القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الخامس عشر والسادس عشر بقلم شروق مصطفى حصريه

 

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الخامس عشر والسادس عشر بقلم شروق مصطفى حصريه 






15 جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى




الفصل الخامس عشر

جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى

– أنا برضه مش مصدقة ولا كلمة منك… كلمتك، وصدّمني ردك. روح لها واشبع بيها… وسيبني بقى!.


“تحدّثت، ونبرة صوتها ترتجف بين الغضب والانكسار”


قهقه عاصم عاليًا، ضحكة لم تكن سوى محاولة يائسة لستر ألمه، ثم اعتدل في جلسته، ترك يدها لوهلة، قبل أن يحيط خصرها بذراعيه، وجهه بات مقابلًا لوجهها، عينيه تترجاها ألا تصدق ما رأته.


– افتحي عنيكي يا سيلا… وحشتيني أوي، ماتحرمنيش منك تاني. أنا من غيرك كنت مدمر، والله العظيم.


صمت لثوانٍ ثم أردف، يحاول بثها الحقيقة، بشيء من الهدوء والثبات:



قال بصوت خرج من جواه، مبحوح، ملهوف، بيحاول يوصل لها إحساسه الحقيقي:


– اللي بعدني عنك كانت مهمة جديدة… مهمة خطيرة. كان لازم أقبض على جاس.وسة روسية، وكانت المفروض تنزل في الفندق. وفعلاً استقبلتها، بس قبلها بليلة، حطّيت لها منوّم في العصير، ووقت ما انتي جيتي، كانت لسه بتفوق.


اقترب منها أكتر، أنفاسه كانت بتلفح عنقها، وصوته يفيض ندم، وجع وصدق:


– هي كانت فاكرة إن في حاجة حصلت… وقت ما شوفتينا، كنت مرتّب كل حاجة، وكان لازم أمثّل… بس والله، ما حصلش حاجة. أقسم لك.


دفعت صدره غيظًا، ألمًا… أرادت أن تصدّقه لكنها عجزت عن محو المشهد من ذاكرتها.


قال بصوتٍ خافت، وقد خنقته الذكرى:

يوم ما كلمتيني… كانت قُصادي. وكان جوايا كلام كتير نفسي أقولهولك. قلبي حرفيًا كان بيطير من الفرحة أول ما شفت اسمك منوّر على شاشة تليفوني.

بس… كل حاجة حصلت ورا بعض. ما لحقتش أشرح، ما لحقتش حتى أفرح.

سامحيني…

حقك عليّا، يا ست البنات.

نظر إلى عينيها، لكنها لم تجبه. تنهد طويلًا، يتأمل وجهها الذي لطالما أحبه. اقترب منها، وهمس قرب أذنها، وصوته يفيض بحنينٍ صادق:


– افتحي عنيكي، يا بنتي، يا سيلا…


لم تأتِه استجابة، ففهم أنها غفت، ربما من شدة التعب… أو من وجعٍ لم ينطفئ بعد.


ابتسم ابتسامة باهتة، وهمس من جديد وهو يعدّل وضعية نومها بين ذراعيه:


– مش جديدة عليكي…


ظلّ يحتضنها، كأنّه يخشى أن تبتعد من جديد، يمسك بيدها، ويترك أنفاسه تلامس عنقها، يشتم رائحتها التي اشتاق إليها. أقسم في داخله أنه لن يدع دمعةً تسقط من عينيها بعد الآن، لا لأجله ولا بسبب غيره.


ظلّ ينظر إليها، يتأمل كل تفاصيلها، يروي بها عينيه بعد شوق طويل. اشتاق إليها حدّ الألم، ويريد أن يعوّضها عن كل لحظة وُجِدت فيها وحدها… حتى لو بنظرة.

…….

عند مي، بعد رفض وتعنّت منها لعدم تواجدها في نفس المكان الذي يتواجد فيه هو، وافقت في النهاية على السفر إلى الغردقة لتغطية مؤتمر بأحد الفنادق الكبرى. وقد شعرت ببعض الاطمئنان لوجود شقيقها معها، كونه سيحضر المؤتمر ذاته.

كان المؤتمر يشهد حضور عدد كبير من كبار أطباء الشرق الأوسط والغرب، واعتبرت ذلك فرصة تُحتسب لها، وانتقالًا إلى الأفضل.


وصلا إلى الفندق، تمنت في داخلها ألا تجتمع الصدفة، وألا تلتقي به؛ فهي ليست مستعدة بعد لرؤيته، وقلبها ما زال ضعيفًا أمام حضوره.


خرج هيثم بعد أن نقل الحقائب إلى داخل الغرفة، قائلًا:


– مي، خدي انتي الأوضة دي، بتطل على البسين، وأنا هاخد اللي جنبك. عارفك بتحبي الحاجات دي.


نظرت له وابتسامة تكاد تصل إلى عينيها:


– حبيبي، ما تحرمش منك يا رب. بس عادي، مبقاش يفرق معايا دلوقتي حاجة، خدها لو حابب.


لم يكن يعتبرها شقيقته الصغرى فقط، بل كأب رباها واعتنى بها. كان يعلم تمامًا ما يدور في ذهنها الآن؛ من وجعٍ وألمٍ مضى، ومن فقدانها لشغف الحياة.


أراد أن تأتي إلى هنا لتقوى، لتجمّد قلبها، وتدفن الحزن والوجع كما دفنه هو من قبل، وتعود إلى حياتها من جديد.


اقترب منها، واحتضنها من كتفيها قائلًا:


– ميوي، أنا صمّمت إنك تيجي مخصوص معايا، عشان عاوزك تكوني أقوى من كده. ما تخافيش من حاجة، وأنا جنبك، ماشي؟


ابتسمت له بحب، وهزّت رأسها موافِقة. كان دومًا السند في حياتها.


ربت على منكبيها متحدثًا:


– طيب أنا هخرج بقى شوية كده، هقابل زمايل ليا. لو عاوزة تمشي شوية، اخرجي.


– حاضر…


وجدت الوقت مبكرًا على بدء المؤتمر، ترددت في بداية الأمر، لكن حسمت أمرها وغلبت خوفها. أرادت أولًا أن تتناول مشروبًا ساخنًا، وبعد ذلك تمضي باقي الوقت أمام البحر.


خرجت تبحث عن الكافيه حتى وجدته، وأحضر النادل طلبها وبدأت في تناوله وهي تنظر إلى جمال المكان، وتحتسي مشروبها. فوجئت بمن يسحب المقعد أمامها ويجلس دون استئذان، صُدمت من جرأته، هبّت واقفة من مجلسها وكادت أن تصرخ به حتى…

عند سيلا، شعرت بتنمّل في ذراعها السليم، نتيجة إبقائه على ذات الوضعية لفترة طويلة، فكانت كأنها تحتضنه. حاولت سحب ذراعيها، لكنها فشلت بسبب ثقل ما تحمله، فتركته كما هو، حاولت تلامس رأسها وجهه، تستنشق رائحته التي اشتاقت إليها، وتستدفئ بحرارة أنفاسه التي كانت تضرب عنقها بلطف.


كانت ضربات قلبها تنبض بقوة كلما تسللت أنفاسه الحارة إلى عنقها، فتزيد من اشتياقها إليه أكثر فأكثر. ابتسمت له بحب، ثم حاولت الاقتراب منه بحذر شديد، حتى لا توقظه، فقط رغبةً في لمس وجهه. وصلت إلى مبتغاها، وتحسسته بأطراف أصابعها، لكن حين لفحت وجهها أنفاسه الحارة، ابتعدت سريعًا، وقلبها يخفق بشدة… لم تكن تعلم أنه مستيقظ، ينظر إليها بعشق جارف.


اعتدل من وضعيته، وما إن شعرت بحركته، أيقنت أنه استيقظ.


خجلت، وأدارت وجهها إلى الجهة الأخرى، لكن تصرفها لم يُعجبه. أمسك وجنتيها بكف يده وقال:


– على فكرة، صباح الخير مش تتقال كده.


ثم أخذ شفتيها في رحلة طويلة، بعث لها خلالها مدى اشتياقه، وعندما شعر بحاجتهما إلى الهواء، ابتعد عنها رغماً عنه، يلتقط أنفاسه، متأملًا احمرار وجهها وعضّتها الخجولة لشفتها. همس مازحًا:


– لو هتكرري اللي بتعمليه ده، أنا اللي هآكلهم تاني… مش بهزر.


لم تفهم مقصده تمامًا، لكنها فقط أرادت الهروب من أمامه، شعرت بأن الموقف يفوق قدرتها على الاحتمال، لا ترى، ولا تستطيع الحركة… محتجزة أسفله، والخجل يكاد يفتك بها، استمرت في عضّ شفتها، وهي لا تدري أنها تفعل ما ينتظره منها بشغف.


أخذها بين ذراعيه مرة أخرى، كأنه يذيب جليد الحواجز التي بقيت، فذاب الثلج ماءً. نهض من فوقها مبتسمًا بمرح:


– هسيبك بس عشان انتي تعبانة… بس لو لاقيتك بتعضي شفايفك، تبقى دعوة صريحة ليا تاني إني أتذوق فراولة دي تاني، وأنا على استعداد مرة ثالثة!


التقطت أنفاسها المتلاحقة، ثم همست بغضب خجول:


– انت قليل الأدب… عشان تستغلني كده، وأنا لسه زعلانة منك أصلاً… امشي بقى.


قهقه ضاحكًا بصوت رجولي عميق:


– حبيبي، مقدّرش على زعلك… هصالحك بمعرفتي. أما بقى بالنسبة للاستغلال… أنا بموت فيه، عجبني جدًا… أوي… خالص.


تمتمت وهي تُشيح بوجهها:


– آه… استغلالي حقير…


التقط كلمتها وهمس:


– سمعك على فكرة… بس هعدّيها، عشان الأيام الجاية كتير، وهاخد حقي منك، هروح أحضّر لنا الفطار، وأجيلك… يا عسل… يا فراولتي.


ابتسمت بسعادة، ووضعت أنامل يدها على شفتيها ما إن شعرت بحرارتهما المرتفعة فجأة

…..


تطلعت مي إليه بصدمة من جرأته، فاستشاطت غضبًا حين جلس أمامها ممسكًا كوب القهوة خاصتها، وقال ببساطة:


– ممكن أقعد معاكي؟


هتفت بحنق وهي تستعد للرحيل:


– حضرتك قعدت خلاص… أنا اللي همشي.


وقف في مواجهتها، وابتسامة جذّابة تعلو ملامحه، وقال بسرعة قبل أن تغادر:


– آسف لتطفّلي… فكرتك عارفاني والله. أنا مازن، زميل هيثم أخوكي. شوفتك قاعدة فقولت ندردش شوية مش أكتر، ولو وجودي مش مرغوب فيه، عادي… ممكن أمشي.


ضربت بكفها جبينها، وكأنها تذكّرته للتو، وردّت بابتسامة خفيفة:


– مازن! طبعًا أعرفك، معلش… الزهايمر اشتغل عندي. اتفضل، طبعًا… ماعنديش مانع.


عادت إلى مقعدها، فجلس هو الآخر، وساد بينهما صمت ثقيل، قطعه عندما لاحظها تفرك كفيها بتوتر وتنظر بعيدًا. حاول كسر الجمود قائلًا:


– أحم… شكلي ضايقتك ولا إيه؟


أسبلت جفنيها خجلًا وقالت بهدوء:


– لا، أبدًا… عادي. أنا كمان شوية ورايحة على المؤتمر. أنت أكيد مدعو، صح؟


هزّ رأسه موافقًا بابتسامة:


– آه، فعلاً… وبصراحة، حاسس إني محظوظ إني قابلتك وشوفتك.


تابع مراقبتها وهي تلتفت برأسها في كل اتجاه بتوتر، فابتسم داخليًا، ثم قال أخيرًا:


– أحم… مي، هيثم قالك عني حاجة؟ يعني… قالك إني طلبت أتقدّم ليكي رسمي؟ كنت حابب أسمع منك رأيك.


أغمضت عينيها للحظات، استنشقت بعض الهواء بعمق، ثم أخرجته ببطء، وقالت:


– إنت عارف إني لسه خارجة من تجربة فاشلة، صح؟


وحين أومأ برأسه، تابعت:


– أنا مش بفكر في أي ارتباط دلوقتي… مش مستعدة أظلم اللي هارتبط بيه. أنا أخدت نصيبي من الدنيا، ومش عندي استعداد أدي لحد حاجة تاني. عطيت كل حاجة، وفي الآخر اتظلمت. ومش مستعدة أتعامل أو أتحمّل من جديد.


نظر إليها مطولًا، وقد شرد ذهنه بكلماتها التي لامست شيئًا عميقًا بداخله، ثم قال بنبرة حزينة:


– عارفة… إحنا فعلاً شبه بعض في حتة الظلم. يمكن قصتي مختلفة، لكن الألم واحد.


صمت للحظة، ثم استأنف:


– أنا كمان منفصل، ومش هكدب عليكي… تعبت بعدها، لأنها كانت حبي الأول، وبنت الجيران… حاجات كده. اتوجعت جدًا، وزعلت، والدنيا سدت في وشي. لكن ربنا عوّضني، ورحمته واسعة. لما لجأت له، وقلت: “اللهم أخرج من قلبي كل حبٍ غير حبك، واملأ قلبي بحبك”… والله مفعول سحري. نسيتها، ورجعت لحياتي وشغلي، وهي كملت حياتها… ماوقفتش بعدي.


ثم أردف بلطف:

– اللي عايز أقوله… حتى لو مافيش نصيب بينا، قدامك فرص كتير. أحسني اختيار فرصتك، ومتوقفيش حياتك عشان حد ما يستاهلش. وفكّري في ربنا لما قال: “اللهم اضرب الظالمين بالظالمين”… حقك هيرجع، واللي ظلمك ليه يوم.


نهض وهو يلتقط كوبه، وقال بابتسامة دافئة:


– أسيبك دلوقتي أجهّز نفسي قبل المؤتمر… سعيد جدًا إني اتكلمت معاكي.


ابتسمت له أيضًا وتوقفت في مكانها، ثم مدت يدها لتصافحه، وقالت بامتنان:


– وأنا كمان سعيدة بكلامي معك جدًا، وهفكر في اللي قلته أكيد.


هتف لها قبل أن تغادر:


– أكيد لينا كلام تاني، أنا لسه مخلصتش، ويسعدني لو تنوريني في العيادة كمان، هيفرق معاكي جدًا، بس كطبيب… إيه رأيك؟


أومأت برأسها موافِقة، وقد بدا عليها بعض الخجل، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها زيّنت ثغرها، ثم غادرت بدورها استعدادًا لحضور المؤتمر.


وأثناء ذهابها، لم تدرِ لماذا خفق قلبها فجأة، وكأن نذيرًا مرّ بجوارها، حين لمحت شيئًا لم تتمنّ يومًا رؤيته من جديد. كان ذلك آخر ما قد ترغب في مواجهته، حتى إنها انصدمت، واتسعت عيناها وشفتيها دهشةً حين مرّ أمامها، و…




الفصل السادس عشر

جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى


أثناء ذهابها، لم تدرِ لماذا خفق قلبها فجأة، وكأن نذيرًا مرّ بجوارها، حين لمحت شيئًا لم تتمنّ يومًا رؤيته من جديد. كان ذلك آخر ما قد ترغب في مواجهته، حتى إنها انصدمت، واتسعت عيناها وشفتيها دهشةً حين مرّ أمامها، ولم يعرفها، ألهذه الدرجة كانت نكرة؟! بل أدار وجهه إلى الجهة الأخرى كأنه لم يرها، وتحدث إلى شخصٍ آخر. التفتت خلفها تتأكد مما رأت، نعم، هو… جحظت عيناها حين وجدته يحتضن فتاة من خصرها ويمرح معها.


عادت إلى الطريق الذي كانت متجهة إليه، وقلبها ينزف ألمًا عن حب لم يكتمل، وزوج خان العشرة. ركضت إلى غرفتها، لكنها أقسمت ألا تبكي عليه، وألا تنزل دمعة واحدة من عينيها على من لا يستحق، من هانت عليه العِشرة التي كانت بينهما. أغلقت قبضتها بقوة، تتشبث بقوتها وتشد من أزر نفسها:


انتي قوية، وهتعدّي… كله هيعدي، هقوّي قلبي ومش هسمح له يضعف ولا يبكي… اجمد قلبي!


أخذ صدرها يعلو ويهبط، تحاول السيطرة على حالها، لعلها تتماسك. ثم دلفت إلى الحمام، توضأت، وبدأت تناجي الله، لعلّ في مناجاته تخفيفًا لألم قلبها. تذكّرت دعاء مازن الذي كان يردده دومًا، فرددته في كل سجدة، حتى انخرطت في بكاءٍ مرير، لم يكن بين أحد سواها وبين الله. ظلّت تبكي حتى هدأت قليلًا، ثم نهضت، وأبدلت ثيابها استعدادًا لحضور المؤتمر.


دخل عليها هيثم، فوجدها جاهزة، رغم آثار البكاء الظاهرة على جفونها: – مي، جاهزة؟ يلا بينا.


– آه، جهزت، يلا.


ذهبت برفقته، وقابلا مازن عند باب الفندق. انشغلت مي بعملها، تدون كل شيء يحدث داخل المؤتمر، وتلتقط الصور للفعاليات والحضور. وبعد ساعات، انتهى المؤتمر، فخرجت مع شقيقها، حتى استوقفهم مازن عند الباب:


– هتعملوا إيه بعد كده؟


رد هيثم وهو يسير إلى جانبه: – نتغدى في المطعم، وبعد كده نتوكل على الله. وإنت؟


قال مازن بابتسامة: – وأنا كمان، لو مفيهاش مضايقة، أنضم ليكم؟ مش بحب آكل لوحدي، ونمشي سوا؟


– طبعًا يا زميلي، اللي ياكل لوحده يزور. يلا بينا.


كانت مي في عالم آخر، لم تنتبه لتلك العيون التي تراقبها في صمت.


تناولوا الطعام معًا، ولم تخلُ الجلسة من مزاح مازن وصديقه، بينما هي تبتسم لهما من حينٍ لآخر، بشرودٍ تام. كانت تغوص في أفكارها، تتأمل تلك الصدفة التي جمعتها به اليوم، أول مرة تراه منذ أن مدّ يده عليها، وسحبها من شعرها خارج منزل الزوجية، وطعنها في شرفها، وظلمها ظلمًا لم يغادر ذاكرتها حتى الآن.


– يلا يا مي، مي!


أفاقت من شرودها على صوت أخيها، وهو ينهض ويمدّ ذراعه نحوها: – إيه؟ في إيه؟ هنمشي؟


حثّها هيثم على النهوض: – آه، يلا بينا يا مي، هنطلع نجهّز حاجتنا وهنمشي مع مازن.


ثم وجّه كلامه لمازن: – هنخلّص ونتقابل بره الفندق، هكلمك، تمام؟


بعد عدة ساعات، وصلوا إلى القاهرة. دخلت منزلها، فاستقبلتها نبيلة بترحاب، تسألها بفضول:


– هيثم مطلعش ليه؟


ردت مي بهدوء:


– قال تعبان وعاوز ينام، فروح مع صاحبه، قالّي هييجيلك بكرة.


هتفت نبيلة بابتسامة:


– طيب، انبسطتي هناك؟ وغيرتي جو؟


أجابت مي بمشاعر مختلطة ارتسمت على وجهها:


– جدًا… فوق ما تتصوري، السفرية دي غيرت جوايا حاجات كتير قوي.


ثم همست لذاتها، كأنها تعاتب قلبها بصوتٍ لا يُسمع:

لو مكنتش سافرت، مكنتش صدّقت، غير لما اتأكدت بعنيا… والأمل اللي كان جوايا مات لحظتها. رجوعي له بقى مستحيل.


أفاقت من شرودها على صوت نبيلة وهي تناديها أن تنهض وتبدّل ثيابها. ردت مي وهي تجر جسدها بإرهاق:


– هقوم أهو، هنام، مش قادرة أفتح عنيا… تصبحي على خير.


مرّت ستة أشهر ثقيلة، حملت بين طياتها الألم والأمل. كانت سيلا سجينة جبس قيد حركتها، وليلٍ طويل سرق منها نور عينيها. لكن يد عاصم لم تفلت يدها يومًا يعوضها، كان ظلّها، وصوتها حين أظلم العالم من حولها، وقوّتها حين خذلها الجسد.


فُكّ الجبس أخيرًا، وبدأت معها مرحلةٌ جديدة، أشد قسوة، لكنها مختلفة. جلسات العلاج الطبيعي لم تكن مجرد تدريبٍ على الحركة، بل معركة تُخاض بكل نبضة أمل، وكل لمسة حنان من عاصم. كان يسندها بذراعه، ويهتف لها كلما ترددت:


– انتي تقدري… بصّيلي، أنا جنبك.


وفي كل خطوةٍ مرتعشة كانت تأخذها، كان يشد على يدها كأنها تمشي بقلبه، لا بساقيها.


ثم كانت المعجزة… لحظةٌ لا تُنسى، حين أغمضت عينيها للحظات، ثم فتحتهما، وبدأت ترى… خيوط الضوء تتسلل، ملامح عاصم تقترب شيئًا فشيئًا، حتى رأته واضحًا لأول مرة منذ الحادث. شهقت، ثم انفجرت دموعها، غير مصدقة:


– أنا شايفاك… أنا شايفاك يا عاصم!


فلم يقل شيئًا، فقط ضمها إليه، وكأن العالم كله عاد إلى مكانه.


منذ تلك اللحظة، لم تعد مجرد زوجة تتعافى، بل امرأة وُلدت من جديد، ومع كل خطوة تخطوها بعصاها، كانت تنقش على الأرض قصة حبٍ لم تُكتب بالحبر، بل بالصبر والدموع.


ورد اتصال هاتفي لعاصم من طبيبٍ كان صديقًا لوالده -رحمه الله-، فشك في أمره وانقبض قلبه. رد عليه بعد تبادل التحية والسلام، وتحدث إليه الطبيب عن وضع طبي خطير، لم يصدقه عاصم في البداية، هاتفًا بعدم تصديق:


– مش فاهم، انت قصدك معتز؟ أخويا؟ أنا متأكد.


وبعد أن استمع إليه وتأكد مائة بالمائة، جحظت عيناه، وكوّر قبضة يده بشدة، وأخذ صدره يعلو ويهبط من فرط توتره وصدمته مما سمع، والطرف الآخر يطلب منه الإسراع قبل فوات الأوان وسرعة تواجده بالمركز. لم يدرِ كيف أغلق الهاتف، وألقاه بإهمال حتى أصدر صوت تساقطه، فانتبهت له سيلا، وجذبته من الأرض، ووضعته على المنضدة بجانبه.


لاحظت أن عاصم يترنح في وقفته، فأسرعت إليه تلحقه، تهزه متسائلة بفزع أمام هيئته المرعبة:


– عاصم، فيه إيه؟ مين كلمك؟ فوق يا عاصم! همسة حصلها حاجة؟! انطق!


أصبح في عالمٍ آخر، تائها، جلس على أقرب مقعد يلتقط أنفاسه، فارتوى من الكأس الذي أحضرته له سيلا، ارتشف قليلًا، وهتف بوجع واضعًا يده على قلبه، ناطقًا اسمه بحزن:


– معتز يا سيلا… ابني الصغير اللي ربيته… ابني بيموت لوحده… آه على الوجع اللي فيه…


بصدمة، تحدثت بعدم فهم:


– معتز مين؟ وازاي؟ مين قالك؟ مين كلمك؟ هو معتز اللي كان بيكلمك؟ انطق يا عاصم، في إيه؟!


نهض عاصم فجأة، يتوجه إلى غرفته بخطى متوترة، وبدأ يجمع ملابسه في الحقيبة بعشوائية، وكأن الأرض تحته تميد:


– لازم ننزل، لازم أشوفه، أضربه وأحضنه وأقوله ليه؟ ليه مقولتش ليا؟ نلحقك قبل ما تسافر… معتز عنده ورم في المخ، في منطقة حسّاسة… نسبة نجاح العملية تلاتين في المية! معتز وصّى الدكتور محدش يعرف دلوقتي، كان عايز يهيئ نفسه، وبعد كده يبلغنا… بس اتأخر، والدكتور بلغني لما لقى نفسه اتأخر كتير… كل تأخير بيضيع الفرصة أكتر.


ظل يدور حول نفسه، يشد على شعره بأنامل مضطربة، بينما سيلا واقفة مذهولة مما سمعته، تحاول تهدئته بصوت خافت وقلق:


– إهدى… اقعد الأول يا عاصم، نفكر هنبدأ منين، ونتصل بوليد وعامر، وهم يقرروا معانا.


رفع عينيه نحوها بحزنٍ قاتم، ثم ارتمى داخل أحضانها كمن فرّ منه صبره، وانفجر في بكاءٍ موجع:


– معتز بيموت قدامي… مش هستحمل فراقه… أنا اللي ربيته، دا ابني، والله ابني…


ظلّت تمسح على رأسه وكتفيه، تقبّله بحنو، كأنها تُسكن الوجع:


– نلحقه، نشوف أكبر دكتور، ونعمله العملية، وهتنجح بإذن الله، وهيقوم ويرجع وسطينا، والله، خلي أملك في ربنا كبير… يلا بينا ننزل من هنا. أنا هروح أجهز الشنط، وإنت ريّح شوية، واعمل تليفوناتك، كلّم وليد يبلّغ عامر، وخليهم يتجمعوا.



في اليوم التالي، بالغردقة، اجتمع كلٌّ من وليد، عامر، عاصم، وسيلا داخل غرفة الفندق التابع لهم، بعد أن هاتفهم عاصم وشرح لهم كل شيء. اتفقوا على الاجتماع هناك لتواجد معتز في نفس المدينة، لكن بفندق آخر.


أعاد عاصم الاتصال بالطبيب معتذرًا عن إغلاقه المفاجئ للهاتف، مبررًا ذلك بصدمته مما سمع، فبادله الطبيب بنبرة حازمة:


– حلّ الأمر مش هيكون بالعصبية، لازم المريض يدخل العملية بإرادته، وبنفسية هادئة، الضغط مش هيساعد، بالعكس، هيأثر عليه بالسلب.


أصبح عاصم كجسدٍ متجمّد، صامتًا لا يشاركهم الحديث، يتوق فقط إلى رؤية أخيه، فيما التفت وليد إلى عامر يسأله:


– إنت عارف قاعد فين؟ بتشوفه؟


أجاب عامر مترددًا:


– جماعة صحابي بيشوفوه كل ليلة في الملهى الليلي، بيمشي منه الصبح… أنا من آخر مرة اتخانقت معاه وساب الفندق، مبقتش أشوفه للأسف… والمشكلة إننا لو ضغطنا عليه دلوقتي، زي ما الدكتور قال، مش هنكسب حاجة… الموضوع عايز سياسة وهدوء، فاهمين؟ ما ندخلش قفش معاه، ممكن يهرب ومش نعرف مكانه تاني.


هتف وليد مؤيدًا:


– معاك في كل ده، بس إزاي نقنعه؟ المهم… قوم بينا نجيبه ونشوفه.


قاطعتهم سيلا بتفكير حاسم:


– طيب، اعملوا حسابكم على مي… أكيد هي من أسباب بعده، وليها تأثير عليه.


أشار وليد نحوها موافقًا:


– أيوه، صح جدًا… كلميها وفهميها وضعه، وإنها تساعدنا… صح يا عاصم، ولا إيه؟


يا ترى مي هتعمل إيه؟

هتمد له إيدها، وتنقذه من عزلته زي ما هي كانت بتتمنى يومًا ينقذها من وجعها؟

ولا هتدير له ظهرها، زي ما عمل وضيع لحظاتهم الحلوة؟


القرار مش بسيط… واللحظة دي كفيلة تغيّر شكل كل الحكاية.


وسؤال تاني بيحفر جوه العمق…

لما نقارن بين عاصم وسيلا ومي ومعتز،

مين حبّه كان أصدق؟

مين حبّه صمد؟

مين قدر يحب رغم الخذلان، ويتمسّك رغم الألم؟

ومين حبّه كان مجرد لحظة، أول ما اتكسر… انتهى؟


هل رباط الحب اللي بينهم قوي ويتحمل، ولا ضعيف وهيتقطع؟

ولا يمكن تحت رماد الجراح، لسه في شعلة قادرة تنوّر الطريق من جديد؟


جاوبوا أنتم… لسه الحكاية مخلصتش.

يتبع…

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول 1من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني 2من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثالث 3من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا







تعليقات

التنقل السريع