القائمة الرئيسية

الصفحات

رواية غرام الذئاب الفصل السابع عشر 17بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )

 

رواية غرام الذئاب الفصل السابع عشر 17بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )






رواية غرام الذئاب الفصل السابع عشر 17بقلم ولاء رفعت (حصريه وجديده في مدونة قصر الروايات )



#الفصل_السابع_عشر

#غرام_الذئاب

#الجزء_الرابع_من_سلسلة_صراع_الذئاب

#ولاء_رفعت_علي


الألم ليس في فقدها فحسب، بل في كل ثانية تمر وأنا لا أعلم إن كانت بخير أم أن الخوف قد غلبها.

هناك مسافة بيننا ليست بالطرق أو المدن، بل مسافة من الصمت والظلال والوجوه المجهولة.

أُقسم أنني لو عرفت الطريق إليها، لسرت حافيًا على حد السكين حتى أصل.


يونس البحيري.. 


امتزج الصمت القاتم بأزيز أجهزة الطوارئ في ردهة المستشفى، حيث كان قصي واقف كتمثال حائر أمام غرفة الفحص، وقد تلبدت ملامحه بالقلق وانسحبت الظلال على قسماته، لا يعلم ما يدور خلف ذلك الباب المغلق.


وفي الداخل، كانت الطبيبة تجلس على مقعدها في هدوء محترف، تحدق في شاشة صغيرة تعكس نبض حياة في رحم الأم، بينما تحرك جهاز الفحص فوق بطن صبا التي كانت ترتعش كغصن هش في مهب العاصفة. 

  دموعها تنسال في صمت، لكنها ما لبثت أن انطلقت بصوت مرتجف، تتوسل بشيء من الرجاء

"بالله عليكي، قوليلي البيبي كويس؟، ولا جراله حاجة؟"


رمقتها الطبيبة بعين غلبها الأسى، وقد راعتها حالتها المضطربة، ثم ردت بنبرة هادئة تُغلفها الشفقة

"اهدي يا مدام، العياط وحالة الخوف اللي انتي فيها غلط عليكي وعلى الجنين"


أطلقت الأخرى شهقة حارة، وقد عادت تبكي بحرقة، ثم قالت بصوت ممزوج باليأس والوجع

"بقولك وقعت على ضهري، والوقعة كانت جامدة، وحاسة بوجع شديد عايزاني اهدي إزاي؟!"


أغمضت الطبيبة عينيها لبرهة، وكأنها تستجلب الصبر، ثم ما لبثت أن تنهدت وقد ثبتت نظرها على الشاشة، قبل أن تبتسم ابتسامة صغيرة وتهتف بطمأنينة

"عايزاكي تطمني، الحمد لله البيبي بخير، وعمره عشر أسابيع"


كان وقع تلك الكلمات كالماء البارد على قلب مشتعل، نظرت صبا نحو شاشة السونار، تملأ عينيها الدموع وابتسمت ابتسامة خجولة من بين بكائها، ثم بدأت تردد بتسبيح خافت

"الحمد لله... الحمد لله والشكر ليك يا رب"


رأت الطبيبة كيف ارتسمت السكينة على ملامحها المتعبة، فامتلأ وجهها بسعادة صافية، وسألتها وهي تعدل وضع الجهاز

"تحبي أسمعك نبضه؟"


هزت رأسها بالموافقة، وقد علا وجهها شيء من الأمل البريء، ما لبثت أن استدركت الطبيبة وكأن أمر تذكرته فجأة، وسألتها بنبرة فضول خفيف

"هو الأستاذ اللي واقف بره... يبقى جوزك؟"


تبدل وجهها فجأة، وزفرت بضيق مكتوم، ثم أجابت بامتعاض لم تحاول إخفاءه

"للأسف... جوزي"


رفعت الطبيبة حاجبيها كأنما دهشت من الرد، سألتها بلطف

"أنا ممكن أناديله ييجي يشوف البيبي معاكي ويسمع نبض قلبه"


لكن صبا رمقتها بنظرة صارخة بالرفض، واخبرتها بحدة لا تقبل النقاش

"لاء، وبعدين هو مايعرفش إن أنا حامل"


ثم انخفض صوتها شيئًا فشيئًا حتى كاد يتلاشى 

"لو عرف إني حامل... مش هيرضى يطلقني"


تسللت كلماتها الأخيرة إلى أذن الطبيبة كهمسة مشوبة بالخوف، فعقدت حاجبيها، محاولة التقاط الخيوط المتناثرة في الحديث.

  حدقت قليلًا في اللاصقة الطبية أعلى جبهة صبا، ثم سألتها بنبرة يغلفها الحذر

"هو اللي عمل فيكي كده؟"


وأشارت بأصابعها نحو الجرح المغطى على جبينها، كأنما تشير إلى جرح أعمق بكثير مما تراه العين.


                        ❈-❈-❈


كانت علا تقف بين يدي الله، تناجيه بقلب مثقل، وروح منكسرة. 

سجدت وركعت، ثم رفعت يديها المرتجفتين إلى السماء، تسكب ما بها من حيرة ووجع، وتهمس بدعاء لا يسمعه سواها

"اللهم إني لا أقوى، وإني لا أملك من أمري شيئًا، فامنحني الصبر، واغمرني بالقوة، واصرف عن قلبي ما يؤذيه، وإن كان حب أحمد شرًا لي، فانسني إياه، وابعده عني كما تبعد السماء عن الأرض"


أنهت صلاتها بتسليم خاشع، ورفعت بصرها المرهق فإذا بباب الغرفة يُفتح على مصراعيه، دون طرق أو إذن. اعتدلت في جلستها، وعيناها تتجهان إلى الوافدة.  

كانت داليا تقف عند العتبة، تتهادى إلى الداخل بابتسامة مريبة وقالت، بلهجة تقطر استهزاء

"تقبل الله يا... اسمك علا صح؟"


تجمدت الكلمات على لسان الأخرى واستشعرت السخرية تندس بين ثنايا تلك العبارة، فنهضت بتؤدة، وقالت بجمود لا يخلو من التحدي

"لو سمحتي، اتفضلي اطلعي بره... أحسن ما أناديلك أحمد يجي يطلعك بنفسه"


قهقهت داليا بخفة متعمدة، تقدمت ببطء

"أنا هنا ضيفة شيري، وقريب أوي هقولها يا طنط، على اعتبار إنها حماتي"


أخفت الأخرى ما جال بخاطرها، وردت بابتسامة لا تحمل أكثر مما تُبدي

"وجاية لي عشان أقولك ألف مبروك يعني؟!، ألف مبروك يا آنسة داليا"


رمقتها بدهشة ممزوجة بالريبة

"معقول؟، بسهولة كده؟، عادي يعني مستسلمة؟، وجوزك يتجوز عليكي كأنك مش موجودة؟"


ارتسمت على وجه علا ابتسامة مريرة، وقالت بما يُناقض العاصفة التي تضرب صدرها

"ده لو كان جوازنا طبيعي، أظن مدام شيريهان فهمتك سبب الجوازة، عشان ابني يفضل تحت وصايتهم، وقدام عينيهم"


تفرست الأخرى ملامحها وكأنها تحاول قراءة سطور مكتوبة خلف الجفون

"بس عيونك، ووقت الخناقة اللي شفتها بينك وبين أحمد، بيقولوا غير كده خالص، إنتي بتحبيه وهو بيحبك، اللي انتي ماتعرفيهوش هو اللي كلمني وطلب إيدي للجواز، وهنعمل خطوبتنا قريب أوي"


رفعت علا رأسها، ونطقت بكلمات متماسكة كصخرة تضربها أمواج الحقد

"تمام، طالما هو اللي طلب إيدك بنفسه، عايزاني أعملك إيه؟ هو حر، يتجوز، يخطب، يرافق، مش فارق معايا، أنا عايشة هنا عشان ابني"


ضيقت الأخرى عينيها، وبدت كمن لم تستوعب بعد ما تسمع، ثم تقدمت وجذبت كرسيًا جلست عليه، وجذبت آخر ووضعته أمامها

"تعالي هاقولك على حاجة، بس ياريت تفضل سر ما بيني وبينك، اللي خلاني أقولك إني حسيت كلامك صادق، مش كله، بس أكيد إن اللي يهمك ابنك، صح؟"


جلست علا أمامها في صمت يقترن بالتيقظ

"صح، وياريت من غير لف ودوران، قولي عايزة إيه من الآخر"


مالت للأمام، خافضة صوتها كأنها تخشى أن تسمع الجدران حديثها

"بصي، أنا عرفت إنك كذا مرة حاولتي تهربي من شيري وأحمد، وبرضه كانوا بيوصلوا لك، وبيهددوكي بابنك كل مرة، خصوصًا لو فكرت تطلبي الطلاق، و مهما عملتي أحمد استحالة يطلقك"


"ويا ترى أحمد اللي حكى لك؟ ولا شيري هانم؟"


ابتسمت الأخرى بمكر لا تخطئه عين

"تؤ تؤ، عرفت من مصادري الخاصة، نرجع لموضوعنا المهم، أنا هاعقد معاكي اتفاق لمصلحتك ولمصلحتي"


ارتفعت حاجبا علا في دهشة

"اسمعيني كويس، وركزي في كل كلمة، أنا مصلحتي أتجوز أحمد، واللي ما تعرفهوش إننا كنا على علاقة حب قديمة، واللي بيني و بينه أكتر من كده، بحكم إننا كنا قريبين أوي، ومصلحتك إنك تبعدي بابنك في مكان لا توصله شيري ولا حتى هو، فالحل إنكم تسافروا بره مصر، وبأسرع وقت"


تصلبت ملامح علا، واشتعل قلبها بغيرة كادت تنفجر، كيف لتلك الحمقاء أن تُطالبها بترك زوجها لها؟!، لكن صوت غريمتها جذبها من شرودها

"هقولك على سر كمان يخليكي تعرفي أنتي واقعة مين؟!"


تنهدت ثم اسطردت

" كان أحمد بيحب بنت موظفة عندهم اسمها روح، مفيش حد كان يعرف غير شيري، وهددته إنه لو ما بعدش عنها هتطردها وتبهدل عيلتها، لكن المفاجأة، طلع المرحوم ابو ابنك، كان بيحبها هو كمان"


ظلت تحدق للحظات إلي رد فعل تلك المصدومة فتابعت حديثها

"أحمد ما استحملش وسافر وشبه قاطعهم، جت تعمل نفس الحوار مع حازم لكنه رفض و عاند معاها، وقالها  أنا مش أحمد عشان تمشي كلامك عليا، وفعلاً اتجوز روح، واستقل عن العيلة تمامًا، لحد ما في يوم كان سايق بدل روح و اتقلبت بيهم العربية، كانوا بيقولوا كان سكران ساعتها، هو جاله شوية خدوش وكدمات، لكن روح ماتت، ومن يومها وهو بيدمر نفسه، بيشرب و بيعمل أي حاجة ينتقم بيها من نفسه"


وقفت تتجول في الغرفة ثم توقفت لتكمل

"المهم، شيري عمرها ما هتسيبلك ابنها، ولا هتخلي أحمد يحبك ويكمل معاكي، لأنك ببساطة مش من مستواهم، ومعلش يعني إزاي أحمد يقبل مراته تشتغل خدامة، وتقعد في أوضة زي دي في ڤيلا طويلة و عريضة،ليها فيها زي مامته؟"


هنا وقفت علا شامخة

"أنا اللي اخترت كده، محدش أجبرني على حاجة"

صمتت برهة، ثم أردفت

"أنتي عايزة توصلي لإيه يا داليا؟"


"ما أنا قولتلك يا لولو، سيبيلي أحمد، وخدي ابنك واهربي، لو وافقتي، أوراقك وأوراق ابنك هتكون جاهزة، ولو حابة أضرب لكم باسبورات بأسماء تانية، عشان محدش يعرف انتم سافرتوا فين ويوصلوا ليكم"


استغرقت علا في التفكير، وأفكارها تتشابك كخيوط العنكبوت، فسألتها داليا

"ها، قولتي إيه؟"


أفاقت من شرودها

"سيبيني أفكر، وهبقى أرد عليكي"


ابتسمت الأخرى بدهاء، وأخرجت هاتفها

"خدي، اتصلي علي رقمك و سجلي رقمي عشان نقدر نتواصل، بس أوعي تنسي كل حاجة بينا وبس، مضطرة أسيبك، عندي تحضيرات كتير للأيام الجاية"


وقبل أن تغادر أوقفتها علا

"أنتي مش خايفة من شيريهان أو أحمد لو عرفوا أنتي ساعدتيني أهرب؟"


أجابت بثقة تثير الريبة

"ما تقلقيش، أنا عاملة حسابي لكل حاجة، المهم فكري وردي عليا بسرعة"


عودة إلى الوقت الحالي...


                       ❈-❈-❈


يقف منتظرًا على أحر من الجمر، يتقلب بين أروقة القلق ولهيب الترقب، يتلصص بعينيه على باب الغرفة المغلق كأنما يود أن ينفذ من خلاله إلى ما وراءه، إلى حيث ترقد زوجته وتُفحص.


تساءل بدهشة مشوبة بشك داخلي، لماذا طلبت الطبيبة منه الانتظار بالخارج؟!، أيُعقل أن يكون مجرد فحص روتيني يتطلب إقصاءه؟!، أليس هو الزوج؟!، أليس من حقه الاطمئنان علي زوجته؟! 


لحظات أخرى مرت كأنها الدهر، وساعتها توقفت عقارب الانتظار، فلم يستطع أن يكبح جماح قلقه، ولا أن يقيد صبره المتهالك، فاندفع كالسهم نحو الباب، يقرعه دون تردد، ثم ولج.

وفي الداخل، كانت صبا قد زفرت بضيق ظاهر، كأنما تنفست عن صدر مثقل بالأحمال، ثم رمقت الطبيبة بنظرة ملغومة وقالت بصوت خافت أقرب إلى الرجاء

"ممكن حضرتك تسمعيني نبض قلب البيبي؟


أدركت الطبيبة من نبرة صوتها وفتور عينيها، أن تلك المرأة لا تريد خوض أي حديث الآن، ولا رغبة لها في مزيد من الأسئلة. 

  فاكتفت بالصمت، وأخذت جهاز "الدوبلر" بيديها وألصقت المسبار برفق على بطنها، فأخذ الجهاز يلتقط ذبذبات الحياة من داخل الرحم، وتحول الصمت إلى لحن عذب، إيقاعه دقات متسارعة، نابضة بالحياة.


استرقت صبا السمع، واهتز قلبها بذلك الصوت، كأنها تسمعه لأول مرة، رغم أنه جنينها الثالث. 

  لكنه هذه المرة، بدا لها الأمر مختلف، أقرب، أعمق بل أغلى.


وإذا بصوت اندفاع الباب يقتحم لحظة السكون تلك، وظهر قصي وجهه يحمل ألف سؤال، وعيناه تتحدثان بلغة لا يفهمها سواهما.


اتسعت عينا صبا، انتفض جسدها وازدردت ريقها، تخشى رد فعله، تخاف غضبه، تخشى لائمة لا طاقة لها بها.

أما هو، فخطا نحوها خطوات متثاقلة كأن الأرض تعيقه، لكن عينيه لم تفارقا شاشة السونار، وأذنه تتلذذ بسماع نبضات ذاك الكيان الصغير القابع في رحمها.


لم يصدق ما يرى، ولا ما يسمع، قلبه ارتجف، تراقص فرحاً، كأنها البُشرى الأولى لا الثالثة. 

  شيء ما بداخله تفتق، نور ما أضاء صدره، حب ما انفجر بين الضلوع.


جالت الطبيبة بنظرها بينهما، ثم استقرت على صبا التي كانت قد نهضت بجذعها قليلًا، تترقبه بعينين ملؤهما التوتر، ثم نظرت إليه، فوجدت في عينيه نظرة لم تفهمها


فاشارت له وبنبرة حاولت أن تجعلها حيادية

"تعالى حضرتك نتكلم بره وهافهمك كل حاجة و...


لكنه  لوح بكفه لها أن تصمت، كأن الحديث الآن لم يعد يعنيه، أو كأنه لا يريد أن يُقال له شيء.  

وفجأة وعلى غير المتوقع، ارتسمت على محياه ابتسامة عريضة، صادقة واسعة، كأنها كسرت جدران الغرفة كلها.


ثم التفت نحو زوجته، وتقدم منها دون تردد، وفي لحظة اختلط فيها الاندهاش بالعاطفة، اندفع نحوها واحتواها بين ذراعيه بقوة. 

  عانقها كما لو كان يعانق الحياة ذاتها، 

اصابها الذهول، بينما الطبيبة فقد وقفت مندهشة للحظة، ثم ما لبثت أن شعرت بالحرج فتمتمت

"طيب... عن إذنكم" 


وغادرت تغلق الباب خلفها في هدوء، تاركة خلفه لحظة لا تُنسى...

كان عناقه يشع دفءً يكاد يذيب قساوة الأيام المتراكمة بينهما، عناق تماوجت فيه المشاعر كبحر عاتٍ يفيض بشوق مقموع. تهدجت أنفاسه كأنها أنفاس من نجا بعد طول اختناق، وارتعشت على شفتيه ابتسامة باكية، ترتجف بين فرحة اللقاء وغصة الذكرى، بينما انسدلت من عينه دمعة وحيدة خرساء، تقاوم السقوط حتي انسدلت مرغمة على وجنته، شاهدة على صراع داخلي مرير.


وإذا بها صبا فؤاده وروحه، قد تجمدت لحظة بين ذراعيه، هيهات وإذا بها تدفعه فجأة بعيدًا عنها بعنف أفزع الوجدان، لم تكترث على ما خلفته من صدمة في ملامحه المرتبكة، ولا تبالي بارتباك روحه من رد فعلها القاسي.

فقالت بصوت مشحون بالعزم والانكسار

"ابعد عني ماتلمسنيش، وقبل ما تقول أي كلمة، أو تعاتب وتلوم، أنا هافضل على موقفي، هاتطلقني يعني هاتطلقني، ولو ما طلقتنيش، هارفع عليك قضية" 

ابتلعت لُعابها واردفت بكل جرأة غير آبهة لما سيترتب علي قولها الآتي بعزم و إصرار

"هخلعك يا قصي" 


لحظات كان فيها الصمت سيد الموقف، وإذا صدرت منها شهقة مذعورة باغتتها حين جذب الدثار من فوقها وألقاه بعيدًا، التقطها بذراعيه بقوة وحسم كأنما يختطفها من قرارها.


صرخت وهي تتشبث بكرامتها 

"نزلني يا قصي، نزلني يا إما هصرخ، وألم عليك كل اللي في المستشفى"


فأجابها بصوت هادئ مشوب بالعناد "صرخي براحتك، محدش ليه حاجة عندي... واحد وشايل مراته"


خرج من الغرفة، يخطو كمن لا يهاب عاقبة، يضرب الأرض بثقة المحارب المنتصر.  

تبعته الطبيبة بخطى مسرعة ووجه يكسوه الذهول، هتفت محاولة إيقافه

"استني عندك هنا، فين الأمن هنا؟، يا أمن!"


توقف والتفت إليها، يرمقها بنظرة حادة كالسيف

  "ارجعي على شغلك يا دكتورة، أحسن لك"


تلبسها الخوف، تجمدت قدماها للحظة، ثم تقهقرت إلى الوراء، وعادت أدراجها إلى عملها دون اعتراض.

بينما صبا كانت تلهث بغضب، وصاحت وهي تضربه بكفها المرتجف على صدره "وكمان بتهدد الدكتورة!، مش كفاية اللي عملته فيا؟!، فتحتلي دماغي وكنت هتسقطني، ولا الراجل اللي كسرتله سنانه وورمتله وشه؟!"


رمقها بنظرة يعتصرها الأسى والغيرة، وقال بلهجة ملؤها التبرير واللوم 

"قولتلك مكنتش قاصد أجي جمبك خالص، وبالنسبة للمخنث اللي مسك إيدك وباسها، لو رجع بيا الزمن كنت كسرتله إيده، مش سنانه كمان، وبعدين الغلط مش عليه لوحده، الغلط على اللي سمحت له بكده"


انتفضت كمن لدغها عقرب من بين كلماته، وهتفت باستنكار

  "قصدك إيه يعني؟، الراجل ضيف عندي وبيسلم، عايزني أحرجه وأكسفه؟!، إحمد ربنا إنه معملش فيك محضر بالتعدي"


توقف جوار سيارته وأنزلها برفق، يحاول كبح بركانه، ثم فتح الباب الأمامي وقال بصوت خافت فيه ما يُشبه الرجاء

  "اركبي يا صبا، ونبقى نكمل كلامنا في بيتنا"


صرخت بانفعال

  "بيتنا؟!، أنا هارجع على قصر بابا وهاتطلقني لإما هخلعك"


جزّ على شفته السفلى، وعيناه تشتعلان بتناقض بين الحب والغضب

  "اركبي، وهعملك اللي أنتي عايزاه"


رفعت ذقنها بتحد وقالت بعناد مرير 

"وأنا مش عايزة أركب معاك، امشي إنت وأنا هاتصل ببابا ييجي ياخدني"


شعر أن صبره يتآكل، وأن غضبه يتربص به على أطراف أعصابه، فتنفس بعمق وأطلق زفيره رويدًا رويدًا، ثم طلب منها بصوت هادئ لا يشبهه 

"ممكن ومن فضلك يا حبيبتي تركبي؟"


رمقته بحنق، عقدت ما بين حاجبيها، وصاحت

  "ماتقوليش يا حبيبتي"


كاد أن يضحك رغمًا عنه، فبين يديه يرى الآن صورة مصغرة من ابنته، طفلة مدللة في جسد امرأة ثائرة، فما كان منه إلا أن اتخذ القرار بنفسه.  

انحنى وحملها برفق، أدخلها إلى المقعد الأمامي.


صرخت متلوحة بذراعيها

  "بتعمل إيه؟!، أوعى، نزلني"


ثبت لها حزام الأمان، وأغلق باب السيارة، ثم التف إلى الجهة الأخرى وجلس في مقعد القيادة، أغلق الباب بسرعة وضغط على القفل الرئيسي الذي يغلق جميع الأبواب والنوافذ دفعة واحدة.


قالت من بين أسنانها وهي تنفجر من الغضب 

  "على فكرة، اللي بتعمله ده اسمه خطف"


نظر إليها وابتسم ابتسامة خبيثة ليشعلل من غيظها، وبدأ يقود السيارة.

اخبرها بنبرة ساخرة 

  "لما نروح، ابقي بلغي البوليس، قوليلهم جوزي خطفني"


جزت على أسنانها من شدة الغيظ، عقدت ساعديها أمام صدرها وزفرت بحنق بالغ يكاد يشعل الأجواء 

"بارد أوي"


ضحك بتهكم، ورد عليها بكلمات لا تخلو من نوايا لا تمت للبراءة بصلة 

  "بارد؟!، معلش بقى يا حبيبتي، أصلِك كنتي بعيدة عني الأيام اللي فاتت، لما ترجعي لقصرك وأوضتنا وسريرنا، ابقي دفيني"


صرخت به بحنق، ثم تناولت صندوق المحارم الورقية وقذفته في وجهه، أشاح وجهه نحو النافذة الأخرى، وانفجر ضاحكًا بصمت، يخفي ضحكته عن عينيها. 


                        ❈-❈-❈


كان يلهث تحت لهيب الشمس، يلتقط المجرفة بيدين متسختين، ويلقي بالرمال في جوف تلك الحفرة وكأنه يدفن معها كل أثر لجريمته.  

فمنذ أن أزهق روح صديقه الطبيب، سحبه من ذراعيه بغل مسعور، وجرجره عبر الممرات حتى ألقى به في حوض الاستحمام البارد. 

ومن هناك، خطط أن يُبيد كل دليل، أن يُواري الجثة في صمت حتى لا يفتضح أمره، وذلك بعد أن قام بتقطيعها إلي عدة أجزاء. 


انتهى من الردم، ومسح العرق عن جبينه بكم قميصه الممزق، ثم قفز إلى سيارته وغادر إلى مكان آخر. 

حفر قبراً جديداً، أخرج من صندوق السيارة كيساً بلاستيكياً أسود، ألقاه في جوف الحفرة، ثم طمره بالرمال.  

كرر فعلته تلك في خمس مواقع متباعدة، متعمدة الإخفاء، بعيدة عن المنزل الصيفي الذي شهد الجريمة.


حين أنهى مهمته، عاد وهو يعتقد في غروره أن خطته محكمة، وأن أحداً لن يكتشف أمره قبل موعد سفره.  

دلف إلى البيت حاملاً أكياساً مكتظة بالطعام، وأغلق الباب بإحكام، قفله بالمفتاح من الداخل، وأوصد عليه المزلاج المزدوج، ثم دس المفتاح في جيب بنطاله.  

وضع الأكياس على الرخام البارد في المطبخ، قبل أن يتوجه للاستحمام.


خلع ملابسه الملطخة بتراب الحفر، ارتدى بنطالاً قطنياً فقط وترك صدره العاري يلمع تحت الضوء الخافت.  

عاد إلى المطبخ وأعد الطعام لتلك النائمة في الغرفة... النائمة مكرهة، مكبلة اليدين بسلاسل معدنية، وعنقها تطوقه حلقة جلدية مهينة، ترتجف كطائر جريح وتبكي بين الحين والآخر، تهمس بدعاء خافت أن ينقذها الله من هذا المختل القاتل.


كان يطلق صفيراً مرحاً كأنه لم يزهق روحاً، دخل عليها حاملاً صينية الطعام، فما إن سمعت وقع خطواته حتى تظاهرت بالنوم، خوفاً من المواجهة، خاصة بعد ما لاقته منه طوال ليلة الأمس.


وضع الصينية على المنضدة المجاورة للفراش، ثم جلس على طرف السرير، يميل بجسده نحوها، يتأمل ملامحها عن قرب.  

فجأة، دوى صوت تنبيه الرسائل على هاتفه، فانتفض سريعاً ليرى المحتوى، 

كان من صديق له

«مهند لو لسه معاك كارين العزازي سيبها بسرعة، أهلها قالبين الدنيا، والسوشيال ميديا كلها بتتكلم عن خطفك ليها... أنت عارف أخوها مين... قصي البحيري ده لو عتر فيك هيخليك تقابل وجه كريم... ده غير جوزها نشر فيديو وأنت بتخطفها... لو اتمسكت مش هيرحموك، وأنا مش هقدر أساعدك أكتر من كده يا صاحبي»


اشتدت عضلات فكه، واشتعلت عيناه القاتمتان من الغضب. 

أرسل إليه رد حاد

«أنا مش هسيبها... هاخدها ونسافر، ولا قوة في الدنيا تقدر تاخدها مني... وبالنسبة ليك يا صاحبي، متشكر لحد كده، أنا هعرف أتصرف»


ضغط على زر الإرسال، ثم حظر رقم صديقه دون تردد.  

التفت إليها، فوجدها تحدق فيه بعينين واهنتين، تستجديه أن يحررها من هذا الأسر المُذل.


اقترب منها، وسحب الكرسي ليجلس بجوارها، ثم أطفأ لفافة تبغ متقدة في المطفأة الزجاجية على الكمود.  

ظل يتأملها في صمت، بلا مبالاة ظاهرة بحالها البائس، حتى بدأت تتلوى من الألم. ارتسمت على ملامحها علامات الاختناق، وارتجفت جفونها مع انسدالها، عندها وثب من مقعده، ونزع الشريط اللاصق عن فمها بسرعة، وربّت على خدها، وقلبه يرتجف من الخوف عليها، وهو يتمتم باضطراب

"لاء، لاء، فوقي يا كارين، بصي لي، هتبقي كويسة وهنسافر أنا وإنتي ونعيش مع بعض على طول، لازم تعيشي، مش هاتروحي، مش هاسيبك تروحي مني زيها"


هرع إلى المطبخ وأتى بكوب ماء وزجاجة عطر من فوق طاولة مرآة الزينة، نثر الماء على وجهها، ثم رش شيئاً من العطر على يده، ووضعه أسفل أنفها قائلاً بصوت مرتعش

"كارين، سمعاني؟، سمعاني يا حبيبتي؟"


ظل يربت بخفة على خديها، يهز جسدها المرتجف في محاولة لإيقاظها من الغيبوبة الطارئة، حتى بدأت أنفاسها تتسارع وتستعيد وعيها رويداً. 

وحين فتحت عينيها، وجدت نفسها بين ذراعيه، يحدق في وجهها بتمعن.

  استقرت نظراتها في عينيه الحادتين، وابتلعت ريقها بصعوبة، لتخرج بصوت واهن متقطع

"قتلت الدكتور... عملت في جثته إيه؟... أنا عايزة يونس... وديني ليه؟"


حدق فيها بتجهم قاتم، يجز على أسنانه في صمت، يكبح طوفان غضبه كي لا ينفلت زمامه فيؤذيها.

تظاهر باللامبالاة تجاه مطلبها، وفك قيودها الحديدية، وحملها بقبضتين ثابتتين نحو الحمام.  

وضعها برفق في حوض الاستحمام، وهي ما زالت ترتدي تلك القطع المهينة من الثياب، فعقدت ساعديها حول صدرها في محاولة يائسة لستر ما انكشف منها بسخاء فاضح.


وما إن أدار صنبور الماء، وانهمرت القطرات الباردة على جسدها، حتى شهقت وارتعشت، كمن اصابته صاعقة. 


جلس على ركبتيه جوارها، يمد كفه ليمسح خصلات شعرها المبعثرة، وهمس بصوت متموج بين القسوة والحنان

"كان لازم أقتله يا حبيبتي، كان عايز يبعدك عني"


لم يغب عنه ارتجاف جسدها، والخوف الذي يقطر من عينيها، والارتعاشة التي تلهب شفتيها.  

تابع قائلاً بنبرة مطمئنة زائفة

"ماتخافيش، أنا جمبك ومعاكي، مش هأذيكي طول ما إنتِ مطيعة وبتسمعي كلامي"


حدقت فيه بحذر شديد، والخوف يتربص في أعماقها، ثم تمتمت بصعوبة بالغة

"عايزة يونس، رجعني لجوزي وولادي ومش هقولهم حاجة، مش هاجيب سيرتك خالص"


كان يمسك بصنبور آخر متصل بخرطوم معدني مرن، وما إن تردّد اسم غريمه على مسامعه مرة أخرى، حتى اشتعلت شرارة الغضب في عينيه.  

ألقى بالصنبور على الحائط بعنف، وصاح بصوت وحشي متفجر

"كفاية بقى، كل شوية تكرري اسمه، انسيه لأنك مش هاتشوفيه تاني في حياتك، انسيه هو وعيالك"


ثم انقض على خصلات شعرها، قبض عليها بعنف، فأصابها الهلع وأوشك قلبها أن ينفجر رعباً، وهو يهدر

"مفيش غيري أنا، وهتجيبي ولاد مني أنا، أنا هابقى كل حياتك، كلك على بعضك ملكي، فاهمة؟، ردي عليا؟"


صرخ في آخر جملة، فهزت رأسها سريعاً، تردد بصوت مرتجف موافقة زائفة

"فاهمة... فاهمة"


ترك خصلاتها وجلس على الأرض، مسنداً ظهره إلى حوض الاستحمام.  

مال برأسه إلى الوراء، وأخذ يتنفس بعمق، قبل أن يبدأ في سرد ما بدا وكأنه اعتراف يخرج من قلب مشحون بالجنون

"كانت كل حاجة في حياتي، الهوا اللي بتنفسه، حبيت كل حاجة فيها، روحها و هدوئها، طاعتها واستسلامها ليا، كانت بتثق فيا أكتر ما بتثق في نفسها، عمرها ما قالتلي لاء على أي حاجة طلبتها منها، لو قولتلها روحي موتي نفسك، كانت عملتها من غير ما تتردد"


اعتدل في جلسته، وألقى بنظرة ثابتة نحو هذه المسكينة التي كانت تصغي إلى اعترافاته المريبة، بينما عقلها يضج بألف فكرة للهرب. 

  لاحظت حدّة عينيه وهي تتابع حديثه

"كنت بخاف عليها أوي من نفسي، بخاف عليها من الشيطان اللي جوايا، كنت عارف إنها استحملت عشان بتحبني، بس استسلامها كان بيغذي الوحش اللي جوايا، أوقات كتير ما بحسش بنفسي، ولما بفوق بلاقيها مرمية قدامي، وكل حتة في جسمها بتنزف دم، في كل مرة كانت هاتضيع مني، وبالصدفة بلحقها على آخر لحظة، لحد ما في يوم...


صمت فجأة، وعينيه تشرقان بوميض ذكرى أليمة.  

كان القاضي والجلاد في آن واحد، والندم –إن وُجد– لم ينجح يوماً في كبح وحشيته.


                        ❈-❈-❈


مشهد من الماضي... 

كان جالسًا في انتظـارها، يلتهم دخان سيجارته بنهمٍ كأنما يحاول أن يطفئ نيران تتأجج في صدره، وساقه تهتز بعصبية لا تخطئها العين، وملامحه تنذر بقدوم عاصفة لا نجاة منها.  

وما إن اخترق سمعه صوت المفتاح وهو يلامس قفل الباب، حتى أسقط لفافة التبغ المشتعلة على الطاولة، وكأن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل.


قال بنبرة حادة

"كنتي فين؟"


دخلت زوجته وهي تجر قدميها بخطوات مثقلة، وجهها شاحب كصفحة القمر في ليلة شتوية، ملامحها منهكة، والظل تحت عينيها أعمق من بئر نسيان.  


أجابت بصوت خافت بالكاد يصل إلي مسامعه

"ممكن لو سمحت نتكلم بعدين، أنا تعبانة أوي، هادخل أرتاح ولما أصحى نتكلم"


لم تلتفت لرده، ومضت نحو غرفة النوم، لكنها لم تكد تخطو إلى الداخل حتى صرخت من فرط الألم؛ إذ جذبها بعنف من شعرها، وصوته يهدر كزئير وحش كاسر

"ما بترديش عليا ليه؟ قافلة تليفونك من الصبح، أستناكي تيجي الشركة ماتجيش، روحتي فين من ورايا؟ كنتي مع مين؟ ها؟"


تعلقت بيده محاولة تخليص خصلاتها التي كادت تُنتزع من رأسها

"إيه اللي بتقوله ده؟، حرام عليك أنت أكتر واحد عارف أخلاقي، وعارف إن عمري ما أبص حتى مجرد نظرة لحد تاني غيرك، وعشان أريحك وأقتل الشك اللي عمرك ما هتتخلص منه، هقولك كنت فين"


أفلتها أخيرًا، ووقف يحدق فيها بترقب، قالت بثقل يقطر آلام

"كنت عند دكتورة النسا، عملت عملية إجهاض"


حدق فيها كأنه لم يفهم، ثم أشار إلى أذنه

"عيدي اللي قولتيه تاني؟"


أجابته بمرارة

"كنت حامل وسقطت، لأني مش عايزة أجيب طفل يكون كل ذنبه في الحياة إن أنا و أنت مامته وباباه، ومن غير ما أخوض في تفاصيل، أنت فاهم كويس قصدي إيه"


حلّ صمت قاتل، يزداد وطأة مع كل ثانية، والخوف يتسرب إلى أعماقها مثل سم بطيء. 

  هي تعرف جيدًا ما يعنيه هذا الصمت، فقد ذاقت من قبل ويلات جنونه، وتدرك أن ما فعلته في نظره جريمة مضاعفة.

أولًا أخفت عنه خبر حملها، وثانيًا اتخذت قرار الإجهاض دون إذنه.  

لكن الذي أمامها الآن لم يعد مجرد رجل قاسٍ، ولا حتى وحش هائج، بل شيئًا أشد ضراوة، وأشر من الشيطان ذاته.


ليتها أنهت حياتها بيديها قبل أن تعترف له، وكأنها ألقت بنفسها في فوهة الجحيم. وما هي إلا لحظات حتى سحبها كالشاة إلى "غرفة الجحيم"، تلك التي اعتادت أن تتركه يمارس فيها ميوله المريضة تحت وهم الحب، دون أن تدري أنها تغذي وحشيته.


لكن هذه المرة لم يكن التعذيب لبلوغ متعة، بل انتقام صرف، عذاب يسحق الجسد والروح معًا، حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وجسدها مغطى بالكدمات والسحجات التي شوهت ملامحها تمامًا.


عودة للوقت الحالي...

كانت كارين تهز رأسها برفض لما تسمعه؛ فهي أمام مجرم مختلّ، سادي النزعة، سايكوباتي النزعة الإجرامية. 

هل سيكون قدرها أن تموت على يديه، أم تتدخل عناية إلهية تنتشلها من هذا الجحيم؟! 


انتبهت لصمته الطويل، ورأت عينيه مغمضتين، كأنه غرق في وحل ذكرياته المظلمة.  

ابتلعت ريقها وهي تبحث عن وسيلة للفرار، ولو كان في ذلك مخاطرة بحياتها، إذ قد تتحول إلى الضحية التالية.


حسمت أمرها، ومدّت يدها إلى الصنبور المعدني المرن، ثم هوت به بكل ما تبقى في جسدها من قوة على رأسه، مرة تلو الأخرى، حتى سال الدم من جبينه وسقط على جانبه، وعيناه توشك على الإغلاق.


قفزت من حوض الاستحمام، وجسدها يرتجف من الرعب، تظن أنها قتلته.  

لكن لا وقت للتفكير؛ عليها أن تهرب، أغلقت باب الحمام من الخارج، وأسرعت إلى الغرفة التي حجزها فيها.  


أخذت تبحث عن ملابس، فعثرت على أكياس ورقية بداخلها أثواب وحقائب يد، يبدو إنها مشتريات سفر أعدّها لها من قبل.


نزعت الطوق المعدني عن عنقها، وارتدت في دقيقة ثوبًا أبيض من الكتان، تزين أطرافه نقوش أوراق سوداء، ثم التقطت إحدى الحقائب. 

  لملمت خصلات شعرها بعشوائية على هيئة كعكة غير مرتبة، وعيناها تبحثان في أرجاء المكان.  

لمحت هاتفه ملقى على الأرض، فالتقطته ووضعته في الحقيبة، وانطلقت مسرعة.


وصلت إلى باب المنزل فوجدته موصدًا، وتذكرت أن المفاتيح بحوزته.  

شعور التعب بدأ يتسرب إلى جسدها، لكنها قاومته، وذهبت تتفقد الغرف واحدة تلو الأخرى، وكلها مغلقة.  

  لم تجد سوى نافذة صغيرة في الغرفة التي كانت أسيرتها.


همست لنفسها وهي تلتقط أنفاسها

"يارب… يارب"


خطر لها مشهد من فيلم شاهدته قديمًا، فعادت تبحث عن سلاحه الناري. 

  تحركت بخفة، متجنبة إحداث أي صوت، حتى تجاوزت باب الحمام المغلق.

  دخلت الغرفة التي كانت بها منذ قليل، وفتشت الأدراج حتى وجدت المسدس.  


قبضت عليه وخرجت بحذر، لكن ما إن مرت أمام الحمام حتى شعرت بقلبها يهبط؛ لقد كان يحاول كسر الباب، وصوته يزلزل المكان

"افتحي الباب أحسنلك، هقتلك يا كارين… هقتلك"


ارتجفت يداها، وعيناها تتنقلان بين باب النجاة والرواق المؤدي إلى الجحيم. رفعت المسدس وصوبته نحو القفل، وأغمضت عينيها، ثم أطلقت طلقة اثنتين، ثلاثة، حتى تحطم القفل وانفتح الباب في اللحظة نفسها التي تحرر فيها هو من سجنه.


وبينما اندفع نحوها، أطلقت رصاصة عشوائية أصابت كتفه. 

  ركضت بجنون، مدفوعة بفيضان الأدرينالين، وهو يلحق بها رغم إصابة رأسه و الرصاصة المستقرة في كتفه.  


اختل توازنه، لكنه لم يتوقف بل أسرع نحو سيارته ليلحق بها.


بينما هي، فقد ركضت مسافة طويلة لا تدري إلى أين، حتى وجدت صخرة كبيرة فاختبأت خلفها، تلهث بشدة وقلبها يطرق صدرها طرقًا مروعًا.  

كانت تعلم أن قلبها المريض لن يتحمل هذا المجهود، لكنها لم تعبأ سوى بالعودة إلى زوجها.


أخرجت الهاتف، فوجدته مؤمّن بكلمة سر، جربت عدة محاولات عشوائية، ثم خطرت لها فكرة؛ كتبت اسمها فانفتح فورًا. 

ضغطت على الأرقام، واتصلت بزوجها… سمعت رنين الهاتف، وانتظرت إجابته.


                        ❈-❈-❈


يمكث في أركان معرضه، محاطًا بجدران الصمت الموحش، ينهش قلبه شعور العجز وقلة الحيلة. 

  لقد استنفذ كل سبل البحث عن زوجته المختطفة، ولم تُجدِ محاولاته أو محاولات الشرطة التي كلما هاتفهم جاءه صوتهم عبر الأثير بلهجة مكللة بالرجاء لا تيأس، فنحن نبذل قصارى جهدنا حتى نصل إليها.

  ومع ذلك، لم يكن اليقين حليفه، ولا الطمأنينة ضيف على قلبه.


في غمرة يأسه، تتقاطر عليه رسائل عبر منصة التواصل الاجتماعي، يزعم أصحابها أنهك وجدوا زوجته، لكن الضابط مدحت صديق شقيقه، يكشف له أن المتصل ليس سوى نصاب وضيع، يتلهف لابتلاع المكافأة المعلنة، وقيمتها عشرة ملايين جنيه.


كانت الطاولة أمامه ساحة فوضى؛ زجاجات خمر فارغة تتناثر فوقها وأسفلها، وطفايات سجائر مثقلة ببقايا محترقة تعبق برائحة احتراق خانقة.  


في الخارج، توقفت سيارة ياسين شقيقه، وقد جاء بعد أن دلته والدته على مأوى أخيه ذو القلب الممزق. 


أبصره حارس الأمن فابتسم مرحبًا به، ورد الأخر التحية، ثم ولج إلى الداخل متتبع أثر أخيه حتى وصل إلى غرفة المكتب.  

هناك كان المشهد يثير الرثاء؛ يونس ممدد على الأريكة الجلدية، غارق في سبات ثقيل، تحيط به بقايا زجاجات الخمر كما تحيط الجثث بخرائب المعارك.


ملامحه كانت ساحة غزو لليأس؛ عينان غائرتان، وجسد بلا روح، كأنما فقد نفسه.


مضى إلى البراد الصغير، التقط منه زجاجة ماء مثلج، وعاد ليقف جوار رأس أخيه. 

  فتح الزجاجة دفعة واحدة، وسكب محتواها البارد على رأس يونس الذي انتفض كمن لدغته أفعى، ونهض غاضبًا، أطلق سبّة لم يعهدها من فمه من قبل

"أنت يا...، أنت غبي يا لا!"


مسح الماء عن وجهه وشعره، ثم نزع قميصه المبتل وألقاه في وجه شقيقه

"غور من وشي، مش عايز أشوف حد"


نظر إليه ياسين بعين يختلط فيها الضيق بالرأفة؛ يعلم أن ما يراه أمامه ليس إلا صورة رجل يتعذب حتى النخاع، قلبه يضج بالخوف والألم لفقد زوجته. 


قال بصوت هادئ لكن ثابت

"وأنا مش حد يا يونس، أنا ياسين أخوك، أخوك اللي من سنتين كان في نفس حالتك، وإنت ما سبتنيش، فضلت جنبي لحد ما عديت الأزمة اللي كنت وما زلت فيها، فاكر قولتلي إيه وقتها؟"


اقترب وجلس إلى جواره، مكملاً

"قولتلي إن الخمرة ولا السجاير ولا إنك تعزل نفسك عن الدنيا، مفيش حاجة من دول هتحل مشاكلك أو تطلعك من اللي إنت فيه"


تلاقت نظراتهما، عيون مثقلة بما يفوق طاقة البشر من الألم والجراح.

رد يونس بمرارة وقهر

"أنا عملت كل اللي ممكن يتعمل، بقالي أيام وليالي ألف عليها، مرة مع مدحت صاحب أخوك والعساكر والمخبرين، ومرة أنا ورجالتنا ورجالة قصي أخوك، مالهاش أثر ولا عارفين نوصل للـ... اللي اسمه مهند، كأنه فص ملح وداب، خبر خطفها بقى تريند على السوشيال ميديا، وكنت فاكر هيفيد، لكن كل من هب ودب بيشتغلني، ويطلعوا شوية عيال ولاد... نصابين طمعانين في المكافأة"


تنهد ياسين وربت على كتف أخيه مواسيًا

"حاسس بيك، مريت بكل دقيقة إنت مريت بيها، بس أنا القدر خدها مني، وبرغم كده قلبي لسه مهداش ولا ارتاح، لكن كارين بإذن الله هنلاقيها وهترجع بالسلامة، وأول ما نوصل للمجرم اللي خطفها، وحياتك ما هنخليه يطلع عليه ضهر تاني"


لم يقوَ يونس على التماسك، فانهار على كتف أخيه يبكي بحرقة

"خايف عليها أوي يا ياسين، خايف يجرالها حاجة وملحقش أنقذها، كارين... لو حصلها حاجة أنا أموت فيها"


ربت الأخر على ظهره بحنو

"ما تخافش كلنا جنبك ومعاك، إن شاء الله هنلاقيها، كارين اللي نعرفها قوية وجدعة، ومهما واجهتها مشكلة هي قدها وقدود، فاكر لما وقفت قدام قصي زمان واتحدتوا عشان تبقى معاك؟"


كان قلب ياسين مثقلاً بحزن عميق، ليس فقط على كارين، بل على حال أخيه الذي يسير على حافة الانهيار.  

ومع ذلك جعل كلماته جسراً يمده بالصبر، ليحول دون سقوطه في هوة اليأس.


و في ظل الحالة التي يغرقا داخلها لم ينتبها إلي هاتف يونس الذي يهتز بصمت للمرة الثلاثون، يظهر على شاشته رقم مجهول، وفجأة يقطع الإنذار بفراغ البطارية، ليخبو الضوء وينطفئ الهاتف تلقائيًا.


                        ❈-❈-❈


«ربما يكون الهاتف مغلقاً أو غير متاح....»

تلك الرسالة المسجلة الباردة التي تلقتها كارين من هاتف زوجها، بعدما فرغت بطاريته حتى آخر أنفاسها.

انقبض قلبها كقبضة اليد على الجمر، وانفرجت شفتيها بمناجاة يائسة، وهمست بصوت متقطع

"ده وقته؟، طيب اتصل بمين دلوقتي يا رب ألهمني، مفيش غيره قصي يا رب يرد عليا"


ارتجفت أناملها وهي تنقر على الأرقام، وكادت تضغط على علامة الاتصال، حين اخترق مسامعها آخر صوت تمنت لو ظل غائباً عن الوجود

"لو روحتي لآخر الدنيا هاجيبك برضه"


التفتت كالسهم المذعور، فإذا به مهند يقف على بُعد خطوات، الدماء تسيل على جانب وجهه كمجرى أحمر قانٍ، ولفافة خشنة تحيط بكتفه، قد لطختها بقعة داكنة هي أثر رصاصة غادرة. 

مدّ يده نحوها ليقبض عليها، لكنها باغتته بحفنة من الرمال التقطتها من الأرض الجافة، وقذفتها في وجهه بكل ما أوتيت من قوة.


تطايرت الحبات كالسهام الصغيرة، لتغزو عينيه وتغمرهما بالوخز والحرقان، فراح يفركهما في ألم محتدم، ويضغط على جفنيه كأنما يطرد عن بصره شوك. 


ومع ذلك لم يتخل عن تهديده، بل زمجر بصوت أجش

"هاتروحي مني فين؟!، إحنا في مكان مفيهوش صريخ ابن يومين"


انتهزت كارين تلك اللحظة، وشرعت تركض، تلتهم الأرض بخطواتها، تبحث بعينين مسعورتين عن أي جدار أو مأوى، أي شق في صخرة، أو ظل شجرة، يمكن أن يحجبها عن أنيابه، بينما هو يظل خلفها نصف أعمى، يتخبط في أثرها، والريح تنثر حولهما الغبار مما يزيد المشهد وحشة واختناق. 


صاح بأعلي صوت له بوعيد سيقوم بتنفيذه لا محالة

"أنتي اللي قررتي عقابك بإيدك، ما تلوميش غير نفسك علي اللي هاعمله فيكي" 

تكملة الرواية من هناااااااا 

لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا


تعليقات

التنقل السريع