القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات

 

رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام  الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات



رواية عودة الذئاب (الجزء الثاني) ملحمة العوده والانتقام  الفصل التاسع والثلاثون 39بقلم ميفو السلطان حصريه في مدونة قصر الروايات


#حكايات_mevo 

#عودة_الذئاب... وقف الجد، وقال بصوت متهدّج كأن الزمن بيعدّي من بين ضلوعه:


ـ "إيه جُولك؟ تِجعدوا سَنَه معايا.. أشبع منكو. أنا خلاص عَلى جِدَم الجَبَر، واللي حصل، كل نُصّ عمري. لأجل عَضْم التُربه يا بتي، طالِب سَنَه.. اِجعدوا اهنّه."


نظرت إليه بوجع متلخبط في عنيها:


ـ "هِنِقعد نِعمِل إيه بس يا جِدي؟"


قال وهو بيحاول يثبت صوته:


ـ "تديروا مالكو.. مش ليكي مال؟ اهنّه، وآخِر السنه خُدي نَصيبك."


تنهدت، وشهقت شهيق داخلي:


ـ "نصيب إيه يا جِدي؟ انت بتِتكلم ف فُلوس؟ أنا مش عايزه حاجه."


ابتسم، ونظر ليها بحُب ساكن في الضلوع:


ـ "عارف إنك شبعانه.. وجُواتك شبعان. ومتوَكّد إن خُواتك زيّك. وعارف إن نديم ما عايزش مننا مليم. بس برضك، حِج أبُوكو إنّي رايد تاخدوه. بالله، ما ترفُضيش.. لو ما عايزش الأسمر، بَلاها. وإلّا عندِك جُول تاني؟"


صرخت بقهر، والقهر كان طالع م الجَوف:


ـ "مش عايزاه! دا يتعاز دا!"


تنهد الجد، تنهيدة شايب واجع الدنيا:


ـ "هو الحَلوف اللي فُوج نَطَحِك.. عارف إنه بهيم. بس أعمل إيه؟ طيّب يا بتي، ليه؟"


صرخت بقوة، كأنما أفرغت كل وجعها دفعة واحدة:


ـ "عشان إحنا مش توب بعض! ومش شكل بعض يا جدي!"


وقبل أن تكمل، دوّى صوتٌ غاضب من خلفها، اخترق اللحظة كالسهم:


ـ "ومين جرّر أكده لحالك أكده؟! وإيه اللي عاملاه في حالك ده؟! عامله عروسة المولد؟ مش خلاص خلّصنا؟!"


استدارت إليه بعينين تقدحان شررًا، وهتفت بغضب:


ـ "وإنت مالك؟! أعمل ولا اتهبّب! دا إيه النصايب دي؟! ما تخلّيك في حالك!"


اقترب منها بسرعة، قبض على ذراعها بعنف، وصوته مبحوح بالغضب:


ـ "لمي نفسك! إني مرتي! ما تكلمنيش أكده!"


دفعت يده بقوة، وصاحت:


ـ "لمّا! لمّا تلمّك! هي مين اللي مراتك؟! أنا؟! مش مراتك!"


قهقه بسخرية، كأنها طعنة أخرى في كرامتها:


ـ "إنتِ تطولي أصلاً؟! يا بايرة!"


نظرت إليه بحرقة، والدم يغلي في عروقها:


ـ "هيّا مين يا بتاع؟! إنت اللي باير! بص لنفسك... إنت آخرك برص وسِحلية!"


ضحك بصوتٍ عالٍ، مستفز حتى النخاع:


ـ "ده حتى السحلية فيها أنوثة عنك! مش دكر متنقّل بيعضّ في خلج الله!"


نظرت إليه نظرة كأنها نار مشتعلة لا تخمد، وردّت بحنق:


ـ "هو إنت ما بتفكرش إلا بالشكل؟! عموماً، لو عالشكل، فيه ناس تقلب البطن! واللي مش عاجبك وبتقول عليه دَكر، فيه غيرك ياما بيترموا عليه! عارف ليه؟! عشان رجالة بجد بيدوروا على قلب اللي قدامهم...

أنا بقى دكر! ومش عايزاك! ولو عايزة، فـي تلات دقايق أجبلك هنا زفة رجالة... بس رجالة بجد، مش بقرش وقرشين!"


اشتعل غضبه تمامًا، واندفع نحوها، أمسكها بقسوة، وصاح:


ـ "إنت عايزة تتجتلي رجالة؟! إيه؟! إنت عايزاني أهبّدك بحاجة تِجيب أجلك؟!"


دفعته بعنف، والدمع في عينها يحرق ولا يسيل:


ـ "مش بتقول دكر؟! أنا بقى... بعد ما أمشي من هنا، هبقى أدعيك على فرحي، يا بن عمي! وآه، ابقى تعالِي... جايز أَرْضَى تبقى من أهل العروسة! أهوه... تقف في الصف!"


شدّها بعنف، نظرت إليه بثباتٍ موجع، ورفعت عينيها لعينيه المشتعلتين. اقترب حتى كادت أنفاسه تحترق معها، وهمس بغضبٍ كالقسم:


ـ "إنتي بتاعتي... لو حد طالِك، أُجتله."


دفعت صدره بقوة:


ـ "طب يا بتاع... إنت! ما هَرُدّ عليك، وكل روحك! بُكره تشوف الدكر دي هتبقى لمين... ومع مين... ومين يتمنّى بس أبُصّله!"


دفعته بقسوة، واستدارت، وتركته مشتعلاً، وصعدت.


كانت "شجن" تهبط السُلّم بخطواتٍ مسرعة، تتبعها نظرات "براء" الذي حاول اللحاق بها، يناديها مرارًا، لكنّها رفضت حتى أن تلتفت إليه.


وفجأة، ظهرت "مهره" من خلفها، أمسكتها بقوة وهي تهتف بحدة:


ـ "وتعالي إنتي كمان! والله لأوريهم كلهم!"


شدّت أختها بعيدًا، بينما ظل "براء" واقفًا مكانه، الغضب يرتسم على ملامحه، يحدّق بصمتٍ مشتعل. أما "مهره"، فقد أخذت "شجن" معها وصعدت بها إلى الأعلى دون أن تلتفت.


في الطابق العلوي، تنهدت "شجن" وهي تمشي خلف أختها، متسائلة بضيق:


ـ "إيه؟ واخداني فين؟"


أجابت "مهره"، وهي تتوقف وتنظر إليها بنظرة حازمة:


ـ "يلا... أما نشوف الغلبانة اللي جوا دي! مرات أخوكي؟ ما هانسيبهاش برضه... دي بنت عمّنا، ومرات الحزين!"


نزل "براء" وجلس في أحد الأركان، مقهورًا، والغضب مكتوم في صدره، لا يبوح إلا بصمته.

هتف الجد، وهو يحدّق في الوجوه المنحنية حوله:


ـ "كل واحد جاي مدلدل ودانه! جقول إيه؟! حسرة عَ الرجّاله!"


دفع "أسمر" الكرسي بقوة، ونهض غاضبًا، صوته يهدر في المكان:


ـ "عاجبك طيّحتها اكِده؟!"


رد الجد، وقد بلغ به الغيظ مبلغه:


ـ "اجعد يا حَلُوف! يا ربّي، مخلّف تِيران! ولسّه الواد التاني اللي فُوج نصيب واتحدفت! أعمل إيه؟!اجعد،  أني جُولتهم: إنكوا هتمسِكوا معاهم سَنَه، ولو ما حصلش... جَرَب، هاياخدوا نصيبهم ويمشوا!"


فصرخ "أسمر"، والنار تخرج من عينيه:


ـ "إنت بتجول إيه؟! مين اللي هيمشي؟! إنت مفكّرنِي أهبل؟! أياك... بروحها تروح!

تعلّم عليّ؟! وأسِيبها؟! لاااه... لازم تعيش معايا! بتاعتي وخلصنا!"


هتف "براء" من زاويته، متألمًا:


ـ "إنت بتسوّدها ليه يا جِدي؟!"


لكن الجد، وقد احتقن وجهه، التفت ناحية "أسمر"، وصاح بصوت كالصخر:


ـ "إنت يا واد! بهيم! جاي من تحت الجاموسة!وإني اللي فاكرك عَدل، ودماغك متكلّفة... أُتاريك مِربّي جُرون من زمان ومخبّيها!"


صرخ "أسمر"، وقد بلغ حدّ الانفجار:


ـ "ما تِبَطّل بقى! هو فيه إيه؟! عَمَلت إيه؟!"


تنهد الجد تنهيدة رجل كسير، يحمل عُمرًا من الوجع:


ـ "عَمَلت؟! يا حزن السنين... هو فيه حاجه لِسّه ما عملتِهاش، يا بن سلطان؟!دانِت مِسكت صاجات ووقفت تِكيل للبِت!"


صرخ "أسمر" من جوف قلبه، والشرر يخرج من عينيه:


ـ "يعني هيّا سَكتِت؟! ما هي طاحت! وكَلَت جلبي!دي حد يِجدَر عليها؟! بس... عَ مين؟!

إني ما هسيبهاش... وهَعرّفها!"


نظر إليه الجد بعينين مليئتين بالغضب والحسرة، ثم هزّ رأسه وهو يتمتم:


ـ "حَلُوف... وربّنا! جُلت بس حَلُوف بزيادة!"


تقدم خطوة منه، وأشار بعصاه وكأنها تزن الكلمات قبل أن تنطق بها شفاهه:


ـ "افهم يا طُور... البِت الواعره ما تِجيش نَطْح، يا أَهبل!عارف إنّك واعِر، وجويّ، وطُور... إنما البت جامدة، وهتِنطَحها؟ هتسوّد عيشتك!

واديك شُفت وجُفت، فرشتلك الملاية لما مَسِيت طَرف توبها... يا بِجرة!

طَرف توبها... تحُطّه على راسك، يُعلّيك ويُعَلّيها!"


ثم نظر في الفراغ، وكأنّه يستدعي الحقيقة من أعماق قلبه، ورفع عصاه عاليًا، ثم أشار إلى صدره موضع قلبه:


ـ "أهنه... يا حَلُوف، السِرّ!هاتها من جَلبها!

البِت الواعره... لو جَلبها دَجّ، هترمي رمحتها تحت رِجلك."


ثم اقترب منه أكثر، وصاح بنبرة تقطر حِكمة وغضبًا:


ـ "هتِفهم؟! ولا كَلت تبن بزيادة وما عارفش تِفكّر؟!"


صمت لحظة، ثم أردف بصوتٍ أهدأ، لكنه أقسى وقعًا:


ـ "فَكّر... أكده!لمّا ضربتك بالقَلَم... ما رفعتش يدك، وعَجَنتها ليه؟! هاااه؟فَكّر... فَكّر لمّا رَدَحتلك، وخَلّتك ما تِسَوّاش جِدام الخَلْج.اسمر سيد الناس ..سَكت ليه؟ وكَتَمت حالك؟إنت خابر... من جُوّاتك، ليه!بس حَلُوف... وعندك كِبْر!"


ثم قالها بوضوحٍ يشبه الحُكم:


ـ "اِكسر كِبرَك...هتَعرَف هِيّ إيه... وتِتَاخد إزّاي!الواعِر... ما ينفعلهوش إلا اللّين!"


ساد الصمت...لأول مرة، أسدل "أسمر" ستار غضبه، ولم ينبس ببنت شفة.لا صراخ، لا تحدٍّ، لا حتى نظرة تشي بالتمرّد.كأن كلمات الجد اخترقت قلبه، لا أذنيه، فأوجعته في موضعٍ لم يبلغه أحد من قبل.


خفض رأسه نحو الأرض، وسرى في داخله صوتٌ خافت...صوت لم يسمعه من زمن:


"لِمَ سَكَتَّ؟"حقًا... لماذا؟حين صفعك، كنتَ تملك من الغضب ما يحرق مدينة، ومع ذلك... صمتَّ.حين أهانك أمام الجميع، لم ترد، لم ترفع رأسك حتى.لماذا لم تردّ عليها؟

لماذا سمحت لها بالابتعاد، وعيونك تتوه منها، لكن قلبك...قلبك كان يركض خلفها.


"هل أنا خائف؟"خائف؟وأنت "أسمر بن سلطان"؟!لكن في أعماقك... يقبع طفل صغير،طفلٌ يقف أمام أنثى تُشبه الجمر،

تغويه، وتُخيفه.


لم يمدّ يده، لا لأنه ضعيف،بل لأنه يعلم جيدًا... أن النار التي تشتعل فيها،إن لمست قلبه، فلن تُطفأ أبدًا.


"هل هي قوية؟"نعم، قوية.لكنها لم تكن أقوى منك،هي فقط أقوى من كل من لم يقترب من قلبها حقًا.قلبها...تخشاه كما تخشاه أنت،وفي كليكما وجعٌ لم يُقال.


رفع بصره نحو الجد،

فرأى في عينيه حكمةً مُغلفة بمرارة السنين،

رجلاً ذاق الحياة... وفهم النساء.


عضّ "أسمر" على شفته،وحَسّ بثِقل ينحدر من عنقه نحو صدره،لم تكن دمعة... بل انكسارًا طفيفًا،كأول شقٍّ في جبل ظلّ شامخًا طويلًا.ولأول مرة، رفع عينيه نحو الجد،لم يتكلّم،لكن نظراته قالت كل شيء:

"سأفكّر... بصدق."


قَطَع الصمت صوت "براء"، بنبرته الحزينة المتهدّجة، وكأن قلبه لم يعد يحتمل المزيد.


هتف، بصوتٍ اختلط فيه الانكسار بالرجاء:


ـ "ماني... مَرَتي ما بترمحش، وطيّبة وحنينة، وإني... إني هموت على طَرْفها، وبرضك كَرِهْتني!"


لم يلبث الجد أن ردّ عليه، بنبرة خافتة، لكنها مليئة باليقين:


ـ "الطيّبة بتجعد... عشان حاجة واحدة يا ولدي، الحنية... والأمان.وإنت جُولت العفش كله، الغَدْر وحِش يا براء.فاكر جُوالتك دي هَيّنة؟ لأ...هِيّ دلوك مفكّرة نفسها رخيصة،

وهيّا... كيف الجطّة الحنينة،ما تِعَوِّزش غير يد حنينة...تحَسِّسها إنها بأمان."


تنهّد الجد، ونظر في الفراغ أمامه، كأنّه يرى من خلاله ماضٍ بعيد:


ـ "اللِّي زي دي...كبّ عليها حنية، وافْرِش لها دفا...تِلِين.ربنا يهديكو،فَكِّروا... نِسوانكو ما هيتجابوش عافية،وإن كَتّو... ما هتِعْجَلوا.

سِيبُوهُم... للي يِجْدَرْهُم."


ساد صمت ثقيل، بعد كلمات الجد الأخيرة، لكنّه لم يكن صمتًا جامدًا...كان صمت العقول التي بدأت تفكّر، والقلوب التي بدأت ترتعش من حقيقة لم تكن مستعدّة لمواجهتها.


جلس "أسمر" و"براء" جنبًا إلى جنب، لا أحد يتكلّم،لكن كليهما كان غارقًا في نفس السؤال:ماذا ينوي الجد أن يفعل؟وماذا سيكون مصيرهم... لو مضت تلك السنة، وقررن الرحيل؟


تسلّل الخوف إلى جوف "أسمر"، لا من الجد،

ولا من الوحدة...بل من رحيلها.


رحيلُها...ذاك الفقدُ الذي لا يُحتمل.ذاك الوجعُ الذي لا يُشفى.


وكذلك "براء"، غاص في فوضى قلبه،

يتأمل أطراف الحنين، ويتساءل:هل ما زالت "شجن" تُفكّر به كما يُفكّر بها؟أم أنّه... أضاع طريقه إليها؟


عند تلك اللحظة المشحونة، نزل "نديم" بخطوات ثقيلة، تعلو وجهه ملامح الانكسار، وغضب صامت يشتعل في داخله.

جلس بينهم دون أن ينبس بكلمة، حاجباه مقطّبان، وصدره يعلو ويهبط من شدة القهر.


صاح الجد فجأة، بصوته المتهكم الموجوع:


ـ "نَطَحت البت إنت كمان يا طور؟!"


رفع "نديم" عينيه إليه، نظرة من نار، غاضبة، متمردة. 


هتف "براء" بقلقٍ يملؤه الفقد:


ـ "يعني خلاص؟... هيسيبونا؟!"


فهبّ "نديم" واقفًا، عينيه تشتعلان:


ـ "مين دول اللي يسيبونا؟!أنا مرتي... ما تروحش في حتة!"


وما إن أنهى كلماته، حتى علا صوت "جابر" من زاوية المكان قد حضر بنزول نديم ، وقد انقلب وجهه سوادًا من الغيظ:


ـ "هتكوّشوا على كله؟! البت والفلوس؟! ما هي طاحت ومالت خلاص!"


تلفّت "نديم" إليه غاضبًا، نظراته تلمع بالخطر، لكن "أسمر" تدخّل قبل أن يشتعل الموقف، وكان يعلم جيدًا كم أن عمّه "جابر" يرهبه من الداخل، رغم ادّعائه القوّة.


هتف "أسمر" محذّرًا، بصوتٍ فيه رجاء خفي:


ـ "عمي... مالوش عازة الكلام ده، بَطّل حرابة، الله يرضى عنك.ومالكش صالح بنديم وخُوَاته... أني جولت أهه!"


لكن "جابر" لم يهدأ، صرخ بكل حقده الدفين:


ـ "ليه؟! هتلبّس مره؟! ويعلِّم عليك يا أسمر؟! وتسيبه ياخد فلوسنا؟!"


وما إن فرغ من كلماته، حتى نهض الجدّ فجأة، وفي لحظةٍ عاصفة أمسك بإحدى الفازات الثقيلة، وضرب بها رأس "جابر" ضربة دوّت في المكان، فصرخ الأخير وهو يترنّح، وقد انشجّ رأسه وسال دمه.


زمجر الجدّ، صوته يهدر كالرعد:


ـ "إنت إيه يا أخي؟! مَلْعُون! جِتّه نجسة... اتحلّلت من الغِلّ!بتجوم العيال على بعض؟!

بدال ما يتراضوا، عايز أسمر يِغِلّ من ابن عمه؟

وانت خابر طبعه، عايزه يجفّ لنديم صُوح، وتخرب، ويموتوا بعض، وتستفيد إنت؟!

اسمع يا جابر... تجرب من عيالي، أَمحيك من على وش الدنيا!إني خلاص... كفايا عليّا سكوت لأكده!"


صرخ "جابر"، يرتجف من الغضب أكثر من الألم:


ـ "إنت بتعمل فيّا  أني أكده؟! أمال أني إيه؟!"


زأر الجدّ، بنظرة قاطعة:


ـ "شر... إنت شر، يا بن نِعْمات.إنت شر... لمّ نفسك،سيبني ألحجها بدل ما أَرْميك برّات الدار،لا تطول أبيض ولا أسود.إني صبرت كتير...آخرتها سودا على دماغ أهلك!"


رمقهم "جابر" بنظرة ممتلئة حقدًا وانكسارًا، وصاح بأعلى صوته، كمن يُقسم:


ـ "أكده يا أبوي؟!ماشي... بس جابر ما ينختمش على جفاه!"


فانفجر الجد، صارخًا دون رحمة:


ـ "غُور ف نصيبك... تاخدك ربنا، يا بعيد!"


استدار "جابر" وقد انعقد الشر في عينيه، وغادر المكان مملوءًا بالحنق، والشتات.


ظلوا جميعًا صامتين، بينما تنهد الجد بعمق، وكأن سنوات عمره سقطت دفعة واحدة فوق صدره.


حين شعر الجد أن اللحظة قد هدات، قام بهدوء واتصل بهاتفه، صوته منخفض، عينيه لا تنظران إلى أحد، وكأنّه يرتّب شيئًا في داخله أكثر مما يرتّب خارجه.


مرّ بعض الوقت، وما هي إلا دقائق حتى دلف إلى المجلس بعض إخوة الجد، وبعض من أبناء عمومته الكبار، رجالٌ لا يجتمعون إلا لأمر جلل.

جلس أكبرهم سنًا، والتف الجميع في صمت وقور، لا يقطعه سوى نظرات الفضول والحيرة التي تملأ وجه "أسمر"، الذي نظر إليهم مستغربًا، وتمتم:


ـ "فيه إيه يا جدي؟ خير... مجمّع الكبرات ليه؟"


ابتسم الجد بخفة شجن، ثم نظر إلى "نديم" نظرة عميقة، ثم تنحنح وقال بهدوء:


ـ "الحج... لما يترد... لازم ليه كبرات تشهد، يا ولدي."


ثم قام بخطوات بطيئة، متثاقلة، وغاب لحظات في داخل البيت، ثم خرج يحمل لفافة صغيرة، مغطاة بقطعة قماش قديم.

اقترب منها ببطء، ووقف أمام "نديم"، وقد كسا صوته وجعه القديم وندمه المتأخر، وقال بصوت متهدّج:


ـ "دلّوك... إني واجف جدام كبرات البلد والعيلة...إني جاي لحدك يا ولدي... إني جاي لحد نديم...


نديم عامر أبو الدهب...


نديم اللي خرج هو وأبوه من اهِـنّه... عشان ضعفي... عشان كُنت ضعيف... ومش حجّاني...جاي لولد ولدي...لأن ولدي... راح."


ثم استدار، ينظر في وجوه الرجال الجالسين حوله، وكأنه يستنطقهم شهادة الحق:


ـ "اشهدوا يا خلج...إني جاي أَردّ حجّ ولدي عامر عمران أبو الدهب...


اشهدوا عليّا... إنه اتظلم...إنه اتعاب...

وانطرد بغير وجه حج. اشهدوا... إني مش عادل...وربنا... هيحاسبني.


اشهدوا...بس وانتو بتشهدوا... ادعولي...

عشان خايف من يوم اللجِي."


اقترب من "نديم"، ورفع عينيه إليه، والرجفة تسكن يديه، فقال بصدقٍ يقطر خجلاً:


ـ "اسمع يا ولدي...إني جدّك... اللي كت بتجول عليه حج...جاي نفسي... تبقى ولد ولدي...نفسي أتشرف بيك...وطالب منك السماح.

إني عارف... إني كنت خسيس... وضعيف... يا ولدي...بس والله... دورت عليكم ياما...


نفسي... تِتراضى...يا ابن عامر...إني غلطان... وكنت ضعيف... ومجهور...

وعمّك... مسيطر... وفاجر...كنت بخاف منه...


بس روحه أبوك... جَهَرتني...ولما عاودت... ما همنييش...تاخد اللي تاخده...بس تعاود.

والله... يا ولدي...عشت أيّام جَهَر...سامح جدّك... يا نديم...إني متوكّد... إن عامر... عايش جواك...وعارف أبوه... وهيسامحني."


ثم مدّ إليه اللفافة الصغيرة، وقد امتلأت عيناه بالدموع، وانحنى أمامه، لا كمَن يمنح... بل كمن يتوسّل أن يُؤخذ ما يمنح.


كان "نديم" واقفًا، تتصارع بداخله مشاعر لا حصر لها…الوجع، الشوق، الحنين، والخذلان القديم.


لقد طالما حلم بالعِزوة، بالصدر الذي يسنده، بالدار التي تضمّه...كم حاول والده أن يلين قلبه ناحية الجد، أن يُطفئ نيران الوجع في صدره ويزرع فيه بذور السماح، لكنه كان صغيرًا، ولم يكن يفهم كيف يمكن لمن طُرد، أن يشتاق لطاردِه...لكنه الآن... رجل.


رجل يبحث عن جذوره، وعن معنى الإنتماء، ورغم كل شيء، قلبه مال.


كان صوت الجد يترنح في أذنه كرجع صدى بعيد، حين قال برجاء خافت:


ــ "سامحني يا ولدي..."


ثم استدار الجد، ومد يده المرتجفة نحوه، وهو ينظر إليه بضعف الأب، وليس بجبروت الكبير، وقال بصوت واهن:


ــ "افتحها... يا ولدي."


تردد "نديم" لحظة... ثم مد يده، وفكّ اللفافة ببطء.وما إن انكشف ما بداخلها، حتى انعقد حاجباه في دهشة وذهول.كفن أبيض... وفوقه عباءة صعيديّة قديمة.


رفع بصره إلى الجد... يبحث عن إجابة.


فابتسم الجد ابتسامة حزينة، وقال بصوت هادئ وهو يشير إلى ما في يد نديم:


ــ "يا ولدي... الصعيدي لما يعمل جريمة،

واللي جدّامه... ليه حج...يجيب كفنه.

عشان اللي جدّامه... يتراضي.وده كفني... يا ولدي."


اقترب خطوة منه، ثم أكمل والدمعة تكاد تطفر من عينيه:


ــ "جاي لحدك...عِمران أبو الدهب...

كبير عيلة أبو الدهب...بيجدملك كفنه.


إني... السبب في جَتْل وِلدي...وفي جَتْل أمك...بس... جايبهم لحدّك...وطالب... تِجبلهم مني.


إني... بجدّم كفني ليك،وطالب الصلح... والرضا... جدام الخَلْج.ومايهمّنيش... إنزف في البلد كلياتها...إني جَدّمت كفني.


إني بجدم كفني...عشان ألم...عشان أُحاجي...وزي ما وحّلتها زمان...نفسي تعاود...وتتلم...دلّوك."


توقّف الجد، لا ليكمل، بل لأن صوت قلبه سبق لسانه،وأمام كل الحضور، وقف "نديم"، ممسكًا بالكفن، ونظر إلى جده طويلًا...


عيناه لا تحملان غضبًا، ولا عتابًا فقط… بل شيئًا أعمق.


كان الجميع ينظر إليه بذهول، وكأن الزمن توقف للحظة، لا يصدقون ما رأوه أو ما سمعوه. أما نديم، فعيونه بدأت تلمع بدموع متخبطة بين الصدمة والفخر، بين وجع داخلي يعتصره، وارتعاشة خفية في صدره، كأن قلبه الصغير لم يعد يتحمل هذا الثقل.


كان يشعر أن الأرض تميد تحته، أن العالم تغيّر في ثانية، وأن جده ـ ذاك الرجل الجبّار الصلب ـ قد نطق بما يُشبه المعجزة... ردّ حق... عينا نديم بدأتا تلمعان بدموعٍ حارقة، ووجعٌ داخليٌّ ينهشه، رافضًا تصديق أن جدّه قد يفعل ذلك يومًا. ومع ذلك، لم يستطع أن يمنع قلبه من أن يغمره فخرٌ دفين، فها هو جدّه قد ردّ حقّ أبيه... وأعاد كرامته إلى موضعها." 


وبينما تنفست أنفاسه المتسارعة، تسللت نظرات الكبار إليه، في صمتٍ مُهيب، مزيج من دهشة واحترام وشيء خفي يشبه الإقرار بأن الصغير لم يعد صغيرًا. نظروا إليه كأنهم يرون ملامح أبيه تعود للحياة من خلاله، كأن الدم قد تكلم، والحق قد نطق، والسكوت قد انكسر بعد طول صمت.


وبرغم الدموع في عينيه، انتصب نديم في وقفته، وداخله شيء جديد يولد… شيء لا يُكسر.


اقترب الجد ببطء، يحمل العباءة بين يديه كما لو كان يحمل إرثًا من قرون. نظر إلى نديم طويلًا، ثم رفع العباءة، واستدار ووضعها برفق فوق كتفيه، كأنما يضع تاجًا لا يُرى، لكنّه يثقله بالفخر والمقام.


ثم قال بصوته الخافت العميق، وقد اختلطت فيه النبرة الرفيقة بصرامة الرجال:


ـ "عارف دي إيه؟... دي عباية جدك الكبير... العباية دي ما تتلبسش إلا لكبير الشباب. هيّا كانت من حجّ الأسمر، بس... أنا هديّهالك."


تأمل الجد وجه نديم، ثم تابع:


ـ "عارف ليه؟... علشان انت ما خدتش من عزوتنا حاجة... لا مال ولا جاه، ولا حتى نَسَب تشيل بيه راسك جدّام الخلج. جايبها ليك... لأنها عِزّة عيلة أبو الدهب. وانت... أنا شايفك تستاهلها."


توقف قليلًا، ثم شد العباءة على كتفَي نديم بقوة الرجال ودفء الأجداد:


ـ "العباية دي... لما انحطّت على كتافك، ما نجصتش... بالعكس، زادت وكبرت. عشان انت كبير جوي يا ولدي. ورغم اللي عملناه، ما سالتش نجطة دم... مع إننا نستحج يا ولدي... نستحجها وزيادة."


ربّت الجد على كتف نديم بحنانٍ كأنّه يُطفئ وجع السنين بلمسة أبٍ نادم. كانت يداه ترتجفان، لكنّ كلماته خرجت واضحة كنداء الغفران:


– "اجبلهم يا ولدي... ولو عايزني أُحبّ على يدك ويد خوتك، أعملها، والله أعملها."


صمت قليلًا، ثم تنهد، وصوته يختنق بحرقة دفينة:


– "سامحني يا ولدي، كتّ ضعيف... وربنا خلجني ضعيف... كتّ معيوب... ومُوت عيلتي بإيديا. الحسرَة مكلبشة فـ جلبي، وخايف من لجى ربنا... سامح جدّك، لاجل عضم التُربة... أبوك سامحني، واني ما اسواش تراب رجليه... أبوك كان خير العيلة، وانت خدت خيره كلو."


اقترب الجد ببطء، ومد يده المرتجفة فوضعها على صدره، كأنّه يسلّم ما تبقّى من شرفه:


– "انت يا ولدي خدت نَبل أبوك... خدت نَبل عيلة اتنزَع منها النَبل. كنت تجدر تجتل ولدي، وكنت حجك في السما، وكنت تجدر تطيحنا كلنا... بس انت لا عملت دا، ولا حتي نويت عليه."


تنظر إليه الوجوه من حولهم بدهشةٍ وصمتٍ مقدس، وكأنّهم يشهدون عودة التاريخ نفسه لرشده.


– "ربنا اداك نبل... ما خدوش حد غيرك. دخلتك مش خراب يا نديم، دخلتك خير... دخلتك تُرجّع العجول وتبيّن الحجوج."


توقّف الجد، ثم رفع رأسه وهو ينظر في عيني نديم بثباتٍ مكسور:


– "انت فخر عيلة أبو الدهب... لما توافج تبقى مننا، احنا الشرف يزيدنا، مش انت. يمين الله... احنا اللي هنتشرف بيك يا ولدي."


قال الجد بصوتٍ واهن، وهو ينظر إلى وجه حفيده كمن يوصي روحه الأخيرة:


– "سامح جدك يا ولدي... عارف لو هموت دلوك وانت سامحتني، ما يهمنيش بعدها حاجه."


اقترب منه ببطءٍ وهو يرفع بيديه المرتجفتين الكفن مجددًا، وعيناه تبحثان عن شيء من القبول:


– "اجبلها يا ولدي... اجبل نتلم، ونتصافى... آه، ما استحجش... بس عشانكو، عشان خواتك... عشان اللي فاضل من عيلتنا."


كان نديم في تلك اللحظة يَقبض على الكفن بيده، أنفاسه تضطرب، والمشاعر تتنازع داخله بعنف... الغضب، والحنين، والخجل، والانتماء، كلُّها كأنّها تعصف بقلبه مرة واحدة.

... صعيديٌ هو، وقبليته تأبى، تأبى أن يرا جده ينحني.


وفجأة، عندما همّ الجد أن يطأطئ رأسه،وينحني ماسكا يد نديم. صرخ نديم بقوة واندفع يمسكه بذراعيه المرتعشتين:


– "بتعمل ايه يا جدي... عيب كده! عيب عليك!"


تجمّد الزمن للحظة.


رفع الجد وجهه ببطء، ودموعه انهمرت بغزارة كأنها تغسل ذنوب العمر، لقد سمعها...


الكلمة التي انتظرها منذ سنين، من أفواهٍ ظنّ أنهم لن ينطقوها أبدًا.


"جدي..."


انزلقت من بين شفتيه المرتعشتين، ووقعت في أذنه كأنها نداء عتيق أتى من عمق روحه، كأنها لم تكن مجرد كلمة، بل وعدًا بالانتماء، اعترافًا متأخرًا، وحنينًا لم يُولد إلا الآن.


تجمد الجد في مكانه، كأن الزمن توقف، وجسده المثقل بالسنين ارتعش بلحظة... لم يكن مستعدًا لها.

هزّت الكلمة جدران قلبه، تلك التي ظنها أقفلت منذ رحيل الكبار، منذ صارت الألقاب عبئًا، والحب ضعفًا.


رمقها بعينٍ تهزّ الجبال... عين الكبار حين تهزمهم دمعة لا يسعهم إنكارها.

ارتجف صوته في صدره، لكنه صمت، لأن الرجولة لا تبكي، هكذا علّموه...

لكنه بكى، بصمته، بهزة حاجبه، برجفة كفه التي لم تطاوعه حين مدها نحوها.


أما نديم...


فقد انخلع قلبه من مكانه، لم يحتمل مشهد الجد، ذاك الجبل حين ينكسر...

نظر إليه بعين الابن والولد والحفيد، بعين الرجل الذي كبر على صرامته، وخاف قسوته، وتمرد على سطوته، ثم أدرك في تلك اللحظة أنه لم يكن قاسيًا... بل كان مجروحًا، ينتظر فقط أن يُسمّى باسمه.

اندفع أسمر دون تردد، واحتضن جده بقوة وهو يجلسه بلطف:


– "اهدَى يا جدي... كفاية عليك كده، اهدَى."


كان براء قد اقترب من نديم، وربت على كتفه بلين، لكن نديم أشاح وجهه بارتباك، وهو يبلع ريقه محاولًا إخفاء الانفعال الذي فاض دون استئذان. لم يكن ينوي أن يقولها... خرجت منه كأنّها من قلب أبيه لا قلبه.


ساد الصمت للحظة، حتى تنهد الجد، وكأنّه أفرغ آخر ما في صدره:


– "عارف... عارف إنه بدري السماح... بس أنا بطلبه ومستنيه، ومستهلّوش، ولا عايزك تجول دلوك إنك سامحت... بس خابر جوّاك، لما يطلع الخير اللي فيه، هيملأ الدار دي... ولدي باعته ليا فيك يا نديم."


جلس نديم، ما زال يحمل الكفن في حجره، ما بين كرامة مجروحة... ودمعة عزّ تأبى أن تسقط. لكن شيئًا في قلبه، كأنه انكسر... ثم بدأ في الالتئام.


اقترب الرجال من الجد، يربتون على كتفه، في لفتات عرفٍ ومحبة، وجلس الجميع في جلسة صُلح، جلسة ردّ الحقوق وإعلاء الفضل. تبادلوا كلمات الخير، فمدحوا عامر، وأشادوا بنديم، ثم حان وقت رحيلهم، فسلّموا على نديم ودعوا له بالعز والخير، ثم غادروا تباعًا، تاركين خلفهم صدى اللحظة، وثقل الصمت الذي عمّ المكان.


قطع الجد السكون بصوته المتعب:


– اسمر... براء... مش عايزكو تسيبوا ابن عمكو، فيه اللي مكفيه... واتعمل فيه بزياده.


نظر إليه أسمر، وقال بتحفظ:


– احنا ماعملناش حاجه يا جدي... هو اللي دبر وعمل ده كله بحاله.


لكن نديم، وقد ضاق صدره، قال بقهر:


– وهما ماعملوش الجُهر كله؟!


تنهد أسمر بصدق، وهمس:


– واحنا ذنبنا إيه؟


هتف براء، يشاركه الألم:


– انت ماتاخدناش بذنبهم يا نديم... احنا ماعملناش فيك حاجه، الحجّ يا ابن عمي بتاخده من الظالم... وإحنا ماظلمناكش.


قال الجد بحزمٍ وطيبة:


– وعشان اكده، بطلب منكو تتصافوا... التار والانتجام يا ولدي مايجيبوش إلا الخراب.


صمت نديم، وكأن كلام الجد طرق باب قلبه المغلق. فتقدم أسمر منه، ووقف أمامه بثبات، ثم ابتسم ومدّ يده إليه. قال برجاء من القلب:


– هتمد يدك يا ابن عمي؟ ولا هتعتبرنا زيّهم ونكمل شر للآخر... والكل يروح فيها؟


سكت الجميع، تراقبهم الأنفاس المترقبة.


تابع الجد، يخاطب النديم بحنان الأب:


– اتصافوا واتلاجوا يا ولاد أبو الدهب... خُد نديم في حضنك، إنت كبير، وماهتحزنش جدك يا ولدي.نديم آه، عمل فينا اللي مايُعمل... بس الظلم بيخلي النفر منّا يجسي على اللي منه، يا ولدي.


ابتسم أسمر بصدق، وقال:


– اللي تأمر بيه يا جدي... بس هو يمد يده.


ثم نظر إلى نديم مباشرة:


– نديم... أنا ابن عمك، كبير شباب العيله، وجايي لحدك... مادد يدي بالخير.عارف ليه؟... عشانك اتظلمت، وعشان إحنا لا آكلين حجوج ولا ظلمه.

بمد يدي عشان نتصافى ونتراضى، والخير يخش الدار دي، وعهد عليا لاكون بضهرك لحد موتي... أعينك عالخير، وأردك بالغلط.


كانت لحظة فاصلة...هل يمدّ نديم يده، ويطوي وجع السنين؟أم يتركها ممدودة... تتأرجح بين الحنين والخذلان؟


نظر إليه نديم مليًّا...

وصمت ثقيل خيّم على المكان، كأن الزمن توقّف.

لحظات مرت كالدهر على قلب الجد، يخشى أن يُعرض نديم، أن يُنهي كل شيء برفضه...

لكن نديم، الذي ورث عن أبيه شرف الرجولة، وعن أمه طهارة القلب، لم يكن إلا أسطورة في النقاء... أسطورة في العظمة.


نهض في هدوء... وسار نحو أسمر بخطى واثقة.

ثم... مدّ يده بقوة.


ارتسمت ابتسامة صادقة على وجه أسمر، فشدّه إلى صدره في حضنٍ رجوليّ دافئ، يمحي داخله كل سنين الخصام، وكل الندم وكل الوجع.


كان أسمر كبير الشباب... ويعرف الحق، ويُجيد فهم الرجولة.شعر بنديم... ليس فقط كابن عم، بل كصاحب حق، وكصاحب عِزوة حقيقية، وقلب ما انكسر رغم كل ما مرّ به.


اقترب براء بدوره، دون تردد، واحتضن نديم أيضًا...كان حضنًا جمع شتات قلوبهم، وكأن الجروح اندملت دفعةً واحدة.


دمعت عينا الجد من الفرح، فرفع يديه نحو السماء وهو يدعو من قلبه:


– يا رب، سترك وعفوك... يا رب تفرّحني بولادي، وتجعلهم لبعض سند، لا يفرقهم شيطان ولا بشر.


في تلك اللحظة...

شعر نديم، أخيرًا، أنه عاد إلى الدار، ليس فقط بجسده... بل بروحه، وقلبه، وانتمائه.

****


كانت "وَجد" تجلس في غرفتها، حزينة، وحيدة، تطوي جسدها حول قلبٍ ينزف.

همست لنفسها وهي تضغط على طرف ثوبها:

– إيه؟ هتفضلي تعضي فيه وتعملي صعيدي؟ وآخرتها؟ كتّي هتتحصري، وبعدين؟

تنهدت بقهر وهي تمسح دمعة سالت رغمًا عنها.

– بيقولي عايزني مراته... الكدّاب! اللي بيحب ما بيعرفش يقسى ويوجع.

أنا موجوعة أوي يا نديم... عملتلك إيه؟


ارتجف صوتها وهي تقول:

– قلبي هيقتلني... ليه كده يا رب؟ ليه؟


وفجأة، دوى خبط خفيف على الباب. جففت دموعها سريعًا ونهضت متثاقلة، فتحت الباب...

فإذا بـ"مَهرة" تقف أمامها، بعينيها المحمرتين من البكاء، تحمل في وجهها صدقًا وحنانًا نادرين.

قالت برقة:

– ممكن أدخل؟


أومأت "وجد" بصمت وأدخلتها، فاقتربت "مهرة" وأمسكت يدها برفق،وعندما التقت العيون... فاضت الدموع من جديد.


قالت مهرة، بصوت خافت:

– ممكن... تعتبريني أختك؟


لم تجب "وجد"، لكن دموعها سبقتها،

فشدّتها "مهرة" إلى صدرها، واحتضنتها كما تحتضن الأخت الكبرى قلب أختها المكسور.

فانهارت "وجد" بالبكاء، بكاءً مرًّا يخرج كل القهر والخذلان.

جاءت "شَجن" بدورها، وسندت رأسها على ظهر "وجد" وقالت بخنق:

 بطلي والنبي... هعيط والله.


جلست "مهرة" وأجلست "وجد" إلى جوارها، أمسكت يدها وابتسمت رغم ألمها:

– وجد... أنا ماليش ذنب في اللي عمله نديم.وما كنتش أعرف، والله، ولو كنت أعرف، كنت وقفتله... إحنا ما نرضاش بالظلم، إحنا اتظلمنا أصلاً.


تنهدت، ثم أكملت بحزن:

– أخويا مش كده، والله. اللي عمله كبير، بس مش عن نية غدر، ما كانش يقصد...

أبوك يا وجد جلد نديم وضهره لسه معلم لحد دلوقتي.أبوك قتل أخويا. وأمي وأبويا ماتوا بسببه... إحنا عشنا سنين مش بني آدمين.

بس رغم ده كله، نديم عمره ما بقى وحش... هو مكسور من جواه.


بدأت تحكي، وتقص عليها ما حدث لهم من مآسٍ، وكيف عاشوا أيتامًا، مكسورين، تحت وطأة الظلم،حتى انهمرت دموع "وجد" من جديد، لا تدري إن كانت على نفسها أم عليه.


همست "مهرة":

– أنا مش بدافع، بس بحاول أشرح... نديم موجوع زينا.هو غلط، وأنا أول واحدة أقول كده، بس مش كل غلطة فيها نية خيانة.


ثم مدت يدها بهدوء:

– يا ترى... تقبلي نكون إخوات؟


ابتسمت لها وجد فربتت مهره عليها. ظلت "وجد" صامتة، لا تجرؤ على الكلام،

هي تعشقه... لكنها لا تحتمل وجعه الذي أنزل بها.


قالت بحشرجة:

– أخوكي... موتني يا مهرة. موتني.


شدّتها "مهرة" وأجلستها قائلة:

– اقعدي...جاوبيني يا وجد... بتحبيه؟ ولا كرهتيه خلاص وهتسيبيه؟


هزت "وجد" رأسها، وتمتمت:

– أنا "وَجد جابر"، وهو "نديم عامر" ...ومافيش كلام تاني يتقال.


سكتت "مهرة" قليلًا ثم قالت:

– طيب، جدي اتفق معانا اتفاق: نقعد سنة سوا، وبعدها الورث يتقسم.ما تيجي تديري شركتنا، وتكوني معانا... نبقى سوا ونشوف هنقدر نعمل إيه.


نظرت إليها "وجد" باستفهام:

– يعني إيه؟


ابتسمت "مهرة":

– يعني... لو عايزة تبقي حرة بعد سنة، أنا هخليكي حرة.لو عايزة تطلقي من نديم... أنا أعملها. تاخدي حقك وتمشي.


خفق قلب "وجد" بخوف، قالت بصوت مرتجف:

– هتطلقيني من نديم؟


ابتسمت "مهرة" بهدوء:

– لو إنتي عايزة. ومش هتكوني لوحدك، أنا وشجن معاكي.بس قبل ما تقرري، لازم تعرفي إنك مش غريبة، وإحنا بقينا لبعض عزوة.


هتفت "شجن":

– بس ازاي؟ هما متحكمين فينا!


ضحكت "مهرة" بخفة:

– اللي معاه "مهرة"... ما يخافش.هننزل دلوقتي، نتفاهم مع جدي، ونشوف شروطه.

نقعد سنة، نثبت نفسنا، وبعدها كل واحد ياخد حقه.


نظرت إليها "وجد" بعيون دامعة، وهمست:

– أنا... معاكم. هاخد حقي، وأعيش لنفسي.


احتضنتها "مهرة" بقوة، وقالت بثقة:

– وأنا معاكي... في أي قرار تاخديه.


نزل الجميع، وكان المحامي يجلس على الطاولة الكبيرة، يضع أمامه الأوراق والعقود، وحوله الرجال من العائلة يجلسون في صمت، أعينهم لا تحيد عن الفتيات وكأنهم يترقّبون قرارًا لا يُصدق.


هتف الجد بصوته الجهوري، وهو يشير إلى الأوراق:

– امضي يا بتي... يلا. كل واحد هياخد نصيبه آخر السنة.

تديروا المكان، وما حد يتجبي ع التاني.


ثم ابتسم بفخر وهو ينظر إلى حفيداته:

– دلوك... كل واحد هيعمل اللي عليه.

ولادي هيشتغلوا، وبناتي برضك... ما أنا بناتي كيف الرجّالة.


تقدّمت "مهرة" بخطوات ثابتة، رفعت رأسها ونظرت للجد بعين واثقة:

– هنمضي... ونقعد سنة، بس... بشرط.


سكنت الأعين، وتوقفت الأنفاس، وبدأت الهمسات تتصاعد بين الرجال...

نظر إليها الكل باستغراب، وانتظروا سماع "الشرط"، 

لتتقدم بخطواتٍ واثقة، وقد انطفأت الرجفة من عينيها، وارتسمت على ملامحها الجديه والعزم.. وقالت ما جعل كل الرجال يهبّوا صارخين عندما.... 


........ 


يا تري ايه الشرط والرجاله هيعملو إيه ومع البنات مهره اللي ماحدش يقدر عليها... و رايكو بتصرف عمران هل بكده انتهي الصراع وإلا لسه... 

تكملة الرواية من هناااااااا 

 لمتابعة باقى الروايه  زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا



تعليقات

التنقل السريع