رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام الفصل الثالث والأربعون 43بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات
رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام الفصل الثالث والأربعون 43بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات
#حكايات_mevo
#عودة_الذئاب
كان نديم يستمع إلى "وجد" وهي تصرخ فيه، وجهها متوهّج بالغضب والدموع تلمع في عينيها:
ـ «هخلعك يا نديم! وهروح أجيب راجل لا قلبه أسود ولا بينتقم… واحد بيحس، والعيلة مليانة زي معتصم وياسين ابن عمامي… وهيموتوا عليّا!»
اشتعل نديم في لحظتها، إذ كان يعلم يقينًا أن أبناء عمومتها يودّونها فعلًا. هجم عليها بعنف، فحملها وهي تصرخ وتضربه بيديها المرتعشتين. دفعها نحو الفراش بقسوة، وقلبه يغلي بحرقة تكاد تحرق أنفاسه. ارتعبت "وجد"، وانكمشت كمن يهرب من قدره، وهي تهتف بصوت مرتجف:
ـ «إيه… إيه… بتعمل ليه؟!»
صرخ نديم بحُرقة، كأن صوته ينزف:
ـ «هعرّفك إنك بتاعة نديم… وهَرقدك هنا شهر! أجيب عيال عشان تتلمي… وتبقي تجيبي سيرة رجالة كويس؟!»
اندفع فوق الفراش يقترب منها، وصدره العاري يكاد يلامسها، فصرخت "وجد" بجزع، تتوسل وتنتفض:
ـ «لا! لا… لا والنبي خلاص! خلاص يا نديم… بَطّل! عيب كده… بَطّل، كنت بكدب! بَطّل، بَطّل… إيه قلّة أدبك دي؟! ما تروح تلبس… عيب بقى!»
كان الليل من حولهما يختنق بالصوت، كأن جدران الغرفة تحفظ السرّ: غضبٌ مسعور ينهش قلب نديم، ورجاءٌ مرتجف يتهدّل على شفتَي "وجد".
كانت تبكي بحرقةٍ، فَرَقَّ قلبهُ لها، فشدّها إليه، واحتواها بين ذراعيه، ثم ارتمى بثقله فوقها. ارتعدت من تحته، فإذا به يهتف بقوّة، صوته كالسوط:
ـ إنتِ بتاعه مين؟! قولي..
رفعت نظرها إليه ببراءة طفوليّة باكية، ووجهها يلين مع دموعها. فهتف بحدّة أكبر، كأنّه يتوعّدها:
ـ عارفة لو ما نطقتيش؟! أشد الغطا، وهتلاقي هدومك فَرَافيِت.. ههجم عليكي وأفرتمك! فاهمة؟
ارتعشت بخوفٍ ظاهر، فأحسّ برجفتها، فابتسم ابتسامةً مائلة للقسوة وهمس:
ـ أيوه.. اترعشي وخافي! عشان نديم مش هيفوتلك.. ماشي؟ إنتِ بتاعتي، مراتي! وهتبعدي؟!.. هقرب، وهقرب أكتر.. وعندي استعداد أقعد تسوّدي عيشتي سنين، لا هتعب ولا هبعد. إعملي فيا اللي يعجبك.. إنما تيجي سيره رجّالة؟! لأ.. هنا هقفّل، شهر ولا اتنين.. وأهريكي قرب!
همست بصوتٍ متكسّر، تكاد تتوسّل:
ـ طب أوعي بقه.. عيب كده..
ضحك ساخرًا، اقترب أكثر، حتى صارت أنفاسه تلفح وجهها، وهمس عند شفتيها:
ـ عيب؟! ليه مكسوفة مني؟!.. أنا جوزك.. من حقي ألمسك في أي وضع. وانتِ كمان.. إنت مراتي!
أغمضت عينيها باستسلامٍ، وهمست من بين دموعها ورجفتها:
ـ بَطّل بقه.. حرام عليك..
نزل عليها يتلمّسها برفقٍ ممزوجٍ بحنانٍ غريب، كأنّه يستجدي قربها، ثم همس متأوّهًا، صوته يحمل وجعًا دفينًا:
ـ ومش حرام عليكي تبعديني يا وِجد؟! أنا عايزك.. والله العظيم عايزك.
نظرت إليه بعينين دامعتين، ملامحها ترتجف بالخذلان، فهتفت متكسّرة:
ـ بَطّل بقه.. أبعد! خلاص.. خلّصنا.. أنا مش عايزاك.
هزّ رأسه ببطء، كأنّه يرفض الكلمة قبل أن تخرج من فمها، وعيناه تلمعان بعنادٍ مرير:
ـ مش هيحصل.. ومش هبعد. يوم ما أبعد، أكون من غير قلب.. وانتِ اللي خليتي قلبي يدق.
رفعت نظرها إليه من جديد، ودمعةٌ ثقيلة انحدرت على وجنتها، ثم همست بمرارةٍ تقطع نياط الروح:
ـ قلبك بيدق؟!.. إنت ما عندكش قلب يا نديم.
اقترب منها، ونظر في عينيها بلهفةٍ متأججة، صوته يتكسّر ما بين الرجاء والاعتراف:
ـ ماليش قلب إزاي؟! ماهو قلبي قدّامي كله، أهوه حبيبي اللي واحشني.. إنتِ قلبي، وماليش غيرك والله.
ظلت تحدّق فيه، وعيناها تعكس ارتباكًا بين الدموع والحنين، فيما نظرات العشق كانت تصرخ من عيونه بلا خجل. لكنّها لم تعد تحتمل ثِقل اللحظة؛ دفعتْه بقوّة، ونهضت بغضبٍ ممزوجٍ بالقهر:
ـ إنت لو كان عندك قلب.. ماكنتش عملت في حد غلبان كده! أنا غلبانة قوي، أستحق الناس تحنّ عليا، مش تمزّع وتيجي تقول "قلبي بيدق"!
اقتربت أكثر، وهتفت بمرارةٍ تقطر من لسانها كالسُم:
ـ قلبك هيدق إزاي ومافيش جواه قلب.. فيه حجارة! وحتى لو دق.. أنا بقى قلبي مات.. مات واتدفن يا بن عمي!
استدارت محاولة الابتعاد، لكنّه اندفع وأمسكها من ذراعها، ثم قبض على وجهها بين كفّيه بقوّةٍ مرتجفة، وعيناه تلتهبان برجاءٍ مخنوق:
ـ بِصيلي كويس.. وبِصي في عيوني! أنا عمري ما فكرت إني أحسّ، ولا حتى أفكّر في غير تاري وبس. كنت آلة.. ماكينة ماشيه بالورقة والقلم. كنت جاحد.. ومعنديش مشاعر.
قال بصوتٍ مخنوق، كل كلمة تخرج منه كأنها اعتراف ما كانش يوم يتوقع يقوله:
ـ كل ده واتكتر.. بس من يوم دخلتي حياتي، كل حاجة اتغيّرت. دلوقتي أنا مابفكّرش غير في حاجة واحدة وبس.. إنتِ! وبس إنتِ، يا وِجد.
هاه.. نديم عامر عايز وجد جابر. لا تكبُر ولا استكثار.. دخّليها في دماغك وافهمي أنا كنت إيه وبقيت إيه.
لو كان حد قالي كده، كنت هفكّره مجنون. بس نديم قلبه دق لوجد بنت جابر. نديم مش شايف غير وجد بنت جابر.. وعايزها مراته.
نديم بيحب وجد بنت جابر! خلاص.. ماعتش قلبه حجر. ماعتش. لو كان حجر، ماكنش قَرُب منك. بس أنا بحبك. بصيلي في عيوني كويس.. أنا بحبك، والله بحبك. ولو قلبك انوجع.. أنا كفيل أرجّعه. عشان حبك هو اللي بيعالجني.. هو اللي بينسيني أبوكي عمل إيه.
كل اللي حصل منه.. هحطّه ورا ضهري عشانك. نعمل عيلة، ونبني من الأول بالحب. لأن أنا عارف إنك بتحبيني.. ودي أكتر حاجة وجعاني.
اقترب منها وشدّها، وهي تبكي بحرقةٍ كأن دموعها تعلن عجزها أمام إصراره. تنهد وهو يمسح دموعها بإبهامه، ثم همس بصوتٍ مبحوح:
ـ والله بحبك.. لو عايزة أي حاجة هعملها. هاصبر.. بس قلبي يلين في قلبك.
بَصيلي.. ارفعي وشك كده.. دانا نديم حبيبك يا وجد، نسيتي قلبك؟! هعيش أحمد ربنا إنك دخلتي قلبي وحياتي.
نديم ما عاش ولا فرِح.. عايز يعيش معاكي، ويفرح بيكي، ويفرحك.
لكن دموعها نزلت بحرقةٍ أكبر، دموع قهرٍ وانكسار، وهي تردّ بصوتٍ مخنوق يفضح مرارتها:
ـ تفرّحني؟!.. كان.. كان ممكن زمان، قبل ما تقسِم قلبي نصّين وتسيبه مكسور..
واستدارت عنه، تركته واقفًا بجراحه، ثم دخلت الحمّام منهارةً من كلماته، تحمل قلبًا مثقوبًا لا تقوى على تضميده.
جلس نديم مطرق الرأس، غاضبًا مقهورًا، يعتصره العجز من كل جانب. ضرب كفّه براحته وكأنّه يحاول يفيق من دوّامة روحه، ثم هتف يكلّم نفسه بصوتٍ متحشرج:
ـ طب وبعدين؟! أنا تعبت بقه.. أنا عايزها راضية! أعمل إيه؟! هتلين إزاي طيب؟! والله يا رب تعبت.. تعبت وعايزها.. وهنسي كل حاجة.
تنهد بعمق، كأنّه يلفظ وجعه مع أنفاسه، ثم صمت طويلًا، يحدّق في الفراغ، لا يعلم ماذا يفعل، ولا كيف يصل إليها. بدا كمن يملك الدنيا كلها إلا قلبها، وكأنّ قلبه هو الآخر بات يتيمًا بلا مأوى.
******
قامت "مهره" مرتبكة، لتجد نفسها في حضن "الأسمر"، بعد أن انهارت من ثِقل كتمتها لسنين، ومن سرّ دفينٍ كان يمكن أن يجعل أخاها قاتلًا، ويحوّل عمه إلى ضحية.
نهضت بهدوءٍ متردّد، كأنّها تنتزع نفسها من مأمنٍ حلمت به طويلًا، ثم التفتت تنظر إليه بعينٍ يغمرها الحسران. كانت تتمنى ـ ولو للحظة ـ أن تستكين بين ذراعيه، أن تشعر بدفءٍ يحميها من قسوة الحياة. لكن "مهره" لم تكن يومًا فتاةً سوية؛ نشأت في بيتٍ مفكّك، وداخل قلبٍ مكسور لم يعرف معنى الطمأنينة.
دائمًا ما كانت تشعر أن كل من تقترب منه سيتركها.. سيخذلها.. سيكسرها، ويتركها تتبعثر وحدها. ورغم أنّها أدركت أخيرًا أنّها تحب "الأسمر"، إلا أنّها لم تشعر بالأمان معه.
صرخت في داخلها، تنهَر نفسها بقسوة، تلعن إحساسها بالضعف، وتبغض قلبها لأنه اختار طريقًا تعرف نهايته: طريق موجع، لا يحمل لها سوى الخسارة.
فالوجع عند "مهره" كان عاليًا، حتى لو تركت روحها ـ لحظة ضعف ـ تحلم بحلمٍ بعيد.. حلم رجل يحضنها ويطمنها. لكن الحقيقة كانت قاسية؛ "الأسمر" ذهب لغيرها، وتنازل عنها بسهولة.
ورغم العشق الذي تخبئه في صدرها، كجمرٍ تحت رماد، أدركت أنّ أمانها الوحيد ليس في رجل، بل في عملها.. في ترقيتها.. في مكانتها وسط المجتمع. أن يكون لها اسم محفور، اسمٌ يقف كالجدار، يحسسها أنّها موجودة، أنّها محمية.
"مهره" بطبعها شخصية تبحث عن الأمان والسند، ولم تجدهم قط. أخوها جعلها هي السند، جعلها العمود الذي لا ينكسر. ومن كانت سندًا طوال حياتها.. صعب جدًا أن تسمح لرجلٍ أن يدخل حياتها. وإن دخل، يجب أن يستحق. يجب أن ينالها بجدارة.
لكن "الأسمر".. ترك طريق الحفر في الصخر، لم يثبت نفسه أمامها، لم يتمسّك بها، بل رماها بسهولة. عندها أيقنت: يكفي أن تكتفي بنفسها. فما لم تجده في غيرها، ستبنيه بيديها، ولو على قلبٍ مجروح.
.........
خرجت "مهره" مسرعة، قلبها يغلي غضبًا، وذهبت تبحث عن "شجن". وحين علمت أنها مع "براء"، لم تتمالك نفسها، فانفعلت واندفعت تجري لتُحضرها. طرقت الباب بعنف، ففتح "براء"، ارتبك، واستغفر ربه وهمس متلعثمًا. لكن مهره لم تصبر، فصرخت بعصبيةٍ تكاد تُشعل المكان:
ـ فين أختي؟!
قال وهو يرفع حاجبيه ببراءة متألمة:
ـ هو ما فيش غيري تِرازي فيه؟!
اندفعت "شجن" من الداخل، صوتها رقيق لكنه متوتر:
ـ أنا هنا يا حبيبتي.
شدّتها "مهره" بعصبية، وكأنها تنتزعها من خطرٍ وهمي، ثم أخذتها معها، ومشت بها حتى وقفت أمام باب "وِجد"، وبدأت تدق بعنف.
في الداخل، كان "نديم" يتحدث مع "شجن"، غضبه بادٍ على وجهه بعدما علم أن أخته "مهره" جمّعت الفتيات كأنها تقيم حربًا صغيرة. الخوف دبّ في صدره؛ خاف أن تُبعد "وجد" عنه، فهتف غاضبًا ساخرًا بين نفسه:
ـ أختي بقت عقربة يا جدعان.. أعمل إيه؟!
فتح الباب، فاستقبلته "مهره" بصرخةٍ عالية، عينيها تشتعلان:
ـ هو فيه إيه؟! هو كل واحد زانق واحدة في أوضة كده؟! ما تتلمّوا بقى! مش قلنا خلّصنا في اللي فيه! ليه يا نديم؟ هو بالعافية؟! إدّيها فرصتها.
كلمتها جاءت كالسهم، لكن "نديم" لم يتراجع، صوته علا بحدّةٍ مفاجئة:
ـ فيه إيه يا مهره؟! إنتِ جايّة تعضي فيّا عالصبح؟ مالك بينا؟! ما تخليكِ في حالك بقى شوية.. وماتدخليش في دنيتي! وحسّي شوية باللي بينا!
قالها باندفاعٍ غاضب، لكن سرعان ما شعر بندمٍ شديد، بعدما خرجت كلماته كسهامٍ جارحة. غير أنّ الأوان كان قد فات.
تجمّدت "مهره" في مكانها، عيناها اتسعتا في ذهول، لم تصدّق ما سمعت. نظرت إليه نظرةً مليئة بالخذلان، كأن قلبها انشطر نصفين. فقد كان "نديم" طوال حياتها لا يتركها أبدًا إلا غارقة في دنياه، لكنه اليوم.. طعنها بنفس تلك الدنيا التي استثنته منها.
. قالت "مهره" بحرقة، عينيها متقدة:
ـ لا والله جاي تقولي ما تدخليش في دُنيتي.. وحسّي! إنت يا نديم، إنت بتقولي حسّي؟! من إمتى يا سي نديم؟! من إمتى "مهره" ما تدخّلش؟ ومن إمتى كنت عايزها تحس؟!
كانت تصرخ بقوة، صدى صوتها يهزّ المكان. خرج "أسمر" على صوتها، وقف من بعيد يراقبها، إحساسه يغلي من جوّه.. شافها واقفة وحدها قدام الكل، والكل بيقطع فيها.. وهو أولهم.
صرخت "مهره"، دموعها بتلسع خدودها:
ـ سنين يا نديم.. سنين وأنا مُمزَّعة عشانك! سنين وأنا لاغية حياتي عشانك! سنين "مهره" ما تحسش.. "مهره" ما تفكّرش في نفسها! سنين وأنا ضهرك.. وأنت وبس! سنين وحياتي كلها "نديم".. وأنا؟ أنا مش موجودة!
هتفت بصوت يتخلله بكاء:
ـ دلوقتي بتقولي: خليكِ في حالك.. وحسّي؟! أحس بإيه يا نديم؟! قولي.. أحس بإيه وانت ما خليتنيش أتعلم يعني إيه إحساس؟! انطق يا أخويا.. يا ابن أمي وأبوي! قولي.. شكله إيه الإحساس يا نديم؟! أصل عمر "مهره" كله كان مكنة.. أداة لسيادتك! إيدي.. رجلي.. ممسحة ليك!
تقدمت نحوه خطوة، عيونها واجعة:
ـ فاكر ولا أفكرك؟ فاكر وإحنا راجعين في القطر وأنا بعيط من حرق إيدي؟ فاكر مسكت إيدي وقُلتلي: اكتمي إحساسك وخليه في قلبك؟ فاكر من حُبي ليك كتمت وجعي؟ فاكر لما رميت عروستي في الشارع؟ فاكر قولتلي إيه؟ قولتلي: مش دنياكي العرايس ولا الفساتين! مش ليكي! قتلت حلمي إني أبقى بنت.. وأنا راضية!
ضربت صدرها بيدها:
ـ عملت كل حاجة عشانك! كتمت كل حاجة عشانك! بس أنا.. أنا ما بقِتش أنا. نسخت نفسي! بطّلت أعيش.. بطّلت أفرح! بقيت إنت.. وأختك.. كل حياتي! وأنا؟ ماليش حياة تاني! وتيجي دلوقتي تقولي: حسي بيا؟! يا مصيبتي فيك يا نديم.. أنا اللي أُحس بيك؟!
تراجعت بخطوة، تمسح دمعة غالية بعنف، تكاد تقتلها، ثم همست بصوتٍ مكسور لكنه حاد كالسيف:
ـ بس عموماً حاضر يا سي نديم. هحس.. وهخلي نفسي في حالي. وهبص لحالي من هنا ورايح. واللي جاي.. كله لحالي! اسمعني كويس: أنا هاشتغل.. واللي ليكم عندي الشغل. غير كده؟ مافيش! وأول ما تتم السنة.. هاخد نصيبي واغور من هنا. كفاية! كفاية بجد يا نديم.. لازم أحس إن ماليش حد.. لازم أعيش لنفسي.
شهقت، أغمضت عينيها لحظة، ثم قالت بمرارة:
ـ أنا إيه اللي كنت فيه؟ عايشة عشانك.. وعشان دنياك؟! بس خلاص. أنا غلطت.. وهصلّح غلطتي. والوداع الوحيد الجميل يا نديم.. إنك تودّع شخص كان دايمًا ضاغط عليك.. مضيّع يومك.. مبهّدلك حياتك.. مش محسسك بنفسك.. مش مفرّحك مهما عملت. ده يبقى الوداع الجميل.. من غير ندم ولا دموع.
رفعت راسها بقوة، ونطقت آخر كلماتها كأنها رصاصة:
ـ هخلّي نفسي في حالي يا نديم. وهعمل حالي بعيد عنك.. واتخليني فيه.
واستدارت.. رحلت.
اقترب "نديم" مسرعًا، صوته متكسر:
ـ مهره.. حبيبتي! استني!
دفعته بعيدًا بيدها، نظرة قهر في عينيها، ورحلت.
نظرت إليها "شجن" بغيظ، ثم لحقت بها.
لتخرج "وجد"، تقف واجمة أمام "نديم"، وصوتها ينفجر في وجهه:
ـ إنت إيه يا أخي؟! إيه الأنانية دي؟! إنتو بتعملوا فيها كده ليه؟! عبدة عندكوا؟! أعوذ بالله من العيلة دي!
وقف نديم، ملامحه باهتة والوجع قاتل قلبه. حط إيده في شعره وضغط على راسه وهو يهمس بصوت مكسور:
ـ أنا مجرم.. أنا حيوان! إزاي أقول كده؟! كان يتقطع لساني.. دي روحي.. وجعتها! عارف.. أختي خلاص.. هتقوى عليهم.. وهتسيبني!
دخل "أسمر" من الباب المفتوح، وبراء وراه. رفع براء إيده بتوتر وقال:
ـ انتو مش هتجيبوها البر أبدًا بالطريقة دي! كل واحد بينطح التاني.. واللي هتفركش الدنيا في الآخر؟ "مهره"!
صرخ نديم:
ـ خلاص.. خربت! أختي هتمشي! وأسمر مش عايزها.. تبقى هتقعد ليه؟! أقدرش أغصبها! خلصنا..
اندفع "أسمر"، صوته مليان شوق ولهفة، وقال:
ـ مين قال إني مش عايزها؟! ده أنا هموت عليها!
رفع نديم حاجبيه بدهشة، أما براء فضحك بسخرية وقال:
ـ انت ملبوس؟! طب و"ست زينة" بنت عمك اللي بتخطبها دي؟!
خفض "أسمر" عينيه بخزي وقال بوجع:
ـ عشان.. عشان ما استحملتش تبعد عني! ما استحملتش أحس إني مش راجل قدامها.. ما استحملتش أشوف في عينيها النفور.. وأنا بموت عليها. عمي ركب دماغي.. وأنا زي البهيم.. اتصرفت بغباوة! مهره كانت شايفة مشاعري.. وحاسّة بيها. لكن أنا فجأة جرحتها.. جرحتها غصب عني.
قهقه نديم بسخرية لاذعة:
ـ وما شاء الله.. لما شفت مشاعرها.. قلت تضيّعها خالص؟! هي ناقصة يا أخي؟!
رفع أسمر راسه بعناد:
ـ يا عيني.. أعمل إيه؟! أنا برضه راجل.. وحامي.. ما استحملتش!
دخل براء على الخط، نهره بحدة:
ـ نجوم تجهرها يا أخي! دماغك فين؟! وانت عارف عمك عامل إزاي.. دا حرابة شر!
تنهد أسمر بحرقة:
ـ شر ولا غيره.. ربنا ينتقم منه!
براء هز راسه بتعجب وقال:
ـ ما عمرك سألت نفسك جدك طرده ليه؟ في حاجة واعرَه مخبيها.. الراجل مدفون حيّ بين البهايم في زريبة، وما حدش يجدر يجرب ناحيته!
ارتبك أسمر، حاول يخفي قلقه:
ـ ما أعرفش! هاعرف ليه؟!
تدخل نديم بغيظ:
ـ سيبكم منه! أنا غرقان في مصيبتي! هنعمل إيه؟!
هتف براء بثقة:
ـ أنا عن نفسي.. مش هعتب على أختك يا نديم. بس أهم حاجة تبعدهم عن مهره.. لأنها هي المفتاح! هي اللي لو هدت.. الكل هيهدي.
نظر أسمر للاثنين، صوته مبحوح:
ـ آنتو تهدو وأنا؟ أنا أعضّ حالي؟!
ابتسم نديم بمرارة، ثم رفع عينيه فيه وقال بجدية:
ـ اسمع يا أسمر.. إنت رايد "مهره".
اقترب أسمر، نظرته صادقة، صوته مرتعش من الحب:
ـ أكتر من روحي يا نديم.. رايديها.. وأنا أتجنن عليها.
ابتسم نديم ابتسامة صغيرة، وهو شايف صدق المشاعر في عينيه، ثم قال بحزم:
ـ مهره مش هتأمنلك إلا في حالة واحدة: تحس منك إنك هترمي الدنيا كلها عشانها. مهره لازم تحس إنها عالية قوي.. فوق الكل.. عشان تبصلك من الأساس. أختي موجوعة من اللي عملته فيها. إنت يا ابن الناس، لو عايزها.. اكسر جبروتك تحت رجليها.. وقدم قلبك تحت إيديها. ساعتها؟ أنا عارف أختي.. هي اللي هتلين.. وهي اللي هترضى تكون تحت جناحك.
تنهد "أسمر" وهو يسند الحيطة، عيونه شارده، قلبه يوجعه من فكرة إنه أضاع مهره بيده. "إزاي هتلين؟! دي فرس جامحة وأنا اللي طعنتها بغباوة!" تمتم لنفسه، غارق في دوامة حيرتة.
في الطابق السفلي، كانت "مهره" مع "وجد" و"شجن" تضحكوا بخفة وهما متجهين كعادتهم ليسلموا على الجد. طرقت "مهره" الباب، فلم يرد. دخلت الغرفة.. خالية. سألت الخادمة، فأجابت بقلق:
ـ ما شفتوش يا ست مهره من الصبح.
قطبت مهره جبينها:
ـ إزاي؟! لا فوق ولا تحت؟!
خرجوا الثلاثة يبحثون هنا وهناك، لكن المكان كأنه ابتلع الجد. فجأة، شقت صرخة "وجد" عنان السماء:
ـ جدييييييي!
اندفعت "مهره" وقلبها يكاد يقفز من صدرها، "شجن" تلهث بجوارها. وصلت لتجد الجد مطروحًا على الأرض قرب الأسطبل، جسده متهالك، عيناه نصف مغمضتين، شفاهه جافة. ارتجفت شفتاها ولم تستطع أن تنطق، بينما صرخت الفتاتان بخوف هستيري.
لحظات، وكان صراخهن قد وصل مسامع الرجال. اندفع "نديم" كالمجنون، تبعه "أسمر" و"براء". انحنى نديم يلهث، ثم حمل جده على ذراعيه، صوته متحشرج:
ـ يا جدي.. سامحني! استحملني شوية!
ركضوا جميعًا نحو السيارة، "مهره" ساهمة تحدق للأمام، دموعها متماسكة في مقلتيها، لكنها عيون مذعورة، بينما "وجد" و"شجن" ينتحبان بعنف. ارتجف جسد شجن، وبراء بجوارها يمد يده على كتفها ليمسكها، لكنها لم تشعر بشيء.
وصلوا المستشفى.. لحظة هرج ومرج. أطباء وممرضات يندفعون بالعربة، ينادون بينهم:
ـ حالة حرجة.. بسرعة العناية!
تركتهم "مهره" وهي متجمدة في مكانها، كأنها حجر. نظرت لخطوات العربة وهي تختفي وراء باب العناية، ويدها ترتعش دون وعي.
مرت دقائق بدت كأنها دهر، حتى خرج الطبيب، وجهه متجهم وصوته جاد:
ـ الحاج حالته حرجة جدًا.. والألم المرة دي واعر. حطيناه في العناية.. وادعوله يعدي على خير.
انفجرت "وجد" في بكاء مرير، ارتمت على صدر نديم تصرخ:
ـ جدي.. ماليش غيره.. ماليش حد يا نديم.. سايبني لمين؟!
شدها نديم بين ذراعيه بقوة، عيناه يدمعان رغماً عنه، قلبه يتقطع لرؤية خوفها.
على الجهة الأخرى، كانت "شجن" تبكي في صمت، عيناها معلقتان بالأرض. اقترب منها "براء"، لمسة يده على كتفها جعلتها تهمس بصوت مبحوح:
ـ جدو هيموت يا براء.. لأ.. مش بعد ما بقى لينا حد.. يروح.. احنا مالناش حد!
فاضت دمعة على خدها، فأمسك يدها برفق، ولم يجد كلمات.. فقط همس بحزن:
ـ مش هيمشي ويسيبكم.. اصبري يا شجن.
أما "مهره".. ظلت صامتة، وجهها شاحب، عينيها معلقتان بالباب المغلق، لا تبكي.. لا تصرخ.. فقط تنظر برعب كأن حياتها كلها متوقفة وراء ذلك الباب.
دخل "جابر" كالعاصفة، ملهوف، وجهه شاحب رغم قسوته، وصوته يزلزل المكان:
ـ عملتوا إيه في أبوي؟! يا أبوي.. يا سندي.. يا ضهري! حجك عليّا يا بوي.. بالله عليك رد!
انخلع قلبه وهو يشوف أبوه مرمي، كأنه لأول مرة يشوفه مش جبل.. ولأول مرة يحس إن ظهره بينكسر. حاولوا يسحبوه بعيد، لكنه يقاوم ويصرخ كطفل تايه.
خطت "مهره" خطوة للأمام، عيونها باردة كالجليد، وجهها جامد، وصوتها هادي لكن يقطّع في الصخر:
ـ خايف عليه يا عمي؟ خايف بجد؟... أدي آخرتها!
التفتت حولها، كأنها تخاطبهم واحد واحد:
ـ آخرة العيشة.. فلوس وأطيان.. تورث وتكبش.. أهو جالك اليوم! تقدر تعالجه يا جابر؟! خلاص.. جالك الورث على طبق.. جالك الكفن من دهب.. كفن عمران أبو الدهب!
صمتوا جميعًا، وجابر يلهث كأنها بتخنقه بكلامها، لكن مهره لم تتوقف:
ـ افرَح يا عمي.. جدي بيروح.. وإنت مستني تاخد وتملأ بطنك! كلكم عايشين بفلوسه، بأرضه، بعرقه.. حد فيكم يقدر يشتري له قلب جديد؟!
شهقت "وجد" من قوة كلماتها، بينما مهره تكمل، دموعها محبوسة، صوتها يرتجف من الغضب:
ـ جدي قلبه موجوع من الغِل.. والعلاج مش مستشفى.. ولا فلوس.. ولا أطيان! العلاج كان كلمة حنينة، قلب فوق قلبه، حضن يلمّه. بس انتو كلكم غرقانين في دنيا فانية.
تقدمت أكثر، عيونها تلتمع كالنار:
ـ غلبان.. اللي يبص للي مش ليه وينسى اللي بين إيديه.. غلبان.. اللي يعد الفلوس ويخسر الروح.. غلبان.. اللي عايش ومش عايش!
ثم وقفت أمام جابر مباشرة، صوته اختفى أمام صلابتها، لتقول بحِدّة قاطعة:
ـ جدي لو راح.. ذنبه في رقبتك لحد يوم قبرك يا عمي.
التفتت، ووجهها جامد رغم الدموع اللي تكاد تسقط، واستدارت بهدوء قاتل.. وخرجت.
وقف "أسمر" مصدوم، عيونه ما سابتش ملامح مهره وهي بتجلد عمها بالكلام. كل كلمة طلعت منها كانت بتغرس فيه زي سكين، مش لأنها موجهة ليه، لكن لأنه شايف النار اللي مولعة جواها.
شفتها وهي واقفة ثابتة، بتواجه جابر والعيلة كلها، حسّ بيها بتنهش من روحها قبل ما تنهش فيهم. وشاف دموعها المقهورة وهي محبوسة بالعافية عشان ماتبانش.
شد إيده بقوة، كأنها مشلولة، وصدره يطلع وينزل بوجع مكتوم. تمتم بصوت خافت ماحدش سمعه غير نفسه:
ـ يا .. يا وجعي.. كسرتيني وأنا واجف.
لما استدارت مهره وخرجت، عينه فضلت متعلقة بخطواتها لحد ما اختفت. قلبه يصرخ جوا صدره، نفسه يركض وراها، يشيل عنها الدنيا كلها، لكنه اتسمّر مكانه، يحس إنه سبب تاني من أسباب وجعها.
كانت تريد أن تصرخ، أن تموت، فقد فقدت كل شيء.
أنفاسها تؤلمها، ونفسها القاسية صارت عبئًا لا تُحتمل. لم تعد تريد أن تتحمل أكثر.
توهت بين أرجاء المكان تبحث عن ركنٍ تختلي فيه بنفسها، لتدخل الحمام وتضع يدها على فمها، كأنها تكتم أنفاسها، فيما صدرها يُسلَخ وروحها تُذبح من الداخل.
شهقت فجأة حين شدها أسمر إلى صدره، فقد دخل خلفها غير مبالٍ بشيء، وجرها إلى إحدى الحجرات واحتضنها بقوة. كانت متجمدة، صامتة، فصرخ بها:
ــ "عيطي! عيطي بقه يا شيخه، سيبي نفسك!"
كانت تتشنج من كتمانها، فابتعد عنها وصفعها علّها تُفيق، فانفجرت باكية، تنهار نحيبًا وانتفاضًا وهو يضمها بقوة وهي تصرخ:
ــ "آآه... تعبت! تعبت كفايه... مش عايزاني! تعبت من نفسي! هموّت... أروح فين؟! جدي لااا... جدي لاا... ماليش حد، ماليش! نفسي بتوجعني..."
صرخ فيها وهو يمسكها بجنون:
ــ "أنا موجود! أنا بتاعك... حبيبك أسمر... حبيبك يا مهره. بطّلي، والله آسف... أنا غلطان! مهره، اهدي يا حبيبتي... حجّك عليّا، ماليش إزاي؟ أمال إني ليه؟ اهدي يا جلبي!"
لكنها كانت تتحرك بعنف، تهتز بجنون، تصرخ:
ــ "لااا! مش عايزه نفسي... خلاص! مش عايزه مهره القوية... مش عايزاها! مش عايزه مهره اللي ما بتحسش... مش عايزه مهره اللي بتحلم وبس! نفسي أعيش الحلم... أبقى حد بيحس. قلبي ناشف، قلبي ميت... ليه؟! ذنبي إيه أعيش كاتمة وقوية؟! عايزة أحس... يا رب نفسي أحس! نفسي أبعد عن نفسي دي... ماعتش قادره!"
ظلّت تصرخ حتى فقدت وعيها بين ذراعيه.
هنا أحس أسمر أنّ قلبه يُمزّق، أنّه سيفقدها، فصرخ وهو يهتز بها:
ــ "لااا! كتير بقه عليها... جلبي بيتمزّع... والله ما هتحمّل! أنا آسف، يا رب!"
حملها مسرعًا، يستدعي الطبيب الذي حضر وأخبرهم بوجه متجهم أنها حالة انهيار، ولا يعلم درجته. اجتمع الكل، وانكمشت شجن في حضن براء مرتجفة خوفًا، فيما جلس نديم متهالكًا، كأنه فقد نصفه الآخر، روحه، رفيقة دربه.
اقتربت منه وجد ومسدت على كتفه برفق. رفع عينيه إليها والدموع تلمع فيهما، يهمس متحشرجًا:
ــ "أنا السبب... أنا السبب في كل ده. أنا اللي عملت فينا كده..."
تنهدت وجد بصوت مرتعش:
ــ "هتقوم... يا نديم. أختك قوية."
هتف بألم:
ــ "قوية؟! ماعتش عايز أقول عليها كده... كفاية قوة لحد هنا! قوتها بتموتها... أنا خليتها مسخ. انتقامي عَمّى عينيّا... حاسس إني هموت. أختي روحي... يا رب أنا تعبت.يا رب ماقدر اعيش من غيرها ."
لأول مرة اقتربت منه وجد، ربتت عليه برفق، فاحتضنها فجأة، ينهار تمامًا في حضنها، دموعه تنهمر، ونحيبه يعلو وهي تربت عليه بحنان، كأنها تسند ظهرًا لم يعد له سند. ومرّ الوقت، حتى استدعاهم الطبيب.
لقد استفاقت مهره...
فدخلوا عليها، وكانت المفاجأة.
تكملة الرواية من هناااااااا
لمتابعة باقى الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا
بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل
متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا
الرواية كامله من هناااااااااا
مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا
مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا
تعليقات
إرسال تعليق
فضلا اترك تعليق من هنا