القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية غرام الذئاب الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )


رواية غرام الذئاب الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )





رواية غرام الذئاب الفصل الخامس وعشرون 25بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )


 #الفصل_الخامس_والعشرون

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#ولاء_رفعت_علي


كيف أصفكِ دون أن أُخطئ الأدب... ودون أن أكذب على النار التي تسكنني منذ عرفتكِ؟! 

في حضوركِ تختلط أنفاسي بالهواء الذي يمر من بين شفتيكِ... وأشعر كأن قلبي يُخلع من صدري كلما اقتربتِ.


تمهلي... تمهلي.. يا لوقع خطواتكِ في روحي و فؤادي

كل التفاتة منكِ توقظ فيّ ألف رغبة نائمة... وكل نظرة تسكب في عروقي خمراً لا يُعرف مصدرها إلا من عينيكِ.


إنكِ أنثى من نوع لا يرحم... تغوين الصبر بابتسامة... حين تتحدثين أسمع الكلمات تئن بين شفتيكِ... فما بال وقعها علي قلبي الذي أصبح لسطو عشقك أسير.


ما بيني وبينكِ ليس حب عابر بل احتراق بطيء... يشبه انتظار المطر في ليل عطش... أشتهي قربكِ لا ليهدأ الشوق... بل ليزداد اشتعالًا

فبعض المسافات لا تُطفئ النار... بل تزيدها و تجعلها كيف تتوهج دون رماد... فأريد أن أمسك بيديكِ وادفعكِ نحو صدري لتشعرين بنبضات قلبي... تلتقي أعيننا بنظرات يتداولها الناس في أساطير العشاق.

اقتربِ... اقتربِ يا امرأتي... و علي ثغري اعزفي بخاصتكِ أجمل الألحان... أتذوق عسل شفتيكِ... و صدري يشعر بحرارة ودفء نهديكِ... وأنتِ بين ذراعاي في عناق فتان. 

أحبكِ... أحبكِ... بل أنا تعديت مرحلة الحب و الجنون بكِ يا ياسمينة قلبي حتي أصبحتِ في حرم مملكة فؤادك عاشق ولهان. 


ياسين البحيري


بدأت تستعيد وعيها شيئاً فشيئاً، تهادى إلى أنفها رائحة المعقم، تلك الرائحة التي لا يخطئها من ذاق مرارة المكوث في المستشفيات.

  حاولت أن تحرك يدها، فشعرت بوخز حاد في معصمها، فتلمست بأصابعها الأنبوب الشفاف، واستشعرت برودة الإبرة المغروسة في جلدها، فعلمت أنها موصولة بالمحلول.


تقلبت أنفاسها باضطراب، وبدأت خيوط الذاكرة تتسلل إلى ذهنها ببطء، كمن يُعاد إليه شريط حياته من فوهة جرح لم يندمل. 

آخر ما تذكرته كان وقع الصفعات التي انهالت على وجهها، وصدى صوته الجارح وهو يصرخ بها 

«إنتي طالق...طالق»


تذكرت لحظة سقوطها بعدها، وجسدها يهوي كريشة مثقلة بالألم، ثم ظلمة كاملة ابتلعت كل شيء إلى أن أيقظها صوت فتح باب الغرفة.


كانت والدتها التي تحمل على ملامحها صلابة تُخفي خلفها خليط من الغضب والخذلان. 

وقفت أمام السرير تحدق في ابنتها بنظرة متوترة تتجاذبها مشاعر متناقضة، لكن الغضب كان أعتاها وأغلبها، فانفجر من بين شفتيها بصوت يقطر حنق

"عاجبك اللي عملتيه في نفسك وفينا؟، استفادتي إيه؟، عاجبك رقدة أبوكي في العناية المركزة بين الحيا والموت؟!"


عند ذكر والدها، ارتجفت ملامحها، واتسعت عيناها بخوف مباغت، ورددت بصوت مبحوح أقرب إلى الرجاء

"بابا... عايزة أروح له"


حاولت أن تنهض، لكن جسدها الواهن خانها، فهوت مرة أخرى على الوسادة، لتأمرها أمها بصرامة لا تلين

"ما تتحركيش، أبوكي مانعين الزيارة عنه، وبعدين إنتي قدامك لبكرة على ما تقومي"


عادت الأخرى تحاول أن تستقيم، إلا أن الألم باغتها في خاصرتها، فشهقت وأنَّت ثم صرخت من شدة الوجع. 

  هرعت الممرضة إلى الغرفة بخطى مسرعة بقلق

"بتقومي ليه؟، لازم تريحي جسمك شوية"


ردت رودينا بين شهقاتها

"مش قادرة... حاسة بوجع شديد هنا"


وأشارت بيد مرتعشة إلى موضع رحمها، فاقتربت الممرضة منها بلطف مهني واخبرتها

"طبيعي الوجع اللي حضرتك حاساه، ده كان إجهاض... وإنتي نزفتي كتير"


ساد صمت كثيف للحظات، توقف معه أنينها، ثم رفعت رأسها نحو والدتها بعينين زائغتين تستفهمان عما حدث. هزت شاهيناز رأسها ببرود قاتل وقالت بنبرة تقطر قسوة

"كنتي حامل... وعمايلك السودة خلتك تخسري اللي في بطنك"


اتسعت حدقتاها كمن صُفع للمرة الثانية، إذ كانت تلك أول مرة تسمع فيها عن حملها، وأول مرة تدرك أنها فقدته في الوقت نفسه. 

خُيل إليها أن الأرض تميد من تحتها، وأن الهواء حولها يختنق بها.


لكن والدتها تابعت حديثها بلا ذرة شفقة، بصوت غليظ جاف كالحجر

"الدكتور لسه مبلغني إن فرصتك في الحمل شبه مستحيلة... شوفتي وصلتي نفسك لفين؟، خسرتي نفسك، وخسرتي أهلك، وكل اللي بيحبوكي، عشان أنانيتك وغباءك... حتى إنك تكوني أم... دي كمان خسرتيها"


تجمد الزمن للحظة، وسكنت أنفاس الغرفة ، ارتجفت رودينا وكأن كلمات والدتها اخترقت صدرها كسهام من نار.

حاولت أن تنطق، أن تدافع، أن تبكي، لكن الدموع سبقتها، وانفجرت في نوبة صراخ هستيري، يتناوب فيها الألم مع الندم.


هرع الطبيب والممرضات على الفور، والقلق باد في وجوههم، فصرخ الطبيب بحدة وهو يلوح بيده

"حقنة مهدئ بسرعة"


اندفعت الممرضة بالإبرة، وغرزتها في ذراعها بإتقان سريع، بدأ الصراخ يخبو شيئاً فشيئاً، صوتها يتلاشى، أنفاسها تهدأ، حتى أُطبقت جفونها، وعادت إلى سبات عميق مرة اخري. 


                        ❈-❈-❈


أمام مكتب الضابط، كانا جيهان وعابد يقفان متجاورين، يحملان ملامح القلق والرهق، وبرفقتهما قصي الذي يحاول السيطرة على توتره بثبات مصطنع.

وعلى الجهة المقابلة، وقف ياسين مكبل المعصم بقيد معدني  وجواره ياسمين التي غمرتها دموعها، تبكي في صمت يقطع نياط القلب.


قال ياسين بنفاذ صبر، وصوته يخالطه الغضب المكتوم

"ممكن تبطلي عياط بقى؟"


رفعت إليه نظرة حادة تفيض بالازدراء 

"خليك في حالك ومالكش دعوة بيا، اللي بيحصلي دلوقتي إنت السبب فيه"


جز على شفته السفلى محاولاً كبح ثورة تكاد تشتعل في عروقه، لكن نظرة حازمة من والدته أوقفته عند حده، كأنها تأمره بالصمت دون أن تنطق حرف واحد.


وفي تلك اللحظة، كان رحيم يتقدم نحوهم بخطوات واثقة، يحمل في يده حقيبة جلدية أنيقة، وعيناه لا تريان أحد سوى ياسمين.


اقترب منها وهمس بقلق واضح وصوت يغمره الحنان

"ما تخافيش يا حبيبتي، مش هايقدروا يتخذوا أي إجراء قانوني ضدك عشان حالتك الصحية، أنا جايب معايا كل التقارير الطبية اللي تثبت كده، وكلمت المحامي وزمانه جاي"


لكن كلماته أشعلت بركان الغضب الكامن في صدر ياسين، فصاح بصوت هادر  يجلجل بين جدران الرواق

"حبيبة مين يالاه يا....، ما تتلم بدل ما أخليك ترقد جنب بنت خالتك"


رد رحيم بحدة لم يتوقعها أحد

"اغلط كمان، عشان أزودلك قايمة المحاضر اللي متقدمة فيك، وبنت خالتي حقها القانون هو اللي هاياخده منك"


أطلق ياسين كلمة اعتراضية بذيئة، ختمها باستهزاء جارح

"عليك وعليها وعلى القانون بتاعك، نخلص التحقيق وأفضالك يا دكتور البهايم"


تدخل قصي فوراً، وقد ارتسمت على وجهه ملامح التوبيخ والضيق

"ما تتلم يا ياسين واحترم نفسك، إحنا في القسم مش في بيتنا، ولا عايزهم يرموك في الحجز تحت مع البلطجية والشمامين؟!"


صرخ الأخر مُحتجاً

"يعني يرضيك اللي بيقوله الزفت ده ليها كأني قرطاس لب واقف ما بينهم؟!"


تقدمت جيهان بخطوات متوترة، ونظرت إلى ابنها بنبرة تجمع بين العتاب والصرامة

"مش وقته خالص، إحنا في مصيبة، والمفروض نحكم عقلنا ونركن العصبية والجنان على جنب"


ثم التفتت نحو رحيم، وقالت بصوت هادئ لكنه يحمل حدً واضح

"والكلام برضه لحضرتك، أظن الأمور كلها بقت واضحة قدامك، فمفيش داعي لكلام مالوش لازمة"


قهقه ياسين ساخرًا وقال بنبرة لاذعة

"ولا وجوده هنا مالوش لازمة... زيه كده بالظبط"


تجاهل رحيم سخرية ياسين تماماً، وأجاب السيدة جيهان بنبرة جادة

"أنا هنا بصفتي زوج أميرة، والدكتور المسئول عن حالتها"


كاد ياسين ينفجر، لكن قصي رفع يده محذراً إياه بالصمت، ثم تقدم نحو رحيم واقترب منه حتى كاد أن يلامس وجهه، وقال بحزم صارم

"بُص يا دكتور رحيم، أنا مقدر حالتك النفسية، والموقف اللي مريت بيه مش سهل ولا عادي، شكلك ابن ناس وعارف الأصول، وفاهم الصح من الغلط، فبلاش تكرر كلام عيب يطلع من دكتور محترم زيك"


وربّت على كتفه بخفة لكنها كانت تحمل إنذار واضح.

  فهم رحيم مغزى تلك اللمسة، لكنه لم يجد وقت لاستيعابها، فإذا أضاف ياسين ساخرًا

"معلش يا قصي... أصلي معلم عليه مرتين، الأولى لما بنت خالته نفضتله واتجوزتها، والتانية لما عروسته طلعت مراتي، ضربتين في الراس بتوجع أوي"


في تلك اللحظة، تجمدت ملامح رحيم واشتعلت عيناه بشرر الغضب، ثم اندفع نحو سليط اللسان  ولكمه بقوة في وجهه، 

صرخ ياسين وقد انفجرت حممه المكبوتة

"يا ابن الـكلب يا.... "


وكاد يرد اللكمة، لكن العساكر تدخلوا سريعاً لفض الاشتباك بينهما، بينما صاحت ياسمين في رعب وهي تنتحب

"كفاية بقى!، حرام عليكم"


لم يلبث أن دوى في المكان صوت جهوري من خلف الباب منادياً علي ثلاثتهم. 


دلفوا إلى المكتب، حيث جلس الضابط خلف مكتبه العريض، يتفحص بطاقاتهم بنظرة متفحصة لا تخلو من السخرية.


ابتسم بتهكم وقال موجهاً حديثه إلى ياسمين

"أهلاً يا عروسة"


أجهشت بالبكاء مجدداً، ونظرت نحو رحيم برجاء خافت، بينما كانت عينا ياسين تشتعلان كالجمر.   

فقال الضابط بنبرة حادة ساخرة

"دموع التماسيح دي ما بتدخلش عليا، ولا شاطرة بس رايحة تتجوزي وانتي على ذمة جوزك الأولاني؟"


قالت ياسمين من بين دموعها بصوت متقطع

"والله العظيم ما كنت أعرف"


اسرع ياسين يخبره

"هي حضرتك فاقدة الذاكرة" 


تدخل رحيم متجاهلاً ياسين وهو يفتح حقيبته الجلدية ويُخرج منها ملف ورقي

"هي فعلاً ماكنتش تعرف يا فندم، لأنها فاقدة للذاكرة من سنتين تقريباً بسبب حادثة حصلتلها، ودي التقارير والأشعة اللي بتثبت حالتها"


تناول الضابط الملف وألقى عليه نظرة متفحصة، ثم قال بنبرة متهكمة

"وأنت بقي دكتور رحيم، جوز المدام وصاحب الفرح اللي مصر كلها بتتكلم عنه؟!"


قلب الأوراق، ثم أردف وهو ينظر إليه بحدة متعمدة

"ولنفترض صحة كل اللي في التقارير دي... مش المفروض يا دكتور، لما تلاقي حاجة ضايعة تسأل عن صاحبها، و لا ما صدقت تاخدها ليك؟!"


لم يتأثر رحيم بالسخرية، بل أجاب بهدوء يخفي وجع دفين

"هو فيه حد يا فندم يلاقي في الزمن ده كنز لا يقدر بتمن ويسيبه؟!، أول ما شوفتها قلت دي هدية ربنا بعتهالي"


صرخ ياسين منفجراً

"نعم يا روح أمك؟!"


فما كان من الضابط إلا أن زأر فيه بغضب

"لو فتحت بوقك تاني، هخليهم يرموك في الحجز حالاً، ليك عين تتكلم قدامي من غير إذن؟!"


عض ياسين على أسنانه وكتم غيظه، ثم قال من بين شفتيه

"ما أنت سامع بيقول على مراتي إيه؟!"


صرخ الضابط بصرامة قاطعة

"وأنا بقولك اخرس"


ثم التفت إلى رحيم وأردف بجد رسمي

"بص يا دكتور، أنا مش هاعتمد على أي تقرير طبي دلوقتي، حالة مدام ياسمين لازم تتعرض على الجهة المختصة تبعنا، وهم اللي يحددوا إذا كانت فعلاً فاقدة الذاكرة ولا لأ، لحد ما يجيلنا تقرير رسمي منهم، كل الكلام ده بالنسبالي مالوش أي اعتبار... مفهوم؟"


ناول الملف إلى رحيم، الذي ابتلع ريقه في قلق ظاهر، ثم سأل في الوقت نفسه مع ياسين بصوت واحد

"طيب إيه اللي هايحصل معاها دلوقتي؟"


رد الضابط بهدوء رسمي

"هتشرف معانا الليلة دي في القسم، وبكرة هانبعتها تعمل الفحوصات والأشعة المطلوبة"


ثم التفت نحو ياسين قائلاً بنبرة حاسمة

"وبالنسبة لك إنت... هاتشرف معانا لحد ما تتعرض على النيابة بتهمة محاولة قتل مراتك"


احتقن وجه ياسين وقال مدافعاً

"هي اللي وقعت من على السلم، مجتش جنبها"


ابتسم الضابط ابتسامة ساخرة وقال

"دي الفيديوهات مالية الفيس والسوشيال ميديا، وإنت عمال تلطش فيها في فرح ابن خالتها، ولا إيه يا دكتور؟"


تدخل رحيم قائلاً بثبات

"حصل يا فندم... ولما وقعها من على السلم، حصلها نزيف وفقدت الجنين"


شهقت ياسمين في صدمة مروعة، رمقت ياسين بامتعاض ووجع، بينما هو تجمّدت

ملامحه كمن تلقى صفعة قاصمة، وقال بصوت مبحوح

"أنا مكنتش أعرف إنها حامل"


فقال الضابط بلهجة صارمة حادة

"تعرف أو ما تعرفش... ده يديلك الحق تمد إيدك عليها؟!"


صرخ يائساً محاولاً التبرير

"حضرتك ما تعرفش هي عملت إيه، دي كانت ناوية تجوز ابن خالتها لمراتي اللي أنا كنت فاكرها ميتة، وهي عارفة إن مراتي عايشة ولولا إني روحتلها الفرح، كان زماني زي الأهبل"


رد الضابط ببرود قاتل كمن ينطق بالحكم الأخير

"فيه حاجة يا أستاذ اسمها طلاق... وكل واحد يروح لحاله، لكن مش شروع في قتل، واديك قتلت ابنك اللي لسه ما شافش الدنيا، يعني جريمتين مش جريمة واحدة"


خارج الغرفة، جلس قصي وعابد وزوجته جيهان في صمت ثقيل، فقطعت جيهان السكون بصوت مرتجف والقلق ينهش فؤادها

"أنا خايفة أوي يا عابد... ياسمين هاتطلع منها إن شاء الله عشان فاقدة الذاكرة، لكن ياسين موضوع مراته هايخليه يدخل السجن"


ربت عابد على يدها محاولاً تهدئتها

"اهدي يا حبيبتي... بإذن الله ياسين مش هيتسجن وهايطلع منها علي خير"


تدخل قصي قائلاً

"هم لسه ماخدوش أقوال رودينا، ده اللي عرفته من المحامي، كان هناك في المستشفى بيتابع حالتها... أهو جه"


واتجهت الأنظار نحو المحامي الذي دخل مسرعاً يلهث من التعب، وقال وهو يلتقط أنفاسه

"آسف جداً على التأخير، بس كان لازم أعدي على المستشفى وأعرف حالة مدام رودينا الأول، لما فاقت جالها انهيار عصبي، والدكتورة إدلها إبرة مهدئ، وعرفت كمان إن اللي قدم البلاغ ابن خالتها الدكتور رحيم"


سألته جيهان بلهفة تكاد تخرج روحها معها

"كده موقف ياسين ابني إيه يا متر؟"


أجاب المحامي بثقة مطمئنة

"ما تقلقيش يا مدام، أنا هاطلب من الظابط أقعد مع ياسين وأفهم منه كل حاجة، بس غالباً هيبات الليلة دي في القسم، لحد ما تفوق مدام رودينا وياخدوا أقوالها"


                        ❈-❈-❈


تنتظر داخل الغرفة المغلقة من الخارج كالعادة كل ليلة، في انتظاره كما أمرها و عليها أن تطيعه بدلاً من تركها في قبو القلعة حتي تتعفن، حيث حكم عليها أن تصبح عشيقته كالجارية لا تملك أمرها. 


سمعت صوت المفتاح فعلمت أنه قد أتي، ابتلعت ريقها و حاولت أن تخفي توترها، امسكت الفرشاة وأخذت تمشط خصلاتها. 


فتح الباب وسبقته رائحة عطره المميز، اغمضت عينيها ثم ألتفت لتجده قد دخل ويقف واضعاً يديه في جيبي بنطاله، يحدق بها في صمت و نظرته حادة. 


"ظننت إنك نائمة، كما تدعين كل ليلة" 


تركت الفرشاة من يدها و ابتسمت إليه، اقتربت منه حتي وقفت أمامه، وضعت يديها إلي مقدمه قميصه

"كيف أنام و أنا اشتاق إليك حبيبي" 


و بدأت في فك أزرار قميصه بإغواء، 

عقد ما بين حاجبيه واخبرها بثقة

"ماذا تدبرين من وراء ظهري سيلينا؟" 


ابتلعت ريقها و اتسعت ابتسامتها

"أدبر لك كل شئ يجعلك تغفر لي كل اخطائي، و يجعل قلبك يخفق بعشقك لي من جديد" 


كادت تقبل صدره فقام بجذب خلصتها من الخلف ينظر في عينيها ليكشف خبايها 

"أخطائك لا تغتفر، وقلبي اللعين قد أصبح رماد، فأنا ليس سوى سيدك و أنتِ هنا مجرد جارية، عليكِ طاعتي فقط" 


تحملت الألم و مازالت ترسم تلك الابتسامة الخبيثة

"كذب، كل ما ذكرته للتو مجرد أكاذيب تخبرني بها من وراء قلبك الذي مازال حي و ينبض كلما تراني" 


وضعت يدها علي موضع قلبه تشعر بنبضاته و اردفت

"ها هو ينبض لي، و أرى العشق  في عينيك، وأشعر به في لمساتك" 

تمسك بكفه لتضعه علي خدها وتغمض عينيها

"و حينما تُقبلني وتضمني بين ذراعيك، أشعر بحرارة جسدك رغم الجليد الذي تتعمد إظهاره لي" 


حرر خصلاتها من قبضته، فاسرعت بعناقه ووضعت رأسها علي صدره بحميمية 

"أرجوك فلاد سامحني، أنا اعترف ببشاعة كل ما كنت سأفعله، و اكتشفت كم كنت حمقاء و غبية، أعلم أنك لن تسامحني" 


رفعت وجهها عن صدره و حدقت في عينيه بنظرة أسرت فؤاده

"لكن لدي أمل أن تُعطي لي فرصة أخرى، و أعدك سأكون مثل ظلك، كُلي لك، طوع أمرك و رهن إشارتك" 


بالرغم أن عقله يلح عليه بأن لا يصدقها فقلبه لن يجعله يسمع صوت الناقوس، فإذا به يبادلها العناق بقوة و سيل من القبلات علي عنقها و كتفها العاري مع ترديد تلك الجملة

"أحبك سيلينا... أعشقك يا امرأتي" 


بادلته القبلات بنهم و تخبره

"و أنا أيضاً فلاد" 


أمسك بوجهها بين كفيه، يسألها كالغريق في بحور العشق والرغبة

"و أنتِ ماذا؟" 


همست من بين شفتيها شديدة الإحمرار من أثر التقبيل

"أنا احبك فلاديمير، احبـ... 


ابتلع الكلمة بداخل جوفه، حملها من خصرها وألقاها علي فراشه الوثير و مازال يقبلها ويديه تحررها من الغلالة الحريرية السوداء، يقبل كل إنش في وجهها، شفتيها، خديها، ذقنها، جبهتها، ليهبط مجدداً إلي عنقها ثم جيدها فكتفها، بينما هي تئن من ما يفعله بها، تخللت أناملها خصلات شعره، رفع وجهه ليستمتع برؤيتها تحت سطوته وعنفوانه. 


مازال صوت عقله يحذره و قلبه يفعل النقيض، نهض عنها وداخل رأسه صراع أهوج، صدره يعلو و يهبط و صوت أنفاسه مسموع، وقف يحدق بها و هي تنظر إليه بعدم فهم و ينضح من عينيها الشبق، فكلما ينظر إلي عينيها التي تسحره يضعف أمامها، جز علي فكه وشد علي قبضة يده حتي برزت عروقه. 


لاحظت الأخري ما يحدث فسألته

" ما بك حبيبي؟"


استقامت ووقفت أمامه، تتحسس وجهه وسألته بدهاء

"هل تشعر بالتعب أم أنت غير قادر علي فعل شئ الليلة؟، فلنؤجلها لوقت آخر" 


"ما الذي تهذي به يا امرأة؟!، هل تعِ إلي حديثك جيداً؟" 


كانت نبرته حادة، و نظرته قاتمه، ابتلعت ريقها وأجابت بإنكار

"لم أقصد شئ حبيبي، أنك اسأت الفهم،  حين رأيتك تلتقط أنفاسك بصعوبة، فشعرت بالقلق عليك، أنا في النهاية أهتم لأمرك ليس إلا" 


رفع جانب شفتيه بابتسامة ساخرة، فقد عزم أمره وعلي حين غرة ارغمها علي الإلتفاف ليصبح ظهرها مواجه إليه، ودفعها علي وجهها علي الفراش آمراً إياها بلهجة جعلتها تنتفض من الخوف

"علي ركبتيكِ الآن" 


فسألته بحذر

"ما الأمر فلاد؟" 


جمع خصلاتها في قبضته و دنا فوقها ليكمم فاها بكفه الأخر ويخبرها من بين أسنانه 

"لا أريد سماع صوتك و ألا لم أتركك حتي تنقطع أنفاسك، اسمعتِ يا امرأة؟" 


هزت رأسها بأنين مكتوم أسفل كفه، فأخبرها بثقة و فخر

"جيد، إذن سأريكِ هل أنا قادر أم لا" 


اتسعت عينيها عندما ادركت ما وراء حديثه! 


                      ❈-❈-❈


تمسك بالفرشاة تغمسها في الألوان الزيتية وتبدأ في رسم امرأة غائمة الملامح، تحتضن نفسها في ركن شبه مظلم من اللوحة، كأنها تلوذ بذاتها من صخب لم يُسمع، أو تفر من وجع لم يُروَ. كانت تُفرغ في تلك اللوحات ما لا تجرؤ على قوله، تصب فيها ما يعج به صدرها من شعور خانق وحنين موجع وذكريات لا تموت.


وبينما يعم السكون غرفة المرسم، تسلل إلى أذنيها صوت الباب يُفتح في هدوء. لم تلتفت، لكنها أحست بحضوره قبل أن تنظر إليه. 

دخل زوجها حاملاً صينية صغيرة يتوسطها كوب من مشروب ساخن، يتصاعد منها بخار تعبق رائحته في المكان.


قال برقة متناهية وهو يضع الصينية على المنضدة

"كارين حبيبتي، عملتلك كوباية هوت شوكليت هتعجبك"


التفتت إليه، وعلى شفتيها ابتسامة شاحبة خلت من الحياة، وقالت بصوت خفيض

"شكرًا"


كان يحاول أن يبدو ثابتًا، غير أن الحزن الذي يتسلل من عينيها كاد يزلزل قلبه. يعلم كم قاومت، وكم خاضت حرب طويلة مع نفسها بعد أن نجاها القدر من بين أنياب ذلك المختل المريض الذي ترك في روحها ندوب لا تُرى. 

وبالرغم من تكرار زياراتها للطبيب النفسي، ظل الألم فيها مقيمًا لا يبرح داخلها.


وقف يتأملها في صمت حنون، يشعر أن مجرد رؤيتها أمامه نعمة لا تقدر. 

كلما تذكر أنه كاد يفقدها، انتُزع الهواء من رئتيه. 

ومع ذلك ها هي الآن أمامه ترسم، وتتحرك، وتبتسم، حتى وإن كان بريق ابتسامتها لا يزال باهت.


نظر إليها بعينين تشتعلان بالشوق، يتلهف إلى دفء حضنها وصوتها الذي قلما يسمعه. 

وضع الصينية برفق على الطاولة واقترب منها، يطوقها بذراعيه من الخلف في عناق حان مفعم بالحنين، وهمس في أذنها

"وحشاني أوي يا حبيبتي"


ارتجف جسدها تحت لمسته، وسقطت الفرشاة من يدها. 

  أغمضت عينيها في محاولة بائسة لتجميد المشهد داخلها، تتنفس بصعوبة وهي تحاول احتمال عناقه. 

لقد تعافت نعم، لكنها لم تُشفَ تمامًا. 

فما زالت ترفض التلامس، حيث تعود إليها ذكرى تلك الليالي المظلمة التي سُلبت فيها إنسانيتها على يد مهند. 

كل لمسة تذكرها بأسره، وكأنها تعيش الكابوس من جديد.


قالت بصوت مرتجف متوسل

"يونس، لو سمحت ابعد"


لكنه لم يتوقف، ظل يُقبّل عنقها بحنين عارم قائلاً بشغف 

"حبيبتي انتي وحشاني، ومش قادر أبعد عنك أكتر من كده"


صمتت، بينما توتر جسدها يُفضح خوفها، أزاح عن كتفيها قميصها القطني وقبّل كتفًا ثم الآخر، مر بشفتيه على عنقها ثم مؤخرة رأسها، وحين التفت ليواجهها، وجد الدموع تسيل على خديها في صمت موجع، كأنها تستسلم لما يحدث، لكنها تحترق من الداخل مع قبلة ولمسة منه.


تجمد في مكانه، وابتعد عنها سريعًا، وقد انعقد في صدره وجع لا يوصف. 

قال بتلعثم

"أنا… أنا آسف، والله ما كان قصدي أضايقك كده… أنا غبي وحمار، شوقي ليكي غلبني ونساني إنك لسه ما اتجاوزتيش نفسياً اللي حصل معاكي"


رفع يده ليمسح دموعها، لكنه توقف في اللحظة الأخيرة، كأن يده تخشى أن تجرحها. 

شد قبضته على نفسه بقهر وعجز فاضح.


تحدثت هي أخيرًا من بين دموعها المنهمرة

"أنا اللي آسفة، عارفة إني مقصرة في كل حاجة، معاك ومع الولاد، قلبت حياتكم كلها حزن ونكد"


اقترب منها وقال بحرقة صادقة، وقد اغرورقت عيناه بالدموع

"بالله عليكي، ماتقوليش كده، عمرك ما قصرتي معايا ولا مع الولاد، كل همك تسعديني وتخليني مرتاح، أنا مش عايز أفتكر اللي حصل لأني بعتبره كابوس وعدى، بس يوم ما رجعتيلي، كنت حاسس إن روحي اللي كانت راحت مني رجعتلي تاني"


أخفضت رأسها وقالت بصوت واهن

"أنا مش قادرة أتجاوز ولا أنسى اللي حصلي، بقيت بخاف أنام، كل ما أنام أشوف كل حاجة من الأول وكأنها بتحصل تاني، مش عارفة أحضن ولادي، ومش قادرة أكون معاك زي زمان…


وضع كفه برفق على شفتيها لمنعها من إكمال الجملة التي كانت تمزق قلبه، وقال بصوت متهدج

"إياكِ تقولي كده تاني، وجودك بخير كفاية عندي… النظرة في عينيكي دي لوحدها بالدنيا كلها"


ابتسمت من بين دموعها 

"أنا كل يوم بحبك أكتر وأكتر، وببقى خايفة أحسد نفسي عليك"


ضحك بخفة محببة وقال بمزاح

"لاء ده أنا كده هتغر في نفسي"


أفلح مزاحه في انتزاع ضحكتها الدافئة، فالتقط الكوب ومده نحوها 

"الضحكة الحلوة دي تستاهل الهوت شوكليت"


تناولت الكوب، استنشقت رائحته ثم قطبت حاجبيها وقالت بدهشة

"إيه ده؟!"


أجابها ببراءة طفولية

"هوت شوكليت يا حبيبتي، وحطيت لك عليه شوية لبن، بس ريحة الكاكاو غريبة شوية وطعمه حراق شويه"


نظرت إليه بتهكم مازحة

"حبيبي، إنتَ عاملي قرفة باللبن، وأنا ما بحبش القرفة"


حكّ فروة رأسه في حرج وضحك 

"يا خبر!، وأنا عمال أقول لنفسي، هو الكاكاو بقى محوج ولا إيه؟!"


ارتشفت قليلاً منه، ثم ضحكت 

"على فكرة طعمه حلو أوي، تسلم إيدك"


قبّلت خده برقة فابتسم ، يرمقها بصره صوب عينيها الغارقتين بالعاطفة، وقال بهمس

"تسلميلي إنتِ، وربنا يباركلي فيكي يا حبيبتي وروحي، مراتي وبنتي وأختي وكل حاجة ليا"


ثم أرسل لها قبلة في الهواء 

"دي على إيدك"


وأتبعها باثنتين وهو يضحك

"ودي على راسك، والتانية على شفايفك"


أدركت كم يخشى أن يلمسها ثانية، فبادرت بتغيير الحديث لتكسر وطأة الموقف

"شوفت؟، كنت هانسى أسألك، كلمت چيچي أو ياسين شوفتهم عملوا إيه في القسم؟ وياسمين هايعملوا إيه معاها؟"


تنهد قائلاً

"لسه كنت قافل مع قصي من شوية، عشان أروحلهم قالي إن الموضوع بسيط، ياسمين هايعملولها شوية فحوصات وإجراءات علشان يتأكدوا إنها فعلاً فاقدة الذاكرة، وساعتها تهمة تعدد الأزواج هتسقط من عليها، بس حوار ياسين متوقف على رودينا لما تفوق وياخدوا أقوالها"


قالت وهي تهز رأسها غير مصدقة

"حوار ياسمين ده أنا مش قادرة أستوعبه، كنا بنشوف الحاجات دي في الأفلام، بس تحصل في الحقيقة دي معجزة"


أجابها بابتسامة صافية

"أي كان اللي حصل المهم إنها عايشة، فرحان أوي لياسين، شايف بريق عينيه رجعله زي زمان، كان ميت وبقى حي"


ضحك فجأة وهو يتذكر شيئًا وقال

"بس بجد اللي مش قادر أمسك نفسي من الضحك عليه، لما راح الفرح يدور على مراته عشان يحاسبها، لقى نفسه شاهد على كتب كتابها، يعني لو ما كانش راح، كان بعد تسع شهور ممكن يتعزم على سبوع ابنها"


لكزته على كتفه وهي تضحك

"أخوك في مصيبة وإنت بتضحك عليه؟!، والله صعبانين عليا، خصوصًا بنته، وفي نفس الوقت فرحانة ليها، فقدان الأم حاجة توجع أوي، خصوصًا إنها عاشت ست سنين فاكرة كل لحظة معاها"


تأملت لوحة معلقة على الجدار، تُظهر سيدة جميلة تشبهها كثيرًا، وقالت بصوت مفعم بالشجن

"صدقني، اللي فقد أمه وهو كبير بيتوجع أكتر من اللي اتولد وما شافهاش، مهما كان عنده ناس تحبه مش هيعوضوه عن حضنها، الأم دي أول حضن بيطمنك، وأول صدر بتبكي عليه"


كان يستمع إليها وعيناه تلمعان بالحزن، ثم قال ممازحًا وهو يحاول انتزاع ابتسامتها

"عندك حق، بس أنا زعلان منك، عايزة مامتك ومحتاجاها وأنا موجود؟!"


نظرت إليه بدهشة

"وإيه علاقتك بكده؟"


"لأننا متفقين من زمان، أنا مش جوزك بس… أنا جوزك وأخوكِ وابنك وباباكِ ومامتك كمان"


رفعت حاجبيها وضحكت 

"وماما كمان؟!"


"أيوه، مش الأم بتدخل على بنتها وهي بتذاكر بكوباية عصير أو شوكليت زي اللي أنا عملتهولك ؟!، يبقى أنا زيها"


قهقهت واخبرته بمزاح

"بس الماميز عارفين الفرق بين الكاكاو وبين السينامون"


أشار إليها بإصبعه وهو يتظاهر بالحزن

"مش هتبطلي تذليني بيها يا فنانة؟، طب بصي من هنا ورايح اكتبي على كل برطمان في المطبخ اسم اللي جواه إيه"


"حاضر، بس بشرط ما تدخلش المطبخ تاني"


زمت شفتيه كطفل غاضب، فقال بدلال

"كده؟ أنا زعلان"

همّ بالمغادرة، توقف عند الباب  

"إيه ده؟ مش هتصالحيني؟"


"هو أنا زعلتك عشان أصالحك؟!، بس عشان خاطر كوباية الهوت شوكليت اللي عاملة نفسها قِرفة باللبن هاصالحك، قولي نفسك في إيه و عيوني ليك"


أشرق وجهه بابتسامة عريضة، وقال بحماس 

"عايزك ترسميني"


ابتسمت بدهشة

"ما أنا رسمتك كتير قبل كده، قول حاجة جديدة"


قال بمكر

"أيوه رسمتيني بس دايمًا بتعمليلي بورتريهات وأنا نايم أو نص وشي بس، المرة دي عايز فورمة كاملة"


"يعني إيه فورمة كاملة؟"


خلع قميصه القطني واتجه نحو الأريكة، وهمّ بخلع بنطاله وهو يقول بثقة ضاحكة

"هاخلع البنطلون وهاقعدلك بالبوكسر، عايز لوحة بـ الفورمة الجديدة، شايفة عضلات الـ six باكس، ابدعي فيهم، عايز أشوفك رسماني بيج يونس"


قذفت عليه قميصه ضاحكة 

"إلبس هدومك يا حبيبي، التكييف شغال على ١٨ وهاتبرد، وإنت لما بتاخد برد بتقلبها إنفلونزا، وساعتها لا هتبقى محصل بيج رامي ولا حتى بيج ياسمين"


انفجر يضحك واقترب منها في حركة تمثل الهجوم، فركضت وهي تضحك بأعلى صوتها، يطاردها بين أركان المرسم في مشهد طفولي رائع.


                       ❈-❈-❈


وقفت الخادمات تُقاسم الأحادي على نحوٍ لا يخلو من همسات وضحكات مكتومة، ضحكات تبدو وكأنها تتشدق بالأمنيات، حين تسمع صرخات سيلينا المتتالية.


فقالت إحداهن بحزن لا يُخفي 

"يا لها مِن مسكينة، كل يوم تبقي تصرخ طوال الليل"


فتابعت أخرى 

"بالطبع تصرخ؛ فإن السيد فلاد لا يرحمها"


ونطقت الثالثة تسألهن بتعجب

"يا إلهي، كيف لإنسانة ضعيفة مثلها أن تتحمل الضرب والإهانة يومًا بعد يوم!، كلما كنت أضع لها الطعام في الزنزانة رأيت آثار أصابع السيد فلاد على عنقها ورسغيها، وكدمات صغيرة متناثرة على نحرها وكتفيها"


ضحكت الأخريات بسخرية، فأجابت إحداهن بصوت خفيض

"ضرب وإهانة أيتها البلهاء الساذجة؟!"


فسألتها أخرى بدهشة ساخرة

"أجل، وإن كان ذلك، فماذا يفعل بها سيدي ليجعل من بالداخل والخارج يسمع صوت صراخها؟!"


تبادلن الضحكات وهن ينظرن إلى بعضهن البعض، فأجابت إحداهن بصوت مرح 


"عندما تتزوجين ستعرفين الإجابة بنفسك"


وهنا، بينما تتلاشى الضحكات وتنخفض الأصوات، انقطع التيار الكهربائي عن القلعة في آن واحد، داخلها وخارج أسوارها؛ فعم السكون الحالك، ثم ارتفعت صيحات الدهشة

"ما الذي يحدث؟"


صاحت إحداهن، ثم جاء من بعد ذلك دوي انفجار مصدره إحدى البوابات الخلفية، اهتزت جدران القلعة،  فصرخت الخادمات، وانتشر الهرج في كل مكان.


بينما في الطابق الأعلى، فكانت الغرفة منيرة بضوء بديل يعمل ذاتياً عند انقطاع التيارِ؛ كان فلاد قد ابتعد عن سيلينا وهو يرتدي بنطاله على عجل، وسرعان أن تحدث في الهاتف اللاسلكي الخاص بالحراسة. 

"اللعنة، ما الذي يحدث؟" 

وصل إلى مسامعه أصوات صراخ رجاله و طلقات نيران متبادلة. 

أتاه صوت أحد الحراس وهو يلهث بفزع 

"سيدي، هناك هجوم مباغت على القلعة؛ قُتل الكثير منّا في الانفجارِ، وتبادلنا إطلاق الرصاص"


صاح فلاد بغضب جامح

"أنا قادم الآن"


أمسك قميصه وارتداه على عجلة؛ وقعت عيناه على تلك النائمة في وضع الجنين، تبكي بقهر لا يُخفيه ثغرها، وحينما اقترب منها، تراجعت للوراء بخوف.


"انهضي وارتدي ثيابك، ولا تتحركي من هنا"


هزت رأسها بطاعة، فتح درج مكتبه وأمسك بسلاحه، أخذ خزينة رصاصات احتياطية. 

وقبل أن يغادر الغرفة، دنا منها وقبلها واخبرها

"لن اتأخر عليكِ"


انصرف بخطى مسرعة، فبصقت هي في أثره بغضب مكتوم؛ نهضت بضعف، لملمت خصلاتها المبعثرة، وتوجهت إلى الخزانة بسرعة،امسكت بثوب أزرق بنصف أكمام، ارتدته على عجل. 

ألتفت يمينًا ويساراً لتطمئن أن المكان آمن بما يكفي. 

عادت إلى الفراش ومدت يدها أأسفله أخرجت سكين صغير وسلاح ناري، ثم فتحت درج الكمود  وأخذت طوق مطاطي. 


رفعت طرف ثوبِها إلى أعلى، ارتدت الطوق حول كاحلها ثم رفعته حتى صار على فخذها، وضعت السكين والسلاح بين الطوق وفخذها، انزلت ساقها وأعادت ترتيب ثوبِها بهدوء. 

أخذت حقيبة صغيرة تحمل على الظهر، جمعت بعض الثيابِ وأوراقًا خاصة بها، ثم فتحت الضلفة المخصصة لملابس فلاد؛ وقفت أمام الخزنة الرقمية الخاصة به، نقرت الأرقام التي تحفظها، فانفتحت الخزنة وظهرت داخلها الأوراق والنقود وقرص صلب صغير (فلاشة).  

جمعت كلّ ذلك ووضعت داخل الحقيبة، أدخلت المال أيضًا.


خرجت من الغرفة تسحب قدميها بحذر، تلفتتمن حولها رغم الظلام، لكنّ الحذر واجب دومًا. 

  استغلت انشغال فلاد ورجاله في صد الهجوم المباغت على القلعة، فخرجت من باب صغير تُرك مفتوح عن عمد.


ركضت بكل ما في جسدها من قوة حتى وصلت إلى طريق السيارات، وقفت جوار نافذة سيارة سوداء متوقفة على الرصيف؛ طرقت النافذة، فُتح لها الباب، ولجت للداخل تتنفس الصعداء.


التفتت إلى جانبِها فوجدت رجل ذا هيبة وملامح تشي بالإجرام، حدق بها بنظرة خبيثة ثم قال لها 

"كما وعدتك يا شقراء، ها أنا قد حررتك من سجن هذا الأحمق"


ابتسمت له بدلال يشوبه امتنان


"لن أنسى لك هذا المعروف عزيزي، لقد جلبت لك كلّ ما تريده مقابل ما فعلته من أجلي، لكني لم اعطيهم لك إلا بعد أن أُؤخذ بقية ما وعدتني به"


ضحك وأخرج من جيبِ سترته الداخلي ظرف ورقي قائلاً 


"جواز سفرك إلى أوروبا؛ تتنقلين كما شئت، ومعه مبلغ من المال، وعندما تستقرين في البلد الذي تريدينه سأبلغ رجالي يلحقون بكِ لحمايتك ريثما أُنهي أمر فلاد وأعود إليكِ يا حلوتي"


ابتسمت بدلال وثقة 


"حسناً، تفضل يا سيد روبين، كل ما طلبته بين يديك" 


أخرجت له الملفات الورقية والقرص الصلب، أخذها بيده، ابتسامة النصر تشق وجهه من الأذن إلى الأذن الأخرى.  

قال بلهجة انتقامية 

"و أخيرًا، جاء اليوم الذي سأنتقم فيه من عائلة رومانوف، واجعلهم مجرد ذكرى"


                      ❈-❈-❈


بعد صدور توصية خاصة من أحد معارفهم إلى الضابط المسؤول، قرر أن يبقى كليهما في غرفة مكتبه إلى صباح اليوم التالي، غير أن تلك الليلة بدت أطول من أن تنقضي بسهولة، ولا سيما على تلك التي وقفت عند النافذة، تحدق عبر القضبان الحديدية إلى البعيد.  


"هاتفضلي واقفة عندك كده كتير؟، تعالي كولي لك لقمة عشان تاخدي علاجك"

قالها ياسين وهو يجلس على أحد المقاعد الجلدية أمام منضدة تفترشها أطباق الطعام الجاهز


فأجابته دون أن تلتفت إليه، بنبرة واهنة تغلفها المرارة

"مليش نفس ولا عايزة آخد أدوية"


ابتسم في فتور وقال محاولاً التودد

"تعالي بس اقعدي جمبي وأنا هافتح نفسك، هتلاقيكي جعانة أوي، خصوصاً إنك ملحقتيش الأوبن بوفيه اللي كان في الفرح"


شعرت بسخريته تخترق صبرها، فاستدارت نحوه ترمقه بازدراء، وقالت بحدة

"مش فايقه لك ولا فايقه لتلميحاتك السخيفة"


فأعد لها شطيرة محشوة بقطع اللحم المشوي، ونهض مقترباً منها  

"أنا مقدر الصدمة اللي أنتي فيها، وعارف دماغك عمالة تحدف يمين وشمال عشان تستوعب اللي بيحصل معاكي، بس المفروض تفرحي لكذا سبب... أولهم إنك عرفتي أنتي مين، وإنك متجوزة ياسين البحيري، وعندك منه أحلى وأجمل بنوته، أول ما هنرجع بالسلامة، هتشوفيها وهتعرفيها بنفسك"


تسارعت دقات قلبها، وحنين الأمومة الذي ظنته مات، استيقظ في قلبها من رقدة طويلة.

  سألته بصوت مرتجف

"هي عندها كام سنة؟"


اقترب منها وقال بثبات عاطفي خافت

"8 سنين، واسمها ياسمينا، أنا اللي سميتها على اسمك من عشقي فيكي"


رفرفت أهدابها كالفراشة، بينما عيناه تفيض بالصدق حتى كاد قلبها يخفق لوقع نظراته.  

ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم همست

"حصلها إيه لما افتكرتني موتت؟"


ساد الصمت لحظة، ثم رفع بصره إليها وقد تلبدت عيناه بغيم الذكرى، وقال بصوت خافت كأنما يتحدث إلى نفسه

"كانت أصعب لحظة مرت عليّا وعليها، روحي اتسحبت مني وفضلت عايش وميت في نفس الوقت، هي حالها ما يقلش عن حالي، يمكن مكنتش مستوعبة إن الموت يعني فقدان للأبد، لكن عشان متعلقة بيكي جدًا وفجأة مالقتكيش جمبها، ده أثر فيها جامد، مابقتش عارف أعملها إيه ولا أعمل لنفسي إيه"


ثم أطلق زفرة طويلة خرجت معها أنفاسه المثقلة بالحزن، واستطرد قائلاً

"يوم ما انتي مشيتي كان يوم عيد ميلادها، وبدل ما تبقى ذكرى حلوة، بقت أصعب ذكرى بتعدي علينا، كنت باخدها ونزور القبر المدفون فيه اللي كنت فاكر إنك هي"


كانت تنصت إلى حديثه بتركيز يعتصر روحها، ثم سألته بصوت شاحب

"ومين اللي دفنتوها وافتكرتوها أنا؟"


أجابها

"لما مشيتي، افتكرتك هاتشمي هوا وترجعي تاني، خصوصاً لما سيبتي البنت قبل ما تخرجي من البوابة"


رمقته باستفهام خافت

"وإيه اللي حصل وخلاني مشيت؟"


ظل صامتاً لحظات، كأنه يغوص في قاع الذكرى، ثم أجاب بندم ثقيل

"كنت متخانق معاكي بسبب ابن مدير الشركة اللي كنتي بتشتغلي فيها، كان عينه منك، وأنا لما عرفت حذرتك، وحلفت عليكي ما تخرجيش من الأوضة، ونفذت حلفاني لأسبوعين... لحد ما جه يوم عيد ميلاد ياسمينا، شدينا مع بعض، واتعصبت وقولتلك كلام ماينفعش يتقال، فأنتي ما استحملتيش ومشيت"


سألته في حذر ممزوج بوجع

"وإيه الكلام اللي قولته ليّا؟"


تهرب من نظراتها وتاه في ماضيه، فبدأت الذكرى تعود كأنها تُعرض أمام عينيه...... 


"سبيها يا ملك تمشي، خليها توريني هتروح فين"


أتى صوته غاضباً، فانتبه الاثنان إليه، حاولت ملك تهدئة الموقف، ولكزت ياسمين خفية دون أن يراها شقيقها، وقالت متلعثمة

"تمشي فين!، دي ياسمين كانت بتوصلني، عشان مصعب جاي دلوقتي ياخدني"


لكن ياسمين، رغم العبرات التي تخنق عينيها، رمقته بتحد وإصرار 

"لاء يا ملك، أنا ماشية، هاروح أقعد في الشقة القديمة، خلي ياسين بيه يرتاح مني"


نظر إليها بازدراء قاس، وتفوه بكلمات لو علم أنها ستظل تجرحهما إلى الأبد، لما نطق بها

"هو إنتِ ما تعرفيش؟، مش الشقة أنا بيعتها، شوفي بقى هتروحي فين؟، ولا ناوية ترجعي على بلدكم عند عمك وابنه اللي كانوا هيقتلوكي؟، فاكرة كان هيقتلوكي ليه؟!، ولولا إني جيت وجبتك وطلبت إيدك، كان زمانك يا متجوزة من البغل ابن عمك وتبقي خدامة لأمه ومراته، يا إما كان عمك تواكي بعد ما يخلص عليكي في أي صحرا"


ابتلعت إهانته والدم يغلي في عروقها، بينما ملك صاحت في وجهه غاضبة

"أي الهبل اللي بتقوله ده يا ياسين، اتفضل صالح مراتك وخدها في حضنك واطلعوا على أوضتكم"


لكنه وقف جامداً، لا يقوى على النطق، إلى أن قالت زوجته بصوت يقطر مرارة

"شكرًا يا ياسين بيه، إنك أنقذتني من القتل على إيد أهلي... وأنت كنت السبب لما اعتديت عليّا بالغصب، مش عارفة أشكرك على جميلك ده إزاي إنك سترت عليّا!"


وضع كفيه على وجهه وتمنى لو ابتلعته الأرض، فالكلمة حين تخرج لا تعود، كالرصاصة التي لا تُرد وتترك جرحاً لا يندمل.


اقتربت منه ملك تضربه في عضده وتقول بحدة

"تصدق بالله؟، مراتك خسارة فيك، أنا لو مكانها كنت سيبتك من بدري، أنت بنفسك عارف إن الموضوع ده مأثر فيها، وما صدقنا بدأت تنساه، وانت جيت دلوقتي فتحت الجرح وضغطت عليه بالقوي"....... 


عاد من ذكراه تلك إلى الحاضر، يلجأ إلى الكذب مخافة أن تنفر منه قبل أن يسترد قلبها

"مش فاكر بالظبط أنا قولت إيه، بس أنا لما بتعصب ما بشوفش قدامي وبقول كلام زي الزفت"


قالت بسخريةٍ ظاهرة

"واضح واضح"


تنحنح وتابع

"فضلت أدور عليكي وقتها ومعرفتش أوصلك، موبايلك كان مقفول، لحد ما جالي خبر الوفاة في حادثة على الطريق، لقوا جثة وشها مشوه، نفس لبسك، ولقوا شنطتك وتليفونك"


ثم أخفى حزنه بابتسامة خافتة وأردف

"إحنا لسه هانقعد مع بعض ونتكلم كتير، تعالي ناكل الأول، نلحق الأكل وهو سخن، وتاخدي علاجك وتنامي، لسه وراكي مشاوير كتير بكرة، وأظن سمعتي الظابط قال إيه، ربنا يباركله آدم أخويا كلم صاحبه العقيد مدحت وخلاه يوصي علينا بدل ما كان زمانا مرميين في الحجز تحت مع المجرمين والبلطجية"


قالت ساخرة

"روح كُل أنت، عشان حضرتك غالباً مشرف كتير في السجن"


ابتسم وسألها في قلق مبطن

"هو أنتي صدقتي إن أنا رميت رودينا من على السلم؟"


ترددت وفي داخلها صوت خافت يدافع عنه، فقالت وهي توليه ظهرها

"الله أعلم، أنا مشوفتش حاجة عشان أحكم، بس زي ما الظابط قال، الكل شافك بتضربها وتسحلها، ومهما كان السبب ملكش حق تمد إيدك على واحدة ست"


ثم التفتت نحوه، وحدقت في عينيه قائلة

"مش يمكن ده نفس اللي عملته معايا يوم ما سيبتك ومشيت؟"


غص قلبه باتهامها، فأجاب مسرعاً

"عمري ما عملتها غير مرة واحدة بس، وندمت بعدها، ووعدتك عمري ما أكررها، ده أنا بخاف عليكي من الهوا"


حدقت في وجهه دون رد، فاستغل شرودها، أمسك بيدها واقتادها نحو المنضدة قائلاً برفق فيه صرامة

"قولنا الكلام جاي كتير، ولازم تاكلي، وشك شاحب وشكلك ماكلتيش حاجة بقالك فترة"


جلست مترددة واخبرته

"أنا هاقعد على الكرسي اللي هناك"


كادت تبتعد فجذبها فجأة وجعلها تجلس على فخذيه، تجمدت في مكانها وصاحت بخفوت

"اوعي، سيبني"


"لاء مش هاسيبك، ده أنا ما صدقت لاقيتك ورجعتلي روحي"


تحاول التماسك

"اللي بتعمله ده ماينفعش، راعي أنا لسه بحاول أستوعب إني مراتك، ده غير إننا في القسم، لو حد دخل علينا يقول إيه؟، مش بعيد ناخد تهمة تانية"


ضحك قائلاً بسخرية

"تهمة تانية ليه؟!، هو إحنا قالعين؟!"


لكزته بغضب

"اتلم وبطل قلة أدب"


"توء، ما أوعدكيش، نخلص بس من الحوارات اللي إحنا فيها ونروح على شقتنا وهناك بقى...

وضعت كفها على شفتيه لتمنعه من التمادي، لكنه قبّل باطن كفها في رقة أربكتها، فارتجف جسدها. 

أغمض عينيه كمن يتذوق ذكرى قديمة بينهما ثم فتحهما وغمز بعينه.

أبعدت يدها سريعاً بخجل لكنه لم يعرها اهتماماً، بل قربها أكثر قائلاً بصوت خافت 

"مش هاتتحركي من هنا غير لما تاكلي، وأنا اللي هأكلك بنفسي كمان، وإلا...


همس بجوار أذنها بكلمات جعلت عينيها تتسعان، ووجنتيها تشتعلان، صاحت توبخه

"أنت سافل"


سألها ضاحكاً

"وإيه كمان؟"


"أنا هنادي على العساكر وأقولهم يبلغوا الظابط إنك بتتحرش بيا!"


اصابته نوبة من الضحك حتى دمعت عيناه، فصاحت فيه

"هو أنا بقولك نكتة؟!"


قال وهو يحاول كبح ضحكه

"هي فعلاً نكتة، بتخيّل لما تقولي للظابط ألحقني يا سيادة الظابط، جوزي بيتحرش بيا"


سددت له لكمة في صدره وقالت بغضب

"غلس ورخم ومعندكش دم، ولو ما بطلتش حركاتك دي المرة الجاية البوكس هيبقي في وشك"


"و ماله، ده حتي ضرب الحبيب زي أكل الزبيب"


زمتت شفتيها كطفلة غاضبة، فناولها الشطيرة قائلاً

"الساندوتش اللذيذ ده رايح على فين؟"


فتحت فمها لتوبخه، لكنه وضعها فيه ضاحكاً، فاستسلمت أخيراً وأخذت تقضم لقيماتها على استحياء.

  وكلما قالت إنها شبعت، دس في فمها قطعة لحم صغيرة أو مقبلات كاللذي يُطعم طفلته.


ثم ناولها زجاجة الماء ،فسألته بتعجب 

"أنت عرفت الأدوية بتاعتي إزاي؟"


اختفت ابتسامته، وأجاب بجمود

"عرفناها من الزفت، وأخويا بعت حد جابهالك مع الأكل"


رددت بحده

"زفت؟!"

ثم أدركت أنه يقصد رحيم، فنهضت ملوحة بإصبعها أمام وجهه بتحذير

"لو سمحت اتكلم على رحيم باحترام"


رمقها بنظرة جعلت الدم يتجمد في عروقها، وصاح بصوت ارتج له المكان

"مش أنا محذرك ما تنطقيش اسمه على لسانك تاني يا بت؟!"


ارتجفت وقالت بصوت مرتجف

"أنا مش قصدي حاجة، أنا بس بنبهك... عيب تتكلم على حد في غيابه"


"أنا أتكلم وأشتم عليه وعلى أهله براحتي، وإياكي أسمع اسمه تاني على لسانك، ده آخر تحذير ليكي"


لم تجرؤ على الرد، شعرت بالعجز وهي في غرفة مغلقة لا مهرب منها، أشار إليها بيده آمراً إياها

"تعالي هنا"


ترددت، فصاح مهدداً

"أجي أجيبك؟"


فأسرعت نحوه، وقفت أمامه كطفلة تنتظر العقاب، أمسك بيدها وأمرها بحزم 

"اقعدي وخدي الدوا ونامي"


جلست في نهاية الأريكة، تناولت الأقراص مع الماء، ثم شهقت وهي تراه يخلع قميصه.

"أنت بتعمل إيه؟"


"هنام، مش بعرف أنام غير كده"


ثم أطفأ الأنوار وأبقى على ضوء خافت يعلو المكتب، وعاد نحوها قائلاً

"يلا نامي"


"أنا هنام مكاني"


نظر إليها نظرة طويلة، فجلس جوارها، وأسند رأسه على فخذيها، مدد جسده على الأريكة.


شعرت بالتوتر فقالت بتردد

"لو سمحت، ممكن تشيل راسك من على رجلي؟"


أمسك بيدها ودسها في خصلات شعره 

"اعمليلي مساچ في راسي عشان أعرف أنام، بدل ما أسيبك تنامي وهافضل أنا صاحي، وهاستغل نومك أحسن استغلال"


اتسعت عيناها من وقاحته، وبدأت تدلك فروة رأسه على مضض.

ابتسم دون أن تراه، فقال لها

"أنتي بتحسسي على كلب؟! دلكي بضمير، وإلا أنتي حرة"


زفرت بضيق، فأمرها بتهديد

"وما تنفخيش بدل ما أنفخك"


ضحك في صمت على ردود أفعالها الطفولية التي تعيد إليه الحياة، لحظات و أغمض عينيه أخيراً، يعد أن غلبه النعاس، بينما هي ظلت أصابعها تعبث بخصلاته حتى استسلمت هي الأخرى للنوم. 


                     ❈-❈-❈


جلست شاهيناز أمام باب العناية المركّزة، تتلو آيات الذكر الحكيم بصوت متقطع تختلط أنفاسه بالرجاء، ودموعها تهطل كالغيث. 

عيناها معلقتين بتلك البوابة الزجاجية التي تفصلها عن نصفها الآخر الراقد في صراع بين الحياة والموت، تترجى الله أن يرزقه العافية وأن يُعيده إليها كما كان. 


لكن المشهد انقلب فجأة، حين لمحت الطبيب يهرع ومعه مساعدتاه من الممرضات، يندفعون إلى داخل الغرفة بخطوات مسرعة، يسبقهم القلق ويتبعهم الصمت.

نهضت شاهيناز مرتجفة، تبعتهم بخطوات متعثرة، وحين دخلت رأت الطبيب يمسك بجهاز إنعاش القلب، يضعه على صدر زوجها، وصوت الصفير المزعج يملأ الأرجاء كإعلان بائس لنهاية محتومة.

كانت تحدق في المشهد بعينين زائغتين لا تصدق ما تراه، إلى أن رأت الطبيب يترك الجهاز بأسى، ووجهه يكتسي بلون الحزن، قائلاً بصوت خافت يخنقه العجز

"دوني الوقت والتاريخ"


سحبت الممرضة الأجهزة، وغطت وجه المريض بالدثار الأبيض. 

اقترب الطبيب منها مواسياً

"البقاء لله يا مدام شاهيناز"


                           ❈-❈-❈


و لدي ابنتها، قد استيقظت مبكراً، تقف خلف الزجاج بوجه شاحب، تحدق في الخارج بصمت أثقل من الكلام. 


طرق أحدهم الباب، ففتحت الممرضة وقالت بصوت هادئ

"مدام رودينا، حضرة الظابط عايز يدخل لحضرتك عشان ياخد أقوالك، حالتك تسمح بالتحقيق؟"


أجابت الأخرى بوجه خالي من الحياة، بصوت أجوف لا يحمل سوى الإرهاق

"خليه يتفضل"


دخل الضابط و يتبعه مساعده الذي أمسك بدفتره وأعد قلمه، جلس الجميع ثم بدأ الضابط حديثه بلطف 

"ألف سلامة على حضرتك، إحنا مش هانطول عليكي نظراً لظروفك الصحية، بس امبارح وردنا بلاغ باللي حصل معاكي، واللي عمل المحضر الدكتور رحيم ابن خالتك، قدمهولنا ضد جوزك ياسين البحيري، وبيتهمه إنه رماكي من فوق السلم، والنتيجة إنك اتعرضتي لرضوض وكدمات... وفقدتي الجنين"


رفعت عينيها إليه، وقالت بنبرة متهدجة امتزج فيها الألم بالانكسار

"أنا فقدت كل حاجة"


تبادل الضابط ومساعده النظرات، فسألها مجدداً

"يعني حضرتك بتتهمي زوجك المدعو ياسين البحيري إنه تعمد يوقعك للتخلص منك؟"


في تلك اللحظة، فُتح الباب ودخلت شاهيناز بوجه باهت أنهكته الصدمات، فأسرعت لتجيب قبل أن تتكلم ابنتها

"جوزها مجاش جنبها، هي اللي وقعت من على السلم، أنا كنت شايفة اللي حصل"


حدقت فيها رودينا بصدمة كأنها تسمع صوتاً لا تعرفه.

تابعت الأم بثبات مصطنع

"أنا مامتها، وابن أختي ماشافش حاجة، هو بس افتكر اللي حصل جوزها السبب فيه و جه بلغكم، عشان كان في بينهم مشكلة بسيطة زي أي اتنين متجوزين... واتصالحوا بعدها"


جف حلق رودينا، ولم تستطع أن تنطق، كأن كلمات والدتها كانت سكين تخترقها بلا رحمة.


سألها الضابط بصوت حازم

"كلام والدتك صح؟"


حدقت والدتها بها بنظرة حادة فهمت منها الرسالة، فابتلعت غصتها، ثم همست بصوت بالكاد يُسمع

"أيوه"


لم يبد على الضابط الرضا، فقال متابعاً

"طيب، واعتداء جوزك عليكي بالضرب اللي تم تصويره وانتشر على السوشيال ميديا؟"


تدخلت شاهيناز سريعاً، محاولة إنهاء الأمر

"قولت لحضرتك، دي كانت مشاكل عائلية وخلصت، واتصالحوا، والصحفيين دول محدش أدالهم الإذن لا بالتصوير ولا بالنشر، وإحنا هنرفع عليهم قضية قريب"


نهض الضابط وهو يغلق دفتره وقال باقتضاب

"تمام، عن إذنكم"


غادر هو ومساعده الغرفة، ولحقت بهما شاهيناز لتغلق الباب من الداخل، ثم التفتت إلى ابنتها التي كانت تنظر إليها بعينين متقدتين من الغضب، وصاحت بصوت مرتعش

"ليه مش عايزاني أخد حقي وحق ابني اللي راح مني؟!"


اقتربت الأم منها، ووقفت بثبات بارد، وقالت بجمود

"مفيش حد مذنب في اللي حصلك غيرك، وبعدين خلاص ما بقاش ينفع نقف قدام عيلة جوزك، لا أنا ولا إنتِ نقدر نقف قصادهم لو ابنهم اتسجن"


صرخت رودينا بعنف وكراهية

"مش عايزة وقفتك جمبي ولا عايزة منك حاجة، أنا ماليش غير بابا، هو اللي هايجيبلي حقي وحق ابني"


وهنا لم تحتمل شاهيناز عنادها وحماقتها، فصرخت بها وهي تلقي بالقنبلة التي مزقت سكون الغرفة

"خلاص، اللي كنتِ معتمدة عليه وواقف في ضهرك، راح... راح خلاص"


تجمدت ملامح ابنتها وسكن كل شيء فيها، حتى أنفاسها. 

تمتمت بصوت مرتجف، تسألها

"راح؟! تقصدي إيه؟"


أجابت الأخرى بوجه تكسوه الدموع

"أبوكي... تعيشي إنتي"


بدت الكلمات كالسكاكين، اخترقت روحها قبل أن تصل إلى سمعها، تراجعت خطوتين إلى الخلف، تترنح كأن الأرض تميد بها، ثم تمتمت بتلعثم

"بابا... بابا مـ... بابا مات؟! بابا مات؟!"


نظرت إلى والدتها بعينين دامعتين، كأنها تتوسل تكذيب الخبر

"انتي بتكدبي عليا، صح؟!"


لكن والدتها هزت رأسها بيأس ، تخبرها بالدموع ما عجز اللسان عن وصفه

"أبوكي مات وإنتي السبب، عمري ما هسامحك أبداً، وياريت لما تخرجي من هنا، ما أشوفش وشك تاني"


ألقت كلماتها كاللعنات، ثم غادرت الغرفة تاركة ابنتها تصرخ في ظلمات الألم، تنادي والدها كمن ينادي الحياة نفسها. 

هرعت الممرضات إليها، حقنتها احداهن بمهدئ حتى هدأت أنفاسها، واستسلمت لسبات عميق غارقة في الحزن.


يتبع..

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع