رواية غرام الذئاب الفصل الثامن وعشرون 28بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الثامن وعشرون 28بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_الثامن_والعشرون
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت_علي
كانت الغرفة تعبق برائحة الدفء الأنثوي،
وأصوات السلائف تتداخل بين همسات وضحكات.
جلست ياسمين على السرير الأبيض المزخرف بأغطية ناعمة، تتكئ على وسادة حريرية، وبدا على وجهها أثر الإرهاق، لكنه لم يخفِ بهاء ملامحها ولا رقة حضورها.
دخلت علياء بخطوات رفيقة، وقالت بابتسامة ودودة وهي تقترب من ياسمين
"ها يا ياسمين، عاملة إيه دلوقتي؟، بقيتي أحسن؟"
هزت ياسمين رأسها بخفوت، وأجابت باقتضاب لا يخلو من الود
"الحمد لله، بقيت أحسن"
تقدمت ملك وهي تحمل كوب عصير، وقالت بنغمة مرحة
"وهاتبقي أحسن لما ترتاحي وتصحي وتفوقي وتقعدي معانا نرغي ونستعيد الذكريات"
قاطعتها شيماء بخفة ظلها المعتادة، وقالت بعفوية مازحة
"بصي من الآخر يا ياسمين، إحنا هنرجعلك ذاكرتك بإذن الله، بلا دكاترة بلا أدوية، هم الدكاترة دول بيفهموا حاجة!"
ضحكت علياء وقالت بنبرة مداعبة
"مقبولة منك يا شوشو"
شهقت شيماء وهي تضع يدها على صدرها مصطنعة الدهشة
"يوه!، يقطعني والله ما أقصدك خالص يا لولو، أنا قصدي على دكاترة المخ والأعصاب"
ضحكت الفتيات، بينما ألقت ملك نظرة سريعة نحو الباب لتتأكد أنه مغلق، ثم اقتربت من ياسمين وهمست بخبث محبب
"قوليلنا بقى يا ياسمين، وما تقلقيش، وهايبقي سر ما بينا... إزاي اتعرفتي على الدكتور رحيم وخليتيه يقع في غرامك كده بسرعة ويتجوزك من غير ما يدور وراكي؟"
ضحكت شيماء وهي تلوح بيديها بتفاعل مبالغ فيه
"لاء وكمان قمر، قمر يابا الحاج، وده واضح شكله واقع على بوزو خالص، كل ما أفتكر وهو واقف قدام ياسين ورافعين المسدسات على بعض، أقول للدرجة دي لسه فيه راجل في الزمن ده يحب ويعشق وما يهموش يموت عشان اللي بيحبها!"
في تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة فانتفضت جميعهن، لتظهر خديجة عند العتبة، ووجهها يحمل مزيجاً من الدهشة والعتاب
"صوتك يا شوشو هانم واصل لحد السلم، لو طه سمعك وإنتي بتتغزلي في راجل غريب هايكون إيه موقفك؟!"
أشاحت شيماء بيدها دون اكتراث وقالت ببرود ساخر
"يعمل اللي يعمله"
تدخلت كارين بنبرة فضولية
"أنا من امبارح ملاحظة نظراتكم إنتي وطه لبعض... هو حصل إيه يخليكي مش طايقاه كده؟"
تأملت ملك الموقف وقالت بحكمة ممزوجة بالمزاح
"مش محتاجة تجاوب، هتلاقي منكد عليها، أصل صنف الرجالة ده بعيد عنكم يعشقوا إنهم ينكدوا علينا، وقال إيه، يقولوا إحنا اللي بنموت في النكد!"
التفتت خديجة نحو شيماء وسألتها باهتمام صادق
"هي نفس خناقاتكم القديمة؟، زي آخر مرة؟"
خفضت شيماء عينيها للحظة، وقالت بصوت مبحوح ملئ بالشجن
"ياريت كانت جت على شوية خلافات عادية... الموضوع أكبر من كده"
لكنها سرعان ما ادركت ما ستبوح به، فابتسمت ابتسامة مصطنعة وقالت وهي تصفق بيديها بخفة لتغير مجرى الحديث
"يا جماعة سيبكم مني أنا دلوقتي، استنوا نسمع لياسمين ونعرف منها قصة الحب السريعة دي حصلت فين وإزاي؟، يلا قبل ما يطلع جوزك ويسمعنا وتبقى ليلتنا سودا فحمولي"
انفجرن جميعاً بالضحك، حتى كادت علياء أن تدمع من كثرة الضحك قائلة
"إنتي فظيعة يا شوشو"
ابتسمت ياسمين بخجل واضح وقالت بتردد ناعم
"الموضوع كله حصل صدفة، هو بس...
لكن طرقاً على الباب قطع حديثها، فقالت خديجة وهي تلتفت
"اتفضل"
انفتح الباب ودخلت إحدى الخادمات تمسك بيد الصغيرة ياسمينا التي كانت تبكي بحرقة ظاهرة.
نهضت ياسمين من مكانها فزعاً وسألت بقلق
"مالها؟، بتعيط ليه؟"
ركضت الصغيرة نحو والدتها وارتمت في أحضانها تبكي بلا توقف.
أجابت الخادمة تخبرها
"كانت قاعدة لوحدها في الجنينة وبتعيط وبتقول عايزة حضرتك"
ضمتها ياسمين إلى صدرها بحنان غامر وقالت بصوت مرتجف من التأثر
"متخافيش يا حبيبتي... أنا أهو، مش هاسيبك أبداً"
ربتت ملك على كتف الطفلة وقالت بابتسامة دافئة
"حبيبتي ماما كانت تعبانة وطلعناها هنا عشان ترتاح"
أخذت علياء حقيبتها وهمّت بالمغادرة
"طيب يا جماعة، أنا معلش مضطرة أستأذنكم، عندي تلات عمليات قيصرية النهاردة، ولسه هاخد لوچي وأوصلها عند ماما الأول"
اقتربت منها خديجة وقالت بنبرة حذرة
"هو إنتي فعلاً خلاص، يعني إنتي ويوسف اتطلقتوا؟"
أجابت علياء بثبات لم يشوبه تردد
"أه، كده أحسن ليا وللولاد، واديكي سمعتي وشوفتي بنفسك أسلوبه وكلامه، هو ده راجل ممكن أكمل معاه؟"
رمقتها خديجة بأسى وقالت بصوت مفعم بالصدق
"ابقي كدابة لو قولتلك أقدر، بس بينكم طفل صغير، ولوچي في سن حرج"
رفعت الأخرى رأسها بعزيمة قوية واخبرتها
"بعون الله هقدر أربيهم، وربنا يقويني ومخليهمش محتاجين لأي حاجة، لكن رجوع للبني آدم ده مستحيل، حتى لو قلبي سامحه وحن ليه، هدوس عليه ومش راجعة له"
قالت ملك وهي تنهض
"يلا يا بنات، نسيب ياسمين ترتاح، ونبقي نتجمع تاني إن شاء الله"
وقفت كل واحدة تلو الأخرى، وتبادلن العناق والقبلات.
اقتربت كارين من ياسمين وقالت وهي تحتضنها برقة
"حمد الله على سلامتك مرة تانية، يا قمر"
ثم جاءت شيماء بخطوات مرحة، تميل بجسدها نحوها وتقول بنبرة مازحة
"لينا قعدة تانية، ومش هاسيبك غير لما تجاوبيني على سؤالي... حتى لو هاخطفك من ياسين"
ضحكت ياسمين وقالت وهي ترد عناقها
"حاضر يا شوشو، هاحكيلك كل حاجة"
ابتسمت شيماء بود، ثم تبعتها خديجة، وكارين، وعلياء، كل منهن تركت على وجه ياسمين لمسة دفء وطمأنينة خالدة.
وبعد أن غادرن، بقيت ياسمين تنظر إلى صغيرتها بين ذراعيها، تربت عليها و تقبل رأسها.
❈-❈-❈
خرجت من الحمام وقطرات الماء لا تزال تتساقط من خصلات شعرها المبتل، تمسحها بالمنشفة في تراخ متعب حين دوى جرس الباب فجأة، قاطعًا سكون اللحظة.
زفرت بتأفف وهي تتجه نحو الباب، تنعكس في عينيها ملامح ضجر عميق، وكأنها تلعن الفضول الذي أجبرها على النهوض.
ألقت نظرة عبر الفتحة الزجاجية التي تتوسط الباب، فلم تجد أحد.
عقدت حاجبيها بدهشة، وتهيأت للعودة إلى غرفتها، غير أن الجرس دوى مجددًا، بإلحاح مستفز.
أعادت النظر فلم تر شيئًا أيضًا، فقالت بغيظ
"هايكون من غيرهم ولاد الست اللي فوقينا، بيقعدوا يلعبوا في الجرس، وهايشتغلوني بقى"
فتحت الباب فتحة صغيرة وصاحت بانفعال
"الحيوان اللي بيلعب في الجرس لو مسكته ها...
لكنها لم تكمل، إذ خرج لها من خلف الجدار فجأة، يقف أمامها بابتسامة ماكرة وصوت هادئ
"هاتعملي فيه إيه؟"
شهقت مفزوعة، تراجعت خطوة للوراء وهي تلهث
"أدهم!"
نظر إليها بثبات حاد، بينما راحت تلتقط أنفاسها المتقطعة، يدق قلبها بجنون كأنما يريد الهروب من صدرها.
وبعد أن استجمعت شتات نفسها، قال لها بصوت عاتب مبحوح
"بقالك مدة لا بتردي على تليفوناتي ولا رسايلي، وجيتلك هنا مرتين، فضلت أخبط وأرن الجرس محدش بيرد، لحد ما سألت حد من الجيران قالولي إنكم مسافرين"
أخفضت رأسها، تتجنب عينيه، وقالت بصوت متوتر
"آه، كنا مسافرين، وأنا اللي رجعت لوحدي... عشان الشغل"
سألها بنبرة غضب هادئ يقطر استنكار
"طيب ممكن أفهم ليه مكنتيش بتردي عليا؟"
ازدادت توتر، فابتلعت ريقها وقالت
"مفيش... قصدي يعني، كان عندي شوية ظروف ومشاكل كده"
اقترب منها خطوة وسألها بحزم
"ممكن أعرف إيه المشاكل والظروف اللي منعتك عني؟"
لكنها لم تجب، كان صوت أقدام يصعد الدرج يقترب شيئًا فشيئًا، جذبت يده بخوف ودفعته إلى الداخل ثم أغلقت الباب بسرعة.
قالت معتذرة وهي تلهث
"معلش، أصل خوفت ليكون حد من الجيران طالع ويشوفنا ويروح يقول لأخويا"
ظل واقفًا يتأملها، بعينيه اللتين تفيض فيهما نظرات تجمع بين اللوم والشوق.
كانت ترتدي معطف قطني بسيط، وشعرها المبتل متناثر حول وجهها في فوضى أنيقة تزيدها أنوثة وسحر.
تحولت ملامحه من الغضب إلى ابتسامة خفيفة ماكرة وقال بمزاح
"وبتعتذري ليه؟ أنا كنت مستنيكي تقوليلي اتفضل"
أحمر وجهها بخجل وفركت يديها بتوتر واضح
"والله كان نفسي أقولك اتفضل، بس مش هاينفع خالص، محدش هنا و...
قاطعها بابتسامة جانبية، وجذبها من خصرها في حركة مفاجئة جعلتها تختنق بأنفاسها
"مش واثقة فيا؟"
ارتجفت في مكانها، وارتسم الارتباك على ملامحها، همست بصوت واهن يختبئ خلفه شوق دفين
"واثقة فيك... بس..."
رفع إصبعه ووضعه برفق على شفتيها ليسكتها، وقال بهمس وهو ينظر في عينيها
"هوش... هطلب منك طلب بس ما تفهمينيش غلط، أنتي وحشاني أوي... وعايز أحضنك"
ولم يمنحها فرصة للرد، فقد سبق فعله كلماته، وجذبها إلى صدره بعناق حميمي يخفي خلفه كم من اللهفة والحرمان، وأغمض عينيه ، يهمس جوار أذنها
"ما تغيبيش عني كده تاني"
ظلت متسمرة بين ذراعيه، تنظر من خلف كتفه بذهول وتوتر لا يُوصف، تتصارع بداخلها رغبتان، إحداهما تدفعها إلى البقاء بين أحضانه، والأخرى تعيدها إلى رشدها.
ومع أن قلبها كان يصرخ شوقًا، إلا أنها انسحبت بهدوء من بين ذراعيه، وقالت بصوت متماسك مصطنع
"بص، أنت اللي ماتفهمنيش غلط... ممكن تنزل تستناني تحت في عربيتك، عقبال ما أغير هدومي، ونازلة وراك على طول"
ثم تذكرت فجأة أمر راغب ربما يكون أسفل البيت، فرفعت يدها وقالت بسرعة
"لحظة واحدة"
ركضت نحو النافذة المطلة على الشارع، ألقت نظرة حذرة، وما حسبته وجدته بالفعل، كان رامي يقف على الرصيف المقابل، يمسك بزجاجة مياه غازية، وعيناه تتفحصان نوافذ شقتها.
شهقت بصوت خافت وهمست بغيظ
"الله يخرب بيتك... واقف تحت بتعمل إيه يا رامي الكلب؟"
التفتت لأدهم لتجد نظراته ثابتة عليها، فقال بهدوء جاد
"طيب أنا نازل هستناكي تحت... عشان ما أسببلكيش أي إحراج أو إزعاج"
أسرعت نحوه وأمسكت بذراعه بحرج وتردد
"لاء، خليك هنا"
نظر إليها بدهشة، فاخبرها بسخرية
"مش أنتي اللي لسه قايلالي انزل عشان ماينفعش أبقى موجود معاكي هنا ونبقى لوحدنا؟!"
ردت بسرعة وهي ترفع حاجبيها في محاولة للتبرير
"ينفع طبعًا، لأنك راجل عاقل وناضج وابن أصول، وإحنا كبار وعارفين الصح ولا إيه؟"
ضحك وهو يقترب منها قليلًا قائلاً بمزاح شقي
"أنا فعلاً كل ده، بس لما أكون مع واحدة حلوة زيك، زي القمر، وقلبي بيموت فيها، ساعتها بقى لا ناضج ولا الكلام ده، الصح ده للناس العاقلة، وأنا مجنون"
ضحكت رغم توترها وقالت بخفة ساخرة
"برغم إني عارفة إنك بتهزر، بس أنت قولت الحقيقة علي فكرة"
اقترب خطوة وسألها بابتسامة غامضة
"وإيه هي الحاجة دي؟"
تراجعت وهي تتجه نحو غرفتها بخطوات خفيفة وقالت بابتسامة مترددة
"إنك مجنون"
قالتها وانطلقت إلى داخل الغرفة، أغلقت الباب بسرعة قبل أن يلحق بها.
من خلف الباب جاء صوته العميق يحمل شيئًا من الدعابة والتهديد اللطيف
"لما تخرجيلي هوريكي أنا مجنون إزاي"
ضحكت من خلف الباب
"مش محتاج توريلي ولا تثبتلي... أنا شوفت جنانك بعيني كتير"
رد وهو يعقد ساعديه أمام صدره، ملامحه نصف جادة نصف مازحة
"ده أنا كده أعتبر عاقل لحد دلوقتي... لسه مشوفتيش الجنان اللي على حق"
❈-❈-❈
أمسكت ياسمين بكف ابنتها الصغير برقة يغمرها الحنان، كأنها تخشى أن يذوب ذلك الكف بين أصابعها إن تضغط عليه أكثر، ثم مالت نحوها بصوت مفعم بالعطف
"مش هاتقوليلي يا حبيبتي إيه اللي خلاكي تعيطي؟"
رفعت الصغيرة رأسها بعينيها البريئتين المبللتين بالدموع، وقالت بصوت مرتجف يحمل صدق الطفولة ووجعها
"عشان لما دخلت من الجاردن و دورت عليكي ملاقتكيش، افتكرتك سيبتيني تاني و مشيتي"
ضمتها ابنتها إلى صدرها بحنو جارف، كأنها تريد أن تزرعها في قلبها فلا يفرق بينهما زمان ولا مكان، وقالت وهي تمسح على شعرها الأشقر الناعم
"يا روح قلبي أنا وعدتك عمري ما هاسيبك تاني... و لو عايزة أمشي يبقى هامسك إيدك كده"
شبكت أصابعها الصغيرة بين أناملها، وضغطت عليها برفق، وأكملت بابتسامة دافئة امتزج فيها الأسى بالحب
"ونمشي سوا مع بعض، أنا و إنتي"
ابتسمت الصغيرة، ووضعت رأسها على صدر أمها كمن وجد الأمان الذي فقده طويلاً، ثم ما لبثت أن انتفضت فجأة وكأن فكرة لامعة خطرت ببالها، وقالت بحماس طفولي
"عايزة أوريكي حاجة"
ركضت نحو مكتب والدها بخطوات خفيفة، وفتحت أحد الأدراج، فأخرجت منه حقيبة أدواتها الصغيرة التي تزينها رسومات ملونة، ثم سحبت منها دفتر الرسم، وفتحته بين يديها وهي تقول بفخر بريء
"ده دفتر الرسم بتاعي اللي كنت برسم فيه كل يوم انتي و بابي و أنا"
اقتربت الأخرى منها وجلست إلى جوارها، تأملت الصفحة الأولى، فإذا برسم بسيط لطفلتها تمسك بيدها وبيد والدها، والابتسامات تزين وجوههم الثلاثة.
وفي الصفحة التالية، صورة لابنتها وهي تعانقها، بينما يقف ياسين خلفهما يحتضنهما معًا، وقد ازدانت الخلفية بسماء صافية وشمس باسمة.
لكن قلب ياسمين انقبض وهي تقلب الصفحات التالية... إذ بدأت ملامح الفقد تظهر تدريجيًا بين الألوان.
في صفحة أخرى، ظهرت الأم ممسكة بيد ابنتها، بينما يقف الأب في الجانب المقابل، وبينهما مسافة تتسع.
ثم صفحة تليها، وقد اختفت الأم تمامًا من اللوحة، وبقي الأب يبكي، والطفلة تميل برأسها على كتفه مواسية.
تتابعت الصور، وكل واحدة منها تنطق بصمت موجع عن وجع صغير لا يُقال.
ثم توقفت عند لوحة بها بقعة ممسوحة بالممحاة، بدا أن طفلتها حاولت إزالة شخص كان يقف إلى جوارها، بينما يقف الأب بعيدًا، يتأمل المشهد من خلفهم.
تأملت بقايا الرسمة فيبدو إنها ظل امرأة أخرى.
وفي الأخيرة، وجدت الطفلة مرسومة وهي تحتضن أمها مجددًا، والابتسامة تملأ وجهيهما، وكأنها نهاية الحلم الذي ظل يراودها طويلاً.
شعرت بغصة مريرة في حلقها، والدموع تترقرق في عينيها، تدرك الآن أن طفلتها لم تكن مجرد متألمة، بل كانت تائهة بين الخذلان والفقد والخوف، منذ اختفائها هي، وزواج والدها الذي هز عالمها الصغير.
تذكرت لحظة غضب ياسين حين صرخ في وجه رودينا، وتعدى عليها بالضرب بعدما علم أنها أهانت ابنته، فتسارعت أنفاسها وهي تنظر للصغيرة بعين دامعة، وسألتها بنبرة هادئة يختلط فيها القلق بالعطف
"ممكن أسألك سؤال يا حبيبتي، وتحكيلي كل حاجة؟"
هزت الصغيرة رأسها في طاعة هادئة
"أوك مامي"
تنهدت قليلاً ثم سألتها
"هي رودينا كانت بتحبكم أنتي و بابي؟، و كانت بتعمل معاكم إيه؟"
تبدّل وجه الصغيرة فجأة، وخيّم عليه ظل من الحزن، وانخفض صوتها وهي تقول بجدية تفوق عمرها
"هاقولك كل حاجة يا مامي، بس بليز... في حاجات هاقولك عليها هاتبقى سر بيني و بينك"
ابتسمت ياسمين رغم الوجع، وربتت على خدها قائلة
"حاضر يا روحي، احكي وأنا سمعاكي، ومش هاخرج سرنا لحد أبداً"
❈-❈-❈
خرجت من غرفتها بعد أن انتهت من ارتداء ملابسها؛ كنزة زهرية ناعمة وبنطال رياضي أسود يبرز قوامها برشاقة غير متكلفة.
جلست أمام المرآة تمشط خصلات شعرها المبللة، ثم عقصتها على هيئة كعكة مرتفعة، ومسحت بيدها بخفة قطرات الماء المتناثرة على عنقها قبل أن تتنفس بعمق وتفتح الباب.
وما إن خرجت حتى فوجئت بأدهم يقف أمام إطارات الصور المصفوفة على الطاولة الصغيرة، وعينيه تتنقلان بين الصور المعلقة على الجدار.
بدا مأخوذاً بتفاصيل الوجوه والذكريات، وكأن الصور تنطق بحكاياتها في أذنه.
وقفت خلفه تشرح له بابتسامة متوترة
"دي من حفلة التخرج من الجامعة، ودي من عيد ميلادي وأنا عندي 15 سنة"
لاحظ شيئاً في الصور فالتفت نحوها وسأل بنبرة هادئة تحمل فضول دفين
"ليه صورك مع مامتك وأخوكي غير اللي مع الراجل ده لوحدكم؟، واضح من ملامح المشتركة ما بينكم إنه باباكي"
أطرقت برأسها قليلاً، وصوتها يتهدج وهي تقول
"أه، بابا..."
لم ترغب في التطرق إلى ذلك الجرح القديم، فسارعت بتغيير الموضوع قائلة بابتسامة مصطنعة
"تحب تشرب إيه؟"
رد وهو يقترب منها بخطوات ثابتة وصوت يفيض بالشوق
"ما تتعبيش نفسك، أنا سايب كل اللي ورايا مش عشان أجي أشرب... جيت عشان أتكلم معاكي في حاجة مهمة، وقبل أي كلام... عشان انتي وحشاني أوي"
كاد يقبّلها، لكنها تراجعت بسرعة خطوة إلى الوراء، وابتسمت بخجل وهي تتجه نحو المطبخ قائلة
"مفيش أي تعب، الحاجة جاهزة، وحظك حلو، وأنا جاية في الطريق اشتريت شوية سناكس وشيكولاتات وبسكويت، أكيد هاتضحك وتقول عليا طفلة، بس أنا مهما كبرت بعشق حاجات الأطفال دي أوي"
وقف عند عتبة المطبخ، مستنداً إلى الباب، ونظراته تتبعها كأنها محور الكون، وقال مبتسماً
"مش لوحدك، أنا كمان بحب السناكس وحلويات الأطفال... والاندومي كمان، بصي أي حاجة مضرة للصحة بحبها"
انفجرت ضاحكة وقالت بمرح عفوي
"يبقى نأجل المشروب والحلويات، وأحضر لنا طبقين اندومي كوري هايعجبك أوي"
غمز بعينه وسألها بخبث شقي
"اندومي كوري؟"
"أه، مابتحبوش؟"
اقترب منها حتى كادت أنفاسه تلامس وجهها وأجاب بنغمة ماكرة
"إلا بحبه، ده أنا بعشقه موت، ده طعمه جامد خصوصاً وهو سخن ومشطشط، يخليكي تطلعي نار من بُوقك زي التنين"
دفعته من أمامها برفق وابتسامة متوترة
"طيب ممكن يا عم التنين تروح تستناني في الليفنج عقبال ما أخلص وأجيلك، بدل ما نولع أنا وإنت في جهنم"
ضحك بخفة وقال متصنعاً الحزن
"ماشي ماشي، بتطرديني بالذوق من المطبخ"
"أه بطردك، يلا بره"
غادر المطبخ وهو يضحك، ثم جلس أمام التلفاز، وحدق في الفراغ للحظات كأنه يعيش مشهد من حلم بعيد.
تخيل نفسه جالساً في بيته بعد زواجه منها، ينتظرها تحضر الطعام ليأكلا معاً. لكن حين قفزت إلى ذاكرته صورة والدته وهي ترفض زواجه من منار، تلاشى الحلم كفقاعة وانقبض صدره بضيق مكتوم.
خلع سترته وألقاها بجانبه، أمسك هاتفه وبدأ يتصفح حسابه على مواقع التواصل بلا هدف، يقلب المنشورات بعشوائية حتى توقف عند خبر تصدر العناوين
«فضيحة فرح الطبيب الذي اكتشف أن عروسه زوجة لرجل آخر من عائلة البحيري»
كانت المقاطع المصاحبة تُظهر العروسين، ثم المشاجرة العنيفة بين العريس وغريمه، وتعليقات الناس تتقاذفها السخرية والشماتة.
توقف أدهم عند جملة أثارت انتباهه
«زوج العروس هو ابن عائلة البحيري وشقيق رجل الأعمال الشهير قصي البحيري»
عبس وهو يتمعن في التفاصيل، ثم أخذ يبحث أكثر ليفهم ما جرى، حتى انبثقت أمامه رسالة من تطبيق الدردشة، من حساب زائف الاسم والصورة.
تردد قليلاً، ثم قرأ التعليق أسفل مقطع الفيديو المرسل
«ما تقلقش يا أدهم باشا، افتح وإنت مطمن»
ارتاب في الأمر للحظة، ثم تغلب عليه الفضول وضغط زر التشغيل.
في تلك اللحظة، خرجت منار من المطبخ تحمل صينية كبيرة يعلوها طبقان من الشعرية الكورية الساخنة، تتصاعد منهما رائحة شهية تُغري الحواس.
كانت خطواتها متزنة، حتى التقطت أذنها صوت قادم من هاتف أدهم، صوتها وصوت رامي يتردد في المقطع بألفاظ خادشة للحياء وهما يمارسا المتعة الحرام، فتجمدت في مكانها، واتسعت عيناها من الصدمة، وارتجفت يداها فسقطت الصينية على الأرض، وتناثرت الأطباق وتناثر قلبها معها.
رفع أدهم رأسه في نفس اللحظة، والتقت عيناه بعينيها.
كانت نظراتها مرتجفة، مليئة بالخوف والانكسار، بينما عينيه تفيض غضباً وذهولاً.
❈-❈-❈
وقف الجميع في باحة القصر الرحبة، وقد حل المساء علي المكان بسكون مهيب، يقطعه همس الريح بين الأشجار، وأضواء السيارات المتتابعة ترسم على الأرض خطوطًا ذهبية .
كل منهم اتجه نحو سيارته بصحبة زوجته وصغاره، والأنفاس تتداخل بين عناق سريع وكلمة مقتضبة وابتسامة.
سأل عابد زوجته بصوته الهادئ وهو يمسك يدها برفق
"هاتروحي معايا ولا هاتقعدي معاهم؟"
ابتسمت له باعتذار
"معلش يا حبيبي، أنا هابيت معاهم الليلادي، وبكرة ابقى عدي عليا"
مال نحوها يقبّل رأسها بحنان صادق كعادته، وقال وهو يفتح باب السيارة
"خدي بالك من نفسك يا حبيبتي"
ثم دلف إلى مقعده وأغلق الباب بهدوء، بينما وقفت هي تتابعه بعينيها حتى غاب عن نظرها خلف البوابة الحديدية.
رفع قصي يده من نافذة سيارته وهو يبتسم قائلاً بصوت مرتفع
"يلا، عايزين حاجة قبل ما نمشي؟"
ضحك البقية ولوحوا بأيديهم مرددين في صوت واحد
"شكراً"
وانطلقت سيارته أولاً، تلتها سيارة يونس وكارين، ثم تبعهم الآخرون تباعاً، حتى خلت الساحة من ضجيج العجلات وهدأ المكان .
لكن السكون لم يدم طويلاً، إذ دوى صوت محرك سيارة أخرى تشق طريقها بعجلة نحو الداخل، وخلفها ركض اثنان من الحرس يصيحان محاولين إيقافها
"استني يا مدام، لازم نبلغ الجماعة الأول"
توقفت السيارة فجأة على مقربة من ياسين الذي كان يقف إلى جوار والدته.
فُتح الباب بقوة وخرجت منه السيدة رجاء، وملامحها تنذر بعاصفة قادمة، وجهها متوتر، أنفاسها متلاحقة، وعيناها تقدحان شرراً.
ما إن وقعت عيناها على ياسين حتى اندفعت نحوه بخطوات سريعة، همّ الحراس بإيقافها، لكن ياسين أشار لهم بيده إشارة حادة أن يتركوها.
سألت جيهان بقلق وهي تتابع المشهد بعين حائرة
"مين دي؟"
أجاب ياسين بسخرية باردة والابتسامة الساخطة ترتسم على وجهه
"دي أم الدكتور الننوس، شكله راح عيطلها وجاية تاخدله حقه"
رمقته والدته بنظرة مستنكرة وقالت بنبرة تحمل العتاب
"مفيش فايدة فيك يا ياسين"
فرد بتمثيل مصطنع للبراءة
"هو أنا عملت إيه يعني؟!، ما أنا واقف مكاني"
تقدمت رجاء نحوه بثبات غاضب، ووقفت أمامه مباشرة وسألته بلهجة حادة تخترق الهواء
"فين ابني يا ياسين؟!"
رفع حاجبه باستهزاء ورد بتهكم فاضح
"هو أنا كنت الناني بتاعته؟، ما تسأليه هو كان فين"
لكزته والدته في ذراعه بخفة لتكبح لسانه، وهمست في ضيق
"عيب يا ياسين، واعقل شوية"
لكن رجاء لم تهتم لوجود الأخرى، بل تقدمت خطوة أخرى، وقالت بصوت يرتجف من الغضب
"يعني لو كان بيرد عليا أو أعرف له مكان، كان هايخليني أجيلك وأسألك؟!، ابني من وقت ما كلمني آخر مرة لما خرجتم من القسم، قفل تليفونه، ومعرفش عنه حاجة"
أدار ياسين وجهه في لامبالاة مستفزة، وقال بنبرة متهكمة تقطر سخرية
"برضه أنا مالي باللي أنتي بتقوليه؟، مش جايز يكون طفش ومش عايز حد يعرف مكانه؟، أصل حالته صعبة يا عيني"
ضربته والدته بنظرة قاسية كالسهم، وقالت له في غضب
"عيب بقى!، بطل التهريج اللي إنت فيه ده"
لكن رجاء التقطت الكلمة الأخيرة وأشعلت بها النار، فهتفت في وجهه متحدية
"وهو ابني حالته صعبة ليه إن شاء الله!، لو قصدك على اللي حصل، ربنا بيحبه ونصفه قبل ما كان كمل في الجوازة السودة دي، ده كان خلاص كانت ساعة زمن ويتقفل عليه هو ومراتك باب واحد"
انزلقت كلماتها كخناجر من نار، تقصد بها جرحه عمدًا، فاشتد فكه، وعضّ على أسنانه بعنف، حتى بدت عروق عنقه نافره، وعيناه تقدحان شررًا من الغيظ.
ودّ لو يكمم فم تلك المرأة التي تتلذذ بإيلامه، لكنه ظل صامت، يقف في مكانه متصلب الجسد، والحمرة تتسرب إلى وجهه كمن يوشك على الانفجار.
كانت والدته تراقب الموقف بخوف، تخشى أن ينفلت لسان ابنها أو يتهور في لحظة غضب، فيما ظلت رجاء شامخة أمامه، تبتسم ابتسامة منتصرة وهي تعلم أنها نجحت في مس موضع الوجع الأعمق في قلبه.
❈-❈-❈
خرجت ياسمين إلى الشرفة عندما التقطت أذنها صوت رجاء الصارخ، وصوت ياسين الغاضب، وكأن بين الصوتين حربًا خفية.
وقفت خلفها خديجة تسألها في دهشة
"مين الست دي؟"
فأجابت ياسمين بسخرية مُرّة
"اللي كانت هاتبقى حماتي"
ثم التفتت نحو الداخل، حيث كانت ابنتها الصغيرة تغني في براءة وهي تمسك أقلامها الملونة.
اقتربت منها وربتت على شعرها بحنان، قائلة بصوت ناعم
"ياسمينا، خليكي هنا يا روحي مع طنط خديجة، أنا نازلة أجيب حاجة وهاطلع على طول، ما تخرجيش من الأوضة، اتفقنا؟"
رفعت الصغيرة وجهها إليها مبتسمة
"بس ماتتأخريش عليا"
ضحكت الأم وقالت وهي تُقبّل جبينها
"عينيا يا قلبي"
لكن خديجة أوقفتها بقلق
"رايحة فين؟، اقعدي، أنتي لسه تعبانة، وما تقلقيش ياسين وماما جيهان هيعرفوا يتصرفوا معاها"
ردت ياسمين بحزم يختبئ خلفه ألم
"يعني أنتي مش سامعة الكلام اللي بيتقال عليا؟!، لازم أنزل، الست دي مش هاتسكت غير لما تعرف رحيم فين"
في الأسفل، كان ياسين يقف في وجه رجاء، يحاول أن يُبقي صوته متماسك رغم الغليان داخله.
قال بتهكم لاذع
"ولو اللي بتقوليه ده حصل، كنت هاعرف برضه، بس كنت هازعلك عليه وأخليكي تقري الفاتحة على روحه"
صاحت رجاء في وجهه بعنف
"ألف بعد الشر على ابني، مالك محروق منه كده ليه؟، هو كان يعرف إنها مراتك منين؟!، بدل ما تشكره إنه لمها لكم من الشارع، وحافظ عليها من كلاب السكك، وطلبها بالحلال يوم ما بصلها، تيجي تشتمه؟!"
كلماتها كالسياط انهمرت على مسامعه، تتراقص بين الغضب والغل، حتى كاد ينقض عليها لولا أن جيهان أمسكت بذراعه.
تدخلت الأم بحزم لاحتواء الموقف، فقالت لها
"شوفي حضرتك، منعًا للإحراج أنتي دلوقتي في قصر العيلة، ياريت يبقى كلامك أرقى من كده، لو في مشكلة أو محتاجة مساعدة، قوليلنا وهنعمل اللي نقدر عليه"
ردت رجاء بنبرة تحمل في طياتها السم
"كلامي مع ابنك، مش محتاجة مساعدتكم، محتاجة أعرف ابني فين من وقت ما خرجتوا من القسم اختفى، وابنك ومراته أكيد عارفين حاجة"
حينها، نطقت ياسمين بثبات يختبئ خلفه خوف دفين
"رحيم آخر مرة شفناه كانت قدام بوابة القصر، ومشي بعدها"
ابتسمت رجاء ابتسامة خبيثة، وقالت بدهاء وقد لمعت عيناها كذئب وجد فريسته
"كمان!، يعني كان ماشي وراكم لحد ما اتطمن إنك وصلتي بالسلامة؟!، ما هو زيه زي أول مرة، لما خدك على فيلا إسكندرية وبات معاكي هناك، ولما مشيتي ، فضل يلف ويدور عليكي ففي كل مكانلحد ما لقاكي، وبعدها على طول خدك على القاهرة"
ألقت ياسمين نظرة بطرف عينها نحو ياسين، فوجدته صامت كالتمثال، ملامحه ثابتة لكن خلفها بركان يوشك أن يثور.
فسألت الأخرى بحذر
"حضرتك تقصدي إيه بكلامك؟"
ابتسمت رجاء بنصر خادع، وقالت وهي تتعمد النظر في عيني ياسين
"أقصد اللي أقصده، المهم دلوقتي عايزة أعرف ابني فين؟"
تقدمت ياسمين بخطوة، أرادت أن تُنهي تلك المهزلة، لكن جيهان سبقتها
"ياريت كلامك يبقى معايا أنا، ابنك مش عندنا، ولو نعرف مكانه كنا قولنا لك"
تحدتها رجاء بصوت مرتفع
"ولو طلع ابنك السبب في اختفائه؟!"
قالت ياسمين بحزم خاطف
"رحيم هتلاقيه في شقة باباه اللي في مصر الجديدة"
تجمدت رجاء لحظة، ثم رددت بتعجب
"شقة مصر الجديدة؟! دي اتباعت من زمان"
اخبرتها الأخرى بذكاء لاذع
"لاء ماتباعتش، جوز حضرتك كان مخليها عشان لما بيتخانق معاكي يروح يقعد فيها يغير جو"
ضحكت رجاء ضحكة مكر خافتة، وقالت وهي تنظر إلى ياسين ثم تعود للنظر إليها
"واضح إن ابني كان بيحكيلك أسرار حتى أنا معرفهاش، وطالما كنتي عارفة بحكاية الشقة، يبقى كان واخدك هناك ومقعدك فيها، أتاريه من أول ما رجع من إسكندرية لحد يوم فرحكم ما باتش عندي، كان بيبات فين يا ترى؟، في العيادة ولا في الحضن الحنين اللي لقاه؟!"
شهقت ياسمين، وانقبض صدرها من وقع الكلمات.
صاحت بغضب ودفاع
"إيه اللي حضرتك بتقوليه ده؟!، أنا لحد دلوقتي محترماكي، بس أنتي بتتهميني بكلام باطل، آه، كنت قاعدة في الشقة، بس رحيم ما باتش معايا غير ليلة واحدة، وكانت معانا ست كبيرة جابها يقعدني عندها عشان كنت تعبانة، و كنت في أوضة لوحدي وقافلة عليا الباب، كفاية ربنا شاهد ومطلع علي اللي قولته"
لكن رجاء كانت أذكى من أن تترك اللحظة تضيع، التفتت نحو ياسين الذي بدأ الغضب ينفجر من عينيه، وقالت ببرود متعمد
"يعني عايزه تقنعيني إن ابني وقع في غرامك في الكام يوم اللي شافك فيهم بالسرعة دي؟!، ده حتي مالحقش ينسي بنت خالته حب طفولته و شبابه، لاء و كمان خطبك و عملك فرح الشوم والندامة في خلال عشر أيام، و إن ده لو دل ، يدل إن اللي كان بينكم مش مجرد نظرات و كلام، ده باينه أكتر من كده والله أعلم، و لا إيه يا استاذ ياسين؟!"
حينها، انفجر ياسين كبركان احتبس طويلاً، وصاح في وجهها بصوت كالرعد
"بره"
تدخلت جيهان في ذعر
"ياسين، عيب"
لكنه لم يسمع، اقترب من رجاء خطوة، وجهه يشتعل من الغضب الجامح
"قولتلك غوري بره"
رمقته رجاء بنظرة نارية لكنها مليئة بالظفر، ثم استدارت وركبت سيارتها، وقبل أن تنطلق ألقت عليه نظرة انتصار خبيثة، وكأنها أتمّت مهمتها بنجاح.
ظل ياسين واقفًا، ينظر إلى البوابة التي أُغلقت خلفها، وملامحه غارقة في العتمة.
اقتربت جيهان تضع يدها على كتفه قائلة بلطف متعب
"ياسين، ماتديش اهتمام لكلام الست دي، واضح إنها عايزه تحرق دمك، و عايزة توقع ما بينك و ما بين ياسمين"
أبعد يدها بهدوء غاضب وقال دون أن ينظر إليها
"لو سمحتي يا ماما، سيبيني لوحدي"
فهمت من نبرته أن العاصفة لم تهدأ بعد، فاتجهت نحو ياسمين التي كانت تتابع المشهد بخوف وقلق.
اخبرت حماتها بدفاع، وبصوت مضطرب
"والله يا طنط، ماعملتش حاجة من..."
قاطعتها جيهان بهدوء و سكينة
"من غير حلفان يا بنتي، أنا عارفاكي كويس، أنتي متربية قدام عنينا هنا في القصر من وأنتي لسه طفلة، يعني لا أم رحيم ولا عشرة زيها يقدروا يهزوا ثقتي فيكي"
غرقت ياسمين في دموع امتنانها وهي تعانقها
"ربنا يخليكي ليا"
ابتسمت جيهان وبادلتها العناق بحنان، ثم ربتت علي ظهرها وقالت لها
"تعالي ندخل جوه يا حبيبتي"
لكن الأخرى ظلت تنظر نحو ياسين البعيد، كأنها تحاول أن تقرأ ما يدور في رأسه.
حذرتها جيهان
"اوعي تقربي منه دلوقتي، سيبيه يهدى، و لما يروق ابقوا اتكلموا مع بعض"
أومأت برأسها، واتجهت نحو الدرج، وقبل أن تصعد قالت لها
"عن إذن حضرتك، أنا طالعة أطمن على ياسمينا"
ردت جيهان وهي تجلس بثبات
"اطلعي يا حبيبتي، وأنا هافضل هنا أستنى ياسين عشان أتكلم معاه، أصل اللي كانت هاتبقى حماتك، واضح إنها عرفت تلعب في دماغه"
ابتسمت ياسمين ابتسامة شاحبة، و صعدت الدرج بخطوات بطيئة، بينما ياسين مازال في الأسفل أمام القصر، يقف بين نيران الغيرة وشك يوشك أن يحرق قلبه.
❈-❈-❈
طرقت الباب بخفة، كأنها تخشى أن تزعج السكون الذي خيم على أرجاء الغرفة، ثم فتحته على مهل.
وجدت خديجة تجلس إلى جوار ياسمينا، تغطيها بالملاءة برفق أم حانية.
قالت بصوت مفعم بالعطف
"يا حبيبتي، هي لحقت نامت؟!"
ردت خديجة بصوت خافت متعب
"فضلت ترسم لحد ما نامت، وإيدها ماسكة الألوان، بس شكلها اللهم بارك هتطلع فنانة زي يونس وكارين"
لم تكد تنهي عبارتها حتى طرق الباب طرقًا خفيفًا، فقالت خديجة وهي تلتفت
"اتفضل"
دخلت الخادمة بحرج قائلة
"ياسين بيه طلب مني آخد له حاجة من هنا"
أشارت لها ياسمين بالدخول دون اكتراث
"اتفضلي"
دلفت الخادمة إلى الحمام بخطى حذرة، التقطت شيئًا من سلة الثياب المتسخة، طوته بخفة، وغادرت قبل أن تلمح إحداهما ما أخذته.
هبطت الأدراج مسرعة، وعندما وصلت إلي البهو، خرجت إليه حيث كان يقف أمام إناء معدني فارغ.
ناولته ما بيدها قائلة
"اتفضل يا ياسين بيه، اللي حضرتك طلبته"
تناول منها الثوب، رفعه أمام عينيه ليتأمله، فإذا به ثوب الزفاف الذي خلعته ياسمين، ومعلق به الوشاح الأبيض.
تأمله بعينين حادتين كأنهما سيفان من لهب وعبس، فكان صمته الثقيل كان أشد من الصراخ.
وفي الأعلى، ياسمين تقف في الشرفة، تجحظ عيناها وهي تراه يفعل ما لا يُصدق.
ترددت أن تصدق ما تراه، فصرخت داخليًا، وشفاهها تهمس بتساؤل خائف
"هو بيعمل إيه؟!"
لكن المشهد كان أبلغ من أي جواب.
رأته يلقي بالثوب داخل البرميل، ثم يسكب عليه وقود سائل، وبعد لحظة صمت خاطفة، أشعل القداحة، وألقاها داخل الإناء.
اشتعل الثوب في الحال، لهب يتراقص في ظلمة الليل و انعكاسه جلي علي عينينه.
شهقت ياسمين بصوت مبحوح، وارتجفت حين التفت إليها، يرمقها بنظرة كأنها طلقة أصابت صدرها مباشرة.
أمسكت خديجة بكتفها تربت عليه لتلملم ارتجافها وقالت برفق
"تعالي يا بنتي، ادخلي جوه نامي جنب بنتك"
دلفت ياسمين إلى الغرفة بخطوات متعثرة، أطرافها ترتجف، وذهنها يشتعل بأسئلة لا تنطفئ، ماذا يريد أن يقول لها بهذا الفعل؟، هل صدّق ما قالته السيدة رجاء؟، وإن كان قد صدّقها، فبأي حق يحاسبها على شيء لم تعلم حين فعلته أنها متزوجة؟
وفي الأسفل، كان ياسين يراقب الثوب حتى احترق عن آخره، ثم أدار ظهره واتجه نحو سيارته.
جلس داخلها، فتح أحد الدرجين، يفتش بغضب حتى عثر على ما أراد.
كان هاتف ياسمين الذي بقي معها يوم اختطفها من منزل رحيم.
فتحه ببطء، يحمل في صدره مئات الأسئلة المشتعلة.
لم يحتج إلى كلمة سر، فُتح بسهولة.
ذهب أولًا إلى الصور، فوجد عشرات اللقطات لها بمفردها، في أماكن مختلفة، بعضها التُقط خلسة وبعضها بدا حميميًا، وكان في بعضها الآخر ذاك الرجل... رحيم.
انعقد حاجباه، واشتعلت الدماء في وجهه، يقلب الصور بعنف حتى وصل إلى صور الخطبة، ثم مقاطع الفيديو.
شاهد رودينا هناك، تضحك وتبارك، ورأى رحيم يرقص مع ياسمين على موسيقى هادئة، ذراعاه تطوقان خصرها، وهي تضع كفيها على كتفيه، والابتسامة لا تفارق وجهها.
ضغط أسنانه بغضب وقال من بين أنفاسه الحارقة
"يا ابن الكلب... يا ابن الكلب"
توقف عند مشهد وضع فيه رحيم الخاتم في إصبعها ثم قبّل يدها، فزفر بغضب هادر، لم يحتمل أن يرى المزيد، فحدد جميع الصور وحذفها دفعة واحدة.
انتقل إلى تطبيق الدردشة، فلم يجد سوى محادثة واحدة وبالطبع كانت بينها و بين رحيم فقط.
تردد قبل أن يفتحها، قلبه يدق بعنف، يخشى أن يقرأ ما لا يُطاق، أن يرى كلمات قد تُفقده اتزانه نهائيًا.
لكن صوت رجاء في رأسه ظل يهمس بإصرار، ففتحها أخيرًا.
كانت الرسائل الأولى عادية، اهتمام وسؤال عن الحال، ثم تغير اتجاه الحوار تدريجيًا، فصارت كلمات رحيم تفيض عاطفة وغزلًا وأبيات شعر يصف فيها كيف أحبها دون قصد، وكيف صارت له الحياة كلها.
قبض ياسين على يده بقوة حتى برزت عروقه، وجز على أسنانه حتى سمع صوت الاصطكاك يعلو بين فكيه.
قلّب الدردشة بعشوائية حتى عاد لأعلاها، وهناك توقفت عينه عند رسالة واحدة، حروفها كانت كالجمر، قرأها مرة، مرتين، ثم ثالثة، ولم يجد لها معنى سوى أنها الحقيقة المُرة التي يحاول ألا يصدقها.
كانت كلمات رجاء صادقة إذًا!
أغلق الهاتف وأعاده إلى جيبه، صدره يعلو ويهبط كبركان على وشك الانفجار، حاول أن يلتقط أنفاسه عبثًا، فخياله لم يرحمه.
صور الخطبة، نظراتها، ضحكتها، وحتى هيئتها ليلة الزفاف، كلها تدور في رأسه في دوامة لا تنتهي.
ثم تداخلت المشاهد في ذهنه، حتى صار يرى المشهد ذاته بين رحيم وياسمين بدلًا من نفسه.
جحظت عيناه، وتبدلت ملامحه، كأن شيطانًا تسلل إلى روحه، هبط من السيارة بخطوات هادرة، واندفع نحو الداخل.
رأته والدته بتلك الهيئة ويبدو إنه متجه إلي أعلي لياسمين، فصرخت محاولة إيقافه
"ياسين؟، تعال نتكلم يا ابني"
لكنه لم يلتفت، كأن صوتها لم يبلغ مسامعه، صعد الدرج بخطوات غاضبة، وجهه كالغيم قبل العاصفة.
❈-❈-❈
خرجت خديجة من الغرفة وهي تهم بإغلاق الباب خلفها، غير أنها تفاجأت بوجوده أمامها، يقف شامخًا كجدار من الغضب، ملامحه تنذر بعاصفة قادمة لا تبشر بخير.
تراجعت خطوة وهي تتأمله بقلق واضح، وقالت بخفوت متردد
"خد بالك بنتك نايمة، ومراتك...
قاطعها بحدة قاطعة، صوته كالسيف حين يقطع الهواء
"تمام... حلو أوي"
لم يمنحها فرصة لإتمام جملتها، دفع الباب ودخل بخطوات صلبة.
كانت ياسمين تجلس جوار ابنتها، تخلع وشاحها استعدادًا للنوم، وما إن رأته يقتحم الغرفة دون استئذان حتى شهقت بخوف ظاهر، والتفتت إليه بدهشة تعلو ملامحها.
قال لها بأمر يفيض قسوة
"لفي حجابك... وقومي قدامي"
نظرت إليه بعينين متسعتين من الذهول والرهبة، وردّت بصوت متردد مرتجف
"أقوم هاروح فين؟!، أنا تعبانة وعايزة أنام جنب البنت"
اقترب منها حتى كاد أن يلامسها، وصوته هذه المرة كان كحد السيف
"ألبسي طرحتك وقومي معايا... مش هكرر كلامي"
ارتجفت أناملها وهي تلتقط الوشاح، نظرت إليه ثم إلى طفلتها النائمة ببراءة مطمئنة، كأنها تستمد منها آخر ذرات السكينة.
لفت وشاحها بصمت مطأطئة الرأس، وحين أنزلت قدميها على الأرض لترتدي حذاءها، قبض ياسين على يدها بقوة جارحة، وسحبها خلفه دون رحمة.
خرج من الغرفة وهو يجرها، فوجد خديجة ما زالت تقف مذهولة في مكانها، فقال بصرامة لا تحتمل الجدال
"خديجة، لو سمحتي خدي بالك من ياسمينا لحد ما نرجع"
سألته خديجة بقلق ظاهر على ياسمين
"ياسين، إنت واخد ياسمين ورايح فين؟"
لم يجبها، فقط تابع سيره بخطوات غاضبة.
لكن صوت آخر قاطع المشهد، كان صوت والدته، وقد بدا الذعر على وجهها
"فيه إيه يا ياسين؟! ماسكها كده ليه؟! ورايح بيها على فين؟!"
لم يرد كانت عيناه متوهجتين بغضب دفين، ويده تقبض على يد زوجته كمن يقبض على أسير.
تأوهت ياسمين بألم من شدة قبضته، وهي تهبط الدرج خلفه بصعوبة تكاد تُسقطها أرضًا، ثم توقفت فجأة، تشد يدها محاولة أن تفلت منه وهي تصرخ بانفعال
"سيب إيدي، إنت واخدني كده معاك وكأني كلبة، مش رايحة في حتة غير لما تقولي فيه إيه وإيه المشوار اللي هتوديني عليه؟!"
التفت إليها بوجه قاس كالجدار وقال ببرود قاتل
"ما هو مش بمزاجك"
وقبل أن تدرك ما سيفعله، كان قد انقض عليها بغتة، حملها على ذراعيه رغم صراخها، وسار بها نحو الخارج بخطوات هادرة لا تعرف التردد.
كانت جيهان تصرخ من خلفه وهي تهبط الدرج مسرعة تحاول اللحاق به
"ياسين!، ياسين، استني يا ابني"
لكن صوته الداخلي كان أعلى من أي نداء، فتابع طريقه حتى خرج إلى فناء القصر، فتح باب سيارته بسرعة، دفع ياسمين إلى الداخل دون أن ينظر إليها، ثم أغلق الباب بإحكام، وذهب يجلس خلف المقود، وانطلق كالرعد.
صرخت جيهان للحراس بصوت مذعور وهي تشير نحو البوابة
"محدش يفتح له البوابة ووقفوه"
لكن ياسين أخرج رأسه من نافذة السيارة، وصاح مهددًا إياهم بغضب جم
"افتحوا الزفت... وإلا اعتبروا نفسكم مرفودين"
ارتبك الحارس، نظر إلى ملامحه التي تتقد شرر، فخشي أن يعصي أمره، وفتح البوابة على مضض.
انطلقت السيارة تشق صمت الليل بسرعة متهورة.
❈-❈-❈
جلست ياسمين جواره، يملؤها خوف غامر، عيناها تتابعان ملامحه المظلمة التي لم ترَ مثلها إلا مرتين، يوم تشاجره مع رحيم، ويوم اعتدائه على رودينا بالضرب.
أدركت أن ما تخشاه قادم لا محالة، فسؤالها يتردد في أعماقها و هو يا تُرى، ماذا يُضمر لها!
كان الصمت يعم السيارة، لا يُسمع فيها سوى صوت احتكاك الإطارات بالطريق.
قطعت هي هذا الصمت بصوت مرتجف يحمل خوف مكتوم
"ياسين، ممكن تهدي السرعة؟، احنا كده هانموت"
لم يلتفت إليها، ولم ينبس بكلمة، كأنه غارق في دوامة من الغضب والذكريات. مدت يدها بتردد، وضعتها فوق يده القابضة بعنف على المقود، وهمست برجاء
"لو كلام وتلميحات أم رحيم هو اللي مضايقك، خلاص، لف وتعالى نرجع القصر ونتكلم بالعقل"
استدار نحوها ببطء، وليته لم يفعل،
ففي نظرته الحادة القاتمة ارتجفت روحها قبل جسدها، سحبت يدها بخوف وتراجعت إلى الخلف، بينما قال ببرود قاس
"ما تقلقيش، هانتكلم، بس مش في القصر، في شقتنا"
تلعثمت وقد اتسعت عيناها دهشة
"شقتنا؟!"
ابتسم بسخرية قاتلة، ونظر أمامه وهو يجيبها بنبرة تحمل شيئًا من الجنون
"أيوه شقتنا، مش أنا وإنتي متجوزين، طبيعي يكون لينا بيت، عارف إنك مش فاكراه، بس هخليكي تفتكري، وتفتكري كل حاجة"
انعقد لسانها، وبات عقلها يدور في دوامة من الخوف والرهبة.
نظرت من النافذة محاولة استيعاب ما قاله، لكن كلماتها خرجت أخيرًا متقطعة كأنها تستجدي الأمان
"ممكن ترجعني القصر... مش عايزة أروح معاك"
أبطأ من سرعة السيارة حتى توقفت تمامًا، التفت نحوها بعينين لا تخلو من سخرية جارحة، وقال بتهكم موجع
"يعني ينفع ما تروحيش مع جوزك حبيبك شقتكم؟!، و لا مرواح الفيلا و الشقة مع دكتور رحيم كان أحلي؟!"
و غمز لها بوقاحة، اتسعت عينيها حينما ادركت مغزى حديثه، و أن لا ينفع الجدال معه و هو في تلك الحالة.
صرخت بانفعال
"افتح الباب يا ياسين"
أجابها ببرود مميت وهو ينظر أمامه
"هافتحه... لما نوصل"
وانطلقت السيارة كرصاصة تخترق سكون الليل حتى توقفت أمام مبنى قديم، تنفس بعمق وزفر بتأفف واضح، ثم ترجل وفتح بابها قائلاً بصرامة جافة ومد يده نحوها
"انزلي"
نزلت وهي تتجنب لمسه، عيناها تدوران في المكان المظلم، كأن ملامحه تهمس لها بشيء من الماضي.
تجمدت لحظة، وذاكرة غائمة عبرت ذهنها.
وجوه، أصوات، ومشهد شبيه... ربما كانت هنا من قبل.
أفلتت منها أنفاسها حين جذبها بيده نحو الداخل، ودفعها برفق قاس إلى المصعد.
ضغط على الزر، وصعدا في صمت ثقيل كقدر يُساقان إليه.
وفي مرآة المصعد انعكست صورتها القديمة للحظة خاطفة، كانت هنا في المكان نفسه، وجهها مختفي خلف النقاب، وياسين بجوارها يبتسم بحنان لم يعد له أثر.
عادت إلي الواقع فرأت وجهها الحالي، وجسدها يتحرك نحو خارج المصعد، وياسين يجذبها خلفه، وتوقف أمام باب الشقة.
❈-❈-❈
كانت تقف عند عتبة الباب تتأمله في صمت وحذر، تنظر إلى يده التي تدس المفتاح في القفل ببطء، حتى إذا ما أدار المفتاح، انفتح الباب .
دلف هو أولًا، وضغط على أزرار الإضاءة، فانبثقت أنوار البيت الدافئة في أرجائه، كأنها توقظ روح المكان من سباتها الطويل.
تحركت خلفه بخطى مترددة، وما إن اجتازت العتبة حتى أحاطها إحساس غريب، قشعريرة خفيفة سرت في جسدها كله، كأن جدران البيت تعرفها وتستقبلها بعناق صامت يحمل بين طياته ألف ذكرى منسية.
قال لها بصوت واهن يخالطه حنين مستتر
"زي ما هي من وقت ما سيبناها، بخلي السكيورتي يجيب واحدة كل أسبوع تنضفها"
سارت في البهو الواسع، تتأمل الأرائك الفاخرة المغطاة بطبقة خفيفة من الغبار، الحوائط المزينة باللوحات لمناظر طبيعية وأخرى آيات قرآنية، والستائر التي تتماوج بخفوت كأنها تتنفس.
كل ركن فيها كان ينطق بشيء غامض لا تدركه تمامًا، وكأن البيت يذكرها بنفسه.
باغتها صوت زوجها من خلفها، يكاد يلتصق بها
"حاسه بإيه؟"
ألتفت إليه وحدقت في عينيه، و برغم هدوئه أمامها الآن لكنها تخشي ما تراه في رماديتيه، نظرة مظلمة.
همست بصوت خافت كأنها تحاول أن تصدق ما تقول
"مش فاكرة حاجة"
ابتسم بسخرية، وأخرج هاتفها من جيب بنطاله، رفعه أمام وجهها بيده في حركة تحمل تهكم ظاهر، وقال بنبرة باردة كالثلج
"ويا ترى... فاكرة اللي حصل ما بينكم أنتي والبيه؟ عشان يبعتلك الاعتذار ده؟"
رمشت بعينيها في دهشة وهي تحاول قراءة ما على الشاشة.
لم يتركها حرف واحد دون أن يرتجف قلبها.
«آسف... مش عارف إزاي أنا عملت كده... بس كانت فيه حاجة بتشدني ليكي جامد ومقدرتش أقاوم... ياريت تتقبلي اعتذاري... مش هكررها تاني... كلها أيام وهتبقي مراتي حلالي... بحبك أوي ❤🌹»
تصلبت أنفاسها، وابتلعت ريقها بصعوبة، ثم تمتمت بتصنع وهي تحاول استعادة رباطة جأشها، تمثل عدم الفهم
"هايكون حصل إيه يعني عشان يبعتلي رسالة زي دي؟!"
لكنها لم تتوقع ما جاء بعدها، ولم تتخيل تلك الجرأة الفجة التي تفجرت من كلماته حينما قال بنبرةٍ قاسية تخلو من أي رحمة
"هايكون إيه غير إنك نمتي معاه!"
كأن صاعقة ضربتها في مقتل، توقفت أنفاسها لحظة، ثم اشتعلت في عروقها نار الغضب.
لم تجد رد علي كلماته سوى أن ارتفع ذراعها تلقائيًا، وهبطت كفها على وجهه بصفعة مدوية ارتد صداها في المكان كله، صارخة في وجهه بأمر نافذ
"اخرس"
يتبع...
خلص الفصل فين التفاعل😁 و التعليقات و الريفيوهات 😉😂😂
انطلقوااااا💃🏻💃🏻
جاري كتابة الفصل الجديد للروايه حصريا لقصر الروايات اترك تعليق ليصلك كل جديد أو عاود زيارتنا الليله
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا

تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا