهارده؟
قلت بابتسامة صغيرة:
ـ يمكن. بس حتى لو ما عرفتش، المرة دي مش هخاف من الحلم.
ـ ليه؟
ـ لأنّي خلاص فهمت إن اللي بيخوفنا جوه دماغنا، مش ورا الباب.
اتقدّم خطوة، وقف جنبي،
صوته بقى أهدى:
ـ لو في يوم تعبتي تاني… متسكتيش.
ـ مش هسكت، بس المرة دي مش هستنى حد ينقذني.
ـ بس لو احتجتِ، أنا هنا.
سكتّ.
مش عارفة أقول إيه، بس نظرت له نظرة طويلة كفاية تقول كل اللي مش بنعرف نحكيه.
الامتنان، الراحة، واللحظة اللي بتحسي فيها إنك مش لوحدك.
قلت وأنا بمسك مقبض الباب:
ـ يوسف…
ـ أيوه؟
ـ شكرًا… مش علشان أنقذتني،
علشان فضلت، لحد ما أنا أنقذت نفسي.
ابتسم، وقال بخفة:
ـ دي أول مرة أشوف حد بيشكرني على إني ما عملتش حاجة.
ضحكت وقلت:
ـ يمكن دي أحسن حاجة عملتها.
فتحت الباب، وقبل ما أدخل،
بصّيت للسماء، كانت سودة بس فيها نجمة واحدة منوّرة.
قولت في سري:
"كفاية نجمة واحدة… لسه في نور."
قفلت الباب،
ومعرفش ليه، بس حسّيت إن المرة دي،
أنا اللي قفلته… مش علشان أخاف،
لكن علشان أبدأ.
---
عدّى شهور.
الدنيا بقت أهدى…
حتى قلبي، اللي كان دايمًا بيخبط في صدري زي طفل بيخاف من الضلمة،
بقى بيتنفس بهدوء.
رجعت أكتب تاني.
كل كلمة بكتبها كنت بحس إنها جزء بيرجعلي.
يوسف بقى ييجي دايمًا وقت المغرب،
نقعد على البحر، نفس المكان اللي كنا فيه يومها،
وأوقات ما بنتكلمش خالص، بس وجوده لوحده بيكفيني.
في الأول كنت بخاف أرتاحله…
كنت كل مرة يقرّب فيها خطوة، قلبي يرجع خطوة لورا،
لحد ما في يوم قاللي جملة بسيطة،
بس غيرت كل حاجة.
ـ أنا مش عايز أكون بطل قصتك يا حنين،
أنا عايز أكون فصل هادي فيها… لو تحبي.
ضحكت ساعتها، بس بعد ما رجعت البيت،
قعدت أفكر في كلمته طول الليل.
لأنها أول مرة حد ما يحاولش "يملكني"،
حد بس عايز يكون “جنبي”.
من وقتها، بدأت أسيب نفسي شوية.
مش بمعنى إني وقعت،
لكن بمعنى إني بطّلت أحارب كل لحظة راحة.
بقينا نخرج أكتر، نضحك على حاجات تافهة،
ويحكيلي عن شغله، وأنا أحكيله عن النوتة اللي لسه بكتبها.
كان دايمًا يسمعني للآخر،
حتى لما كلامي مش مترتب، حتى لما أبقى تايهة في النص.
وفي يوم، كنت قاعدة جنبه على الرملة،
الهواء بيلعب في شعري، والموج بيلمس أطراف رجلينا،
قاللي:
ـ حنين، انتي عارفة إنك بقيتي مختلفة أوي؟
قلت وأنا ببص له:
ـ يمكن بقيت أنا.
ـ لأ، انتي بقيتي اللي كنتي بتحاولي تبقيها.
ضحكت بخجل بسيط،
بس جوايا كنت حاسة بكلمة جديدة بتتكوّن…
مش "خوف" ولا "وجع"،
كلمة "حب".
مكنتش محتاجه أقولها،
بس كنت بحسها في كل تصرف بسيط.
في طريقته وهو بيعدّي الشارع ناحيتي،
في سكوته لما يسيبني أتكلم،
في نبرته لما يقول اسمي بهدوء كأنه بينطقه بخشوع.
وفي ليلة، وإحنا قاعدين قدام البحر كعادتنا،
مد إيده ناحية إيدي،
ولما مسكها، كل حاجة جوايا سكتت.
مفيش خوف، مفيش دوشة،
فيه بس دفا غريب ومطمّن.
قاللي بصوت واطي:
ـ عارفة يا حنين…
أنا مش عايزك تنسيني لو في يوم كتبتِ عني،
بس عايزك تكتبي الحقيقة.
ـ وإيه الحقيقة؟
ـ إنك انتِ اللي علمتيني إن الحب مش وجع…
إنه أمان.
الدموع كانت قربت،
بس كنت مبتسمة، ابتسامة صغيرة وهادية،
زي اللي بتحصل لما القلب يطمن بعد سنين خوف.
قلتله وأنا ببص له في عينه:
ـ وأنا كنت فاكرة إني خلاص بطّلت أقدر أحب،
بس يمكن الحب الحقيقي بييجي لما نكون مستعدين نستقبله،
مش لما بندور عليه.
قرب مني أكتر وقال:
ـ فاضل بس تسألي نفسك سؤال واحد يا حنين.
ـ إيه هو؟
ـ مستعدة تبدأي من جديد؟
بصيت له، وبعدين للبحر،
الموج كان رايح جاي كأنه بيوافق،
قلتله وأنا صوتي بيرتعش بس بابتسامة:
ـ المرة دي… آه، مستعدة.
ضحك، وضحكته كانت زي أول شمس بعد شتا طويل.
حسّيت وقتها إن الدنيا أخيرًا بتبتسملي،
مش لأن كل حاجة بقت تمام،
لكن لأن قلبي بقى في مكانه.
---
بعد شهور قليلة،
كنا ماشيين سوا على الكورنيش،
أنا في إيدي نوتة جديدة، وهو ماسك إيدي التانية.
قلتله وأنا ببص على السطور:
ـ عارف إن الرواية دي هتكون آخر حاجة أكتبها عن الخوف؟
ـ ليه؟
ـ عشان خلاص، بطلت أعيشه.
وقف قدامي وقال وهو بيضحك:
ـ أهو ده بقي اللي كنت مستنيه منك.
ـ إيه هو؟
ـ تكتبي وأنتي بتحبي.
اتسندت على كتفه، والبحر قدامنا بيضحك هو كمان.
ووقتها عرفت إن الرحلة خلصت فعلاً.
مش بالحزن،
لكن بالسَكِينة…
وبإن فيه حب كان مستني عند آخر الطريق.
---
يمكن دلوقتي بس فهمت…
إن الحب مش دايمًا بييجي بالعنفوان اللي كنت متخيلاه،
ولا بالألم اللي كنت فاكرانه دليل على المشاعر.
الحب الحقيقي بييجي بهدوء…
زي نسمة في آخر الليل، زي ضحكة بعد وجع طويل.
مكنتش بدوّر على حب.
كنت بدوّر على أمان.
على حضن أحس فيه إن الدنيا مهما وجعت،
لسه فيها مكان أرتاح فيه.
والمكان ده كان يوسف.
مش البطل اللي أنقذني،
لكن الإنسان اللي فضل جنبي لحد ما أنقذت نفسي.
دلوقتي لما ببص ورايا،
مش بشوف البنت اللي كانت بتخاف،
ولا اللي كانت بتهرب…
بشوفني أنا، وأنا واقفة في نص الطريق،
ماسكة إيده، وبضحك.
يمكن الحكاية بدأت بخوف…
بس انتهت بسلام.
وسلامي المرة دي مش هسيبه.
كتبت آخر جملة في النوتة،
ونظرت له وهو بيبص للبحر.
ابتسمت، وقلت بيني وبين نفسي:
“يمكن أخيرًا لقيت الهروب الحقيقي…
مش من العالم، لكن ليك انت.”
---
"النهايه".
" بس دي نهايه الروايه يا حلوين هستني أسمع رأيكم كالعاده،
و انتظروني في حكايه جديده".🤎
#تمت

تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا