القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الثانى وعشرون والثالث وعشرون بقلم شروق مصطفى حصريه

 رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الثانى وعشرون والثالث وعشرون بقلم شروق مصطفى حصريه 





رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل الثانى وعشرون والثالث وعشرون بقلم شروق مصطفى حصريه 



22،23جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى



الفصل الثاني والثالث والعشرون


جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى

لم تقتنع سيلا بكلام عاصم، وقررت الذهاب إلى معتز، تهاتفه محاولةً ثنيه عن قراره، لعلّه يهاتف مي ويخبرها بكل شيء، فتكون تلك البداية لمصالحةٍ مرتقبة بينهما.

طرقت باب غرفته بهدوء، وهي تستند إلى عصاها، ثم توقفت قبالته، تخاطبه بينما تراه يُجهّز حقيبته استعدادًا للسفر صباح الغد.


قالت بنبرةٍ مترددة:

– معتز، مفيش حاجة عاوز تقولّها لي قبل ما نسافر؟ ونفسي تفكر تاني يا معتز… إنت محتاجها دلوقتي عن أي وقت بجد.


ترك ما بيده واقترب منها، وعيناه تلمعان بالألم:

– لو ربنا كاتب لي عمر تاني، هتحدّى الدنيا عشان أرجعلها… بس دلوقتي مقدرش، مقدرش أشوف دمعة من عينيها نازلة عشاني، بجد… هم.وت لو شفت دموعها.

مش عايزها تتقهر على مو..تي وتترمّل بعدي… مش حابب أشوف بكاها، عاوزها تعيش حياتها بعدي… سيبيني يا سيلا في اللي فيّا، أرجوكي.


قاطعته وهي تهتف بسرعة، محاولةً قطع سيل التشاؤم في حديثه:

– هتقوم لنا بالسلامة يا معتز، ما تجيبش سيرة الم..ت تاني، أرجوك…

عموماً، زي ما تحب… أنا همشي أجهّز نفسي أنا كمان.


غادرت الغرفة بخطواتٍ مثقلة، لتجد عاصم واقفًا عند الباب، متّكئًا عليه، يتطلع إليها بعينين تملؤهما الغيرة والضيق.

احتضنها بين ذراعيه وهو يهتف بنبرةٍ تجمع بين العتاب والحب:


– برده يا سيلا؟ العناد بتاع حبيبتي ده!

سيبيه على راحته… هو لو عاوز، كنت أنا بنفسي هروح وأكلمها.


وضعت يدها على فمها بضعف، وقالت بخضوعٍ يائس:

– حاضر، خلاص… مش هتكلم تاني، أهو سكت خالص.


نطقت مي بصدمة، وقد باغتها حديث الطبيب:

– مريض؟ إزاي؟


ردّ الآخر بنبرة هادئة وهو يحاول شرح ما استنتجه من حديثها:

– مش مريض بالمعنى العضوي، إنما مرض نفسي… هبسطهالك: لما حسّ إنك اكتشفتي خيانته، وإنك ممكن تفضحيه، قلب الترابيزة عليكي، عشان تسكتي قدام الناس وما تجرحيش صورته قدام أخوه وقرايبه.

وكمان، عشان الست تتنازل عن كل حقوقها في مقابل إنها ماتتكلمش عليه مثلًا.

بس هو لاعبها صح… وكل الرسايل، أكيد هو اللي بعتها.

ده مجرد تخمين، لكن من اللي سمعته منك، ومن بداية حبكم لحد ما وصلتوا له دلوقتي… شاكك إنه هو ورا كل ده.


نظرت إليه مي في ذهول، وقد بدأت تهز رأسها نافية، غير مصدقة لما تسمع:

– إزاي؟ هو! هو اللي بيبعت رسايل؟ إيه الكلام ده؟ مستحيل… لأ، لأ، مش هو… لأ.


ظل الطبيب ينقر بالقلم فوق سطح مكتبه، غارقًا في التفكير، ثم هتف:

– أنا بقول تخمين، مش أكيد… تعالي نفكر سوا، ممكن أسألك كام سؤال؟


قالت بصوت خافت:

– اسأل، طبعًا.


ابتسم قليلًا، ثم باشر بسؤاله:

– هو في العادي، كان بيمسك تليفونك؟ أو نبهك قبل كده إنك بتمسكي التليفون كتير؟ أو إنه بيتضايق من كده؟


نفت كل شيء بوضوح:

– أنا أصلًا مش بمسكه… معنديش وقت له، كان هو شاغل وقتي كله: بيتي، نظافته، هدومه، أكله الخاص… كل حياتي كانت هو.

أول مرة يخطف التليفون من إيدي… بس أنا موجهتهوش لما اكتشفت خيانته، أو يمكن ملحقتش، كان هو سابقني…

معقول يكون هو؟ طيب، ليه يعمل كل اللفة دي؟ ده ده…


توقفت فجأة، وقد تداخلت أفكارها، فحثّها الطبيب على المواصلة:

– كمّلي… ده إيه؟


خفضت مي نظرها إلى الأرض، أغمضت عينيها لحظة، ثم فتحتهما وتحدثت بصوت منخفض:

– أصل أنا اتكلمت معاه بعد الانفصال، لأنه مسكتش… فضِل يبعتلي كتير من أرقام مختلفة، لحد ما جوايا بقى عندي فضول أعرف عاوز إيه مني… بس، بس مش هو، لأ.


هتف الطبيب فجأة، بانفعال:

– إيه عرفك إنه مش هو؟ شُفتيه؟

وليه تتكلمي مع حد ما تعرفهوش من الأساس؟ لمجرد إنه بيبعتلك ويتحايل عليكي بأي كلام معسول؟

إيه يجبرك على كده؟ إنتي مش صغيرة على كده!


أسرعت في الردّ، محاولة الدفاع عن نفسها:

– لا، لا طبعًا، مشوفتوش، والله… كانت محادثة بس بينّا.


ثم ارتجفت قليلًا، وقد شعرت بتأنيب من لهجته الحادة، فأكملت حديثها بتردد ظاهر:

– م… مش عارفة، وقتها كنت خارجة، وحسيت إني لوحدي، وقلت يمكن أنسى…

واتكلمنا فترة، ب… بس أنا بعدت عنه، آخر مرة كلّمني فيها حظرتُه، وكسرت الشريحة كمان عشان ما يوصلش تاني.


نظر إليها الطبيب بنوعٍ من الندم، ثم قال باعتذار صادق:

– أحم… أنا آسف على طريقتي، بس مكنش مبرر إنك تكلميه من البداية.

ده سبب خراب بيتك… مكنش يصح تعملي كده.

المهم دلوقتي… إشمعنا بعدتي عنه؟


أخرجت زفرةً طويلة من صدرها، ثم قالت:

– مش عارفة، لوحدي… فجأة حسيت إني بعمل حاجة غلط، حاجة تغضب ربنا…

لأني مش أنا اللي أستمر في كده، عمري ما عملت كده.

كان وقت شيطان… خلاني أتكلم، أو فراغ، ووحدة…

لكن عرفت أملّى فراغي إزاي دلوقتي، الحمد لله.


ابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة، تأمل فيها مدى نقائها الداخلي:

– وملّيتي فراغك إزاي دلوقتي؟


رفعت نظرها إليه، تنهدت بعمق، وقالت بثقة وهدوء:

– لجأت لحاجات كنت مقصّرة فيها… خصّصت لنفسي ورد يومي من القرآن،

وبقيت أفضفض لربنا، وأتكلم معاه، أحكيله عن اللي مضايقني…

وده الفضل يرجعلك طبعًا، لما قولتلي إن حقي ربنا شايله ليا، ولو بعد حين.

فأنا وكلت همّي لربنا، قولت له: “يا هم ليك رب”،

وبقيت مش محتاجة ليك كمان… إيه رأيك بقى؟


قهقه الطبيب ضاحكًا بصوت مرتفع، وقد ظهرت غمازته اليسرى، مما زاد من جاذبية ملامحه:

– يعني من تاني جلسة، بعتيّني كده؟

على العموم، موافق طالما لقيتي البديل ده.

بالعكس، أنا أشجّعك أكتر… بس لسه الجلسات مخلصتش، يا هانم.

ميعادنا بعد يومين.


يتبع

الفصل الثالث والعشرون بقلم شروق مصطفى


نهضت من أمامه، وعلى وجهها بسمة هادئة، ثم غادرت جلستها وهي تشعر ببعض الراحة لما فعلته، لكنها لم تستطع تصديق ما خمنه لها الطبيب عن ذلك الراسل المجهول، هل يمكن أن يكون هو حقًا


سافر معتز إلى الخارج، وبعد أن اطّلع الطبيب على الأشعة الأولية، قرر إخضاعه لمزيد من التحاليل والرنين المغناطيسي.

وبعد فحص النتائج، تقرّر على الفور إدخاله غرفة العمليات، إذ تبيّن وجود كتلة ورمية ذات سرعة عالية في الانتشار.

وكانت الجراحة شديدة الحساسية، تستغرق ما لا يقل عن ست ساعات، وقد حُلِق رأسه بالكامل استعدادًا لإجرائها في الغد.

نسبة نجاح العملية لم تتجاوز 65%.


دلف عاصم إلى غرفته، يحاول تقوية عزيمته، رافعًا من روحه المعنوية:

– اجمد يا بطل، كده هتقوملنا بالسلامة، وهزفّك على عروستك بإيدي.


نظر إليه معتز، وعيناه مغرورقتان بالعَبرات، وقال بصوت متهدّج:

– فكرك مي تسامحني بعد كل اللي عملته فيها؟


تطلع إلى سيلا بعينٍ يغمرها الأمل، ثم هزّ رأسه لأعلى وأسفل، متوسلًا:

– فهميها كل حاجة… لو ما طلعتش من هنا بكرة، خليها تسامحني على كل اللي سببته لها.

ما تنسيش… ماشي؟


لكزه عاصم من كتفيه، وقال بنبرة واثقة:

– هتقولها بنفسك يا واد، وتركع على ركبك وتقولها “سامحيني”، وهتسامحك.

وهعملك أكبر فرح تاني.


ابتسم معتز، لكن ابتسامته حملت وجعًا داخليًا لم يعرف له سببًا، ثم قال:

– سيلا، نفسي أسمع صوتها… كلميها، وافتحي السبيكر… عايز أسمعها بس، من غير ما تعرف إني سامعها، ممكن؟


هتفت سيلا سريعًا، بسعادة:

– آه طبعًا، استنى… وممكن أكلمها كمان فيديو كول!


أسرعت تُخرج هاتفها قبل أن يغيّر الآخر رأيه، وما إن بدأت الاتصال حتى تمتمت ساخرًة:

– ردي يا جزمة…


وبعد لحظات طويلة من الانتظار، جاءها الصوت الناعم الذي طال انتظاره:

– ألو… مين؟


صرخت سيلا دون وعي:

– مين إيه يا جزمة! مش عارفة صوتي؟ معاكِ سيلا.


أغمض معتز عينيه بألم، حين سمع صوتها الناعم، كم اشتاق إليه…

يعرفها جيدًا، خصوصًا حين تستيقظ من النوم، تكون على طبيعتها تمامًا، لا تضع قناعًا لأي أحد.


ظلّ يستمع إلى حديثها العفوي مع صديقتها، بنفس البراءة التي لطالما أحبّها فيها.

لكن شيئًا في صدره اختنق… لم يقوَ على الاحتمال أكثر. أشار بيده إلى سيلا أن تتوقف، فقد كانت نبرة صوتها وحدها تكفي لق..تله شوقًا.

سحبها عاصم بهدوء إلى الخارج وأغلق الباب خلفه، ثم عاد إلى أخيه، فوجده غارقًا في انهيارٍ صامت، مأخوذًا بما آل إليه حاله في غيابها. كم اشتاق لوجودها إلى جواره الآن…


حاول عاصم تهدئته قدر المستطاع، فقد أوصى الطبيب بضرورة تجنّب أي انفعال قد يهدد نجاح الجراحة.

ظلّ يربت على كتفه حتى هدأ قليلًا، ثم همس بصوت منخفض:


– بكرة هترجعوا لبعض، وهتفهم إنك عملت كده ليه آه، أنت غلطت من البداية، بس كله هيتحل ويرجع تاني.

اهدى، عشان خاطري… التوتر وحش ليك.


مسح معتز دموعه، وقال بصوت خافت:

– حاضر… سبني شوية، محتاج أرتاح وأنام.


ربت عليه الآخر بلطف، وقال:

– طيب يا حبيبي… ريّح شوية واهدى، وربنا يقومك بالسلامة.


خرج عاصم من الغرفة، يشتدّ بقبضته غضبًا مما فعلته.

وجد سيلا لا تزال منشغلة بالمكالمة، فأشار لها بحدة أن تُنهيها فورًا، وكانت نظراته كأنها تطلق نيرانًا صامتة.

أغلقت المكالمة على عجل، والتفتت نحوه بدهشة، وكادت تسأله، لكنه هجم عليها صارخًا، مشيرًا إلى رأسه بانفعال:


– انتي إيه! غبية؟ مش بتفهمي؟ ده مش بيفهم، أول ما طلب جريتي تكلميها! مش بترد؟ فضلتِ وراها! عجبك حالته دلوقتي؟


ازدردت ريقها، وحاولت أن تتماسك أمام صراخه، بينما دموعها تهدد بالسقوط. أجابت بشفاه مرتجفة تحاول أن تبقى طبيعية:


– مش قصدي، أنت شوفته بيقول عاوز يسمع صوتها بس!


استشاط غضبًا منها، تركها ودلف إلى الداخل مجددًا وهو يتمتم ساخرًا:


– غبية… مش بتفهم!


وقفت سيلا مذهولة، ثم غادرت المكان. وبينما تمسح دموعها، صادفها وليد الذي أنهى للتو مكالمته مع همسة. انتبه لحالتها فسألها بقلق:


– سيلا مالك؟ حد حصله حاجة؟


رفعت عيناها تحاول التماسك:


– لا، متقلقش… مفيش، كله كويس. بس أنا خارجة شوية، اتخنقت وقلت أتمشى.


رمقها بنظرة قلقة:


– مالك؟ حد زعلك؟ في حاجة؟


مسحت دموعها سريعًا وأجابت بكذب:


– مفيش والله، دي عيني أطرفت بس!


هز رأسه غير مقتنع:


– طيب، رايحة فين؟


– رايحة الكافيه أشرب حاجة وأرجع، متقلقش… يلا سلام.


تركت المكان، تتنفس ببطء محاولة تهدئة نفسها مما حدث. لم تتخيل يومًا أن يُرفع صوت عاصم في وجهها بتلك القسوة، ووسط الجميع…

تسللت دمعة غاضبة من عينيها، واتجهت نحو المقهى، جلست في ركن يطل على الشاطئ تمسح دموعها وتهمس لنفسها:


– برده ما يزعقش فيا كده… مش هكلمه تاني.


– وأهون عليكي يا جميل؟


جفلت من الصوت، رفعت عينيها، فإذا بعاصم يبتسم لها واضعًا كفه على كتفها. دفعت يده غاضبة:


– ملكش دعوة بيا، سيبني لوحدي دلوقتي.


جلس أمامها، يبتسم بعشق طفلته العنيدة:


– مقدرش أمشي واسيب بنوتي زعلانه مني. وليد قاللي إنك بتعيّطي، مقدرتش أتحمّل.


أدارت وجهها للجهة الأخرى، فضحك على حركتها، وقال:


– طيب، ينفع اللي عملتيه ده؟ قولي بذمتك.


نظرت حولها، ثم واجهته بخجل:


– الصراحة؟ لأ. اتسرعت فعلًا… قولت يمكن يحسّن نفسيته، بس ما توقعتش ينهار كده.


– طبيعي ينهار! محتاجين ناخد بالنا من نفسيته قبل العملية… وده مش وقته خالص، المفروض الجو يبقى هادي، لأن حالته بتتأثر.


أخرجت زفرة طويلة، فتابع يتأمل وجهها المنتفخ من البكاء:


– وأنا آسف، انفعلت عليكي… بس كنت بغمزلك وإنتي مش واخدة بالك.


– إيه ده؟ غمزتلي؟ والله ما خدت بالي. بجد كان نفسي تبقى موجود أصلاً، تكون دعم ليه، قُريب منه… وبرده أنا لسه زعلانة منك، على فكرة، ما تكلمنيش بقى!


قهقه بصوت عالٍ، واقترب منها:


– انتي اللي بتكلميني، مش أنا… حقك عليا، وهاتي راسك أبوسها.


– آه، أضحك عليا بالكلمتين دول؟ بكّاش أوي!


غمز لها وهو يرد ممازحًا:


– طيب كلمتين، طيب! والبوسة؟ أكلتيها؟! تعالي أصلّحك بطريقتي في بيتنا.


– بس يا قليل الأدب! إحنا في إيه ولا في إيه؟! مين هناك؟ عند معتز؟


غمز لها بوقاحة:

– وليد هناك… يلا.


رفعت حاجبها وضربته على يده:

– لمّ نفسك، نيتك مش صافية. بسأل علشان ما يكونش لوحده.


نهضا سويًا، وهي لا تزال تلاعبه وتدفعه في مزاح خفيف، وهو يغازلها كعادته، وفجأة شحب وجهها، وأمسكت بذراعه بشدة:

– عاصم… إلحقني….


أغلقت عينيها، وسقطت فاقدة الوعي بين ذراعيه. حملها في هلع وركض بها إلى المستشفى، دلف بها إلى قسم الطوارئ ووضعها على السرير المتنقّل، يصرخ في الأطباء لإنقاذها.


انتظر عاصم خروج الطبيب على أحرّ من الجمر، والتوتر بادٍ على ملامحه، يكاد قلبه يقفز من موضعه.

وبعد لحظات بدت كأنها دهر، خرج الطبيب، وكانت تقاسيم وجهه لا توحي بالطمأنينة.

هرول عاصم نحوه، يسابق أنفاسه، وهتف بقلق شديد:


– مالها يا دكتور؟ طمني… وقعت ليه؟


تطلع الطبيب إليه بهدوء وحذر:


– هنحتاج نعمل فحوصات وأشعة للاطمئنان، لأن تاريخها المرضي بيخليها عُرضة لرجوع اللوكيميا تاني… ربنا معاكم. هنبدأ نجهزها للفحص بعد شوية.


ربت الطبيب على كتفه بلطف، ثم غادر، تاركًا إياه في حالة من الذهول، وصمت. رهيب

ظل واقفًا لثوانٍ لا يدري على من يحزن أولًا، أخيه الذي يرقد بلا حراك، أم زوجته التي تنهار من جديد؟

أسرع إلى الداخل، اقترب منها بخطى مرتجفة، وجدها نائمة، تغمض جفنيها كأنها تهرب من هذا الواقع.

شعرت بوجوده، ففتحت عينيها ببطء، وما لبثت أن انهالت دموعها بلا انقطاع، عاجزة عن النظر إليه، خجلة مما وصلت إليه حالتها.


كان هو في عالم آخر، ترجِم عقله كلمات الطبيب كضربات مطرقة تهوي على قلبه وعقله معًا.

اقترب، ومد أنامله يمسح عبراتها، ثم انحنى يقبّل عينيها وهمس بحنان:


– هشش… كله هيعدي، ما تبكيش. مش عاوز أشوف دموعك. ده احتمال مش أكيد، ماشي؟ اهدي واقري قرآن عشان قلبك يطمن، وانا معاكي… مش هسيبك.


ازدردت ريقها بصعوبة، وكبحت ما تبقى من دموعها، وقالت بشفاه مرتجفة:


– أنا حالة ميؤوس منها خلاص… معدش ليا طاقة أتحمل تاني، كل اللي فات كفاية كده، بجد حرام… أنا تعبت والله.


سادت لحظة من الصمت، تطلعت خلالها إلى ملامحه الغاضبة، إلى ذلك العرق النابض بعنقه، وإلى شفتيه اللتين يضغط عليهما بأسنانه من شدة القهر، فهو لا يطيق ذرعا کی يصفعها على شفتيها التي تفوهت بالعديد من الترهات، تحررت الدموع من مقلتيها،

أرادت أن تتراجع، لكن دموعها خذلتها.


أفلت عاصم يدها التي كان يعتصرها، وجذبها إليه فجأة، ضامًّا إياها إلى صدره.

ربّت على رأسها بحنان، ثم قبّل جبهتها هامسًا، يخفي وراء صوته المطمئن أوجاعًا لا تنتهي:


– بلاش تضطريني أعاملك كده… بلاش تيأسي من رحمة ربنا، هتعدي وهتكون أحسن من الأول، ومعتز هيرجع، وإحنا هنرجع مجبورين بإذن الله.


وبعد قليل، حضر طاقم التمريض، وأخذها إلى الفحوصات، بينما بقي عاصم في مكانه، يضع راحة يده على وجهه، وقلبه يئنّ من الألم.

لم يحتمل فكرة خسارتها، أو خسارة معتز، فهما عالمه كله.

مسح دموعه سريعًا كي لا يراه أحد في ضعفه، ثم نهض متجهًا إلى الغرفة المجاورة، حيث يرقد معتز وبجواره وليد.


ما إن رآه وليد على تلك الحال حتى نهض مسرعًا نحوه:


– عاصم، إنت تعبان؟ تعال اقعد… أمال فين سيلا؟ ملقتهاش، ولا إيه؟


نظر عاصم إلى أخيه الراقد في سكون، ثم حول نظره إلى وليد وقال بصوت مبحوح:


– سيلا بتعمل أشعة وتحاليل… احتمال يكون رجع لها اللوكيميا، الدكتور شاكك.


تلقّى وليد الخبر كصفعة مباغتة، أغمض عينيه محاولًا استيعاب ما سمعه، ثم قال محاولًا تهدئته:


– كويس إننا هنا والدكتور موجود، إن شاء الله يكون شك بس، ومايكونش في حاجة… أجمد يا عاصم.


أطرق عاصم رأسه وتحدث بصوت منكسر:


– تعبان يا وليد… حاسس إن الدنيا كلها جايه عليا، وضاقت أوي في وشي… أخويا ومراتي مع بعض! مش قادر أستوعب. وهي؟ فقدت الشغف في كل حاجة، وأنا المفروض أهون عليها… طيب، ومين يهون عليا أنا؟! أنا مش عارف بقول إيه… أنا في دوامة… وخايف أخسر حد فيهم… أنا ممكن أم..وت بعديه.


ربت وليد على كتفه، قائلاً بإخلاص:


– عاصم، إنت كده ممكن تقع مننا… لازم ترتاح، وتبطل التفكير ده، وسيب الأمور لربنا… كله بإيده، ده ابتلاء، ليك ولمعتز ولسيلا أقولك؟ قوم روح نام لك ساعتين، وتعالى… إنت بقالك يومين مانمتش، وكنت خارج من مستشفى قبل كده كمان.


لكن عاصم هز رأسه رافضًا، وجلس مجددًا:


– استنى… مش هينفع، شوية وهتخلص الأشعة، ولازم أكون جنبها.


ابتسم وليد رغم قلقه ونهض مجددًا:


– طيب قوم نروح نتوضى ونصلي، أنا ما صليتش العشاء. تعالَ نصلي، دي قدامها ساعة لسه عقبال ما تخلص… يلا.


نهض عاصم بصحبة وليد، وغادرا معًا نحو المصلى، وكلٌّ منهما يحمل في صدره دعاءً ثقيلًا، وأملًا صغيرًا لا يزال يقاوم بين الضلوع، يتشبث بالحياة رغم الألم.


في مساءٍ لاحق، وبينما كانت مي تتناول عشاءها إلى جانب والدتها التي أحضرته لها بنفسها، نظرت الأم إلى وجه ابنتها بقلق يعلوه الحنان، وهتفت بنبرة هادئة:


– عاملة إيه يا حبيبتي عند مازن… ارتحتي له؟ شكله ابن ناس وعلى خلق… ولا إنتي رأيك إيه؟


رفعت مي نظرها إليها، ووضعت ما بيدها جانبًا، ثم نظرت إلى وجه والدتها نظرات تحمل في طياتها أكثر مما قيل:


– آه… هو كويس كطبيب، وارتحت له في الكلام كمريضة عنده… بس مش أكتر، يا ماما.


اتسعت عينا الأم قليلًا، وهتفت على الفور بنبرة مرتبكة:


– آه… أنا قصدي كطبيب وعلاج، مش حاجة تانية… ربنا ييسرلك أمورك يا حبيبتي، مش عاوزة حاجة من الدنيا دي قبل ما أمو..ت غير سعادتك.


ارتجف صوت مي خوفًا، وهتفت بلهفة:


– ألف بعد الشر عليكي يا أمي، ما تقوليش كده… ربنا يباركلي فيكي، أنا اتطمنت على نفسي، الحمد لله أنا بقيت أحسن بكتير عن الأول… بفضلكم كلكم.


ابتسمت لها والدتها برضا، ثم انتهيتا من الطعام.

نهضت الأم قائلة وهي ترفع الصحون:


– هعملك حاجة دافية، وأجبلك العلاج بتاعك يا ست الكل… ادخلي ريّحي شوية، وأنا جاية.


بعد قليل، وضعت الدواء والمشروب الخاص بها بجوارها، ثم اتجهت مي كعادتها إلى الشرفة، تمسك كوبها الدافئ وتجلس في ركنها المفضل، تحدّق أمامها بصمت.

كانت لا تزال تفكر في حديث الطبيب الأخير، وتربط بين كلماته، وتلك الرسائل الغامضة التي كانت تصِل إليها، وبدأ عقلها يشكّ في هوية المرسِل… هل يكون طليقها؟ أم أن الأمر أعمق من ذلك؟


شردت قليلًا وهي تتأمل السماء الصامتة، وفجأة… ظهر أمامها وجه الطبيب، مازن، يبتسم، ويرفع يده نحوها ممسكًا بكوبه، وكأنه يشاركها تلك اللحظة من الشرفة المقابلة.


فزعت، وكأنها رأت شبحًا… شهقت بقوة، وبصقت ما في فمها لا إراديًا، ثم بدأ السعال ينهش صدرها، ووجنتاها تلوّنتا بالاحمرار الشديد، حتى كادت أن تختنق من المفاجأة.


هدأت قليلًا، رمشت بعينيها مرات عدة، محاولة التأكد من أن ما تراه حقيقي، وها هو، لا يزال واقفًا هناك، ينظر إليها من شرفته، ثم ابتسم لها ودلف إلى الداخل.


عادت مي إلى رشدها، فهبت واقفة وهرولت إلى غرفتها مسرعة، تتمتم لنفسها بغيظ وخجل:


– إيه اللي جابه هنا ده؟! وإيه اللي أنا عملته؟! ده كأني شفت عفريت… لما أقابله هعرف يخربيتك يا مي، كنت هم..وت!


في صباح اليوم التالي، أنهت مي عملها ثم اتجهت إلى المركز الطبي، تنتظر دورها للدخول إلى جلستها المعتادة.

لاحظت امرأة تدخل قبلها وتتبادل همسات سريعة مع السكرتيرة، ثم خرجت الحالة السابقة، فتقدمت تلك المرأة مباشرة إلى الداخل، ما أثار غضب الحضور.

حينها، هتفت فتاة تجلس بالمكان بنبرة حاسمة:


– دي المدام يا جماعة… مش حالة.


صُدمت مي من حديث السكرتيرة، لكنها التزمت الصمت. لم يعد يهمها إن كان الطبيب متزوجًا أم لا، هي الآن مريضة جاءت للعلاج لا أكثر.


بعد دقائق، خرجت تلك المرأة من الغرفة، ووجهها منتفخ من أثر البكاء، ثم نادت السكرتيرة باسم مي، مشيرة إليها بالدخول.

تقدمت مي إلى الداخل، ألقت التحية وجلست أمام الطبيب، لكنها ما إن نظرت إليه حتى لاحظت ملامحه الغاضبة، وعِرقًا نابضًا في عنقه، وشفتين يضغط عليهما بأسنانه بقوة.


ارتبكت، وهتفت برجفة سرت في جسدها وهي تنهض من أمامه:


– أنا بقول نأجل الجلسة ليوم تاني… شكلك تعبان أو مرهق.


انتبه لحالته سريعًا، وأجابها معتذرًا وهو يشير لها بالجلوس مجددًا:


– لا، زي ما إحنا… آسف، ما خدتش بالي إنك دخلتي… اتفضلي.


جلست على مضض، ثم سألها بنبرة يختلط فيها الألم بالتردد:


– تحبي نعكس المرة دي؟ إيه رأيك؟


تطلعت إليه بعدم فهم:


– يعني إيه؟ وضّح.


نهض من مكانه واتجه إلى المقعد المائل، شغّل الكشاف الصغير، ثم جلس عليه وأشار لها أن تجلس مكانه:


– هقعد على الكرسي ده… وانتي اللي هتسمعيني المرة دي، ممكن؟

أنا آه طبيب… بس محتاج حد يسمعني، محتاج أفضفض… ممكن؟


ازدردت ريقها، ورفعت نظرها إلى عينيه، ثم هتفت بتردد:


– حضرتك بتقول إيه؟ متأكد إنك عايزني أنا اللي أسمعك؟ أصل… أصل من شوية مراتك يعني السكرتيرة أ…


قاطعها بابتسامة مشوبة بالسخرية، وهو يعود ببصره إلى ضوء الكشاف، ثم قال:


– قصدك طليقتي… اللي بعد الطلاق اتجوزت على طول، عشان أنا “ما بخلفش”.

ولما اكتشفت إنها هي اللي ما بتخلفش، راجعة دلوقتي تواجهني… ليه خبيت عليها؟ ليه ما قولتلهاش قبل الطلاق؟


سألته مي بفضولٍ حذر:


– ليه ما صارحتهاش بالحقيقة طيب؟


لوّح بابتسامة جانبية ساخرة، ثم قال:


– أخفيت عنها عشان كنت فاكر إنها أصيلة وبتحبني… زي ما كنت فاكر إني بحبها ومتمسك بيها.

إحنا كنا متجوزين عن قصة حب، وكنت خايف أجرح مشاعرها، تعيش حزينة أو تحس بالذنب…

أنا كنت مستعد أعيش من غير أطفال عشانها، ده إرادة ربنا، وقلت مش هتسبني، ولو العكس حصل، أكيد كانت هتتمسك بيا… لكن كنت غلطان، حسبتها غلط.


تنهد وهو يواصل:


– لما اتأكدت إنها صعب تنجب، بلغتها إن العيب مني أنا.

وفي يوم… رجعت من الشغل لقيت أبوها وأخوها قاعدين في البيت، كأنهم مستنييني.

قعدوا معايا وقالولي: بنتنا عاوزة تبقى أم، وده حقها… وزي ما دخلنا بالمعروف نخرج منه.

قلت لهم: أسمع الكلام ده منها هي… ما صدقتش وداني، لحد ما خرجت لي وقالتلي كلمتين عمرهم ما هيروحوا من دماغي:


أنا فكرت أختار بين الحب والأمومة… واخترت الأمومة. سيبني أحقق وأبقى أم.


سكت لحظة، ثم أكمل بصوتٍ منخفض:


– أنا اخترت الحب، لكنها هي… تخلّت عن حبنا

وفعلاً تم الطلاق، وبقالنا سنتين.


أطرق رأسه، متابعًا:


– كنت في حلم، نفسي حد يفوقني منه.

ماكانش عندي أهل أتكلم معاهم… أخويا ومراته مسافرين في دولة عربية، وأنا مليش حد.

قعدت فترة قافل على نفسي، مش مصدق اللي حصل، لحد ما رجعت شغلي واحدة واحدة… وقفت على رجلي من تاني.

لحد ما جات لي النهارده…


ابتلع مرارة حلقه، ثم أردف:


– جات تبكي… منهارة. بعد سنة ونص جواز، اكتشفت إن العيب منها، وجوزها للأسف طلقها… ورجعت لي تاني.


صمت فجأة، حين لاحظ أن مي أغلقت الكشاف الصغير، ثم سألته بهدوء:


– وإنت بقى… ناوي ترجعلها بعد كل ده؟


يتبع


لمتابعة باقي الروايه زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول 1من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني 2من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثالث 3من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا







تعليقات

التنقل السريع