رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام الفصل الثالث والثلاثون 33بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام الفصل الثالث والثلاثون 33بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات
#حكايات_mevo
#عودة_الذئاب.... أخذ براء شجن، واندفع بها مرعوبًا، وقلبه أصبح أشلاء؛فهيّا، ما قالته وسمعته، أمات قلبه العاشق.لم يكن يعي جُرمه،إلا بعد أن سبق السيف،ووُضِع على رقبته،يكويه،ويجعله ينزف...
.هَمَّ نديم أن يذهب وراءه،فمدّ الجدّ يده وأمسكه بقوة، وهتف:
— "أُصْحَكْ تجرّب منّيهم... مرته هو حرّ فيها، إنت دخلت أهنّه وولّعتَها بطريجتك،
يبقى تِكَمِّل بقه!كلّ واحد يحاجي على مراته."
صرخ نديم، وقد انتفخت أوداجه واهتزّ صوته بالغضب:
— "بتجول إيه! إنت واعي؟!"
فردّ الجد، وصوته كالصاعقة، لا يعرف التراجع ولا يأبه للعواقب:
— "إيه! كيف ما كتبت، هو كتب برضك!
إنت طالب مرَتك، وهو خَدها برضك...
لازِمْ نِكَمِّل، وإلّا هتبقى بحور دم!"
صرخت مهره، والغصة تخنق صوتها، والدمع يوشك أن يفرّ من عينيها، لكن الكبرياء جمّده في محجريه:
— "هو مين اللي هيكمل يا جدي؟!إن كان نديم عايز يكمل... يكمل!إنت بتحكم على مين؟هو عاش حياته عايز ياخد حقه، ومعيّشنا سواد معاه!عايز يكمل؟ حقه، وهو حر!إنما أنا واختي؟ما هنكمّلش دقيقة معاكو! قصّتنا خَلصِت يا جدي..."
.رفعت مهره رأسها، والدمع لا يزال عالقًا على طرف جفنها، لكنه لم ينحدر.. . صوتها خرج مبحوحًا من وجعٍ اعتُصر في القلب طويلاً، ثم انفجر:
— "لحد كده؟!ولاد عامر ماتوا بالنسبالكو!
ادفِنوا عليهم وكَمّلوا!إحنا كنا منسيّين أصلًا...إنتو موتتونا من زمان!أنا هاخد أختي وأمشي.أختي ماحدش هيمسّها طول ما أنا عايشة!ماحدش ليه حكم علينا... ماحدش!"
.
استدارت مهره لتغادر، وقلبها يشتعل من القهر، فإذا بـ"أسمر" يندفع كمن انتُزِع روحه، قبض على ذراعها فجأة، صوته مختنق بالغضب والانكسار:
— "رايحه فين؟! وسايبه راجلك؟!"
تجمدت في مكانها، ثم التفتت ببطء، نظرتها مسمومة بالحزن والاحتقار، صرخت فيه بصوتٍ مرتعشٍ من الغضب:
راجلي؟! من إمتى؟عملتها إزاي يا ابن سلطان؟ضربتلي العُرفي؟!هاه؟ استخبيت زي النسوان؟وخدت حقك؟!"
قبض على يدها بقوة، قرصها كمن يحاول أن يوقظها من تمرّدها، همس من بين أسنانه، وصدره يعلو ويهبط كأن صدره يئن:
— "اتلمي..."
إلا أنها لم تُبالِ به، لم تلتفت إلى قبضته، ولا إلى صوته المتحشرج بين الغيظ والرجاء. كانت النار تتصاعد من صدرها، والغصة تخنق الكلمات في حلقها، لكنها انفجرت صارخة، كأن قلبها ينزف حروفًا:
— "أتلمّ؟! بتقولّي أتلمّ؟!بتكمّل جحود معاهم وتبقى ظالم وتقولي أتلمّ؟!لو فاكر إن مهره بتتاخد في الدَرَى... أنا أموت روحي ولا يحصل!مهره عامر ما ينضربلهاش عُرفي!
ورقتك دي... تلفّها وتبلعها!"
رفعت يدها بإشارة قاطعة، ونظرتها تلمع بالاحتقار والخذلان، ثم تابعت بصوتٍ أشبه بالصفعة:
— "لتكون فاكر يا شاطر... إن كده ليك حكم عليّا؟أنا راجلي ياخدني في النور، ويشوفني عاليه... مش بنت غزيّة!بتقولّي أتلمّ؟!ولو ما تلمّتش... إيه؟!هتجيبني تحت جزمتك؟ مش كده؟!كلمة أسمر بيه أبو الدهب المشهورة:(هجيبك تحت جزمتي)!"
صرخ "أسمر" بحرقة، ووجهه يشقّه الألم وندمٌ يطلّ من عينيه:
— "أنا ماجولتش اكده... وتلمي حالِك... إنتِ بقيتي حرمتي!"
لكن كلماتُه ارتدت على مهره كصفعةٍ مشتعلة، فصرخت بحرقة أشدّ، كأنها تشقّ صدرها لتُخرج رماد السنوات:
— "ما قولتش.... ليه؟!مش قولتها ليّ من سنين؟ لما كنت عيّلة صغيرة، هاه؟كنت كبير وواعي، شايف بعينك عيلة بتتضرب وتتهان وتتحرق والغريب إنك... مصدّق!
مصدق إن عامر حرامي؟ بس علشان ده قال؟!"
أشارت بحدة إلى عمّها، والنقمة في عينيها كجمرٍ يتقد:
— "جابر... اللي باع بنته في خمس ثواني علشان الفلوس!اللي يبيع ضناه علشان شوية مال... ماييتسمعلوش كلمة. الفلوس ركّعته في لحظة...وكل النار، والغل، والوجع... راح!ومع كده... كلكوا بتكملوا في خطاه؟!"
رفعت رأسها عاليًا، وصرخت وهي تشير إلى نفسها كأنها تحمل عارًا لا تستحقه:
— "خِطّي كلها عار!عار إن بنت زيّي تتحاسب على سواد قلبه... بس إزاي... ابن زينب الغلبانة يتحبّ؟إزاي ياخد من فلوسكم؟!"
صمتت لحظة، ثم انطلقت كالسهم:
— "جزمة إيه يا أبو جزمة؟إنتو... إنتو اللي انجبتوا تحت الجزم من مناظركوا!"
صرخ "أسمر"، وقد تلوّت ملامحه بين الغضب والخذلان، وصوته يشقّ الهواء كالسوط:
— "اتلمي!ما هعدّيهاش!.. حرمتي! ما تكلمنيش اكده!"
لكن ضحكتها جاءت كنصلٍ يمرّ على عنق كلماته. ضحكة موجوعة... متمردة... ساخرة من وجعه المتأخر:
— "شوف ازاي؟لا، ما يصحّش! حرمة بنت غزيّة؟!معلش... أصلها ما تليقش يا أسمر بيه."
تقدّمت منه خطوة، وقلبها بيقرّب النار من وشه:
— "هتجيب مني عيال، وتقولهم: أمّكم بنت غزيّة؟وأبوها؟ أبوها حرامي، مش كده؟
ولا هتقول إيه؟(أسمر أبو الدهب اتجوز بنت الغزيّة... يا ولاد!)"
ثم مدت يدها، وضربت بكفها على كتفه، بعنف لا يخلو من القهر:
— "افتكر كلامك...يابن الناس...اللي خرق ودني زي الرصاص!"
رمقته "مهره" بنظرة نازفة، فيها كل سنين الغضب، وصوتها خرج متهدج لكن مليان طعنات:
— "إنت ما بتاخدش عتب حد يا سيد الناس…ولا نسيت... هنعملهم على بعض، هاه؟ هو كبرك.صح..
كبرك هو اللي رافض "نديم" يكسب أو يسيطر.... طب من غلبه وقهرته. إنما إنت إيه إيه يا أخي ؟
إنت الغرور كله... حب السيطرة، وكبر النفس، والعين اللي ما بتشوفش غير مرايتها!"
تقدّمت خطوة، والكلمات في صدرها مش بتتلطف:
— "سيد الناس...ما بياخدش اللي شرفها مهروس في القهاوي فاكر !"
تجمّد "أسمر" في مكانه.كأن الأرض اتّسعت بين قدميه، ثم ضاقت عليه فجأة.
قال الجد، وصوته مبحوح من كُتر ما شاف وسمع:
— "مهرة… بطّلي كلامك، مافيش منه فايده.سيبي خيتك، مالكيش صالح بيها.
شكلها بتّ حنينة، ووجد... أنا عارفها، جلبها ضعيف وهتلين.لكن إنتي؟ إنتي بالذات! لو حبيتي تفلتي ماهجولش لاه...
صرخ أسمر بجنون، كإنه انطعن في قلبه:
— "هو إيه اللي تفلت؟!إنت هتجوزهم كلهم وتسيبني؟!هيّا مين؟!لأه... إني زيّي زيّهم!
مهره مرتي واتجوّزتها زيهم بالظبط...مهره بقت بتاعتي!دي بروحها تطلع وتبعد...
مش بعد اللي عملته!هسيبها؟! مستحيل!"
قطّب الجد حاجبيه، ورجف قلبه ببعض السعادة الخفية...أسمر بيستميت علشان تبقى له، كأنه بيقاتل على جزء من روحه.
قال الجد بنبرة فيها خبث وسن السنين:
— "ماهو يا أسمر... وجد وشجن طيبين يا ولدي وبراء ونديم شكلهم رايد ...لكن مهره؟مهره شديدة... وواعره..."
صرخ أسمر من جوّه أعصابه:
— " هو إيه ما تبطل بقه اشمعنا أني هو إيه إللي براء ونديم ماني زيهم تجوزهم وتسيبني جاعد بعد دا كله وواعره وهم عليا.. بطل وإني أجدَر عليها!"
ضحكت هي بسخرية مريرة:
— "ده بقت مَسخرة!"
هتف الجد، وهو يختم كلامه كأنها صفقة:
— "خلاص... لو جدرت... تبقى لك حلالك...وتاخدوا نصيبكو."
قال أسمر بعنفوان ملهوف:
— "وإني موافِج."
نظرت إليهم بعدم تصديق، وقالت وهي تهز راسها بذهول:
— "ربنا يشفيك... دا حاجه ما تتصدقش.
تصدّقوا بالله؟المخلول ما يعملش كده!
ولا مؤاخذة يا جدي...لا والله! يقولك: (ما هتقدرش)... لأ، هقَدر!إنتو بتحدّفوني لبعض؟!هو أنا كيس جوافة؟!
(تلتفت لأسمر)
هيّا مين اللي تقدر عليها، يا حبيب جِدّك؟!
مفروووود أوي... وبتقول بتاعتك!" نظرت لجدها...
هو إحنا يا جدي مالناش قيمة عندك خالص؟ما نساويش؟(ضربت على صدرها بعنف، والدمع بيتلوي في عينيها)
ده... ده قلب يا جدي!ده مالوش تمن عندك؟بتكمل بيع للبهوات، وولاد عامر فوق البيعة كمان؟!كفاية بقى...تعبنا...مِتنا بسببكم يا أخي!مِتنا وإحنا عايشين!"
هتف الجد بصوت هادي لكنه متوتر:
— "خلاص يا مهرة... اهدِي يا بتي، هكلم أسمر ونفضوها، ما تنجهريش... إنتِ غالية عندي جوي واني رايدك تختاري براحتك جدع يهواه جلبك. ."
لكن أسمر ما سكتش... هاج عليه الدم وصرخ بصوته الهادر كالسيل:
— "انت بتجول إيه؟وجدع إيه وطين علي دماغي إنت بتجوز مرتي وأني واجف.. ماتبطل انت عايز تجلبني عفريت وخلاص ونفض إيه؟!أنا ما فاضّضش حاجة!دي مرتي!وهو كيف ما خد "وجد"...أنا هاخد مهرة...ويبقى حد يجدر يبعدها عني!
(ضرب كفه بكفه، ولف بجسده ناحية الجميع صارخًا)
— بجولكو أهوه... مهرة بقت لأسمر أبو الدهب...
اقتربت منه، ووقفت أمامه، لا يفصل بينهما سوى بُعد خادع صنعته المرارة.رجف قلبه رغم جبروته، رغم العناد الذي يحمله في صوته، ارتبك من قربها كأن الوجع اللي في عينيها خلّى الأرض تهتز تحت رجليه.
كان صوتها خافتًا، مثقلًا بالقهر، ونظرتها دامعة لكنها شامخة. رجف قلبه للحظة، كأن قربها زلزل شيئًا بداخله، شيءٌ لطالما أنكره.
قالت بصوت يحمل ما بين الرجاء والخذلان:
— "ليه؟ليه يا سيد الناس ما تفضّهاش؟
هاتلي سبب واحد يخلي اللي بتعمله ده يعدّي عليّا.سبب واحد يخليني أكمل!
إيه؟ بتحبني مثلا ؟عايزني.. نفسك أكون مراتك؟هات سبب مقنع، ولا هو كيد في أخويا وغل وخلاص؟ولا حب السيطره بتاعك؟!
أسمر أبو الدهب يقول كلمته وخلاص؟
وبنت عمه بنت الغزيه تتحط تحت الرجلين؟
مش كده مش ده اللي في دماغك؟أنا مرّة زي عشرة؟ لا تفرق ولا تِهِم؟ولا قلبي وكرامتي دول ولا ليهم تمن؟"
سكتت لحظة كأنها بتبلع وجعها، ثم ضحكت ضحكة باكية، وقالت:
— "هو انتو كلكو كده؟جبروت؟مافيش واحد في العيلة دي بيحس بلاش يحس بعيده شويه مافيش واحد يعرف ربنا ؟"
اقتربت أكثر، حتى باتت أنفاسها تختلط بأنفاسه، ونظرتها تغوص في عينيه كأنها تبحث عن شيء ضائع... تبحث عن لمحة من قلبها المدبوح، لعله ينعكس في حدقتيه.
تعلّقت عيناها بعينيه، كأنها ترجوه أن يلين، أن يفهم، أن يُنصت. ثم همست بصوت منكسر، لا يسمعه سواهما، كأنه رجع روحها:
— "سيب نفسك تحس... وتعرف إني ما بتاخدش غصب يا أسمر... خلي قلبك مره هو اللي يحكم، مش عقلك... مهره... مش ليك، ولا هتكون.اللي بينّا كتير، كتير أوي... هتقدر عليه إزاي؟"
كان كلامها سهامًا تُصيب صميمه، لكنه ظل واقفًا كالصنم، لا يرد، لا يهرب، لا يقترب.
وهي، رغم الوجع، كانت أقوى من الانكسار... لأنها عرفت أنها تستحق أن تُختار، لا أن تُؤخذ.
كان قلبه يصرخ رغم صمته، يحس بوجعها كأنّه وجعه، ينهشه من الداخل، يكسّره في صمتٍ لا يليق برجولته... لكنه ما عاد يقدر يكتم الغليان، فهدر بصوته الخشن، كأن كل الدنيا تسمعه:
— "إنتي مرتي!.. وماحدش هيبعدك عني!.. وهجدر!.. وإنتِ عارفة إني أجدر."
رفعت حاجبيها بسخرية، ومطّت شفتيها في ابتسامة مرّة، ثم هزّت رأسها بيأس كأنها تودّع ما تبقّى من الأمل فيه:
— "مشكلتك كِبرك... والكبر مالوش وليف يا بن عمي. مدت يدها لقلبه.. هنا متربع كبر مالوش وصف.. احضنه وحبه لان مهره مش ماحدش يقدر يبعدها... مهره بعيده بالفعل."
استدارت لتبتعد، لكنّه اندفع نحوها يشدها من ذراعها بعنف، يكاد الألم يقطر من قبضته، وهتف بجنونٍ يمتزج بالخوف:
— "اعجلي!.. إنتي بتاعتي!.. فاهمه بتاعتي يا مهره ؟!"
لكنها لم تعد تهتز من صوته، ولا من قبضته... كانت قد تجاوزت النقطة التي يُخيفها فيها التملك، لأنها صارت تدرك... أن من يحب لا يُجبر، ومن يُجبر لا يحب.
شدّت يدها من قبضته بعنف، نظرت له بعيون زائغة من الألم، وهمست بسخريةٍ مرتعشة:
— "بتاعتك؟!.. بأمارة العُرفي اللي خدتني بيه سرقة؟!.. ببلاش؟!.. مهره اتاخدت بالرخيص يا أسمر، من غير كلمة، من غير كرامة."صفحة حكايات ميفو السلطان
ثم استدارت عنه، بخطواتٍ مثقلة بالوجع، وكأنها تُسدل الستار على آخر مشهد بينهما.
لكنّه، في لحظة رعونةٍ، صرخ خلفها بعنادِ رجلٍ لا يرى إلا كبرياءه:
— "لو عايزين مهر!.. أديك مهرها يا نديم!.. كيف ما كتبت لوجد، أكتبلها!.. إني ما يهمنيش!"
توقّفت.كأن صوته طعنها في قلبها مباشرة.
وقفتها طالت.ظهرها ما زال له، لكنه أحس باهتزاز جسدها... شعر بنبض الألم يضرب في ضلوعه بدلًا عنها.
بدأت يد الندم تخنقه قبل أن تنطق.أدرك – ولو متأخّرًا – أن ما قاله فتك بما تبقّى منها.
أدرك أن تهوّره… كان أثقل من أن يُغتفر.
استدارت له، وعيونها تنزف من وجعٍ ما عاد يُحتمل، نظرت إليه طويلًا، كأنها تُقلب بين قسماته جرحًا قديمًا ما اندمل… ثم ابتسمت، لا فرحًا، بل بسخريةٍ تقطر مرارة، وقالت بصوتٍ مخنوق:
— "هتدفع كام؟ قولي عشان أعرف… تمني كام عندك يا بن عمي؟ يا سيد الناس؟! قول… هتاخد عتب الناس بكام؟ بنت الغزيه تسوى كام؟! قول فرحني… فرّح مهره، يمكن تنسى طعناتكو."
صمتت لحظة ثم أكملت، ونبرتها تهتز كوترٍ مشدود:
— "تاااااني بتكمل تقطيع؟… لهو إنت فاكر إن النديم زي جابر؟ يبيع كرامته وشرفه بالفلوس؟! نديم آخر حاجة بيبصلها الفلوس، عشان شبعان… شبعان شرف…"
وأشارت بيديها المرتجفتين:
— "أخويا مش جابر يا أسمر بيه، ترميله قرشين وتشتري أخته! لاااا… اخت النديم من قيمته… وقيمة النديم ما تتقدرش بكنوز الكون."
شهقت… وتابعت بصوت بدأ يخفت، لكن حدّته كانت كالسكاكين:
— "إمتى هتفهموا إنكو بفلسكو… عندنا ما تسووش؟ إمتى؟"
ثم استدارت.
وفي اللحظة اللي لفّت فيها، اقترب منها أخوها، وفتح ذراعيه، فاندفعت إليه.
احتضنته بقوة، كأنها كانت ضائعة ولقَت حضنها أخيرًا… لأول مرة "مهره" تبان ضعيفة، لأول مرة تكلبش فيه، مش خوف… لكن احتياج.
إحساسها إن ضهرها كان مكشوف… بزياده.
ولما حضنها نديم… فهمت إن الوجع بيتقسم.وإن فيه ضهر… بييجي بعد الغدر يشيل ويسند. ودايما ضهر النديم شيال.
هدر نديم بصوت رجّ الأرض تحتهم، وصدره مرفوع كأنه جبل من العِزة:
— "مهر أختي؟! رضاها يا أسمر باشا… لو تجدر عليه. المهره عاليه، مالهاش تمن…وسعرها ما يتحطّش ف ورجه، ولا يتوزن بميزان تجّار. المهره تتقدر، بس مش بفلوس. المهره تتقدر برجالة تعرف تمشي الضهر مرفوع، وتكمل عِشرة بكرامة. بحاجات مابتتبعش ولا بتتشرا… بحاجات تتغرس جوا الجلوب مش الجيوب."
رمقهم بنظرة فيها من الهيبة ما يُسكِت الصدى:
— "المهره مش أي واحدة… المهره صحيح بنت وجع، بس وجعها ما وطّاش راسها. المهره نار، بس نارها شريفة، ما تحرجش إلا اللي يستاهل. وانتو لو فاكرين إنها تنشرا زي حته دهب… يبقى أنتوا أغنى بفلوسكم، وأفقر الناس باللي جواكم."
اقترب خُطوه، وعينه نار ساكنة، بس فيها شرار بيعاتب ويجلد:
— "إنت فاكرها سلعة؟! فاكر إنك لما تكتب وتمد ورجه تبقى خدت المهره؟! لا والله… إنت ماتعرفهاش، ولا تستاهل حتى تحلف بإسمها. المهره ماتتخدش غصب، ولا بتتباع زي ترابيزة في جهوة ،
نظر إلى الجميع، وخصوصًا الجد، ثم عاد بعينه على أسمر:
— "هو انت فاكر النديم زي جابر؟! ده باع بنته في لحظه، وانت فاكرنا هنمشي على خُطاه؟! النديم عمره ما باع، ولا خضع، ولا شال عيبه بالفلوس… أخوها شبعان كرامة، وهي كرامتها في عينه تاج. إنت ما فهمتش المهره… المهره لو وجعت، بتسكت، بس ما بتهونش، ولو اتكسرت، بتلمّ روحها وتجوم، بس ما بترجعش للي وجعها."
اقترب أكتر، وصوته عليّه نبرة غضب ساكنة، راكزة ومليانه كبرياء:
الجدع اللي يكسب طلبها، يكسبها برضاها، مش بالعافيه ولا بالعرفي…"
ثم أكمل وهو بيشد على كل كلمه وكأنها طلقات:
— "المهره أختي… والمهر بتاعها شرف، والشرف عندنا ما بيتساومش. إنتو بتبيعوا وتشروا، وإحنا نتحامى في ربنا ونجوله استر علينا… المهره ما تنقاسش… تتشال في العيون، مش تتحط على ميزان فلوس."
وسكت لحظة، وبص في عيون أسمر نظرة قاسية وعميقة وقال:
— "حاسب لنفسك يا أسمر… اللي بيجسى على المهره، بتجسي عليه زي، الجبال
وصوته واطي لكن نبرته تقطع القلب:
— بتجول زي ما دفعت لوجد "رغم إن جابر باع بنته… ورماها ولف وشه للمال، رغم إن جدها سكت، وخلى الظلم يعدي كإنه ما شافش ولا حس… بس أنا ما هسكتش. مش عشان اني رفضت مهره تنشري ابقي اشتريت وجد.. لاه يمين اتحاسب عليه لو بعت روحي ما هوفيها مرتي مش ورجه في يد جابر،
ثم نظر لأسمر، عينه زي الجمر:
— "مرتي؟! آه… مرتي مش فلوس لجابر لاه دا عيبه في حجها..أنا مادفعتش مهر لجابر لأن جابر مايعرفش جيمه مرتي. وجد مهرها دفعته من سنين وجع وسهر وخوف ورميته تحت رجلها مين يصدج ان النديم يناسب جابر مين.. بس مهر وجد النديم رمي جهرته من أبوها تحت رجلها.جلده ليا نسيته عشانها موت امي وابويا كل الحزن اللي عشناه حطيته علي جنب وجيت أخدها اطلبها إني لو عويل كت كتبت عرفي وجيت اتبجح واجول بس وجد كتب كتابها بورجه تتحط في عين التخين.. آه خمسين مليون تحت رجلها تراب بس اني كتبتهم عشان ده مش هيدهالي بغير اكده انما إللي في ضميري يعلم ربنا لا شرا ولا بيع هو حد بيشتري ملاك من ربه.
سكت لحظة، كأن قلبه بيصرخ قبل لسانه:
وأنهى كلامه بنبرة حاسمة، فيها نُطق الرجولة كلها:
— "حتى لو أبوها نساها، حتى لو جدها باعها، أنا مش هفرّط فيها… مش علشانها بس، علشان نفسي. علشان الراجل اللي جوايا لسه شايف إنها أغلى من الدنيا كلها، وكرامتها فوج أي اسم وأي عيلة…وجد عندي زي المهره ما تتاخدش اكده ، تتخطب من السما لأن مرتي كمان بالسما ."
افهم يا اسمر وفوج لروحك... المهره و النديم مش اي حد....
ما إن أنهى نديم كلماته، وقد سكنت الأرض تحت وقعها، حتى انطلقت شرارة الغل من صدر جابر، فاغتاظ وصرخ بصوتٍ تخطّى المعقول، كأن قلبه التوى من الضربات التي لا تحتملها روحه:
— "انتو تطولو! تبقي للاسمر يا بنت عامر؟! ! انتو طلعتو شر زي أبوكم ... أعوذ بالله منكم ومن وشّكم!"
كانت كلماته كالسياط، لكنه لم يكن يدرك أنه يجلد نفسه قبل أن يجلد غيره. نظراته المرتبكة تفضح ضعفه، وكأنه يقاتل شبح ضميره لا نديم ولا مهره.وقف أمامهم، لا كأب، بل كتاجر خسر صفقته،
تجمّدت "مهره" في مكانها، كأن وجعها انغرس في الأرض وسمر قدميها، وعينيها ما عادتا تحتملان مزيدًا من الطعنات. لكن "أسمر" رأى ما لا يُرى، وجعها وهي بتنزف بصمت، وجع خلّى عروق قلبه تنتفض.
صرخ من جوفه، كأن الدم غلى في شرايينه، واندفع دون تردّد واقفًا أمام جابر، عينيه نار، وصوته برق:
— "ما تسكت بقه! انت عايز تخرجنا عن شعورنا؟ جرى إيه؟ ماترحم حرمة الميت، يا أخي هيا طبله؟إنت إيه بطل هو غل جلبك ده ماهتبطلو ماتسيبنا في الحزن إللي كيلته علينا... ولا جلبك بقى حجر؟! هو مافيش دم في عروجك؟! كفاية وجع... كفاية."
ودفع يده بقسوة كأنّه بيبعد عار السنين، وقال بصوت هزّ المكان:
— "مرتي بعد اكده... خط أحمر! مره ورا مره هجولها، ولو بصيتلها بطرفك، هنسى انت مين،
اقترب خطوة، نبرته تقطر نذرًا:
— "ما تعاديش أسمر... انت عارف عداوته شكلها كيف، اللي يعادي أسمر يحفر لنفسه تربة أكرمله. ومرتي... مرتي تطول وتطول، الأعلى والأغلى،
ثم نظر لمهره، عينيه لامعة:
مرتي تاج فوج الراس، ولو نزلت دمعة منها تاني... والله ما تجوم لك جايمة بعدها."
دخل الكلام قلب المهره، هزّه لبعض الوقت، رجف له وجدانها كأنَّه أزاح عنها جزءًا من الحمل، لكنها ما لبثت أن نفضت ذلك الوجع واستعادت قوتها... فقد طفح الكيل، وآن أوان النهوض من تحت رماد القهر.
تركت يد أخيها، وقد أحسّت بوخز في روحها لا في كفّها، كأن شيئًا ينزع عنها ثوب الطفولة للأبد... خطت نحو جدها بخطى واثقة وإن كانت مجروحة، نظرت في عينيه، والدمع محبوس في مقلتيها والوجع ساكن في صوتها:
— "هوه يا جدي... الراجل ده ماسك عليك حاجه؟ ما تقول، ولا ممضّيك على ورقه؟ عرفنا نقف معاك، والله نجبلك حقك منه، إحنا بنعرف نجيب الحقوق... ساكت ليه؟ ساكت ليه على أذيّة الميت؟ هو جابر هيكمل تشريح في هيبتك لأمتى؟"
كانت تقف أمامه، وكأن كل سنوات القهر والتجاهل قد اجتمعت في صوتها، وقرر قلبها أن ينفجر دفعة واحدة. كانت امرأة من نار وحق مسلوب، والآن قررت أن تُحاسب الجميع، حتى جدّها الذي طالما صمت بلا سبب
اقتربت من الجد، وصوتها مليء بالوجع الذي لم يهدأ يومًا، وقالت بعينين دامعتين وصوتٍ مُتحشرج:
— "عيلتك بقت هيبتها في الأرض يا جدي، وإنت ساكت؟ ليه؟! سايبهم يقطعوا فينا وانت بتتفرج؟ سايب جابر يرمي الكلام على أبويا اللي مات ومالهوش لسان يرد؟! ليه؟"
تجمدت نظرات الجد، كأن الكلمات اخترقت قلبه، لكنّها لم تتوقف، بل زاد لهيبها:
— "عامر؟! … عامر بتقولو عليه شر؟ ده كان أكتر واحد طيب فيكو… كان بيقول سامحو يا ولاد جدكجدكو... ، جدكم مش وحش، بس لو كان عايش وشافك ساكت كده؟ كان انقهر… كان مات مرتين مش مره، بالحسره."
شهقت دموعها، وتابعت، تُخرج ما خُزن لسنوات:
— "كان بيقولي كل يوم قبل ما ينام: يا ريتني رجعت… يا ريتني حضنته… يا ريتني قلتله ماسرقتش… وكان بيشد على إيدي ويقولي: جدك يا مهره، جدك ده جوا قلبي، بس ماتمشيش ورا أخوكي، ماتكرهيهوش…"
رفعت وجهها إليه، نظراتها ترجوه وتعاتبه وتُدين صمته:
— "قبل ما يموت بيوم، قاللي: كلمي أبوي، قوليله خدني ادفني وسط أهلي، في داري، نفسي يقف في عزاي… نفسي يسمعني، كلمتك؟ آه، والله كلمتك…
سقطت دمعة من عين الجد، وتبعها تنهيدة مخنوقة، لكن المهره لم تنتهي بعد.
كانت واقفة قدّامه، دموعها ماعدتش دموع بس، دي كانت كلمات مبحوحة من وجع قديم، من خذلان متوارث، من موت ما اندفنش كويس، من وجع أبوها اللي اتكفن بالقهر، مش بالكفن.
نظرت إليه بنظرة ما بين العتاب والحسرة، ثم رفعت عينيها وقالت:
— "مسكت التليفون… بس نديم رفض! بس عارف؟ كان عنده حق… تيجي فين؟ وليه؟ وهو مايسواش عندك… اهو أكرامه يندفن في تربة نضيفه وسيرته تتنسى بدل ما تتنهش في عزاه."
سكتت لحظة، صوتها اتكسَر شوية، بس كمّلت:
— "كنت هتيجي تعمل إيه يا جدي؟ ابنك يقف في العزا يقول: جوز الغزية مات… الحرامي مات… وكنت هتسكت؟ هتبلعها زي ما بلعت كل اللي قبلها؟"
رمشت بعينيها تحاول تمنع دموعها، لكن الدمع سبقها، وقالت بصوت نازل من صدر موجوع:
— "الميت يا جدي متكفِّن بالقهر… وانت اللي كفّنت أبويا بسكوتك… وإنتو كلكو سايبين جابر يشرح في هيبته وكرامته... هو مات، بس لسه بيتقطع في كل كلمه سايبينها تتقال وساكتين."
ثم أغمضت عينيها لحظة، كأنها توَدّع ألمًا أو تستجمع بقايا عزّة، وفتحتهم بكبرياء مؤلم، تنتظر كلمة… موقف… أي شيء يعيد للميت حقه، أو على الأقل يعيد لأصحابه كرامتهم.
اقتربت المهره من جدها بخطى ثابتة رغم الرجفة اللي كانت ساكنة في أوصالها… كأن في نار بتشتعل جواها، بس نار حزينة، مش غاضبة.
أخرجت من جيبها ورقة قديمة، مطوية بعناية كأنها جوهرة، ورغم أن أطرافها كانت مهترئة، لكن ملمسها كان بيحكي إنها اتشالت سنين بحب وخوف.
مدّت الورقة بإيدها المرتعشة، وصوتها كان بينه وبين الانكسار خطوة:
— "الورقه دي ليك... كتبها وهو لسه بيحاول يعيش بينا، وكان بيخبيها من نديم... كان بيخاف يقطعها من غِلّه فيكو... من كتر اللي اتعمل فيه."
سكتت لحظة، وعينيها نزلت على الورقة كأنها بتقرأ الوجع اللي عمره ما اتقال، وكأن كل حرف فيها بينزف بدال الحبر دم.
— "اسمع ابنك يا جدي... اسمع عامر، اسمع قلبه اللي ما طلعش منه غير وجع... اسمع عامر الشر... اللي سميتوه شر... شوف قلبه عملتو فيه إيه..."
رفعت الورقة عند صدرها، قربت من جدها أكتر، وهمست وهي بتفتحها:
— "اسمع يا جدي... اسمع الراجل اللي مات ووجعه لسه حي.باعتلك الف سلام من تربته "
"أنا عامر يا أبوي...
ابنك الغلبان، اللي كان نفسه يوم يمسح تراب رجليك، ويفرحك ولو بكلمة.عامر اللي خرج من داره مطرود، متهم، مذلول، عامر اللي اتحرجت يد بته وهو واجف عاجز، واتكربج ابنه ومجدرش يحوش عنه الجهر.
ما كنتش راجل في عينكم...بس الحجيجة؟
أنا كت غلبان... وانتو اللي عملتوني غلبان.
أنا عامر اللي طول عمره يسمع: "ابن زينب"، مش "ابن عمران".اتفجّوا عليا كأني غريب، كأني مش من صلبك، كأني عار.
خرجت من داري، شايل على ضهري عار مش عاري. تهمة انت عارف إنها كدب...
عارف إني ما عملتهاش...عارف إن يدّي ما تمتدتش للحرام...عارف إن ابنك اللي حفظ كتاب ربنا، ما يسرجش، ما يخونش، ما يبيعش ضميره. "
كنت بتمنى أرجع لحضنك وأجولك سامحتك... بس وجعي كان مكلبشني يا أبوي،سنين عدت وأنا شايل في جلبي ضلوع محروجة...شفت عيالي يتربّوا على الغِلّ قبل الحزن، يتعلموا ياكلوا وجعهم وإنت كنت بعيد... بعيد للدرجة اللي خلت اسمي ما يتجالش في داري.
بس خلاص... رُحت واندسّيت في التراب،
مافيش رجعة...كان نفسي تاخد عزايا يا أبوي...كان نفسي أحس إنّي ابنك، مش مجرد اسم مكتوب في دفتر العيلة...ابن عمران مش ابن زينب. ومع كل ده، كنت أحنّ عيالك، مازعلتش منك،كنت عارف إن جلبك مش جادر عليهم،وكنت بجول دايمًا... ربك خلجك اكده يا أبوي،وهو اللي بيدي، وأنا ما اعترضش.كنت اجعد اجول يابا يابا يابا كيف المجذوب ادوج الكلمه اللي اتحرمت مها.. مالكلمه وحشتني وماليش حد اجولهاله "**
بس طالما الرسالة وصلت،يبقى أنا دلوك تحت التراب، وخلصت جصتي يا أبوي...
بس اعرف، إني مسامح.والله مسامح، و جلبي راضٍ... وهموت وجلبي راضٍ.وبطلب رحمتك، مش بالعتاب،بطلبها في دعوة فجرية، تسبق نور الشمس وتغسل ترابي.
افتكر ولدك اللي كان بيحبك،ولدك اللي اتظلم، وسكت،ولدك اللي كل ما انكسر، جال يمكن بكرا أبوي يفتكرني.بس خلاص... بكرا مشي، وأني مشيت معاه.
سامحتك في سكوتك،في انكسار عيالي،
في ولدي اللي عاش مغلول،وفي بتي اللي انولدت عبدة لأخوها، وماعاشت ولا شافت فرح .
سامحتك في موت أم عيالي من الحوجة والمرض وإنت عندك تلال فلوس،في جلة الحيلة اللي كتمت نفسي،في وحدتي، في ظهري اللي ما سندتوش ولا مرة،وفي ذلي وأنا راجل مالوش حد.
سامحتك في كل حاجة،بشهد رب العالمين، يا رب... أني سامحته،ماتاخدش حجك منه يا رب...أنا ولده، ،ويشهد عليا كتابك اللي حاطه في جلبي وحافظه أعرف إني سامحتك في ظلمك،سامحتك عشان لما نتجابل في دار الحج،ما تكونش شايل على كتفك جبل الذنوب اللي حمّلتني إياه.
سامحتك...وبطلب من ربنا يسامحك."
بس عارف...عارف إن طلبي مات من سنين،
،وجعي الجيجي إني معرفتش أخلي ولادي يسامحوا.
اللي اتجلد جواه كل يوم،أجول له بعين مين يسامح؟اللي اتربّى وهو سامع "أبوك حرامي" و"أمك غزيّة"،أجول له يسامح إزّاي؟
اللي معرفش حضن جد،ولا حس بظهر العيلة...أجولها بانهي وش. جهرتي اني سامحتك أني،بس هما معرفتش أخليهم يشيلوا عن جلوبهم...معرفتش أزرع فيهم سلام وكل اللي طلع جواهم شوك.
عارف يا بابا...
وجعي كبير، وجلبي موجوع ان عيالي اللي بيكرهوك و أني بحبك... أني ماكرهتكش، والله ماكرهتك،ولا مرة نمت وأنا بدعي عليك ِكنت دايمًا بجبلك ألف عذر،
جلبي كان دايمًا معاك، بجولك... أنا راضي ومسامحك،مش علشانك بس، لكن كمان عشان ربنا.مش عايز أكون خصيم ليك.
أني، يابا عامر عمران أبو الدهب، اللي اطُردت من دارك زي الكلب،لساته بيحبك، وسامحتك،
علشان جلبي ما جدرش يتحمّل الكره. كره الكون إللي حطيتو عليا وأني اغلب من الغلب. "**
عمّ الصمت المهيب المكان، كأن الزمن تجمّد لحظة واحدة، وكأن الكلمات تحولت لسكاكين تخترق القلوب الواهنة. بين هذا السكون الثقيل، كان هناك نبض خافت، ينمو ويتضخم في صدور الحضور، ألمه لا يُمكن كتمانه، ووجعه يتسلل إلى أعماق النفوس.
ذلك الجد، الذي تاه بين ظلمة أولاده وخذلان الزمن، وقف وحيدًا كجبل يهتز من عاصفة قاسية، ينحبس أنينه بين أسوار كبريائه المكسور، ودموعه الحائرة تنزف بصمت. كل كلمة صدرت كانت كبصمة نار على الروح،
القلوب، رغم شدّة الجراح، لم تستطع إلا أن تستجيب لذلك النداء المكسور، صوت الحياة الذي يصرخ من تحت ركام الخذلان، يدعو إلى عدل ومصالحة، لكنه في الوقت نفسه يغوص في مرارة الغياب، حيث غابت الأحلام، وضاعت بين الطرقات المظلمة.
وسط صمت القلوب الحارقة، ارتفع صوت عامر ، كأنه شبح لا يموت، يطل برأسه بين الأطلال ليكشف عورات من ظنّوا أن جثته دفنت مع صمتهم.
كان عامر، رغم موته، ينبض بالحقيقة التي لا تقبل المساومة، يعري كل خيانة، كل كلمة
مسكوت عنها، كل ظلم تغاضوا عنه. صرخ في وجدانهم بصوت أعمق من الموت نفسه:
"أنا هنا، ما متّ حقًا.. لأنّ الجروح التي تركتموها في قلبي ما زالت تنزف، والخيانات التي اقترفتموها لم تُدفن مع جسدي. أنا عامر، ابن الغربة والقهر، ابن الألم والصمت، الذي طالما حاول أن يُسامح ويرضى، لكنكم تركتموني وحيدًا في ظلمة الخذلان."
تزلزلت القلوب وهمست الأرواح، فصوت عامر صار نداءً لكل من خان، لكل من سكت، لكل من تواطأ في جريمة الحياة التي صنعوها بأيديهم.
في حضور هذا الصوت الذي لا يهدأ، لم يعد هناك مكانٌ للخداع، ولا مهربٌ من الحقيقة التي كشفتها رماد الألم، فعامر حيٌ في صدق الكلمات، لا يموت إلا حين يختفي العدل وينطفئ ضوء الضمائر.
رفعت عيونها الدامعة صوبه، واقتربت منه بخطىٍ متثاقلة تحمل ثقل الحزن والدموع. همست بصوتٍ مكسور لكنه يحمل قوة الألم:
— "سمعت يا جدي... أبويا مات وهو مسامحك، مات ونفسه يرجعلك تقول له: ظلمتك."
تقدمت خطوة أخرى، ونظرت إليه بعينين ملؤهما الألم، وقالت بمرارة:
— "هو مات... بس إحنا لسه عايشين يا جدي... ولسه مستنين الكلمة اللي ما اتقالتش. قولها يا جدي، رد لابنك حقه في تربته قبل ما تتقابلو يوم الحق."
وضعت الورقة برفقٍ بالقرب منه، وكان الجد قد انهار تحت ثقل الدموع، التي سالت كالسيل، وكأنها تروي قصة الألم كله، وكأنها تعبّر عن ندمٍ عميق يحفر في القلب بلا رحمة.
قالت بوجعٍ ينهش الروح:
— "اللي اتظلم ما رجعش ياخد حقه، بس أولاده رجعوا يا جدي... يا اللي ابنك واقف يقول بتحاسبونا، وواقف تكمل وجع وتقسم فلوسك وعيالك على بعض."
انهار عمران، قبض على الرسالة بكل ما تبقى له من قوة، واحتضنها بحنانٍ مكسور، علت نشيجه الممزوجة بالحسرة... فقد طعنه ابنه من أعمق أواصر طيبته وقلبه الأبيض، وبدا كما لو أن كل شيء فيه انكسر.
كان يعاني وجعًا داخليًا عميقًا، ألمٌ ينبع من أعماق روحه، كأنَّ روحه منقسمة إلى أشلاء متفرقة لا تجمعها سوى الوحدة والندم. كان يشعر بأن قلبه محطم، وذكريات صمته ، وخسارة الثقة، قد تركت فيه جرحًا لا يندمل، وكأن روحه تبكي بصمت في زوايا القلب، محاصرةً. في عيني الجد كان بريقٌ من الندم الصادق، وبصيصٌ صغير من الأمل أن يصلح ما انكسر، ولو بعد حين. انهار الجد واحتضن رساله إبنه كرفات ينوح عليه من ظلمه.
اقترب اخوه عمران ياخذون النديم جانبا يهدئون الموقف وعطونهم فرصه للتنفس.
في تلك اللحظه خرجت مهره من القاعة، وقفت بجانب احد العمدٍان وحيدة، محنية كالفرس المرهق، كأنّها فقدت القدرة على مدّ جسدها المكلوم. وضعت يدها على قلبها، تحاول استجماع أنفاسها وسط عاصفة مشاعرٍ لا تهدأ في صدرها.
خرج أسمر خلفها، رآها تسند الحائط، ودمعة واحدة تسللت من عينيها. وقف يتاملها لوهله وقلبه يصرخ يريد أن بيحاوطها بضلوعه اقترب بهدوء، وأخرج من جيبه منديلًا، قبض على يدها وناولها إياه. التقت عيناها بعينيه، ارتجفت، ففي تلك النظرة كان هناك بحرٌ من الحنان والتفهّم.
مدّت يدها لتأخذ المنديل، لكنها تراجعت، قطب جبينه قالت بنبره مرتجفه حاده:
— "أنا بعرف أمسح دموعي يا بن عمي، مش محتاجة حد ."
مسحت دموعها بيدها بقسوه، واستدارت تبتعد، لكنّه شدّها بعنف، احتضنها بقوة. كان يعلم أنّها على وشك الانفجار، وأنّ كبتها قد صار ثقيلاً جداً. حاولت المقاومة، مدّت يدها بعنف لتبعده، لكنه ركنها إلى الحائط وضمّها أكثر.
أغمضت عينيها، تحاول أن تصمد، لا تريد أن تنهار بين ذراعيه.. شدد عليها هامسا... اني جنبك والله جنبك ماهسيبك.
بعد لحظة هدأت، تنهد وضع راسه في تجويف شعرها هامسا.. اسمر موجود وهيفضل موجود وعارف إني موجود جواكي... كانت هادئه تتنفس وفقط.. تنهد ولانت ذراعيه... وعلي الفور نزعت يده من فوقها، فدفعتُه بعيدًا وابتعدت مسرعه دون أن تنظر اليه هربا من نفسها اولا ، تاركةً خلفها غصةً خنقته، إذ كانت ترفض أي لمسة قرب منه رغم حاجتها العميقة لها.
عادت مهره بخطى متثاقلة نحو أخيها، الذي وقف هناك، وعيناه تعكسان ألم الكلام الذي سمعه لتوه.
قالت له بنبرة حزينة ومليئة بالقلق:
— "هتعمل إيه يا نديم؟ عملت كل ده عشان تاخد حقك... وخدته، وخلاص. كفاية كده. اللي جاي هيبقى كسر لنا كلنا."
تنهدت بمرارة وأضافت:
— "هتوافق ولا هتسيب البت الغلبانة؟ أنا متأكدة إنها مش هتوافق يا نديم... وجد اتعمل فيها كتير. أبوها باعها صحيح، بس ما أعتقدش إنها هترضي تجيب منك عيال."
أخذت نفسًا عميقًا ثم أكملت بحزم:
— "يبقى الحل إنك تاخد اختك ونمشي... وكفاية وجع كده."
همس نديم بحزم:
— "لا يا مهره، أنا عايز مراتي. عملت كل ده بس عشان وجد تكون مراتي. عارف إنها مش هتوافق، بس أنا هخليها توافق. خلاص هاخدها وهمشي. مش هتعيش هنا، طول عمرها مش عايزه تعيش معاهم."
سمع كلامهم جابر، فقال:
— "واني موافج! تاخد بتي وتعيش معاك وتجيبو عيال؟ ومافيش حاجة اسمها ما هتوافجش! إني أجتلها، اللي تعصي أبوها تتجتل! وترجعلي حاجتنا وفلوسنا، وتاخدها وتتكل! أكده، الجصة خلصت واتجفلت! وترجعلنا فلوسنا، والبت حلال عليك."
سكنت القاعة فجأة...ما بقاش في صوت، حتى الجد نفسه ما بقاش ينهج من العياط...
كأن الوقت اتجمد.
عيون الكل اتجمعت على نديم، كان واقف، ساكت، لكنه مش ثابت..نفسه مضطرب، صدره بيطلع وينزل كأنه بيصارع ريح جايه من جوه قلبه.
أسمر رجع خطوة، كأنه حاس بخطر بيقرب… ، لأ…خطر رد فعل مش متوقع، خطر واحدة لسه ماقالتش كلمتها.
مهره همست برهبه – "وجد ؟"
الهمسة دي خرجت من بين شفايفها، لكنها اتزرعت في قلب نديم مثل سهم ناري.
الجد رفع وشه ببطء، حس بحاجة، كأن الأرض بتتحرك من تحته…
وفجأة...
سمع صوت خطوات بتهبط بهدوء من على السُلّم...خطوات مش ثقيلة، لكن كل درجة بتنزلها كانت كأنها بتكسر في عظامهم.
كل العيون اتلفت، وكل الأنفاس اتحبست…
، نديم فتح عنيه على وسعها، جابر وقف، ووجهه اتقلب …
مهره شهقت بصوت واطي…
– "يا وجع القلب…"
ظهر أول طرف من طرحتها السودة، نازل على كتفها بنعومة صعيدية تخض.
نزلت…
زي ما تكون نزلة من جبل مش من سُلّم…
نزلت بتقل الزمن اللي فات، وشجن السنين اللي ضاعت، وجلال العِشرة اللي اندبحت.
كانت "وجد"...بس مش هي... دي حاجة تانية…
رفع "نديم" وجهه ببطء، وابتلع ريقه كأن جمرة علقت في حنجرته... الرهبة كانت أضخم من أن تُخفى.
هناك، على السلم، كانت "وجد" تنزل بخطى ساكنة، كأنها خارجة من بطون أساطير الانتقام، تجرُّ خلفها صمتًا أبلغ من كل صراخ.
ترتدي جلبابًا صعيديًا يكسوها بوقارٍ أشبه بالمهابة، طرحة سوداء تحكم رأسها، تحيط بها وقاراً وعظمةوالكحل الصعيدي يحيط بعينيها كسيوفٍ حزينة، وعلى ذقنها تدق خُطّ الوشم الصعيدي كختمِ انتماءٍ لا يُنكَر.في عنقها كردانٌ من ذهب، يلمع ببقايا مجدٍ سُرِق منها.
كانت تتهادى، وكل خطوةٍ منها تدقّ طعنة في صدر من سبق وطعنها، طعنات في قلوب من الأساس طعنت حتي النخاع.
لكنها اليوم... لا تنزف.بل تقف.
وما أقسى وقفة الأنثى حين تقرر أنها "لن تنكسر بعد اليوم."وفي الصمت... كان السؤال يُجلدهم: . يلفح القلوب كسوط:
هل آن لهم أن يفهموا... أن أقسى الانتقامات لا تُقال، بل تُؤدى بصمت؟ إنها قد تأتي من امرأةٍ لم ترفع صوتها يومًا، لكنها وقفت وقالت: "كفى"؟أن الوجع حين يُسكت طويلاً، لا يُولد هدنة... بل يَصنع بركان من الغضب.
سكت الكلام وسكت الحكايه ومن قلب الحكايه تعالتأسئلة كثيرة باتت تعوي في قلوب الجميع، تنتظر إجابات لا من العقول، بل من الضمائر:
حب الاسمر واضح كالشمس للمهره ولكن هل يُدرك "أسمر" يومًا... أن الحب لا يُنتزع؟
وأن قلب "المهرة" ليس ساحة حربٍ ولا غنيمة يُعلن امتلاكها؟وأن الرجولة ليست في الكسر، بل في الحِلم، واللين، والرضا؟ وهل سيفهم مقوله النديم حب المهره رضاها هل سيدرك ذلك آم سيستمر في كبره.
ومتى يستريح قلب "المهرة"؟قلبها الذي ذاق الغربة ، والخذلان من دمها؟هل سيُشفى؟وهذا السؤال يعود ويوجه أيضا للأسمر. هل يدرك "أسمر" أن مفتاحه لا يُفتح بالقوة، بل بالصدق
هل ستغفر "شجن" لذلك الـ"براء"، الذي طعنها بغبائه، ثم صرخ باسمها من قلبه العاشق؟وهل سيكفي الحب وحده لجبْر ما انكسر؟ وهو الوحيد في تلك الحكايه الذي يعترف بحبه ويصرخ به ولا يهتم لاحد
ثم ماذا عن "الجدّ"؟هل سيستفيق من صمته؟ويفهم أخيرًا أن الهيبة لا تكون بشراء القلوب، بل بحمايتها؟وأن العائلة التي تُباع، لا تُورث؟ وإنه عمود العيله لآبد إن يكون أهلا لها.
وأما "وجد"...
فهل ستختار طعنةً أخيرة، تغرسها في قلب "نديم" المكسور، القلب الذي لم يبقَ فيه موضعٌ إلا وسكنته خيبة؟
هو يستحق، ربما...لكن أيّ خنجرٍ هذا الذي يخرج من يد الحبيبة؟الخنجر الذي لا يُميت فقط، بل يُحيي العذاب إلى الأبد.
نعم، "وجد" لا تستحق الألم ،
لكن صدقا نتساءل من القلب
هل استحق "النديم"...كل هذا ؟
ربما،
لكن الزمن وحده... هو من سيحكم.
وما بين الكبرياء والحب، الكرامة والخذلان، الرحيل والبقاء...
لا تزال الحكاية مفتوحة،
والقلب، للأسف... ما زال ينزف.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقى الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا