القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية لإجلها الفصل السابع وعشرون 27( الجزء الاول)بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات


رواية لإجلها الفصل السابع  وعشرون 27( الجزء الاول)بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات 





 

رواية لإجلها الفصل السابع  وعشرون 27( الجزء الاول)بقلم أمل نصر حصريه في مدونة قصر الروايات 


الفصل السابع والعشرون ج١ 


أُجاهد قلبي كلّما رآك قريبا،

كأنّ بيني وبينك ألف بابٍ موصد…

وأنا التي أمسكتُ بالمفتاح ثم نسيته عمداً.


لا تسألني لِمَ أهرب،

فأنا لا أخافك، بل أخاف منّي حين أطمئنّ إليك…

من ضعفي إن صدّقتك، من دموعي إن جرحتني،

ومن قلبي إن عاندني واختارك.


تظنّ أنّي أقسى مما ينبغي،

وأنا فقط… أحاول أن أُبقي ما تبقّى منّي واقفًا.

أخشى أن أميل إليك… فأقع.


فلا تُناديني من بين نظراتك،

ولا تُعاقبني على حروبي التي لا تراها،

أنا التي تُقاتل نفسها كلّ يوم، كي لا تُحبّك أكثر.


المراجعة والخاطرة العظمة للرائعة/ سنا الفردوس


الفصل السابع والعشرون ج١


أغلق الكراسة التي كان يُصحح بها، ليرفع رأسه إلى زوجته متطلعًا إليها بعدم استيعاب، سائلاً عمّا أدلت به منذ لحظات:


— إنتِ بتتكلمي جد؟ لا تكوني بتهزري يا منى؟


تحركت قدماها، تتجه نحو السرير المقابل لمكتبه، تجلس عليه قائلة:


— يا أخوي، وههزر ليه يعني؟ وده موضوع ينفع فيه هزار؟ خليفة غلبان ومفكرها سهلة، ميعرفش طبعًا اعتماد وعفاشتها!


صحّح لها منصور، وبيده يجمع الكراسات في كومة واحدة قبل أن يقوم من مكانه ذاهبًا إليها:


— ما اسمهاش عفاشة، اسمها عزة نفس يا ست منى، ودي واحدة مكافحة يعني يُضرب لها تعظيم سلام.


— أمممم...


زامت بمكر، واضعة سبابتها على وجنتها، تنتظره حتى جلس بجوارها لتُعلق:


— كان عنده حق الجَزين لما يقولي جوزك متشدد لها، مع إنه بصراحة غاظني، وحسيت إنه بيستهزأ بيا.


— بيستهزأ بيكي!


— أيوه، لما يجيب سيرة مرة غيري ويجولي جوزك مش عارف إيه عليها؟ ده كلام برضو؟


سمع منها، لتصدح ضحكته الرنانة، تلك التي لا تصدر إلا بفضلها، ليُشاكِسها قارصًا ذقنها بين إصبعيه السبابة والإبهام:


— يعني يوم ما تغيري، تغيري من اعتماد يا منى؟


نفضت يده عنها بعصبية:


— ومغيرش منها ليه إن شاء الله؟ مش معنى إن بوزها شبرين وبتطفّش الرجالة يبجى عفشة ومحدش يبصلها، ولا هتنكر يعني؟


— لا طبعًا، هنكر ليه؟ هو أنا أعمى؟


قالها بعفوية استفزّتها، لتصيح به معترضة:


— منصور، لمّ نفسك!


وكان رده ضحكات أخرى، يميل عليها ويضمها بمرح مداعبًا، في إجابة ضمنية تعرفها جيدًا؛ أنه لم ولن يحدث أبدًا أن ينظر لامرأة غيرها بعين الرجل. كل النساء في عينيه سواء، وهي فقط من استحوذت بتلك الصفة لديه دون غيرها.


---


حين يغيب الجسد في غفوته، يأخذ العقل الفرصة كاملة في نسج ما يريد، مستغلًا انفصاله عن الواقع في تلك الساعات القليلة أو الكثيرة، يترجم ذلك إما في أحلام سعيدة أو سيئة أو مشاهد غير مفهومة، حتى يغيب هو الآخر ويقتطف راحته مع الجسد المنهك. ثم يعود الاثنان بعد ذلك وقد تجددت الطاقة استعدادًا ليوم آخر بصراعاته ومسؤولياته.


لمسات حانية رقيقة تشعر بها تمر على بشرتها، وبعض الخصلات من شعرها، ثم أنفاس وأصوات، حتى قُبلات رطبة كدغدغات تجعلها بصعوبة تكتم ضحكاتها، مستمتعة باصطناع النوم. واللمسات تحوّلت إلى تحرشات حين حطت الأسنان الحادة على أنفها، لتقفز ناهضة بجذعها، تخطف تلك الشقية الصغيرة، مصدر السعادة الوحيد لها، لتنتقم منها:


— إنتِ بتعملي إيه يا عفريته؟ ده أنا هجطعك بوس النهارده!


وهجمت تُشبِعها بالقُبلات والمداعبات، حتى باتت ضحكات الصغيرة بمرحها تصل إلى خارج الغرفة. تتابعهما شقيقتها، والدة الطفلة، التي كانت جالسة على أرضية الغرفة منكفئة على بعض الأوراق المنتشرة حولها، تقطع وصلة المرح بين الاثنتين:


— أنا جولت محدش هيعرف يصحيكي غير دندن، هي بس اللي بتجدر عليكي وبتعمل ما بدالها معاكي.


وكأنها واحدة أخرى غير تلك المتجهمة الحادة في وجه الجميع، تعيدها تلك الطفلة الصغيرة وحدها إلى طبيعتها الأولى:


— عشان قليلة أدب ومش متربية! في واحدة تعمل كده برضو في خالتها؟ نفسي أعرف جايبة الجرأة دي منين؟ جوليلي يا بت، جايباها منين ها؟


وعادت تنقض عليها وسط صوتها الصخب حتى إذا تعبت الأولى توقفت بلهاث:


— لا، إنتِ لو خدت اليوم كله في اللعب معاكي مش هتشبعي، وخالتك مش كدّك يا حبيبتي، ده أنا...


قطعت عن إكمال جملتها حين انتبهت أخيرًا إلى فعل الأخرى، لتسألها:


— إنتِ بتدوري على إيه عندك يا روضة؟


رفعت المذكورة رأسها، مندمجة في كُتلة من الأوراق التي تمسك بها، لتأخذ برهة من الوقت تستدعي بها التركيز:


— لا يا بت أبوي، خير إن شاء الله، مفيش حاجة، أنا بس بدور على شهادة ميلاد الكمبيوتر بتاعتي والبطاقة، كانت جاعدة هنا مع ورقك وورق رغد أختي، بجالي ساعة بدوّر مش لاجياها.


سريعًا ما تبدل مزاج اعتماد، ليتسرّب داخلها شيء من ريبة في استفسارها:


— وإنتي مالك بشهادة الميلاد ولا البطاقة؟ هتجدمي على وظيفة مثلًا؟


ردت روضة سريعًا دون تفكير:


— لا طبعًا، مين هيوظفني بدبلوم الصنايع؟ محمود طالبهم.


انتفضت اعتماد باستدراك، تنهض وتنزل عن سريرها، حاملة الطفلة بيدها، تسأل بخفوت وخطر:


— وجوزك طالب بطاقتك ليه؟


كان الصمت هو ردها، تتحرك مقلتاها بتوتر أدخل الشك في قلب اعتماد، لتردف مخمّنة بحدة:


— جوزك عايزك تضمنيه في قرض الربا اللي جبتي سيرته من كام يوم صح؟


تلجلجت روضة بكلمات غير مفهومة:


— ما هو... ما هو... أصل هو يعني... عشان يعمل المشروع...


— لأ، عشان يشتري الموتوسيكل!


صدحت بها اعتماد، حتى انتفضت الطفلة بيدها، فتداركت سريعًا تُهدّئها، قبل أن تعود لشقيقتها تُحذرها بخفوت:


— باع الدهب على تفاهات وما اتكلمتش عشان حضرتك راضية وما اشتكيتيش، جابله على نفسك وبيأكل بعقلك حلاوة برضه، ميخصنيش. إنما توصلي إنك تضمنيه في قروض الربا اللي ماشية في البلد؟ يبجى أطلّقك منه أحسن.


— بعد الشر يا اعتماد، ليه بتقولي كده؟


— اخرسي يا بت!


ما زالت تحافظ على خفض انفعالها من أجل الطفلة، لكنها مستمرة في الحزم معها:


— أنا جولت كلمتي ومش هتنيها يا روضة. جابلة عيشتك مع جوزك الصايع، إنتِ حرة، إن شاء الله حتى يأكلك عيش حاف. إنما تضمنيه في قروض؟ لا، والف لا. المحروس مصمم على اللي في دماغه، يخلي أي حد من عيلته يضمنه، إنما إنتِ يا روضة؟ لا تبجي أختي ولا أعرفك.


بصمتٍ تام تلقّت روضة التهديد دون إبداء أي رد فعل، سوى أنها لملمت الأوراق، ثم استقامت من جلستها، لتقف وتتناول ابنتها، تُومئ بصوت خفيض:


— ماشي يا خيتي، اللي تشوفيه. تعالي يا دنيا.


وخرجت بطفلتها، تتبعها اعتماد في جمود وحسرة. شقيقتها لا تفرق عنها سوى ثلاث سنوات، ثلاث سنوات فقط فرق بين واحدة تحملت مسؤولية عائلة كاملة عن عمر السادسة عشرة، وأخرى تعيش الحياة بلا عقل ولا تفكير. كل شيء يصل إليها بلا تعب، تسير خلف عاطفتها كالعمياء ويتحمّل غيرها النتائج.


---


صعدت إلى الطابق الثاني من منزلها، تحمل دلو ماء وإناءً بلاستيكيًّا امتلأ بالحبوب، من أجل إطعام السرب الذي تجمع حولها فور أن أطلت أمامهم، يتدافعون بأجنحتهم في طلب الطعام. تستقبل لهفتهم بابتسامة تطمئنهم:


— كلكم هتاكلوا والله، بس ادّوني فرصة.


وأكملت ضاحكة، بعد أن نثرت أسفلها عددًا من الحفنات الكبيرة على سطح المنزل، تُلهيهم بتناولها، فتمر هي على الأعشاش، تُنظفها وتطمئن على الصغار، تُغيّر الماء القديم بآخر جديد، حتى إذا انتهت، ملأها شعور بالراحة وهي تراقبهم وتراقب حب الأزواج. كل فرد منهم لوليفه، يحمل قصة تعلمها جيدًا. ما أجمل عالمهم! حب الحمام ترعرع داخلها منذ الصغر بفضل تلك الصفة التي تعلمها عنهم؛ لا يمكن لفرد حمام أن يتزوج دون حب حقيقي.


لفت أنظارها أحدهم، وهو يدور حول أنثاه، يفعل كل شيء من أجل لفت انتباهها وإضحاكها. قد يبدو أنها تهذي بتلك الأخيرة، ولكنها ترى بوضوح السعادة التي تتجلى بأفعال الأنثى اندماجًا بذكرها.


— ياريتنا، عالم البشر، نبجى زيكم... ولا نصكم حتى. آآه لو يحصل!


وأطلقت تنهيدة، ويا ليتها ما فعلت، إذ انتبهت أخيرًا أنها مراقبة من ذاك المُتربص، جارها المزعج، مستندًا بمرفقه على نصف الحائط المبني في الطابق الثاني، يقابلها بابتسامة متسعة، متمتمًا بشفتيه كلمات سهلة القراءة:


— صباح الجمال.


لم تُجب التحية، واكتفت أن تُحدّجه غاضبة بعينيها الجميلتين اللتين تأسره بالنظر إليهما، غافلة ببراءة تناقض شراستها أنها تزيد من تسليته. ليردف بتحريك الشفاه مرة أخرى:


— مستنيكي النهارده تنوري البيت.


وكأنها عادت طفلة صغيرة لا تدري ببلاهة أفعالها، اهتزّ رأسها بالرفض وتحريك الشفاه:


— احلم براحتك، مش داخلة بيتك.


والتفتت بعنف تذهب من أمامه، فلم ترَ الضحكة الكبيرة التي كتم صوتها بصعوبة، يضرب بكفه على ذلك الجزء الناقص من الحائط، حتى إذا توقف، غمغم بصوت مسموع لنفسه:


— آه يا أنا يا أمه، تلاحق على إيه ولا إيه بس يا حمزة؟ دمها العسل، ولا العيون المسحوبة، ولا... يا غلبك يا حمزة، يا غلبك!

...............................


وقف يتابع خروج الفتيات من مدرستهم، ومرور عدد منهن في ذلك الطريق الجانبي، وليس الرئيسي الذي يمر عليه المعظم. ينظر لساعة يده كل لحظة في انتظار تلك المرأة المعقدة، مخمّنًا بفطرته أن هذا هو الممر الوحيد لمنزلها.


زفر بضيقٍ يكتسحه لثقل تلك المهمة التي تطوق رقبته بعذاب الضمير. ليتها كانت امرأة عادية وتعرف التحدث بالأخذ والرد، ولكن كيف؟ وهي تتخذ معاداة الرجال أسلوب حياة، كما سمع من بعضهم.

انتفض مستقيمًا، بعد أن كان متكئًا على جانب سيارته، يُبصرها قادمة من قريب، متحفزًا لمعركة قد تؤدي لفضائح أو ربما خسائر بشرية، لكنه لن يهتز أو يتراجع عما قرر فعله منذ الأمس. ما زالت تقترب وعدد من الفتيات يرافقنها، يتبادلن الحديث والضحك، يا إلهي! إنها تعرف الضحك مثل باقي البشر!


ـ أستاذة اعتماد! هتف مناديًا باسمها، يجذب انتباهها وانتباه الفتيات اللواتي يحيطن بها من الجانبين، غير مبالٍ بالغضب الذي ارتسم جليًّا على ملامحها، مستنكرة فعله بالتأكيد. ولكن فليكن، لقد شحذ همّته استعدادًا لكل المصائب من طرفها.


تابع تصرف الطالبات وهنّ يواصلن المسير دونها، فاتجهت إليه بخطوات تحفر الأرض بغضبها، حتى إذا توقفت أمامه:

ـ نعم؟ بتنادي ليه حضرتك؟

صمت برهة يتأملها، ولأول مرة، تحضره ضحكاتها منذ قليل مع طالباتها. لقد ظن لوهلة أنه أخطأ الشخصية، بالإضافة إلى الاختلاف التام بين تلك التي كانت مع الفتيات، وهذه التي تقف أمامه بوجهها المشتد... ومع ذلك، جميلة!


ـ حضرتك، بسألك بتنادي عليا ليه؟ ممكن أفهم ليه ساكت؟

ما أبشع غضبها وتشنجها في الصياح دون تمييز! زفر يستدعي الحكمة والهدوء في النقاش مع كتلة النار التي تقف أمامه:

ـمعلش يا أبلة اعتماد لو عصبناكي، بس أنا بصراحة كان لازم أشوفك عشان أسألك...


هدأت من وتيرة أنفاسها قليلًا: ـ

تسألني عن إيه؟

أجاب يدخل في الموضوع مباشرة:

ـ أسألك عن التليفون، حضرتك، اللي عطل امبارح... بسبب الميّة...


ـ وإنت إيه يخصّك عشان تسأل؟

سليطة اللسان! كم يود أن يهشم رأسها! بارعة جدًا في إخراجه عن طوره الطبيعي الهادئ إلى الانفعال بعصبية.


ـ مالي؟ كيف يعني؟ هو التليفون دا مش باظ بسببي؟ ولا بسبب حد غيري؟ عرفت إنك ودّيتيه لحمادة جينيس بتاع التليفونات في البلد، وجالك إنه ما عرفش يفتحه، ولا بيشتغل فيه أصلًا، عشان حصل له جفلة... يعني ما عادش منه فايدة...


بشرتها الخمرية تحوّلت إلى الأحمر القاني، بامتزاج مع العرق الذي يتصبب على جبهتها وبعض مناطق وجهها بفضل الشمس، والعروق التي انتفخت في جبهتها تُنبيء بوضوح أنها على وشك الانفجار:

ـ يعني حضرتك روحت للراجل الغريب وعن تليفوني سألت واتطجست؟ برضو هجُولهالك تاني: إيه دخلك؟ باظ بسببك ولا بأي سبب تاني برضو ما يخصكش، ولا يخص أي حد!


توقفت تُهدّئ من وتيرة أنفاسها المتسارعة، وصمت هو قليلًا يمتص غضبها، غير متأثر بكل ما تلفظت به، فهذا المتوقع منها أصلًا... ليستدعي الحكمة في مخاطبة القطار المشتعل: ـ ماشي، رغم كل زعيقك وصراخك، أنا برضو هاعمل بتربيتي وأصلي الطيب. جُلتِها قبل كده إنه قفل بسببي، وأنا ما اتعودتش أغلط وماصلحش غلطي. بس يا ريت يبجى فيه تفاهم منك.


لم تفهم الأخيرة، حتى التف بجذعه أمامها، وأدخل يده في السيارة متناولًا منها علبة بيضاء، برقت أبصارها بخطر حين علمت بفحواها، ومع ذلك لم يتراجع أو يهتز، وهو يقدمه لها:


ـ دا واحد بدل اللي ضاع يا أبلة اعتماد، ممكن تعتبريه عوض، وممكن تعتبريه هدية. النبي قبل الهدية...


اهتزت أمامه كالقدر الذي يغلي فوق النيران الموقدة، شرار ناريّتيها يكاد أن يحرقه، بتصاعد ثورات الاعتزاز والكرامة التي تصدح داخلها تنادي بالانتقام لذاتها... كيف يفعلها؟ وكيف يجرؤ؟ وكيف...؟


ـ براحة على نفسك شوية يا أبلة اعتماد، أنا ما بغلطش فيكي ولا بقلل منك، هو بس إحساس بالمسؤولية لخطأ ارتكبته وعايز أصلحه.


هكذا، وبكل سهولة، أردف يخفف وطأة الشعور بالدونية الذي يكتنفها كلما مرّت بموقف مشابه، لتُعبّر عن رفضها وبقوة: ـ وأنا ما بجبلش العوض... ولا الهدية!


عاد فجأة بعلبة الهاتف يُلقيها داخل السيارة، بكل بساطة:

ـ تمام، أنا كده عملت اللي عليّا. ثم امتدت كفّه إلى الباب يفتحه ويستقل مقعده خلف عجلة القيادة، يُردف لها على عجالة وهو يدير المحرّك: ـ كان ودي أتصرف بمروءة وأجولك: اتفضلي أوصلك في طريقي، بس أخاف كمان تفهميني غلط، وده المتوقع. عن إذنك يا أبلة اعتماد.


ظلت على صمتها، تراقبه حتى ابتعد بسيارته، لتُغمغم في أثره بحنق شديد، وقد ضيّع عليها فرصة الانفجار وصبّ جام غضبها عليه: ـ مغرور... وقليل ذوق!


.............................


قامت بتسخين المياه على الموقد الطيني في القدر النحاسي الذي ورثته عن والدتها، لتستخدم المياه الدافئة للاستحمام. ثم جلست متربعة القدمين تمشط شعرها الطويل، عائدة لروتين النساء قديمًا، وراحتها التي غابت عنها على مدار سنوات زواجها.


راحتها الحقيقية التي وجدتها هنا، رغم التعب في تحضير كل شيء، حتى في تسخين المياه. مرآة صغيرة كانت ترفعها إليها كل حين وآخر، تتأمل وجهها النضر، والشعر الأسود يحاوطه من الجانبين، العيون التي بدأت تحرص على تكحيلها، لترى جمالهما المميز. أصبحت ترى نفسها، تستشعر الأنوثة التي كانت غائبة عنها، رغم كلمات الإعجاب التي تتلقاها دائمًا، حتى من النساء. ذلك الإحساس الرائع تتمنى من الله ألا تُحرَم منه امرأة.


تنهدت بعمق وقد تذكرت المتسبب الرئيسي في عودة تلك المشاعر إليها، لتزفر بضيق وتنفُض رأسها، لا تريد التفكير به ولا التأثير على قناعتها... لا تريد.


أخرجها من شرودها صوت طرق الباب الخشبي، يليه نداء ابن شقيقها:

ـ افتحي يا عمة مزيونة، أبويا جا معايا! استقامت مبتهجة، تركض إلى الباب، تستقبل شقيقها الغائب دائمًا بفضل عمله خارج المحافظة، وبلهفة لا تقل عنها، قابَلها هو الآخر، يُقبّل وجنتها وجبهتها متغزّلًا، بعد أن تطلع إليها جيدًا:


ـ تبارك الرحمن فيما خلق، ولا أكنك رجعتي لعمر الستاشر، يا بت أبوي! رجعتي مزيونة على حق!


أضاف عليه حازم هو الآخر: ـ أيوه يا بوي والله، أنا بقولها كده دايمًا، وهي ما بتصدجش!


تبسمت بخجل أصابها، ساحبة شقيقها معها إلى الداخل:

ـ بس يا واد، بطل بكش! أخويا شايفني بعين المحب، عمره ما هيشوفني كبرت واصل.

ـ طب ما إنتِ فعلاً ما كبرتيش، يا خيتي، لساكي! برضك مش مصدّجة؟

قالها وصفي ضاحكًا، يضمها من كتفيها إليه، فتتنعم هي بحنانه وتعبر عن امتنانها:

ـ حبيبي يا خوي، ربنا ما يحرمني منك. بس مفاجأة حلوة جيتك النهاردة. هتجعد معانا اليوم كله بجى؟ هنتغدى أنا وإنت والواد حازم، ونتصل بالعيال وأمهم.

واض، يا حازم، اتصل بأمك بسرعة، و...


قاطعها وصفي:

ـ حيلك حيلك يا بت أبوي! تجيبي المرة والعيال كيف وإحنا أصلًا معزومين عند نسايبك؟


ـ نسايب ااا؟ .......

توقفت تستدرك مقصده، فتابع هو باستفساره:

ـ إيه الحكاية يا مزيونة؟ ده أنتي حتى من أول الناس المعزومين! الحجة حسنية، ولا منى، حمزة نفسه ما بلّغكيش؟


ابتلعت بتوتر عند ذكره الأخير، تحاول التوضيح بحرج:

ـ لا طبعًا كلموني، أنا بس بصراحة مش عايزة...

ـ مش عايزة ليه يا مزيونة؟ دي عزومة عادية، الراجل عاملها يبخت بيته الجديد!


بماذا تخبره؟ لا تجد في رأسها الحجة المقنعة، ومع ذلك تُصر على رأيها. هذا الرجل الذي يُحاصرها أينما اتجهت، حتى في أحلامها، ومع ذلك تُصر على موقفها:

ـ هو أنا روحتِ يعني اللي هتزود ولا تنقص! روحوا إنتوا، احضروا العزومة وتعالوا، أنا مستنياكم، نجضي اليوم مع بعض.


...............................


مسكينة هي، حين ظنت أنها سوف تنفذ قرارها. وكيف تفعل، وقد لفّ شباكه باحترافية تمنع عنها حتى التفكير؟

فقد اتخذ جلسته خارج منزله، على الأريكة المقابلة لمنزلها، يستقبل الرجال من أبناء عمومته وزوجاتهم، وشقيقاته وأزواجهم. يدخل الرجال إلى دار الضيافة الواسعة، والتي جعلها عن قصد في الخلف، حتى لا يزعج خصوصيته أحد مع المزيونة المتمردة، والتي كانت تُخفي نفسها داخل منزلها منذ الصباح. ومع ذلك، تتورط وعلى غير إرادتها بالمشاركة والترحيب بالحاضرين، بدون أدنى جهد منه.


فجميع نساء العائلة، ممن حضرن مع أزواجهن أو بلا، كانت تذهب أقدامهن إلى منزلها قبل منزله، يلتقين بها ويسألنها، وهي تختلق الحجج، حتى نفدت طاقتها بحضور حسنية نفسها ومنى التي هي هتفت بها فور الولوج إليها:

ـ انتي لسة جاعدة مكانك يا ولية؟ والبيت بيضرب يقلب هناك!

تلجلجت وهي ترحب بهن:

ـ وه يا منى، ادخلي سلمي الأول بي. اتفضلي يا حجة حسنية، اتفضلي...


عارضتها حسنية بلطفها المعتاد:

ـ ندخل فين يا بنيتي ونسيب الناس؟ والبيت المليان هناك؟ إنتي لسة جاعدة مكانك ليه يا مزيونة؟ هو إنتي غريبة يا بنيتي؟


ابتلعت، تبحث عن سبب منطقي يمنعها:

ـ يا حجة، أصل يعني هو...


ـ هو إيه بس يا مزيونة؟ يا بتي اتحركي ياللا، حتى على الأقل عشان توَنّسي بنيتك!


ـ ليلى هتحضر؟

سألتها بلهفة، لتؤكد لها منى:

ـ أيوه يا ستي، ومعاها معاذ كمان، قبل ما يسافر على شغله بكرة. يعني البيت كله هيحضر، وهما لأ؟

...........................     


بعد لحظاتٍ ليست بالقليلة، خرجت تُنعش الهواء من حوله بحضورها، ترافق والدته وشقيقته، بخطوات يحفّها الخجل.

هو ليس بالأعمى حتى لا يرى بأمّ عينيه تأثيره عليها، حتى وإن ادّعت العكس، بذلك التجهّم الذي تتصنّعه، وقد خرجت مجبرة، حسب ما فهم من بعض الحجج التي تواترت على مسامعه عن سبب غيابها، وقد أنبأته صباحًا بعبوس الأطفال.


فاردة ظهرها بعزة، تمشي بجوار والدته التي أطلقت زغرودة كبيرة من فمها، قبل أن تلقي بنفسها عليه، تبارك وتهنئ وتقبّل وجنتيه:

ـ تكون عتبة السعد عليك يا نضري، تملاها بالولاد والبنات اللي تخاوي بيهم ولدك.


ضحك بمرح، يُلقي كلمات ذات مغزى، يخطف بنظراته إليها كل لحظة:

ـ آه يا ست الحبايب، بس تيجي صاحبة النصيب الأول، وإحنا نخاوي ريان بالولاد والبنات والأحفاد إن شاء الله فيما بعد.


ـ كريم ينولك نصيبك.


تمتمت بها والدته بتضرّع، ليتجه ببصره بعد ذلك نحو مزيونة، التي تغيرت لشيء آخر...

قد ذهب عنها خجل المراهقات الذي أصبح يصاحبها في حضرته، ليحضر شيء آخر لم يفهمه، ربما سببه كانت تلك الكلمات الأخيرة التي أردفت بها والدته.


ـ عتبة سعيدة إن شاء الله يا أبو ريان.

ـ تسلمي يا أم ليلى، ربنا يبارك فيكي.

أخيرًا هتخشي البيت مع الجماعة وتشوفي البيت.


قال الأخيرة بمزاح، قابلته بابتسامة باهتة فاقدة الحياة، ثم تحركت تتبع والدته نحو باب منزله، والذي ستدخله لأول مرة.


اقتربت منى تجذبه من ياقته بعنف كي ينتبهه إليها:

ـ ما خلاص، سيبها تدخل، وانت شوف أختك، يا عديم الحساسه!

ألف مبروك يا حبيبي، عتبة السعد والهنا إن شاء الله.


تقبّل العناق ومباركتها بابتهاج لا حدود له، يعبر عنه كالطفل، ناسيًا وضعه كرجل كبير، ربّ عائلة، وناضج:

ـ دخلت بيتي يا منى، ادعيلي يا خيتي تبجى من نصيبي، ادعيلي ربنا يهديها على أخوكي يا بت.


قابلت رجاءه بعطفٍ شديد:

ـ إن شاء الله يا حبيبي، تكون من نصيبك، والله ليحصل بإذن الله.

ـ يا رب، يا رب...


ظل يتمتم بالدعاء حتى بعد ذهابها، واستقبال فردين من أبناء عمومته من ضمن المدعوين، تغمره حالة من الشرود والتساؤلات التي تدور في عقله، عن ردّ فعلها حين ترى داخل المنزل...

كم ودّ أن يترك مكانه ويُريها كل قطعة فيه، ليعرف رأيها، وإن كانت تُعجبها أم يغيّرها من أجلها.


وفي غمرة تلك التساؤلات، تفاجأ بحضور آخر شخص يتمنى غيابه الآن.


ـ روان...


تمتم بعد استيعاب، يراقب ترجّلها من السيارة بصحبة صغيره، الذي يكاد أن يطير من الفرح، يسحبها من يدها وهي تضحك:

ـ براحة يا قلب ماما، أنا مش قدك... ولا أقولك، خلاص وصلنا أهو، إزيك يا حمزة؟ ألف مبروك على البيت.


بوجومٍ واضح، تلقّى تهنئتها، يومئ برأسه، وبصوت بالكاد يُسمع:

ـ أهلًا يا روان، الله يبارك فيكي.


اكتنفها حرج شديد من رد فعله، فسارعت بالتوضيح لتخفف من ثقل الموقف:

ـ ريان هو اللي عزمني على فكرة، مكنتش أعرف إنه مقالكش.

على العموم، لو رافض دخولي البيت أرجع عادي، أنا أصلًا جايّة أبارك وبس، عشان عزومة يعني ولا حاجة.


ألقى بنظرة خاطفة نحو صغيره، قبل أن يعود إليها بحنقٍ في نبرة صوته:


ـ ودي عمايل ولاد أصول برضو؟ عيب يا روان، البيت بيتك.

اتفضلي جوا مع الحريم.


ترددت عن التحرك من محلها، فتوجّه بالأمر حازمًا نحو صغيره: ـ واض يا ريان، اسحب أمك على البيت جوا عند الحريم... أخلص يا واض!

........................

طافت بها على جميع الغرف، لم تترك موضعًا في المنزل حتى عرّفتها به، فلم يتبقَ سوى غرفة واحدة، كانت الأخيرة. وفور أن دخلتها مزيونة، اكتنفها شيء غير مفهوم، لتسألها:


ـ دي شكلها أوضة نوم، بتاعة...


قطعتْها ناظرة إليها بعتاب، تجاوزته منى وهي تتحدث بمكر:


ـ أيوة يا حبيبتي، دي أوضة حمزة، إيه رأيك فيها بجى؟


ابتلعت رمقها بارتباك شديد، لتجيبها بحدة:


ـ وأنا مالي يا منى؟ أجول رأيي فيها ليه؟ حلوة لصحابها وخلاص، يلا بينا خلينا نرجع.


همّت أن تلتف، ولكن منعتها منى، توضّح ببراءة:


ـ وه يا مزيونة، أنا بسألك عشان أشوف رأيك عادي، حُكم إني مكنتش عجباني جوي، أكمنها عصرية زيادة عن اللزوم، مش زي الأنواع اللي إحنا متعودين عليها. حمزة اشتراها جديدة، زي ما عمل مع كل العفش في البيت الجديد.


هي لم تكذب في الأخيرة، كانت بالفعل مبهرة، عصرية وفاخرة كصاحبها، وصاحبة النصيب أيضًا التي تليق به...

أين هي من هذه الفخامة...


نفضت رأسها فجأة، تطرد الأفكار المزعجة من عقلها:


"ربنا يوفقه ببنت الحلال اللي تنورها إن شاء الله، كفاية بجى... خلينا نطلع."


والتفتت سريعًا ذاهبة، حتى اضطرت منى أن تهرول للحاق بها:


ـ طب استني يا ولية، أنا فيا حيل للجري وراكي!


توقفتا الاثنتان مع الظهور المفاجئ لتلك التي أصبحت عادتها تلك الصفة:


ـ ما شاء الله، طالعين بتفروا ورا بعض! لتكونوا بتلعبوا كمان؟


حلّ الوجوم بمزيونة، لا تجد ردًا على تلك المخلوقة الغريبة، فتكلّفت منى بالرد:


ـ وماله يا هالة لما نِفِرّ ورا بعض؟ الله أكبر عليكي يعني.


ـ يا ستي، هو أنا هحسدك؟ ربنا يزيدكم كمان وكمان.

بس أنتو كنتوا طالعين من أوضة النوم، صح؟ الوحيدة اللي أنا مدخلتهاش يا منى...


قطعتْ الجملة مصوبة نظرة نارية نحو مزيونة، لتردف:


ـ ولا اكني بت عمهم حتى... مش مرة أخوهم اللي معاهم في بيت واحد!


للمرة الثانية، زادت من حنق مزيونة، لتجبرها على الرد هذه المرة:


ـ وأنا إيه اللي عرفني بالكلام ده يا هالة؟ أنتو عيلة في بعض زي ما بتجولوا... عن إذنكم.


أنهت كلماتها وتحركت مبتعدة من أمامها بخطوات سريعة غاضبة، لتعلّق منى إثرها نحو الأخرى:


ـ نفسي أفهم يا هالة، هو انتي شيطانك ده مسلطك علينا ولا على نفسك؟ ربنا يهديكي.


ضحكة ساخرة صدرت من هالة، تتابع ذهاب منى باستخفاف، مغمغمة:


ـ وتتعبي نفسك ليه يا غالية؟ هي سهلة وبسيطة خالص... لكل فعل رد فعل.

......................


حين وصلت مزيونة إلى تجمع السيدات، كانت تهمّ بالاستئذان في الرحيل، ولكن وجدت ما جعلها تتراجع سريعًا؛ صغيرتها التي كانت كالزهرة بين السيدات، بطلتها التي تقترب من المراهقة الصغيرة والعروس المتزوجة حديثًا، تثير فضول الجميع في النظر إليها، والتقرّب منها بروحها النقية دائمًا.


حتى أنها لم تخجل منهنّ، وفور أن التقت عيناها بها، ركضت إليها غير مبالية بشيء:


ـ أمي الغالية، أنا جيالك بنفسي النهارده.


تلقتها مزيونة بالعناق غير مبالية، مصدر السعادة الوحيد إليها صغيرتها؛ فلمَ قد تخجل من لهفتها إليها؟ عانقتها بقوة، حتى أنها لم تعِ على وجود أحدهم سوى بعد لحظات، وقد كان واقفًا بالقرب من الباب، يصوّب أبصاره نحوهما بابتسامة خلابة، أثناء حديثه السريع مع والدته، فقالت ليلى:


ـ عم حمزة هو اللي أصرّ أجي وأحضر معاكم العزومة، أنا ومعاذ اللي جاعد دلوك مع الرجالة. البيت طلع حلو جوي، بصراحة عم حمزة يستاهل كل خير.


سمعت منها، واتجهت أبصارها نحوه على غير إرادتها، تتعانق النظرات بينها وبينه بصورة لفتت زوجًا من النظرات الحاقدة، لتوسوس إحداهما إلى الأخرى:


ـ واخدة بالك؟ عشان تبجي تصدجيني بس.


.......

 تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع