رواية غرام الذئاب الفصل الرابع وعشرون 24بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
رواية غرام الذئاب الفصل الرابع وعشرون 24بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )
#الفصل_الرابع_والعشرون
#غرام_الذئاب
#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب
#ولاء_رفعت_علي
ركضت أميرة نحو رحيم عندما تشابك ياسين معه، يقبض علي تلابيبه و إذا به يطرح رحيم علي الأرض، ليكيل له اللكمات، فصاحت بخوف على زوجها
"ابعد عنه حرام عليك"
لم يكن يسمعها و مستمر في ضرب رحيم، تدخل مصعب و لم ينجح في ابعاد ياسين، تجرأت أميرة واقتربت من هذا المعتدي علي زوجها وتحاول دفعه عنه وتصرخ
"وحضرتك فاكر نفسك كده راجل لما تتهجم على بيوت الناس وتمد إيدك عليهم؟!، ابعد عنه"
ختمت حديثها بدفعة من يديها، جعلته توقف فجأة و يلهث، رفع رأسه فانقشعت غيمة الغضب من علي عينيه وحينما تحقق من رؤيتها، حدق فيها بعينين جاحظتين، وكأن الزمن تجمد من حوله حين رآها ، ترتفع دقات قلبه فجأة، وكأنها تعيد له الحياة، تردد شفتاه اسمها بتعجب ودهشة، كأنه لا يصدق ما يراه
"ياسمين!"
لحظة لم يتخيلها يومًا، وقف مشدوهًا، يختنق صوته داخل صدره وهو يراها عروسً لغيره.
الزوج ليس هو، قلبه يصرخ باسمها لكنها لا تسمع، لا تعرف، لا تذكر!
ذاكرة غائبة سلبتها ماضيها وسرقتها منه.
والأشد قسوة أن العريس البريء لا يعلم أن عروسه تحمل في قلبها اسم رجل آخر، رجل هو زوجها الحقيقي.
لحظة ارتجف فيها كل من حضر، لحظة صدمة لم يتوقعها أحد، لم يكن أشد كوابيسه قسوة ليتخيل تلك اللحظة… يقف بين الناس، وعيناه لا تصدقان ما تراه.
حبيبته، زوجته، تُزف لآخر وكأنها لم تعرفه يوم.
نهض مترنحاً، كأن أنين قلبه يُثقل خطاه، ويرتفع صوته المرتجف وهو يردد اسمها مرة أخرى بحروف متكسرة
"ياسمين!"
اقترب منها بخطوات مثقلة بالحنين والخذلان، فتراجعت مذعورة، تلوذ بخوفها، لا تعي ما يقول، بل خُيِّل إليها أنه سيُمعن في إيذائها عقاباً على ما تفوهت به.
انتفض رحيم سريعاً كالصاعقة، هرولت هي واحتمت وراءه كطفلة مفزوعة، فدفعه رحيم إلى الأمام ويهدده بصوت جهوري
"لو قربتلها أو جيت جنبها… هادفنك مكانك"
لكن التهديد لم يُفلح في زعزعته؛ إذ كان قلبه يختنق من مرأى محبوبته مرتعدة منه، وهي التي لأجلها ذرف الليالي دموعاً مُرة.
ها هي الآن أمامه، تختبئ وراء رجل آخر، تحدق إليه من خلف كتفه، بينما زمجر رحيم بغضب
"إنت واقف متنح ليه؟!، قولنالك امشي من هنا"
مازال يقف و لم يحد ببصره عن عينيها، يكرر اسمها بشغف مجنون
"ياسمين"
تبادلت الأعين نظرات الحيرة، فانبرى رحيم يسأله بدهشة لم تخلُ من السخرية
"ياسمين مين؟!"
بينما هي تتشبث بظهر رحيم وتشعر بشئ غريب، ارتجف صوتها بهمس بالقرب من أذن رحيم تسأله
"هو ماله بيبصلي كده ليه؟، أنا خايفة أوي"
التفت إليها رحيم مُشيراً بعينيه وبنبرة حاسمة
"ادخلي جوه… لحد ما أشوف صرفة مع المجنون ده"
لكن الآخر أخرج هاتفه بعجلة، كمن يُمسك دليل دامغ، ولوح بالشاشة أمامهما، فانكشفت صورة واضحة لا لبس فيها؛ صورة تجمعه بياسمين بلا نقاب.
وصوته يصدع باليقين
"ياسمين… مراتي"
ارتعشت الأرض تحت قدميها، واهتزّ قلبها كعصفور اصطدم برياح عاتية.
تقدمت بخطوات وئيدة غير مصدقة، اقتربت تحدق بالصورة، فإذا بها هي وهو يحتضنها في تلك اللقطة الآسرة.
تجمدت الدماء في عروقها، وانفجرت الصدمة ككارثة حلت على رؤوس الجميع.
صاح رحيم بصدمة كأن الصاعقة هوت فوق رأسه
"إنت بتخرف بتقول إيه؟!"
فجاء صوت والدته نافذاً كالسهم، مفعم بالحدس القديم الذي طالما تجاهله ابنها
"كان قلبي حاسس… وقولتلك يا رحيم، البت دي وراها حوار كبير"
بينما لا تزال ياسمين جامدة في مكانها، عيناها تتأرجحان بين شاشة الهاتف التي تُظهر صورتها وبين ملامح ياسين الملتهبة بالصدق.
نظرتها مترددة، كأنها تسير على حافة هاوية، فتهز رأسها رافضة الانصياع لما تراه وتسمعه، ثم تنطق بصوت متحشرج بالكاد يخرج من بين شفتيها المرتعشتين
"إنت مين؟"
أعاد ياسين هاتفه إلى جيبه بحركة بطيئة، ثم خطا نحوها خطوة واحدة، لكنها ارتدت بخوف كمن لامسته النار، فتوقف مكانه كي لا يزيد رعبها.
انفجر صوته المتوسل، يحمل في طياته نزيف الحنين وألم الفقد وصرخة قلب ممزق منذ شهور طالت حتى غدت دهراً
"معقول! … ماتعرفنيش إزاي؟!"
وهنا استيقظ في داخله إدراكٌ صاعق، كبركان يتأهب للانفجار، فالتفت بعنف إلى رودينا، التقت عيناه بعينيها، فارتعدت وسرت في جسدها قشعريرة، كأنها انكشفت أمام الحقيقة العارية.
سألها بصوت خافت خطير بهدوء الذي يسبق العاصفة
"إنتي كنتي عارفة؟"
ابتلعت ريقها، وبدت كمن يختنق بكلمة لا مفر من قولها.
ارتفع صوته صارخاً كالسوط ينزل على جسد مذنب
"ردي عليا؟"
أومأت برأسها في ارتباك خانع، كأنها تعترف بجريمة كبرى
"أيوه"
تسمرت الأنظار جميعها عليها، وكل العيون اتقدت غضب وحيرة، حتى اخترق صوت خالتها المكان صارخاً بمرارة وحسرة
"يا مصيبتي!، كنتي عارفة إنها ضُرتك ومخبية علينا كلنا؟!"
وفجأة ومضات كاميرات الصحفيين شقت العتمة كوميض البرق، انعكست على وجه رودينا المتوتر، فاستفاقت رجاء على وقع الفضيحة المدوية، وصاحت غاضبة بهم
"إنتم بتصوروا إيه؟!، اطلعوا بره، مفيش فرح خلاص، اطلعوا كلكم بره"
هرع المدعوون يخرجون في همسات وسخط، وضجيج متلاحق، بينما هي تقف في مركز الدوامة، تحاول أن تلم شتات الموقف، وتلتفت إلى الآخرين بحزم متحجر النبرة
"تعالوا ندخل جوه… نشوف المصيبة اللي حلت علينا"
❈-❈-❈
في الداخل، تلوح الوجوه كأعلام مقلوبة؛ ثمة شدّ وجذب، وحبال تشد من كل اتجاه.
صاح أحدهم في رودينا
"ما تنطقي يا رودينا ساكتة ليه؟"
تمنى رحيم في صدره لو أن ما يجري سوء تفاهم سيزول، أو أن ما يدعيه غريمهُ ليس إلا تشابهًا بين أميرة وبين زوجتهِ ياسمين.
لكن الواقع صار أمامهم كلوحة لا تُمحى،
وفجأة ارتفعت نبرة شاهيناز بصوت حاد
"ما تردي علينا، كلام جوزك صح؟"
انقضت جملة الاعتراضِ على صدر رودينا، فعلا صوتُها مخرجا تأكيدًا كما لو أنه سكين غائر في قلب ابن خالتها
"ايوه، اميرة تبقي ياسمين مراته"
التفتت صوب زوجها كمن يلقي عبئً ثقيلاً على مفاصل الليل، وقالت بما يشبه التبرير الموجع
"و بالمناسبة مراتك فاقدة ذاكرتها نتيجة حادثة، فما تستغربش من رد فعلها"
انبلجت على وجه ياسين ملامح ازدراء مبطن، رمق رودينا بأبشع النظرات
"هي وصلت بيكي الوساخة للدرجدي؟!"
وقف رحيم، وقلبه يخفق بشدة غير مصدق ما سمع، صوته انبعث مملوءًا بالألم واللوم
"يعني أنتي عارفة من وقت ما اتقابلنا هي مين، و ساكته؟!، اتاريكي أول ما عرفتك عليها مكنتيش علي بعضك و أنا فهمت رد فعلك علي محمل تاني خالص"
لم تتأخر رجاء في الاقتحام؛ نطقت بنبرة مُتحيزة، ونظرة ازدراء لم تخفِ مرها
"و من جبروتها حضرت الخطوبة، و لا تنطق بكلمة، طول عمري بقول عليكي اخبث خلق الله"
اقترب ياسين بخطوات تهديدية، وكأن الأجواء كلها قد تحولت إلى منصة محاكمة
"ده طلع الحوار بقاله فترة، و طلعتي عارفة إنها عايشة و مش بعيد أنتي السبب في إنك تقربيها من ابن خالتك عشان تخلصي منها"
صارت الأنظار كلها على رودينا؛ خلعت قناع البراءة الزائف، واظهرت وجهها الحقيقي دون رادع
"خلاص؟!، كلكم ملايكة وطلعت انا الشيطانة في الأخر؟!"
التفتت إلى رحيم، ونطقت بصوت مرتطم بكل ما في صدرها من مرارة واحتقان
"ايوه، كنت عارفة و متأكدة انها ياسمين، و قبل ما تجيبوا اللوم عليا، لوم نفسك يا دكتور، ياللي المفروض كنت اقل حاجة عملتها لما قابلتها و عرفت إنها فاقدة الذاكرة، كنت روحت بلغت البوليس وهم كانوا هايعرفوا يوصلوا لأهلها، لكن أنت ما صدقت لاقيت البديل اللي يعوضك عني بعد مارفضتك وروحت إتجوزت غيرك"
ما أن نطقت حتى علت في الجو كلمة واحدة خاطفة
"اخرسي"
لحظة وثقت بصفعة قوية هبطت على وجه رودينا كصدمة صارخة.
قبضت شاهيناز على يدها، وأردفت بأمر قاطع
"امشي قدامي"
وقف ياسين أمامهن كقاضي متهدج
"تمشي تروح فين، بنتك مش هاتتحرك في حتة، بنتك لازم تتحاسب عن كل حاجة عملتها، وحسابها علي ضربها لبنتي ده كوم"
اتسعت عينا شاهيناز وشقيقتها من وقع الكلام؛ أما ياسمين فكانت تقف كمن سحقت تحت ضربة توالت عليها، تستمع إلى ما يدار حولها، تشعر أنها داخل حلم ثقيل لا يستجيب له عقلها، وأن الحقيقة المريرة لا تخرج من أفواهِ الآخرين إلا لتنهش قلبها.
أضاف ياسين بصوت يعج مزيد من التُهم
"و حوار إنها عارفة مراتي عايشة و مخبية عليا لحد ما تجوزها لابن خالتها ده كوم تاني خالص"
ردت رودينا بجرأة سافرة
"مخبية عشان أنت أول ما هاتعرف إنها مماتتش ولسه عايشة، هاتيجي تطلقني و ترميني و لا كأن كان ليا لازمة في حياتك"
هنا بعدما تلاه المشهد كله وتبدت الحقائق، تفوهت ياسمين أخيرًا وقالت بصوت متصدع، بعينين تلمعان كأنهما على وشك الانهيار
"ليه؟، ليه عملتي فيا كده؟"
نظرت إلى رحيم ثم إلى رودينا مرة أخرى، والسؤال يترنح من بين شفتيها
"ليه بتعملوا معايا كده، أنا أذتكم في إيه؟"
أجابتها رودينا بلا مراعاة للعواقب؛ كانت الكلمات كالرصاص القاتل
"انا لو خبيت عليكي حقيقتك، هيبقي أرحم من اللي ياسين عملوا فيكي و بسببه حياتكم كانت كلها خناقات وأخر ما زهقتي طفشتي منه"
انقض ياسين بقسوة، دمائه تغلي كالمرجل في عروقه
"اخرسي، وربنا لأقتلك"
وامتلكته الرغبة في الاندفاع نحوها، كمن يطلب اجتثاث جذور فاسدة، فامسك به مصعب في اللحظة المناسبة، وأوقفه قبل أن يرتكب جريمة.
فصرخ ياسين وهو يشتعل غضباً
"سيبني يا مصعب، أخلص عليها بنت الكلب"
وقفت رودينا في منتصف الغرفة، عينيها تحاولان إخفاء ارتجاف لم يستطع الحقد أن يخففه عنه.
كلامها انبثق حادً، متقدً مثل رصاصة تقطع صدر السكون
"إيه الحقيقة وجعتك؟!، و لا خايف إنها تندم لما تعرف حقيقة جوزها؟!"
كانت تحنو نظراتها على ياسمين حين التفتت إليها؛ ياسمين تمسك برأسها كما لو أن العالم ينهار عليه، وقد خنقتها الدهشة والعار.
نهضت رودينا كمن يهمس بالحكم، فأكدت بما فيه من قسوة مصوغة بكلمات لا ترحم
"انتي كنتي حتة خدامة في قصر عيلة البحيري، و ما صدقتي ياسين بيه يبصلك وفضلتي تقربي منه لحد ما اغوتيه و اعتدي عليكي، و البيه قلبه حنين مهنتيش عليه، فاتجوزك شفقة و يصلح غلطته قبل ما اهلك كان يخلصوا منك و من عارك"
ما أن تردت تلك الجملة حتى انفلت ياسين من قبضة مصعب، وكأن في صدره نارً لا تُطفأ؛ فصدر صفعة لم تتوانَ عن إصابة رودينا علي خدها.
"اه يا بنت الكلب"
ارتعدت الجموع، وتدخلت والدتها كطير يحوم لحماية صغيره، وصرخت بلهجة مشحونة بالألم والدفاع
"ايدك يا حيوان، ما تمدش ايدك عليها لاقطعهالك"
بينما كان الكلام يتقاذف كسهام، لم يلحظ السيد مهاب الجالس على الكرسي منذ البداية، قلبه يختنق ويضع يده عليه، عاجزًا عن النطق.
بينما ياسين فكان مكبوتً بغضب متفجر، ففرغ شحنتهُ دفع واعتداء؛ دفع شاهيناز علي الأرض
"اوعي من وشي يا وليه"
ثم أمسك رودينا من خصلات شعرها وهبط علي خديها بصفعة تلو الأخرى،
تدخل رحيم الذي لوحِظ أنه ينهشه الامتعاض من أفعال ابنة خالته، خاول دفع ياسين إلي الخارج
"اطلع بره"
قوة الموقف لم تردع ياسين، فزيح قبضتي رحيم عنه، وقال بلهجة مقطوعة من الحسم
"مش خارج من هنا غير و في ايدي ياسمين، مراتي"
وانحنى صوب ياسمين التي تشتتت رؤيتها، فجذبها كأنها دمية في يده
"يلا قدامي يا هانم"
تدخل رحيم ثانية ليقف في وجهه، فتصاعد التوتر، وقبل أن تنطق تلم المسكينة، لم يجد مصعب مفر سوى التفاهم بالعقل، فوقف بينهما يختار لغة الحوار لا الاشتباك، محاولًا أن يهبط عن شفا الإنفجار
"العنف مش هيحل المواضيع، تعالو نتفاهم و اظن الأمور بقت واضحة يا دكتور رحيم و سمعت بودانك كلام بنت خالتك و كلام ياسين عن مدام ياسمين مراته"
رد رحيم بصراخ من داخل صدع الصدمة، رافضًا أن تقتلع الحقيقة مكانها في الذاكرة؛ صرخ متشبثً بما بقي لديه من يقين
"أميرة مش هاتخرج من هنا، و ما اسمهاش ياسمين، اسمها أميرة، مراتي اللي لسه كاتب كتابي عليها، مليش دعوة بكل اللي اتقال"
أمسك يد ياسمين بقوة، وخبأها خلف ظهره، ونظراته تحولت إلى تحد قد يحرق القلوب؛ قال لخصمه بلهجة تخالطها مرارة الجرح
"و أنت بقي روح اثبت إنها مراتك يا ياسين يا بحيري"
لم يتحمل ياسين ذلك الاستفزاز؛ ارتفعت نبرته حتى هزت جدران البيت
"بتقول إيه يا دكتور البهايم، ده أنا أخلص عليك و علي اللي يتشددلك، وهاخدها غصب عنك و عن أي حد"
في تلك اللحظة، لمح سلاح مصعب المكدود على خصره، فانتهز الفرصة، هب إليه وشدهُ باندفاع، ثم دوى صوت طلقة في الهواء .
لم يكتف بذلك؛ بل أسقط فوهة السلاح على رأس رحيم قائلاً بتهديد يتخطى الحدود
"حافظ الشهادة و لا اسمعهالك"
صاحت رجاء بصوت ممزوج بالدموع والذهول
"ابناااي!"
تفاقمت الصدمة، وصرخ مصعب وهو يحاول نزعه السلاح من يد ياسين
"نزل السلاح يا ياسين"
لكن الأخر وقد رُسخت في قلبه فكرة واحدة لا غير، و عقد النية بعزم
"قسماً بالله مش هامشي من هنا، و هاخد مراتي يعني هاخدها"
المنزل يضج بأنفاس متقطعة كأن الجدران تختنق من فرط التوتر، والهواء يئن بما يحمل من رائحة البارود وخوف مسموم.
وقف رحيم في مواجهة ياسين، يده تمسك معصمه بقبضة فولاذية، ونبرته تتفجر بعناد كالليث الجامح، متحدياً بلا وجل
"و حلفان علي حلفانك اللي بتقوله مش هايحصل، و أعلي ما في خيلك اركبه"
ثم غمز بعينه غمزة ساخرة، فاشتعل وجه ياسين غيظاً، واشتعلت عيناه كجمر يُذرى عليه وقود.
صاح بصرخة تهتز لها الأبدان، وإصبعه يقترب من الزناد اقتراب الهاوية
"يبقي قول علي نفسك يا رحمن يا رحيم!"
ارتجت القلوب مع هدير صوته، وانفجرت صيحات الجميع، تندفع بين الخوف والرجاء.
وفجأة اندفعت ياسمين، بما تبقى لها من قوة مهترئة، كغريق يشق طريقه بين الموج، قبضت على يد ياسين التي تشد السلاح، ووجهته نحو جبهتها بجرأة يائسة، تقول بثبات هش وصوت تتكسر فيه النبرة
"يبقي خلص عليا الأول"
صرخ رحيم كالمطعون في قلبه، عاصفً بصوت مشوب بالذهول
"أميرة ابعدي"
لكن الذي وقف أمامها لم يُصدق عينيه؛ اتسعت حدقتاه بصدمة أخرى لا تقل عن نار الموقف، هل حقاً أحبت غريمه؟! أهو حب خفي أم تضحية تجرح كبرياءه؟!
ثم باغته صوتها المنخفض، يقطر كالسكين في قلبه، كأنه نذير لا يُرد
"اضرب… ما تضرب"
تراجع الزمن لحظة، قبل أن ينقض عليه بالكارثة؛ شعرت ياسمين بسائل دافئ ينحدر من أنفها، لم يلحظه غير ياسين.
عيناه حدقتا أنفها بخوف مفاجئ وقلق غامض، يداها المرتجفتان التقطتا الدليل، فإذا بأناملها تضعها وتلمس السائل فوجدتها ملوثة بالدماء.
نظرت إليه للحظة خاطفة، ثم داهمها غشاوة كثيفة، وباغتتها العتمة، فسقطت أرضاً فاقدة وعيها، كزهرة اقتلعت من جذورها.
وفي اللحظة ذاتها، دوى صراخ ياسين وهو يناديها باسم اختلط بالذعر
"ياااسمين"
وتلاحقت الصرخات، فإذا بشاهيناز تشق الصمت المذعور وهي تصرخ اسمًا آخر، كأنه سهم في صدرها
"مهااااب!"
وتزامنت معها صرخة ابنتها المرتعشة، وقد انكسرت روحها في نداء مفجوع
"بابااا!"
❈-❈-❈
في قصر البحيري، جلست العائلة متحلقة في مجلس متخم بالترقب؛ كان الصمت أثقل من الرصاص، يتخلله خفقانُ القلوب القلقة.
جلست جيهان على مقعدها، يكسو وجهها شحوب متعب، كأن الروح تغادر مرافئها ببطء، وفجأة انتفضت من مكانها، لا يقيدها إلا الذعر
"أنا لازم أروح لابني، أنا عارفاه متهور و مجنون، و ممكن يعمل في مراته حاجة يودي نفسهم في داهية"
تقدمت ملك بخطوات حثيثة، وقفت أمام والدتها محاولة تهدئتها، عينيها تعكسان رجاء واهن
"اهدي يا ماما، مصعب زمانه معاه و مش هايسيبه، و إن شاء الله خير"
وقف عابد بجوار جيهان، كجبل يحاول أن يصد زوابع الفزع، وربت على كتفها بلمسة تحمل طمأنينة
"ملك معاها حق، و كلها مسألة وقت و هانعرف كل حاجة… أو نتصل على مصعب و نعرف عملوا إيه"
كان قصي يجلس متوجساً، قبضته مشدودة حول هاتفه، رفع عينيه إلى البقية، وصوته يغلفه الإصرار
"أنا هاتصل عليه"
ضغط الأزرار، وجاء الصمت ينهش الدقائق، لم يُجب مصعب.
همّ أن يعاود الاتصال، فإذا بالهاتف يهتز بين يديه، تنهمر فيه رسائل عديدة من حسابات متفرقة، كلها تسأله في لهجة مريبة، مشفوعة بروابط لمقاطع و فيديوهات
«مش دول ياسين أخوك و مصعب جوز أختك؟»
ارتجف قلبه كطبلة حرب، لمست أصابعه الرابط وقد توزعت أنفاسه بين الخوف والفضول؛ هيهات… وانفتح المقطع أمامه.
خفض الصوت سريعاً خشية أن تنفجر الكارثة في مسامع الجميع.
تسارعت عيناه تتفحصان المشهد، كان الحفل ماثلاً ببهائه البائس، ووسط الأضواء المتكسرة تشابك ياسين ورحيم بالأيدي، ضربات تتطاير كأنها سهام ثأرية، وحولهما وقفت رودينا وعائلتها في فوضى عارمة.
والعنوان المثبت أعلى المقطع يخفق له الفؤاد من الصدمة
«شاهد قبل الحذف… ابن عائلة البحيري يحضر حفل زفاف ويشهد على عقد القران ليكتشف أن العروس زوجته!»
ارتعشت يداه، أغلق المقطع بسرعة كمن يغلق باب الجحيم قبل أن تنفلت منه ألسنة النار.
كتم السر المعلن في صدره، وابتلع غصة جارحة، ولم ينبس بحرف واحد. و
قرر أن ينتظر ليفهم الحقيقة من مصعب قبل أن تنكشف الفضيحة ويهوي سقف القصر على رؤوسهم جميعاً.
❈-❈-❈
يقف مصعب إلى جوار ياسين في الرواق العلوي من منزل عائلة رحيم، متوترين كأنما يتأهبان لزلزال لم يقع بعد.
السكون مشوب بأنفاس متقطعة، والباب المغلق أمامهما تحرسه سواعد رجال شداد، لا تسمح نظراتهم بأي مرور.
في الداخل، كان المشهد يشي بجلال غريب يجمع بين المأساة والرهافة؛ أرض الغرفة مغطاة ببتلات ورد بيضاء وحمراء متناثرة كأشلاء قصيدة لم تكتمل، وعلى الطاولات شموع صغيرة تتقد في ترتيب محسوب كأنها نقاط نور في عتمة اليأس.
وعلى الفراش الوثير، تمددت ياسمين شبه غائبة عن الوعي، محياها يطفو بين الحياة والعدم.
جلس رحيم عند رأسها، يعلق لها محلول مغذي، يقيس نبض معصمها بأصابعه الدقيقة، ويقارب بين نظراته ووجه ساعته في ترقب طبيب وحبيب.
بينما والدته، فقد اتخذت الجانب الآخر مقعداً لها، تردد بمرارة دعاء أشبه بالعتاب
"كان مستخبيلنا فين كل ده يا ربي؟، ابني اتجوز واحدة على ذمة راجل تاني، ولا جوز أختي اللي ما استحملش عمايل بنته وجاتله أزمة قلبية والإسعاف جت خدته... ناقص مصيبة إيه تاني تحصل؟!"
ارتجفت نبرتها، فانتبه ابنها الجالس جوار ياسمين، يزيح برفق خصلاتها المبعثرة عن وجهها الشاحب، ويمسك يدها كأنما يتمسك بالحياة ذاتها.
عيناه تحبس دموعاً عصية، صوته يخرج خافت مرتجف
"متخافيش أنا جمبك، أنا مش هاسيبك للمجنون ده أبداً، يلا فوقي واصحي شوفي احنا في أوضتنا اللي كنت محضرهالك وعملهالك مفاجأة"
شهقت والدته فجأة، ولطمت صدرها بقوة يائسة
"إنت اتجننت؟!، مش هاتسيب مين؟، دي متجوزة! فاهم يعني إيه على ذمة راجل؟! وكمان عندهم بنت صغيرة"
زمجر رحيم من بين أسنانه، صوته حاد كالنصل
«كفاية بقى... مش عايز أسمع حاجة تاني، قولتلك مش هاسيبها... وهاخدها ونسافر أنا وهي»
ارتفع صوت الأم بنحيب أشبه باستغاثة
«ألحقوني يا ناس!، ابني اتجنن وفيوزات مخه ضربت خلاص، منك لله يا رودينا الكلب... اللهي ياخدك لهو خفي زي ما ضيعتيلي ابني»
❈-❈-❈
بينما في الخارج... فقد هاج ياسين على الحراس بعنف، عروقه نافرة وصوته كالرعد
«اوعوا من وشي يا حيوان أنت وهو»
لكن أحد الحراس أجابه بلطف مصطنع
«ممنوع يا باشا... دي أوامر دكتور رحيم»
فصرخ ياسين مزمجراً
«افتح الباب يا رحيم، بدل ما أكسره فوق دماغك ودماغ الخرفان اللي موقفهملي على الباب»
لم يُعره رحيم أي اهتمام، بل ظل ساكناً في الداخل كمن أغلق قلبه مع الباب.
ولدي مصعب، كان الهاتف يرن للمرة الرابعة وربما أكثر، لكنه خشي أن ينشغل فيغفل عن ياسين الذي يكاد يرتكب جريمة بحق أحد الحراس.
ومع تكرار الرنين، اضطر أخيراً أن يجيب.
«ألو... يا قصي»
جاءه صوت قصي متوتراً
«إنتوا فين؟»
«إحنا في بيت خالة رودينا... والحوار كبير، وأخوك مش راضي يمشي»
قال قصي في حيرة
«أنا جايلي كمية رسايل وفيديوهات على الفيس باللي حصل معاكم هناك، أنا مفهمتش حاجة... إيه اللي حصل؟!»
رد مصعب باقتضاب كأنما يقتطع الجواب من قلب النار
«الحكاية طويلة... بس ملخصها إن ياسمين طلعت عايشة... وفاقدة الذاكرة»
ساد الصمت لوهلة، قصي يحاول أن يستوعب الصاعقة ويربط ما يسمعه بما يقرأه في عناوين الفيديوهات المتداولة.
عقد حاجبيه، قبل أن يقطعه صوت مصعب مسرعاً
«معلش مضطر أقفل... أخوك مش هيجيبها لبر... لما نرجع نبقى نحكيلكم كل حاجة سلام»
أنهى المكالمة، وبقي قصي محاط بأعين ترقبه، تنتظر منه الخبر.
سألته صبا بلهفة
«قالك إيه يا قصي؟»
لم يسعفه الوقت للإجابة، فإذا بهواتفهم جميعاً تصدح بتنبيهات متلاحقة، رسائل واردة على تطبيقات الدردشة.
فتحوا الروابط في عجلة، وبمجرد أن انكشفت أمامهم الصور والفيديوهات، اعتلت الدهشة وجوههم كمن صُفع بيد الحقيقة.
قالت جيهان بنفاد صبر
«في إيه؟!، ما تفهموني إيه اللي بيحصل»
نظرت ملك لوالدتها بذهول، وصوتها يرتجف
«ياسمين... طلعت عايشة وفرحها كان النهاردة»
❈-❈-❈
في بهو منزل عائلة رحيم، جلست رودينا منحنية على مقعدٍك بجانب المدخل، عيناها تبلغان نصف انطفاءٍك، وذاكرتها تتلو ما حدث منذ لحظات كشرائط متقطعة تُعيد نفسها.
سيارة الإسعاف التي أتت لتقل والدها إلى المستشفى، صعود والدتها مع زوجها، وبصيص من الأمل أن تصعد هي معهم. لكن نظرة واحدة من أمها أوقفتها في محلها.
نظرت والدتها إليها بازدراء؛ عيناها نار وصوتها قسوة متجمدة
"رايحة فين؟!، مش مكفيكي اللي عملتيه فينا؟!"
أجابتها ابنتها بصوت أثقله الوجع
"أنا كنت بدافع عن بيتي وحياتي"
فتحت أمها فكها كالسيف، وألقت عليها كلمات كالحجارة
"تقومي تدمري حياة اللي حواليكي؟!، وباباكي اللي وقع من طوله ولو حصله حاجة هتبقي إنتي السبب، عمري ما هاسامحك أبدًا، وهافضل غضبانة عليكي ليوم الدين"
وقفت الأخرى مصدومة من قسوة الكلام، ترى رجل المسعف يغلق باب العربة، وتنطلق السيارة.
عودة إلى الوقت الحالي...
توقفت عن البكاء، وارتسمت في عينيها نظرة سوداء قاتمة، صاعدة مع صعود الدرج، غاضبة معتقل في صدرها قوة على وشك الانفجار.
حين رأى ياسين رودينا متجهة نحوه، تراجع عن مهاجمته للحراس، والتفت إليها.
توقفت على بُعد مسافة منهما؛ كانت شجاعتها تُغلي من الداخل، لكن مشهده وحده وكأن النيران تندلع من عينيه، فارتعشت وصاحت بلهجة تهديد متقدة
"بابا لو جراله حاجة مش هاسيبك، وهادفعك التمن غالي يا ياسين"
رد عليها بشماتة قاسية
"وليكي عين تتكلمي!؟، لاء وجاية تهدديني؟!، ده انتي عديتي ليڤل الوساخة بمراحل"
قاطعته بنفس مقبوض
"احترم لسانك أحسنلك"
فزادها استهزاء غاشم
"اشجيني من بجاحتك كمان وكمان... أنا نفسي أعرف حاجة بس، أنا عملتلك إيه عشان تعملي فيا كدة؟!، ليه لما شوفتي ياسمين ماجتيش تقوليلي؟"
اجابت عليه بصراحة مرة، وكأنها تريد أن تطيح به بكلمة واحدة
"مكنتش هقولك، يا كنت هتطلقني أو هتركني على الرف ويخلى لكم الجو بينك وبين الهانم... وبعدين أنا مأذيتهاش... دي كانت هتبقى زوجة لواحد أحسن منك مليون مرة... طلع راجل وجدع معاها مش زيك لا مؤاخذة"
تعمدت إهانته تبتغي الانتقام؛ ولم تُدرك أنها تُسكب وقودًا على نار لا تُطفأ بسهولة. فقد جُن ياسين، قفز كمن يستيقظ من سبات مظلم، وجذبها بعنف؛ تلتها صفعات متتالية على وجهها.
صاحت تسطرد كلماتها السابقة بين يديه باكية ومستهجنة
"ما أنت ما بتتشطرش غير على الستات"
هتف بصوت هادر
"اخرسي يا وسخة، أنا مش هاعتقك النهاردة، ومش عايزك تنسي خالص اللحظة دي؛ القلم ده اللي رزعتيه لبنتي وتخويفك ليها، عشان تبقي تعرفي تكرهيها فيا كويس"
كانت الصرخات مدوية، ومصعب يحاول التدخل، يفرق بينهما ويكبح ذاك الوحش، لكن ياسين كان كالسيل الجارف؛ كفيه لم يبرحا خدي رودينا من الضرب.
التقط أنفاسه ثم أطلق عليها وابلًا من الكلام كالرصاص
"إنتي أقذر بني آدم شُفتها في حياتي، خايفة أطلقك؟!... للدرجادي، الغل والحقد مالي قلبك!"
دنا منها، أمسك خصلاتها ليجبرها على رفع وجهها والنظر إليه، صوته قاس كحد سيف
"ده أنا بندم على كل لحظة عملتك فيها بما يرضي الله... وكنت أقول يا واد حرام عليك ما تظلمهاش؛ طلعتي شيطانة... وطول الفترة اللي فاتت منيماني في العسل، أنا هخلي حياتك جحيم"
ترك خصلاتها، فتعثرت وهي تحاول النهوض بوهن، تحلت بشجاعة واهية، وقالت في تحد
"إنت واحد مجنون ومعقد نفسيًا، وحلال اللي بيحصل فيك... ولو رجع بيا الزمن هكرر اللي عملته فيك مرة واتنين ومليون مرة... وابقي قابلني لو مراتك وافقت ترجعلك بعد ما عرفت اللي عملته فيها زمان"
اقترب نحوها فحاولت أن تتراجع، وحاول مصعب منعه أن يقترب أكثر، ولم ينجح في ذلك، وأخذ يصفعها
"انتي طالق يا زبالة، انتي طالق... طالق... طالق"
و مع كل طلقة يصفعها و تتراجع إلي الخلف غير مدركة للدرج، تعثرت وأطلقت صرخة عندما وقعت وجسدها يتدحرج على الدرجات.
خرج على إثرها كل من رجاء، ورافقها رحيم، وخلفهما الحارسان، وأوقفا خطواتهما على عتبة الدرج ليروا ما حل.
أمام الدرج أسفل، كان جسد رودينا ساكنًا، ملقىً دون حراك.
ارتعشت الألسنة، وتعالت الأصوات
"أنت اللي عملت فيها كده؟"
صاحت رجاء في ياسين المتجمد، الذي وقف ينظر بصدمة لا تُصدق ما يراه أسفل قدميه.
هبط رحيم علي الدرج ليحملها على ذراعيه، صرخ في العاملين
"حد يجي يفتحلي العربية بسرعة"
ظنت والدته أنها ستذهب معه
"استني يا بني، أنا جاية معاك"
أوقفها ابنها بنبرة صارمة حازمة
"خليكي يا ماما، اطلعي اقعدي مع أميرة، خدي بالك منها لحد ما أرجع"
أعلي الدرج، وعلى بُعد غير بعيد، ظل ياسين يكرر كمن يحاول إقناع نفسه بواقعه
"معملتش حاجة... مقتلتهاش، مقتلتهاش"
هزه مصعب بقوة ليرده إلى المنطق، وقال له بسلاسة عملية
"فوق من اللي انت فيه، يلا نمشي من هنا ونبدأ نتصرف في الكوارث اللي حصلت.... أحسن ما تلاقي البوليس طب علينا"
كأن الكلام قد أفاقه عن غيبوبته، لحظات عاد فيها إدراكه، ونظر إلى رحيل رحيم بامتزاج من الحيرة والغضب.
حدق مصعب فيه بنظرة تحمل قراراً اتخذه، وعيناه تلمعان بعزم لا يخبو.
التفت خلفه ليرى أمام الغرفة فراغًا؛ لم يجد أحدًا، تسلل إلى الداخل.
ومع أول خطوة له عبر العتبة، لمح الزينة والشموع، والورود متناثرة ، فطن فورًا أنه أمام غرفة العروسين.
جز على أسنانه محاولًا كبح غضبه، حتى وصل إلى جوار السرير وأخذ يحدق في ملامحها.
فُتحت عيناها فوجدته أمامها، فانتفضت جالسة
"أنت دخلت هنا إزاي؟"
أجابها بصوت يفوح بدلالة طائشة
"دخلت عشان آخدك يا حبيبتي ونروح القصر"
استقامت على مهل، جذبت أنبوب المحلول من يدها، وتركت الفراش قائلة بتهديد
"لو قربت مني هصوت، ورحيم هييجي يشوف شغله معاك"
ابتسم بسخرية قاسية، ونادى بصوت جهوري مدوّي
"يا رحيم! يا رحيم!"
ثم التفت إليها بتهكم أدهى وقال
"تحبي أناديلك عليه تاني؟!"
ابتلعت ريقها، فنادت بذعر
"يا رحيم! رحيم... ألحقني يا رحيم!"
ضحك الآخر قهقهة قصيرة
"مش هيسمعك... راح ينقذ بنت خالته بعد ما وقعت على السلم"
شهقت رودينا ببراءة مختلطة بخوف
"أنت... أنت وقعتها؟"
لعب لعبة الخداع، فقام بكذبة باردة هدفها إرهابها وإخضاعها لأوامره
"أه وقعتها... يلا بالذوق معايا بدل ما أخليكي تحصليها"
هزت رأسها بصلابة رافضة
"مش جاية، ولو قربت مني هارمي نفسي من البلكونة"
مدت يدها لتلتقط هاتفها من على وحدة الأدراج قبل أن يلاحظ، وركضت بخطوات متعثرة نحو باب الشرفة.
وقبل أن تلمس يدها المقبض، حملها على كتفه بعنف، اخفت الهاتف فورًا دون أن يراها، صرخت بألم ورعب
"ألحقوناااي... نزلني يا مجنون"
رد عليها ساخرًا وهو يغادر الغرفة
"إنتِ لسه شوفيتي حاجة... لما نروح ويتقفل علينا الباب هوريكي المجنون ده هيعمل فيك إيه... يا عروسة!"
تبعه مصعب من خلفه بنبرة انتقادية مرهقة
"المفروض كنا مشينها قانوني أحسن يا ياسين"
"بلا قانون، بلا زفت... أنا هوديهم في داهية كلهم، وخلي دكتور الحمير يفكر يقرب منها حتى"
وفي طريقه لمغادرة المنزل، اعترضته رجاء بعينين متقدتين
"انت واخدها على فين؟، نزلها!"
توقف عن خطوته، ورمقها بنظرة نارية
"اخرسي يا وليه، بدل ما أخليكي تحصلي بنت أختِك"
كاد حراس الأمن أن يقتربوا ليمنعوا تصاعد الموقف، لكن رجاء صاحت في وجههم
"محدش يقرب منه، سيبوهم يمشوا"
❈-❈-❈
كان مصعب يقبض على عجلة القيادة بيد ثابتة، والليل ينساب على الطريق كسيل أسود يتلألأ بأنوار متقطعة، فيما ينعكس ضوء المصابيح على الزجاج الأمامي كأنها خيوط برق عابرة.
عيناه بين المرآة الداخلية والطريق الممتد، يتفحص المقاعد الخلفية، حيث يجلس ياسين وبجواره ياسمين، تلك التي انكمشت في مكانها قسراً، غير أن روحها لم ترضخ، إذ كانت تنتفض وتصرخ، متشبثة بمقبض الباب تحاول فتحه في يأس.
قال ياسين، ونبرات السخرية تتسلل من حنجرته
"متحاوليش... الباب مش هيفتح معاكي، ولا حتى الشباك، كله مقفول"
رمقته بنظرة حادة كالسهام المشتعلة، وصاحت بحنق
"أنت فاكر كده صح؟!، رحيم زمانه عارف إنك خطفتني... وهايجي ياخدني"
ارتسمت على وجه ياسين ابتسامة تحمل خليط من الغيظ والتهكم، كلما مر أمامه طيف رحيم اشتعل في صدره نزاع الغيرة والرغبة في الفتك، فأجابها ساخراً
"يا أهلاً وسهلاً بيه... بس يا ترى عارف العنوان؟، ولا أبعتله اللوكيشن في مسدچ؟"
قضمت أسنانها بعنف، وغلي الدم في عروقها حتى احمرت وجنتاها، وقالت باحتقار
"إنت مش طبيعي... إنت مجنون"
أطلق ضحكة وبدت أسنانه اللامعة كوحش يكشر عن أنيابه، قائلاً في خبث
"مقولتيش جديد يا روحي"
مد يده نحو وجهها، فانتفضت ممسكة معصمه بصرامة وهي تصرخ
"ابعد إيدك عني"
لكنها لم تلبث أن لمحت الطريق من خلال الزجاج، حيث المارة يعبرون بلا مبالاة، فانفجرت بالاستغاثة، تضرب على النافذة وتصرخ
"الحقوني، أنا مخطوفة... حد يلحقني"
ضحك ياسين واخبرها بثقة
"محدش شايفك ولا سامعك... الإزاز فاميه وعازل للصوت"
في تلك اللحظة، دوّى رنين هاتف مصعب، فابتسم ساخراً مما يراه ويشهد.
نظر إلى الشاشة، فإذا بالاسم يسطع أمامه مدام جيهان.
قال ياسين على الفور
"رد عليها... وقولها إننا جايين في الطريق"
التفت مصعب بعينه في المرآة نحو ياسمين التي لا تزال تصرخ وتستغيث، فأشار ياسين برأسه أن يمضي ويترك الأمر له، ثم زمجر في وجه ياسمين قائلاً بحدة
"اسكتي بقى! ما تعبتيش؟!"
رفعت رأسها متحدية، وردت بانفعال
ـ "لأ... مش هاسكت!، رحيم هايجي يوديك في داهية!"
هنا انقض عليها بيده، كمم فاها بعنف، واقترب حتى كاد صوته يخترق أذنها بهمسه
"لسانك لو نطق اسمه تاني... مش هاقولك أنا ممكن أعمل فيكي إيه... اتقي شري أحسنلك"
أنهى مصعب المكالمة وعاد صوته هادئاً
"تقريباً العيلة عرفت من السوشيال ميديا... الدنيا مقلوبة هناك"
أجاب ياسين وهو لا يزال قابضاً على فمها، بينما هي تتلوى جواره وتطلق همهمات مكتومة
"طز في أي حاجة... المهم رجعتلي ياسمينتي... حبيبتـ... آآآآخ
صرخة مباغتة أفلتت منه بعدما غرست أسنانها في يده كأنها ذئبة صغيرة، فنفض يده متألماً وصاح
"يا بنت العضاضة!، بقت كده؟! طيب..."
اندفع نحوها، فحاولت الرد بحزم
"إياك تقرب مني تانـ..."
لكنها لم تكمل الكلمة، إذ ابتلع صوتها حينما أسكتها بقبلة جموح، قوية باغتتها كالصاعقة، فارتج جسدها وتسمرت عينها من هول الصدمة، بينما مصعب اكتفى بالنظر إلى الطريق، وقد أطبق عليه صمت ضاحك يخفي وراءه الكثير.
دفعت ياسمين صدره بكل ما تملك من قوة، واستعادت أنفاسها المضطربة، فألقى ياسين إليها بنظرات مزيج من التحدي والافتتان
"ابقي صوتي... أو قوليلي ما تقربش مني تاني... كرريهم... وأنا هافهم إنك عايزه"
ثم مال بجسده قليلاً، وأرسل إليها قبلة في الهواء متعمداً إصدار صوت القُبلة من بين شفتيه، كأنه يجلجل في أذنها بالتهديد واللعب معاً.
❈-❈-❈
وقف رحيم في بهو المستشفى، والقلق يلتف حول عنقه كحبل مشدود، يراقب الممرضة وهي تدخل وتخرج كأنها ظل متسارع، حتى انفرج الباب أخيراً وظهر الطبيب المسؤول عن حالة ابنة خالته. كان وجهه ملبداً بتجاعيد التعب، ونظراته تفيض بما يثقل الروح.
تقدم رحيم خطوة، وصوته يكاد يتلعثم
"خير يا دكتور؟"
أجاب الطبيب ونبرته جادة كمبضع الجراحة
"حضرتك دكتور وعارف... مخبيش عليك، حالتها كانت حرجة جدًا... بعد ما عملنا ليها فحص شامل، لاقينا رضوض في الضلوع، وكدمات متفرقة في الكتفين والوجه... للأسف حصلها نزيف... وكان لازم نختار يا إما حياتها، يا إما حياة الجنين"
توقف الطبيب لحظة ثم أضاف بصوت خافت كأنه اعتراف مؤلم
"اضطرينا نضحي بالجنين... عشان ننقذ الأم"
اتسعت عينا رحيم فجأة، كمن أصابته صاعقة، وتوقف قلبه لوهلة وهو يعي أنها كانت حاملاً.
امتدت يده المرتجفة نحو هاتفه، حاول الاتصال بخالته ليبلغها بما جرى، لكن الخط ظل يرن دون إجابة.
أرسل لها رسالة صوتية قصيرة، أخبرها فيها عما حدث لابنتها وعن اسم المستشفى، ثم ألقى الهاتف في جيبه بأنفاس متلاحقة.
لم تمض ثوانٍ حتى اهتز الهاتف من جديد، وهذه المرة ظهر على الشاشة اسم أحد حراس أمن منزله.
ضغط زر الإجابة بسرعة، فجاءه الصوت متلهف مضطرب
"ألحق يا دكتور رحيم... ياسين البحيري خطف مدام أميرة ومشي"
ارتفع صوته كبركان يتفجر
"وإنتم كنتوا فين؟!"
تردد صوت الحارس بتوتر
"كنا هانمنعه... بس رجاء هانم قالتلنا سيبوه"
أطبق رحيم على الهاتف بقوة، حتى كاد يحطمه من شدة الغيظ، ثم أنهى المكالمة بوجه متجهم وعروق نابضة، وأطلق عبارته التي تشي بغيوم العاصفة
"أنت اللي جبته لنفسك يا ياسين يا بحيري"
❈-❈-❈
اقتربت السيارة شيئاً فشيئاً من أسوار القصر المهيب، عند تلك اللحظة، أدار ياسين رأسه نحو صهره قائلاً بنبرة آمرة
"اركن يا مصعب على جنب"
رفع مصعب حاجبيه متسائلاً
"فيه حاجة ولا إيه؟"
هز ياسين رأسه في هدوء مقصود، وأجابه
"معلش... عن إذنك ثواني"
أومأ مصعب برضا وهو يقول
"تمام"
فتح الباب ونزل، ثم أغلقه خلفه.
عندها ارتجف قلب ياسمين، التي لم يفوتها أن تلتقط بعينيها المشهد؛ نظرت بطرف عينيها فإذا بياسين يفك أزرار قميصه واحداً تلو الآخر.
شهقت بفزع، وتقهقرت إلى الخلف حتى التصق جسدها بباب السيارة، وصاحت
"إنت... إنت هتعمل إيه؟!"
ابتسم ساخراً وهو يواصل حركته
"إنتي شايفة إيه بعينيكي؟"
وما هي إلا لحظات حتى انكشف صدره، فتعالت صرختها في وجهه
"إنت مش بس مجنون... إنت كمان مغتصب ومتحرش، وكلام رودينا طلع صح، أنا دلوقتي فهمت ليه طفشت منك"
كلماتها كانت كالسياط، تشق قلبه المشتعل وتترك فيه ندوباً غائرة، لكنه تمسك بصبر يبرر قسوة عباراتها بحالتها الممزقة.
مد يده إليها فجذب ذراعها، ووضعها قسراً في كم قميصه وهو يقول بحنق مكظوم
"أنا بخلع القميص عشان تستري بيه نفسك يا هانم... بدل ما رقبتك وكتافك باينين، وأكمام الفستان الشفافة مبينة دراعاتك... الظاهر فقدتي الذاكرة... ومعاها حاجات تانية كمان"
حدقت فيه بدهشة، ثم اندفعت تصيح بعفوية دفاعية وهو يُلبسها قميصه
"على فكرة أنا محجبة... ولبسي محترم"
ابتسم رغم ثقل اللحظة، وبدت على محياه لمحة إعجاب ببراءتها، ثم أخذ يُعدل وضع المشبك الذي يعلق وشاحها في خصلات شعرها، فشهقت من ألم مفاجئ.
تأوهت وقالت بسخط
"اي، إيه الغباء ده؟"
ثم رفع رأسه وهو يرمقها بصرامة
"أنا غبي آه... بس عندي نخوة... ما أقبلش حد يشوف شعر مراتي ولا حتة من جسمها... ويوم ما خرجتي من عندي... كنتي منتقبة"
أطلقت ضحكة مريرة وهي تحدق فيه بازدراء
"آه طبعاً... ونخوتك وغيرتك دي شغالة عليّ أنا بس؟! وبالنسبة لست رودينا... فاصلة معاها؟!"
لم يجبها، بل طوى الوشاح على هيئة مثلث وأحاط به وجهها، فأخفى شعرها ورقبتها، ثم ربط أطرافه بعقدة محكمة أسفل ذقنها.
وبعد أن فرغ، أسند نظره إلى عينيها، فارتجفت، إذ كان بصره يلمع بشيء يزلزلها من الداخل.
قال بصوت خفيض يقطر صدقاً
"اسألي قلبك وهو هيجاوبك على كل حاجة... عقلك يمكن ناسي... بس قلبك عمره ما هينسى"
غاصت في كلماته، وبقيت تحدّق في عينيه، فوجدت فيهما وهج عاشق يذوب فيها حتى الثمالة.
نهض ياسين فجأة، وضغط على زمور السيارة، فانتفض مصعب ودخل سريعاً، أدار المحرك وأكمل المسير نحو الداخل.
دقائق معدودة، ودلفت السيارة من البوابة الحديدية حتى استقرت في باحة القصر، حيث كان أفراد العائلة مجتمعين في الحديقة، يرتقبون المشهد بلهفة ووجل، كأنهم بانتظار معجزة.
"افتح القفل يا مصعب"
ضغط مصعب على زر القفل، فانفتح الباب، انحنى ياسين، وأطل عليها قائلاً بابتسامة
"حمد الله على السلامة... نورتي قصر العيلة"
نظرت ياسمين من خلال زجاج السيارة، فرأت الحديقة الواسعة والقصر الشامخ، فارتجف قلبها، وغمرها شعور بالرهبة والفزع.
التفتت نحوه بعينين واجمتين
"أنا عايزة أمشي من هنا"
ابتسم ببرود، ورد
"هتمشي تروحي فين؟!، هنا مكانك... مع جوزك وأهلك وبنتك... يلا انزلي"
تعالى صوتها المذعور
"بقولك مشيني من هنا، مش نازلة... ولا رايحة معاك في حتة"
تحطم قلبه أمام صراخها، لكنه لم يجد سبيلاً لاحتوائها سوى بقبضة أشد، فهتف بنبرة ضيقة
"شكلك هتتعبيني معايا كتير"
ثم جذبها بين ذراعيه وحملها على كتفه رغم صرخاتها المتصاعدة
"نزلني، بقولك نزلني"
تقدم بها نحو الداخل، وأعين العائلة تلاحقه بدهشة، والذهول يسري في وجوههم.
تمتمت شيماء بذهول وهي تحدّق في ياسمين
"هي بعينها المرحومة، طب إزاي؟! أومال تبقى مين اللي اندفنت وياسين قعد سنتين حزنان عليها؟!"
رمقها طه بامتعاض، فأجابته بنظرة مستعلية مشوبة بالازدراء.
واصل ياسين طريقه إلى الدرج، وهناك فوجئ بمديرة الخدم وقد وقفت مشدوهة، ترمق ياسمين التي تتخبط وتصرخ فوق كتفه، تضربه بيديها الضعيفتين على ظهره العاري. أدار وجهه نحوها وأمرها بحدة
"قولي لخديجة... عايز طقم وحجاب بسرعة"
أومأت سميرة مطيعة
"حاضر"
ثم هرولت في الحال، بينما هو يواصل الصعود بخطوات ثابتة، وياسمين لا تزال تولول وتصرخ
"نزلني! بقولك نزلني!"
وكل ضربة من يديها فوق ظهره، لم تزده إلا عناد وإصرار.
❈-❈-❈
وصل أمام غرفته، فمد يده إلى الباب، وأدار المفتاح في قفله، فأنفتح على مهل ثم ولج بخطوات مشوبة بالحدة، ودفع الباب خلفه حتى ارتد وأوصده بالمفتاح.
وقفت أمامه شامخة الرأس، وإن تزينت بثوب التحدي، تُخفي خوفها في ثنايا جرأتها، غير عابئة بوعيده السابق.
"لعلمك بقي، رحيم مش هايسكت، وزمانه جاي ياخدني"
اقترب منها، تتأجج عيناه كجمر متقد، وقبض على تلابيب قميصه الذي ترتديه، يهزها بعنف يقطر غضب
"رحيم واللي جابوا رحيم، لو راجل بجد ييجي قدامي ويوريني نفسه... وأنتِ يا بت.. ما قولتلك لسانك ما ينطقش اسمه تاني؟.. قولت ولا ما قولتش؟!"
ارتجفت وهزت رأسها برهبة، ورفعت كفها في وضع دفاعي يائس، تخشى بطشه وضرب يده.
فعض على شفته السفلى، يطوي قبضتيه بجواره، ثم أردف مهدداً
"هعدّي لك المرة الأولى والتانية… التالتة هرميكي من الشباك، وأرمي نفسي وراكي"
رمقته مذعورة، كأنها ترى أمامها مختلاً، فزاد هو في تخويفها، ليقطع عليها تكرار اسم غريمه
"أيوه… أنا مجنون وعلى الله حكايتي... فخلي ليلتك تعدي على خير… آمين؟"
صاح بتهكم
"مش سامع صوتك الحلو اللي كان من شوية ملعلع"
هزت رأسها مذعورة، وهمست مرتجفة
"آمين… آمين"
وإذا بطرقات على الباب تقطع لحظة التوتر، فتركها وفتح، فوجد سميرة تعطيه ثياباً مرتبة.
"اتفضل… محتاجين أي مساعدة؟"
"شكراً… عن إذنك"
وأغلق الباب ثانية بالمفتاح، ثم التفت إلى زوجته، فإذا هي ما زالت ترمقه بعين يختلط فيها الخوف بالحذر.
أمرها بصرامة
"اقلعي"
شهقت مذعورة، وصاحت مترددة
"إنت قليل الأدب"
انتفخت أوادجه، وزفر بنفاد صبر، واقترب خطوة
"اقلعي الفستان وهاتيه… وإلبسي الهدوم دي"
فاندفعت بحدة
"مش قالعة ولا هلبس حاجة وابقي ارميني من الشباك المرة دي"
تفجر غضبها بعفوية ساذجة، جعلته يبتسم رغماً عنه من بساطتها التي تكشفها ردودها.
فألقى الثياب فوق الفراش خلفها، وقال بوجه متعمد الصدق ونظرة خبيثة
"ما أنتي لو مقلعتهوش بالذوق… أنا اللي هقلعهولك بنفسي... ها… تختاري إيه؟"
ومد يده إلى مقدمة قميصها، كأنما سيخلعه، فصرخت وهي تُبعد يديه
"خلاص! خلاص! هغيره، بس أنت هاتعمل إيه بالفستان"
صاح كالبركان
"هولع فيه"
وإذ به يلمح وهج ضئيل يضيء خلف فتحة صدرها، فهتف متسائلاً
"إيه ده؟"
تظاهرت بالجهل
"في إيه؟"
قال بجرأة فاضحة
"إنتِ مخبية تليفون في صدرك؟"
شهقت من جرأته، وردت بثورة
"ملكش دعوة، اطلع بره عشان أغير"
اقترب بصرامة، وقال بأمر قاطع
"هتلاقي الحيوان بيرنّ عليكي… هاتي التليفون"
أجابت بإصرار عنيد
"لاء"
زمجر وهو يخطو نحوها
" بتقوليلي أنا لاء؟!، أنا على آخري والتليفون يا ياسمين لو ما طلعتيهوش حالاً وادتهولي… همد إيدي وآخده بنفسي، وياريت تفضلي رافضة"
وحين أدركت قصده من جملته الأخيرة، صاحت بخجل
"إنت سافل"
دنا منها حتى ارتدت على ظهرها فوق الفراش، واقترب حتى غمر أنفاسها بأنفاسه، وهمس بوقاحة متعمدة
"أيوه… أنا قليل الأدب وعربجي، وسافل… ووقح"
لكن عينيه رغم ذلك، تخفيان شوق ولهفة متأججة، يكبحها خشية أن يزرع فيها رعباً أعظم.
فقال بصوت مائل إلى الجد
"أنا جوزك… يعني أنتي حلالي و أنا حلالك... أنا مراعي ظروفك الصحية وذاكرتك اللي اتفرمتت... بس عايزك من دلوقتي تفضلي تحفظي جملة وتردديها أنا ياسمين مرات ياسين البحيري... كرريها… عايز أسمعها"
امتنعت عن النطق، فزمجر غاضباً
"مش سامع صوتك ولا إنتِ عايزة أكرر اللي عملته معاكي في العربية؟"
غمز لها بخبث، فاتسعت عيناها وهي تستعيد ذكرى قبلته المباغتة، فأطبقت كفها على فمها مذعورة
"حاضر… حاضر هقول"
"سمعيني"
قالت بتردد
"أنا ياسمين… مرات ياسين البحيري… يلا قوم بقى وابعد عني"
ابتسم منتشياً بانتصاره، لكنه تذكر الهاتف، فأردف
"مش هابعد غير لما تديني الموبايل"
"قوم… وأنا هديهولك"
نهض عنها، فاستوت جالسة، وأخرجت الهاتف من موضعه وأعطته له في ضيق
"خُد"
أمسكه وهو يقول متعمداً
"اسمها اتفضل يا حبيبي"
رمقته بغضب صامت، ولم تجبه، فأمسكت بالثياب الملقاة على الفراش
"يلا… اتفضل اطلع بره"
أغلق الهاتف، ووضعه في جيب بنطاله، ثم أشار بيده نحو باب خشبي جانبي
"عندك الحمام غيري فيه، وأنا قاعد هنا مستنيكي"
زفرت بضيق، ورمقته بنظرة نافذة، ثم رفعت طرف ثوبها وذهبت نحو الحمام.
بينما هو فتح الخزانة، وأخذ قميص قطني بأكمام نصفية، وقام بارتدائه.
❈-❈-❈
توقفت ثلاث سيارات سوداء فاحمة عند بوابة القصر، ترجل منها رحيم، متأبطاً السلاح، يخبئه خلف ظهره بحذر محسوب، وتبعه رجال عظام الأجساد، متراصون كأنهم جدران متحركة.
ساروا بخطوات صارمة، تتهادى الأرض تحتها في ارتعاد صامت، حتى بلغوا البوابة الحديدية.
أوقفهم أحد الحراس وقد بدا على وجهه التوجس، وكاد يرفع سلاحه في وجوههم، فأشار إليه رحيم بحدة آمرة
"رجع سلاحك مكانه… أنا جاي آخد مراتي وامشي"
لكن حارساً آخر التقط الهاتف على عجل، وصوته يتقطع بين القلق والإنذار
"ألحق يا آدم بيه… في واحد بره معاه رجالة وسلاح، وبيقول جاي ياخد مراته"
أشار رحيم بيده ورأسه إلى رجاله، فاندفعوا نحو البوابة، يحاولون فتحها عنوة.
تسلق أحدهم السياج العالي، وتشابك مع الموظف القائم على جهاز الفتح الآلي، بينما اندفع الآخرون يزاحمون رجال الأمن اشتباكً وصدامً، فتعانقت الأيدي بالأكتاف، وتلاطمت الأجساد كأمواج هادرة، كأنما الميدان تحول إلى ساحة نزال شرس.
وفي غمرة المعمعة، تسلل رحيم بخطوات سريعة متحفزة، يشق الطريق بين الأجساد المتلاحمة حتى بلغ عتبة القصر.
وقف شامخاً أمام بابه العريض، يزمجر صوته بغضب عارم، كأنه صاعقة تنفجر في جوف الليل
"يا ياسين يا بحيري؟"
ردد النداء ثانية، بصوت أشد صلابة، حتى ارتجت جدران القصر، فخرج إليه أبناء عزيز البحيري، يعلو وجوههم الذهول والاستنفار.
وقبل أن ينطق قصي، أخذ يتأمل ملامح الرجل الواقف أمامه، فتذكره على الفور، ذاك هو الطبيب العريس الذي انقلب عرسه رأساً علي عقب، والعروس التي زُفت إليه إنها زوجة شقيقه ياسين!
قال قصي بحدة ساخرة، وشيء من الاستنكار يقطر من نبراته
"جاي تتهجم علينا برجالة وسلاح يا دكتور؟!"
أجابه رحيم بصوت كالصخر المحطم
"الكلام ده تقوله لأخوك… اللي جه اتهجم علينا، وآخرها يخطف مراتي من قلب بيتي"
فتدخل مصعب بنبرة صارمة متزنة، تحمل في طياتها رائحة الحزم والقطع
"أنا مقدر الصدمة اللي إنت فيها، بس ياسمين تبقى مرات ياسين… و كنت سامع بودانك كلام بنت خالتك وجوزها"
رمقه رحيم بعينين تقدحان شرراً، وتطاير من نظراته لهب الغيظ، وهو يصرخ متحدياً
"وأنا مش ماشي من هنا، يا ياسين يا بحيري… لو راجل انزللي"
في الأعلى، كانت ياسمين قد أنهت ارتداء ثيابها وحجابها، خرجت لتجد ياسين يطل من النافذة، فإذا بصوت رحيم يصل إلى مسامعها، يليه صوت ياسين الذي عاد إلى الداخل وفتح درج المكتب، وأخرج سلاحه وهو يتمتم بصوت مقطوع
"نازلك يا..."
فتح الباب وخرج؛ فلم تستطع ياسمين إلا أن تلحق به خلفه، قدماها تسيران كأنهما على جذع مهتز.
أمام القصر وقف قصي وإخوته في مواجهة مع رحيم، فيما توقفت زوجاتهم وأبناؤهم ملتزمين الداخل .
قال آدم كمحاولة لتهدئة الوضع بنبرة رسمية
"خد رجالتك وامشي من هنا، بدل ما نطلبلكم البوليس"
عقب قصي على رحيم بنبرة استعلائية
"شكلك يقول إنك ابن ناس ومتربي، فبلاش الجو اللي بتعمله ده لأنك مش قده، ونصيحة مني ابعد عن ياسين لمصلحتك"
رد رحيم باستهزاء
"والمفروض بعد كلامكم أخاف؟!، أنا ما بتهددش"
رد ياسين الخارج لتوه من الباب بصوت محتد ووجه منشق بغضب قاتل
"آه، لازم تخاف لأن مش هخليك تخرج من هنا غير على قبرك"
لما تلاقت عيناه بعيني رحيم، حركت ياسمين قدميها لتدنو من الأخير، لكن قبضة عنيفة منعهُا أن تتحرك خطوة واحدة فهدر ياسين بها من بين أسنانه
"خطوة كمان وأصفيه قدام عينيكي"
نظرت إليه تمنعُ دموعها، ثم صوبت عيناها إلى رحيم تلتمس منه لطفً وشفقة، فما كان من رحيم إلا أن دنا إليها أمسك يدها الأخرى وقال ببساطة حانية
"تعالي معايا"
صرخ ياسين وقد فقد ما تبقى عنده من عقل رزين
"شيل إيدك من عليها يا وسخ"
و سدد له لكمة مفاجئة، تدخل آدم وطه ويونس ليفصلا الشجار، لكن قصي أشار بيمناه قائلاً بلهجة حاسمة
"ياسين هيعرف يتصرف معاه"
هجم رحيم على ياسين، واحتدم الاشتباك؛ لكمات وركلاتٌ وتبادل للتهديدات، وكانت ياسمين تصرخ بخوف ورعب
"كفاية بقى، كفاية"
وعندما أدرك التعب كلا الرجلين من كثرة الضرب والاشتباك، رفع ياسين سلاحه في آن واحد مع رحيم الذي رفع سلاحه أيضاً، ونطق الأخير بإصرار وتحد
"مش خارج من هنا غير يا قاتل يا مقتول"
رد ياسين ببرود قاتل
"يبقى تخرج مقتول"
شد أجزاء سلاحه بإحكام، فصرخت ياسمين باسم رحيم واندفعت نحوه، تحاول أن تبعده عن مرمى سلاح ياسين بكل ما أوتيت من قوة.
كاد ياسين أن يضغط على الزناد، وفي ذاك التوقيت بالذات تدخل قصي ومصعب فرفعا ذراع ياسين إلي أعلى، فأُطلقت الرصاصة في الهواء كصوت إنذار مفزع.
نظر ياسين إلى زوجته التي تدافع عن غريمه بألم مزلزل، وسمعها تتوسل وتترجى
"امشي من هنا يا رحيم، أرجوك"
انزل رحيم سلاحه جانبه وقال بصمت فيه قسوة واشتياق
"مش هامشي غير لما آخدك معايا"
قالت له وهي تستسلم لحقيقة رغم مُرّها
"مابقاش ينفع… وأنا خايفة عليك... أنت متستاهلش تضيع نفسك عشاني"
سألها الأخر بصدمة وهي تمر كطعنة في صدره
"إنتي بتقولي إيه؟!"
أجابت بهدوء مرير
"بقول الحقيقة اللي لازم نعترف بيها"
لم يتحمل ياسين رؤية هذه المسرحية التي تنهار فيها صوره، وطار غضبه فأندفع دافعاً شقيقه ومصعب عنه، وجذب ياسمين بعنف إلى الداخل، وهو يدفعها صارخاً
"اخرجي تاني عشان اقتله وأقتلك"
خرج ياسين عاقد العزم أن يذيق رحيم مرارة الإيذاء، فتشابك الاثنان مرة أخرى حتى انقطع صوت الاشتباك بقدوم رجال الشرطة.
خرج الجميع من الداخل، ومن بينهم ياسمين التي خرجت غير مبالية بتهديد زوجها، وقد تصاعد صوت الضابط الذي وقف أمامهم مستفسراً بصرامة
"من فيكم ياسين البحيري؟"
ابتعد ياسين عن رحيم وأجاب الضابط بصوت مُماثل
"أنا ياسين البحيري"
أخبره الضابط
"انت متهم بمحاولة قتل زوجتك مدام رودينا"
ثم أمر رجاله
"خدوه على العربية، وفين عروسة الدكتور اللي في زايد؟"
التفت رحيم إلى الضابط وسأله هادئاً
"أنا أبقى دكتور رحيم اللي حضرتك تقصده، بتسأل عنها ليه؟"
أجاب الضابط بصوت جاف
"والدة حضرتك قدمت بلاغ إنك اتجوزتها وهي على ذمة راجل تاني من غير علمك... يعني المدام متهمة بالجمع بين زوجين"
نظر إلي بقية رجاله
"خدوها"
يتبع
لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا

تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا