القائمة الرئيسية

الصفحات

تابعنا من هنا

قصص بلا حدود
translation
English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل التاسع وعشرون 29الاخير بقلم شروق مصطفى حصريه

 


 


 

رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل التاسع وعشرون 29الاخير بقلم شروق مصطفى حصريه






رواية وأنصهر الجليد( الجزء الثالث)جمر الجليد الفصل التاسع وعشرون 29الاخير بقلم شروق مصطفى حصريه



 


الأخيرة من جزء الثالث♥



الفصل التاسع والعشرون جمر الجليد الجزء الثالث حصري بقلم شروق مصطفى


قررت مي أن تستقيل من الجريدة نهائيًا. لم تُرِد أي احتكاك أو معاتبة من أي نوع، ولم ترغب في خسارة صديقتها أيضًا؛ فقد رأت أن ذلك هو الحل الأمثل لها. ورغم حزن سيلا على هذا القرار، فإنها ارتضت به في النهاية.


اندمجت مي خلال تلك الفترة في قراءة بعض الروايات الإلكترونية، علّها تُحسّن من مزاجها وتشغل عقلها عن دوامة الأفكار. دلفت إلى الشرفة، ثم شردت قليلًا في هاتفها، واغرورقت عيناها بالدموع، وانسابت عبراتها في صمت.


وفجأة، قطع رنين هاتفها لحظة اندماجها. رفعت الهاتف وردّت بصوت حاولت إخراجه طبيعيًا:

ـ ألو، مازن.؟

فزع مازن بعد رؤيتها، وما إن دلف إلى الشرفة حتى وجدها تبكي:


ـ بتعيّطي ليه؟ حد حصله حاجة؟ أو عملّك حاجة؟ في إيه؟ طمنيني؟


نظرت له في العمارة المقابلة، تُعيد في عقلها كلماته، واستعادت صورة مرحها القديمة، على النقيض من حالتها الآن وقالت ببلاهة:


ـ أبدًا... أنا كنت بقرأ رواية اسمها صراع الحب والوهم اندمجت أوي فيها... بس ليه بتقول كدة؟


استشاط غضبًا لفعلتها، وخفق قلبه لرؤية دموعها، ظنًّا منه أن مكروهًا قد حدث. ضرب بيده على سور الشرفة بانفعال، ثم رفع أحد حاجبيه وهتف:


ـ كل المحزنة دي علشان بتقري رواية يا مي؟!


ـ آه... بسلي وقتي عادي يعني ويلا، اقفل بقى عشان أكمل. صقر عمل إيه مع مايا قبل ما أفصل من المود، أيه دا،  أنت بدور على اية؟


كان هو يكاد يُخرج الدخان من أذنيه لفعلتها، وجال بعينيه في شرفته باحثًا عن شيءٍ ما. حتى وجده، التقطه بيده، ثم فجأة، قذفه عليها، فأصاب شرفتها نظرًا لتقارب العمارتين من بعضهما، استمع لصرختها، وهي تنظر حولها في ذهول بحثًا عن الفاعل، فوجدته ينظر إليها مبتسمًا... بابتسامته الصفراء.


دبّت بقدميها على الأرض بغضب، وتهاتفه:

ـ والله ما هسيبك يا مازن! أبعد عني دلوقتي، فصيل بجد... هف!


هتف لها بمرح وهو يقهقه:

ـ أحسن! عشان انتي خوّفتيني، وفي الآخر تقولي رواية وبتاع ابقي وريني لو عرفتي تكمّليها.


نفخت وجنتيها وتركته في شرفته، ودخلت إلى الداخل:

ـ سيبتهالك أهو! حتى البلكونة مش عارفة أدخلها منك.


استمعت إلى حديثه بعدما هدأ قليلًا، ثم قالت له:

ـ مش بنزل، أنا سبت الشغل أصلًا بقالي أسبوع كده.


أراد أن يكسر الحاجز بينهما، فهتف إليها بشيء ما، فردّت:

ـ مش عارفة يا مازن، بجد. أنا أصلًا كنت بشتغل في المركز قبل كده هشوف هيثم لو فيه مكان متاح ليّا، يا ريت لأني زهقت من البيت... وحابة أنزل الشغل جدًا.

بعد أن استمعت إلى حديثه، هتفت بضيق:

ـ سكرتيرتك؟!




ـ مش عارفة... هفكّر، طيب، واردّ عليك.


هتف لها بصوت مسموع، يعلوه بعض المزاح الممزوج بالجدية:

ـ في إيه محتاج تفكير؟ الشغل موجود ومستنيكي، ومن بكرة كمان!

ولو عاوزاني أبلّغ هيثم، أنتي كده هتكوني قريبة منه.

ها؟ في إيه تاني؟ روحي كمّلي روايتك، اجري!

ومتتأخريش على شغلك، من بكرة الساعة واحدة الظهر، يلا اجري من قدامي بقى، عشان أكمّل باقي شغلي... عطلتيني بجد!


قهقهت مي على أسلوبه الذي يُلقي به كلماته، ثم أغلقت معه المكالمة، وتوجهت إلى والدتها لتتحدث معها.

وبعد أن قصّت عليها ما دار بينها وبين مازن، هتفت مترددة:

ـ ها يا ماما، إيه رأيك؟


أجابتها نبيلة بهدوء:

ـ اللي تشوفيه انتي.

عموماً يعني، الراجل ما شفناش منه حاجة وحشة، ووقف جنبك، وزميل أخوكي، وفي نفس المركز اللي كنتي فيه قبل كده، يعني مش جديد عليكي.

المهم، انتي هتكوني مرتاحة؟


تطلعت الأخرى بعينين زائغتين، لم تستطع الرد سريعًا، فقد كان عقلها مشغولًا بالكامل.

زفرت بعض الأنفاس الحارة، وقالت بصوت خافت:


ـ عارفة يا ماما؟ والله هو جدع وكل حاجة، ووقف جنبي، ما سبنيش في محنتي، ونفس ظروفي كمان...

بس مش عارفة أعمل إيه، بجد... عقلي مشتّت لسه.


ابتسمت والدتها، تربت على يدها بلطف، ثم قالت:

ـ قومي نامي، وبكرة شوفي هترسي على إيه.

ومتنسيش تصلي استخارة قبل ما تنامي.


هزت مي رأسها موافقة على كلام والدتها، ثم قبّلتها من جبينها، ونهضت قائلة:


ـ تسلمي يا ست الكل... يا رب اللي فيه الخير ربنا يجيبه بإذن الله.


في الجهة الأخرى، في منزل عاصم بالإسكندرية، دلفت سيلا برأسها إلى داخل المكتب، وابتسمت بمرح:

ـ ممكن أدخل؟


أشار بيده أن تدخل، وهو ما يزال ينظر إلى بعض الأوراق أمامه، وقال بنبرة هادئة:

ـ تعالي... قرّبت أخلص.


تطلعت إليه بحيرة، تفرك يديها في توتر، وقد أدرك هو اضطرابها.

ترك ما بين يديه من أوراق، ونظر في عينيها باهتمام وسكينة:


ـ مالك يا حبيبتي؟ فيه حاجة؟ شايفك متوترة... عايزة تقوليلي حاجة؟


ابتلعت ريقها بتردد، وقالت محاولة إخفاء ارتباكها:

ـ لا، مفيش... بس قولت أقعد معاك شوية، وحشتني... فيها حاجة دي؟


ابتسم بمكر وهو يغمض عينيه، مجبرًا نفسه على تصديقها، لكنه لم يقتنع تمامًا:

ـ لا، مفيش حاجة يا حبيبتي... بس قولي! عنيكي فاضحاكي، عيبك مش بتعرفي تخبي عليا، قولي.


غمغمت ببعض التردد، أخرجت أنفاسًا مكتومة، ثم زفرتها ببطء وهي تنظر له برجاء وتوسل:


ـ أنا فكرت في حاجة كده يعني...

إيه رأيك في التبني؟ بس نختاره رضيع صغير...نفسي بجد يا عاصم أحس بشعور الأمومة، ووقتي يتملي... نفسي أحس إني أم، ويقولي يا ماما... نفسي أسمع كلمة "ماما" أوي...إنت ليك معارف، ممكن تتوسط لنا...

ونتبنى... أرجوك يا عاصم، مترفضش ووافِق.




تابعت نظراته وردود أفعاله، تراقب حركة ملامحه... لكنها لم تستطع تفسير شيء، فوجهه ظل جامدًا.

زفر بعمق، ثم ابتسم لها نصف ابتسامة لم تصل إلى عينيه، جمع أوراقه، وأغلق الحاسوب، ثم نهض واقترب منها، جذبها من ذراعيها برفق، ووقف أمامها، يحتضن خصرها بتملك، وقرب أنفاسه منها، متحدثًا بهدوء:


ـ بس أنا عاوزه من صُلبي... ومنك إنتي.

بجد مش عاوز في الدنيا دي غيرك...

إنتي بنتي، وأمي، وأختي، ومراتي، وكل دنيتي. ولو شعورك ناحية الأمومة، إحنا ممكن نكفل يتيم. لكن التبني، حتى لو عندي واسطة أو معارف... حرام يا سيلا لكن الكفالة مش حرام، ومن بكرة ننزل نروح نكفل أي طفل.

ولو عاوزة خمسة كمان يا ستي!

روحي الدار يوميًا، اقعدي معاه، جيبي له مستلزماته، ونتحمل مصاريفه لحد ما يكبر...

ده اللي نقدر عليه، يا قلبي.


اختلطت أنفاسهما معًا، وقد ذابت مشاعرها من قربه وهمساته، لم يمنحها فرصة للرد، بل أخذها بين أحضانه في رحلة طويلة،

لم يتركها إلا عندما احتاجا إلى بعض الهواء.

تلامست نظراتهما، وعيناه تلمعان بشغف، ثم غمز لها بخفة:

ـ تعالي لما أقولك نعمل إيه في موضوعك... بس في أوضتنا!


دفعته بخفة من صدره:

ـ قليل الأدب! أنا غلطانة إني بكلمك في موضوع جاد.


قهقه عاليًا وهو يلاحقها بعينيه:

ـ الله! ما هو ده جاد برده، ولا مش جاد؟!

استني بس... رايحة فين؟


ركضت إلى الخارج، تشير له بيدها ساخرة، وجلست أمام التلفاز.

بعد قليل، خرج وجلس بجوارها، حاوطها بذراعيه وتحدث بمرح:


ـ مش عيب؟! تمشي وتسيبيني؟

مش قلنا نكمّل الموضوع؟ تهربي ليه؟ جبانة أوي!


كتمت ضحكتها وخجلها، وقالت:

ـ بس بقى... خليني أتابع المسلسل، ده جميل أوي.

"الحب لا يفهم الكلام"، البطل ده بحبه أوي، والبطلة كـ...


التفت لما تشاهده، ثم جذب الريموت وأغلق التلفاز. حاولت أن تأخذه منه، لكنه خبّأه وراء ظهره وهي تحاول الإمساك به:


ـ يووه يا عاصم! بطل برود بقى!

سبني أتفرج... قفلته ليه؟ هاته بقى، هزعل منك بجد!


بحركة سريعة، نهض فجأة، وأوقعها على الأريكة،ثم علاها مكبلًا يديها بمكر:


ـ مش عيب؟ تهربي مني وتيجي تتفرجي على البتاع ده؟

"الحب ما يفهمش الكلام دا" والواد الملزق ده؟!وجوزك جنبك؟

مش عايزك تجيبي سيرة راجل غيري...

لا الواد الملزق ده ولا تتفرجي عليه أصلاً... ماشي؟


حاولت التملص، لكنها لم تستطع.

تطلعت في عينيه، تحاول كتم ضحكتها:


ـ أنت بتغير؟! بس أنا معجبة بتمثيله، مش شكله.

هو أنا ناقصة ذنوب؟! إنت مكتفني كده ليه؟ مش عارفة أتحرك! سيبني بقى!


هز رأسه رافضًا، وقال بمكر:

ـ ما تستعبطيش... لا تمدحي شغله، ولا تجيبي سيرته! وكمان عاجبني الوضع كده!

مش إنتي بتهربي مني؟ اشربي بقى!

كنتي قايلة لي إنك بتغيري... منين؟ منين؟!



قال الأخيرة بصوت متفكر، تتحرك بعشوائية، وقد أدركت نواياه.قهقه بصوت عالٍ، ثم بدأ في دغدغتها:


ـ لا لا! أوعى يا عاصم! آه! بس خلاص، مش ههرب تاني، خلاص خلاص!


نهض من فوقها، يعدّل من ثيابه، ثم قال مبتسمًا:


ـ أيوه كده!

تعالي بقى... كنا بنقول إيه؟ في المكتب جوه!


وما إن فكّ عنها حصاره، هرولت بعيدًا وهي تضحك، فأشار لها بمكر وهو يتبعها:


ـ يا بت! تعالي هنا بقى... كده ماشي؟

مصيرك توقعي تحت إيدي!

أعمل إيه؟ بحبك وبموت فيكي يا طفلتي...


همس بها ثم دلف إلى غرفته، فوجدها نائمة على الفراش.

تمدّد إلى جانبها، واحتواها بذراعيه.

تمسّحت به كقطة، تشتم رائحته، وهمست:

ـ بحبك...

ردّ عليها، يربت على رأسها:

ـ بحبك...


ثم غفيا معًا إلى عالم الأحلام.

صباح اليوم التالي، داخل عيادة الطب النفسي بأحد المراكز الطبية،

جلس مازن ينتظر حضورها يترقب قدومها بفارغ الصبر. استقبل الحالات واحدة تلو الأخرى، حتى أشرف اليوم على نهايته. زفر بضيق عدة أنفاس متتالية، فقد غابت، ومجيئها اليوم كان سيكون بمثابة بداية جديدة لقصتهما معًا. كان ينتظرها بشوق، ومع تأخر الوقت أمسك بهاتفه واتصل بها، وما إن جاءه الرد حتى تحدث بنبرة عتاب امتزجت بالضيق:


– هو ده اللي اتفقنا عليه برده يا مي؟ ينفع اللي بتعمليه ده؟


استمع إلى أنفاسها المترددة، وحين طال صمتها، بالأخير جاءه ردها!!


فهتف بضيق:

– انتي شايفة كده يعني؟ ده اللي فهمتيه من كلامي طول الفترة دي كلها؟


صمتت قليلًا، ثم جاءه صوتها متوترًا:

– مازن، أنا مش بفكر في أي ارتباط خالص. لو لسه طلبك ليا موجود، أحب أقولك تلغيه تمامًا، لأن أنا معنديش حاجة أديها لحد.


أما في موضوع شغلك ليا، وتوفيرك وظيفة معاك، لو فاكر إن ده ممكن يقربنا من بعض، يبقى انت غلطان بس حبيت أوضح بعض النقاط عشان متستناش على الفاضي.

عارفة إن كلامي جارح، بس آسفة بجد... أنا مش مستعدة.


استمع إلى كلماتها حتى النهاية، ثم أجابها بصوت هادئ لكنه يحمل جرحًا خفيًا:


– على فكرة، أنا مش بوفرلك شغل عشان مستني منك حاجة...

أنا فعلاً محتاج سكرتيرة في عيادتي، أكون واثق فيها، ومش هلاقي غيرك أثق فيه

وأنتي كمان ما تنزليش أي شغل مع حد مش محل ثقة. ولو مش واثقة فيا، تمام، فهمت ردك.

بس أنا مش هضغط عليكي يا مي، عارف اللي مريتي بيه، ومقدر ده كله، لأنك شبهي للأسف.

هسيب الأيام تثبتلك كده.

وانتي عارفة كويس إني عمري ما هفرض عليكي حاجة فوق إرادتك أنا مضطر أقفل دلوقتي عندي حالة مع السلامة.


أنهى المكالمة، وألقى الهاتف بإهمال على الطاولة، لم تكن هناك أية حالة تنتظره كما ادّعى. أسند رأسه إلى المقعد وتمتم بصوتٍ خافت، كأنما يحدّث روحه التائهة



كل ما المسافة تقرب نبعد ونرجع من الصفر

ليه كل حاجة حلوة في حياتي لازم تيجي في الوقت الغلط.


مرّر يده على وجهه، يتنهد بعمق متمتمًا:

طب يا مي... ابعدي، بس أنا مش هبعد.

هفضل موجود... لحد ما تتأكدي إني مش شبهه، وإنك تستاهلي حد يحبك من غير ما يكسرك.


في الجهة الأخرى،

أغلقت مي الهاتف وهي تتنفس بضيق، ما أثار دهشة والدتها التي دلفت إليها قائلة:


– مالك يا مي؟ كنتِ بتكلمي مين؟ ووشك مقلوب كده ليه؟


هزّت مي رأسها نافية:


– مفيش... ده مازن... كان بيكلمني يشوف مجيتش ليه الشغل، وكان مضايق.

وأنا الصراحة، بعد تفكير طول الليل، مرضيتش أروح، عشان ميتعشمش فيّا أكتر.

خلّينا كده بعيد بعيد.

وبعدين إزاي بعد ما كان طبيبي، وحكيت له كل حاجة عني، أقدر أتعامل معاه تاني لأ، لأ... أنا كده صح أنا مش بفكر في أي ارتباط خالص دلوقتي.


ربّتت نبيلة على يد ابنتها، تخفي ابتسامة داخلية على حيرتها، وقالت بصوت دافئ:


– عموماً، صوابعك مش شبه بعض يا بنتي.

فيه الأناني، وفيه البخيل، وفيه الكريم، والمريض، والصاحب، والزوج في نفس الوقت.

ليه نوقف على الوحش بس، لما ممكن ربنا يبعَت لنا الحلو بعد المُر؟

ربنا بعد الابتلاء بيعوّض، وعوضك هيكون خير، أنا متفائلة.

سيبيها على الله انتي.


– ونِعْم بالله يا أمي... أنا راضية بنصيبي، الحمد لله، بس خايفة من التجربة تاني... خايفة من الفشل...

....


فتحت الباب ببطء وأدلت برأسها إلى الداخل.

وجدته جالسًا، وقد انشغل تمامًا بشاشة الحاسوب. شعر بوجودها، لكنه لم يتحدث، فقط أشار بيده مشيرًا إليها بالدخول.


– تعالي، حبيبي، عايزة إيه؟


حمحمت بتوتر وجلست أمامه، تدرك تمامًا ما سيكون رده على ما تنوي طلبه.


– حبيبي، عايزة أتكلم معاك شوية... وعارفة لما تدخل المكتب بتنشغل وقت طويل عني.


أغلق الحاسوب، وركّز نظراته عليها بحدة:


– ادخلي في الموضوع على طول، بلاش لف.


أخذت نفسًا عميقًا، ثم زفرته، مستعدة لخوض هذه المعركة معه:


– صراحة أنا زهقت من القعدة. أنت عارف إن شغلي كصحفية كان إيه بالنسبالي...


– تاني اللي هنعيده نزيده؟


قاطعها بملل واضح.


– يا عاصم، مش كل مرة تنهي النقاش بينا بالعصبية دي. بحاول أرجع لحياتي العملية وأشغل وقتي. بص، أنا مقدرة إنك خايف عليّا أتعب تاني، بس أحنا عملنا تحاليل، والدكتور أكد إني أقدر أمارس حياتي عادي وأنزل الشغل. ليه الخوف بقى؟


نفخ بضيق، ولم يبدِ أي اهتمام، وكأنها لم تتحدث. فتح الحاسوب مجددًا دون أن ينظر إليها.


استشاطت من بروده وتجاهله المستمر، وهتفت غاضبة:


– محتاجة أسلي وقتي. يومي طويل، وإنت دايمًا في الشركة طول النهار، وبالليل بتخلص شغل في المكتب. أفهمني، أنا من حقي كمان أشتغل. مش متعودة على القعدة كل ده.


– مش فاكرة تعبتي إزاي؟ بعد ما مي سابت الجريدة، والشغل تراكم عليكي ووقعتي مننا. اسكتي يا سيلا، هنزعل من بعض بجد...


قالها بنبرة لا تحتمل أي نقاش، ثم التفت لبعض الأوراق أمامه.


– ومين قال إني هتعب؟ دا شغل إداري، مش سفر وإرهاق. هقول لصاحب الجريدة مش هسافر. بليز وافق، محتاجة للشغل.


حرّك رأسه بيأس من عنادها، ولم يرد. فتوقفت بتذمّر، واضعة كلتا يديها على خصرها.


– بكلمك على فكرة، وبتناقش معاك. بلاش التجاهل دا معايا، وتبص لي من تحت لتحت. مش كل مرة ننهي الموضوع دا على فاضي...


أخرج أنفاسًا متمهلة، وهو يتطلع إليها محذّرًا:


– أنتي ناوية على خناق، مش كده؟


– لأ، مش كده. بس ممكن تسمعني وتفهمني؟ أنت من أول ما عرفتني وأنا بشتغل، مش حاجة لسه هجربها وجديدة.


لانَت ملامحه، فاسترسلت في حديثها وهي تمسك بكفّ يده بين راحتيها.


جلسا على الأريكة المقابلة للمكتب، واستمرت تخاطبه بنبرة مليئة بالمشاعر:


– عاصم، أنت علّمتني كل حاجة، ما سبتنيش. وقفتني على رجلي بعد ما كنت فاقدة كل حاجة.

أنت الدعم والسند لحد دلوقتي، ومحتاجاك جنبي بجد.

الوحدة اللي بحس بيها صعبة، لما تكون مش موجود، وانت غايب عني...

آه، أوقات همس أختي بتزورني هي وولادها وبيملوا عليّا اليوم،

بس في الآخر بيمشوا، وبافضل لوحدي... حاول تفهمني.


مدّ يده ليمسد شعرها القصير، متحدثًا بنبرة هادئة:


– حبيبي، أنا مش عاوز أتعبك، ده أولاً.

وثانيًا، وده الأهم، عاوز أرجع البيت ألاقيكي قدامي،

سواء في المطبخ واقفة تعمّليلنا أكلة، أو قاعدة تتفرجي، أو نايمة.

لازم أشوفك أول ما أرجع.

لو اشتغلتي، وأنا بشتغل، مش هنتقابل إلا في أوقات بسيطة جدًا،

وممكن ما نشوفش بعض كمان.


– عاصم، بجد عاوزة أشغل نفسي وأعمل حاجة.

طيب اقترحلي إنت، أعمل إيه؟ الفراغ مموّتني.


حاول أن يثنيها عن فكرتها، لكنه فشل، فاقترح أخيرًا:


– طيب، إيه رأيك تيجي تشتغلي معايا؟


– طيب، وأنا أعمل إيه عندكم؟

مش هفهم حاجة في شغلكم... أنا وشركات السياحة والطيران!


ابتسم، وقال بنبرة حاسمة:



– من الآخر يا سيلا، مش هخلّيكي تشتغلي بعيد عني.

يا توافقي نكون سوا، يا تفضلي زي ما إنتي كده.


– خلاص، خلاص... موافقة، المهم أنزل شغل!


هتفت بفرحة قبل أن يغيّر رأيه، ثم تمتمت بينها وبين نفسها:


– إنت اللي هتخسر بقرارك ده...


انتبه عاصم إلى همساتها:


– ها، بتقولي إيه يا حبيبتي؟


– لا أبدًا، بقول موافقة طبعًا...


– ماشي، حبيبتي. بُكره ننزل سوا وأعرّفك على كل حاجة.


توسطت بين ذراعيه وهمست:


– حاضر يا حبيبي، بحبك أوي...


خبّأت وجهها بين ذراعيه، بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة،

وفي عقله، كانت تتوالى أفكار كثيرة... لتطفيشها.


في الصباح، نهضا معًا، وقاما بتجهيز نفسيهما، ثم تناولا الإفطار سويًا.

حاول عاصم مجددًا أن يثنيها عن فكرة العمل:

– حبيبي، إيه رأيك آخد أجازة أسبوع ونسافر أي مكان نغيّر جو؟ طالما حاسة بملل وزهقانة.


فهمت ما يرمي إليه، فأجابته بمشاكسة وهي تبتسم:


– عاصم، أنا الشغل هو اللي هيطلعني من المود اللي فيه.

وبعدين، إنت مش حرمني من حاجة، ولسه جايين الشهر اللي فات من الغردقة.

أنا عاوزة أحس إني بعمل حاجة.

أكيد مش هكون زي زمان وشغل التنطيط من مكان للتاني،

يكفيني حتى إن يبقى ليا كيان وأحس بالاستقلالية، وأعمل كاريزما لنفسي كده!

وبعدين أنا وافقت أشتغل معاك، إيه رجعت في كلامك؟


ضحك ساخرًا وهو ينهض من على الكرسي:


– ماشي يا كارزما هانم، قدامي... هنتأخّر على الشركة!


داخل السيارة، كانت تتأمل الطريق وتحدثه بحماس:


– ياه، لو تخلّيني سكرتيرتك الخاصة!

أرتّب المواعيد، وأرد على الاتصالات، وأتعامل مع العملاء وكده...


أخفى ابتسامته خلف وجه جاد حتى لا تفضح نواياه:


– لا، إنتي مكانتك أعظم من إنك تكوني سكرتيرة... بس.


سيلا، وقد اشتعل حماسها:


– طيب قولي، هشتغل إيه معاك؟


عاصم وهو يقود:

– نوصل بس، وهفهمك... هتنبسطي أوي.


بعد قليل، وصلا إلى الشركة.

لكن عاصم توقف أولًا بمكتب السكرتارية، ثم طلب من سيلا أن تنتظره قليلاً في مكتبه حتى يلحق بها.


دلفت سيلا إلى الداخل، وبعد دقائق قليلة، دخل هو الآخر،

وابتسامة عريضة على وجهه:


– عجبتك الشركة؟


التفتت إليه بانبهار وابتسامة صادقة:


– حلوة أوي أوي! ومكتبك يجنّن!



رد بنظرات ماكرة وبنبرة واثقة:


– مممم... ومكتبك هيعجبك أوووي، متأكد.


كانت كلماته تنطق بتأكيد مبطن، لكنها لم تنتبه إليه،

بل صاحت بحماس وصفّقت بيديها:


– متحمسة أوي أشوفه!


عاصم مبتسمًا:


– أنا وصّيت السكرتيرة، وشوية وهتدخل تاخدك وتروحي تشوفيه، وهي هتفهمك كل حاجة.


وقفت بجوار مكتبه، وأسندت يدها إلى المقعد، تقترح:


– طيب، ما تخليني معاك هنا في نفس المكتب؟

أنا شايفة إنه كبير، بص دي...

(وأشارت إلى الأريكة المقابلة لمكتبه)

ملهاش لازمة، نشيلها و...


قاطع حديثها طرقات على الباب، تبعها دخول السكرتيرة، فقال عاصم بحزم:


– رضوى، خدي الأستاذة سيلا ووريها مكتبها، وفهميها المطلوب بالضبط.


ثم وجّه حديثه لسيلا:


– روحي معاها، وشوية وهجيلك.


خرجت مع رضوى، وسارا معًا نحو مكتبها.

لكن ما إن دلفت إلى الداخل، حتى وقفت مصدومة من موقعه. كان في آخر ممر جانبي، يكاد يكون بعيدًا عن كل شيء،

وبدا كما لو كان قبوًا تحت الأرض!


بدأت رضوى بشرح طبيعة عملها مبدئيًا،

لكن سيلا لم تكن معها، ولم تسمع شيئًا.

كانت نظراتها معلّقة بالمكان،

حتى غادرت رضوى دون أن تلاحظ تجاهل سيلا لها. ثم، انفجرت في حديث مع نفسها غير مصدقة:


– ماشي يا عاصم!

تجيبني في آخر مكان في الشركة؟ ده تحت الأرض ده ولا إيه؟

أعمل إيه في الأرشيف أنا بقى ده؟

(ثم قلدت صوته ساخرًة)

إنتي مكانك أعظم من إنك تكوني سكرتيرتي...

الأرشيف! آه، لو شفتك دلوقتي...


وقفت ومربعّة يديها، وزفرت بضيق،

حتى دلف إليها عاصم بوجه متصنّع البراءة، يخفي ضحكة تفضحه:


– حبيبي، عجبك مكتبك؟


تفاجأ بردّها، إذ توقّع أن ترفض،

لكنها واجهته ببرود يخفي بركانًا بداخلها:


– تحفة يا حبيبي... جميل! ده فعلًا أعظم من السكرتيرة! ممكن بقى تسيبني أشتغل؟


ابتسم بثقة، وقال:


– عايز أشوف شطارتك. أثبتي نفسك الأول هنا...


صرخت بتحدٍ وابتسامة عريضة:


– ماشي يا عاصم... وأنا مرحّبة جدًا!


---

غادر عاصم المكتب وقد أعطاها ظهره، فدبّت بقدميها على الأرض غاضبة، وجلست تتأمل المكان الذي بدا ضيقًا، يأخذ شكل حرف (L)، يضم ممرًا حادًا مليئًا بالأرفف الثقيلة التي تكدّست عليها ملفات ورقية عديدة. وضعت كفيها على وجنتيها، ونفخت بضيق وهي تجلس على ما يُطلق عليه مكتبًا، وهو بالكاد يكفيها.




قطع تذمّرها رنين الهاتف، فرفعت السماعة لتجد السكرتيرة على الخط، تخبرها بشيء، فردّت سيلا بدهشة:


– لأ، معملتش حاجة لسه!

قصدك أجمّع ملفات آخر تلات سنين؟

طيب، وليه؟ مش دا شغل المحاسب برضه؟ يشوف كسب كم خلال المدة دي؟


استمعت لردها، ثم تمتمت بفتور:

– تمام، حاضر...


أغلقت السماعة، لتبدأ في السباب الخافت، تشتم حظّها الذي أوقعها في هذا المأزق. كانت تهيّئ نفسها لنوع مختلف تمامًا من العمل.


"قال أعمل كاريزما! أنا كارزمتي ضاعت هنا بقى!

أنا أجمع وأحسب ليه؟ سنين فاتوا، مش خلصت وكسبوا ولا اتنيّلوا؟ أنا مالي؟!"


تمتمت في ضيق، تنفخ بحدة وهي تبحث عن تلك الملفات، حتى جذبت ثلاث مجموعات منها أمامها. قلبت الأوراق واحدة تلو الأخرى، ولم تفهم شيئًا مما تراه. أغلقتهن بعنف، ثم وضعت قدميها أعلى سطح المكتب، وأخذت تنظر لأعلى وتصفّر بلا مبالاة.


في الجانب الآخر، كان عاصم يجلس في مكتبه، يتابعها من خلال الحاسوب أمامه، حيث تظهر له عبر الكاميرات، يتأمّل ما تفعله من تذمّر واضح قهقه بصوت عالٍي:

– مجنونة يا سيلا...


ضحك طويلًا حتى دمعت عيناه، غير قادر على تمالك نفسه. وتذكّر، في لحظة شرود، ما مرا به سويًا من وجع وألم وخوف، وتلك الأيام التي تحملت فيها وحدها عبء المرض اللعين. قلّت عزيمتها حينها، لكنها لم تستسلم. يحمد الله الآن على وجودها بجانبه. لم تكن فقط زوجته، بل كانت ابنته، حبيبته، صديقته، وشريكة حياته التي أعادته إلى النور بعد عتمة طويلة.


لم يكن يومًا أنانيًا، لكنه الآن لا يريد لها أن تُرهق نفسها. يعلم كم حلمت بالأمومة، وكم تمنّيا ذلك معًا بعد سبع سنوات من الزواج. وهو يدرك تمامًا كم تشعر بالوحدة بداخلها، لكن خوفه عليها أكبر من كل أحلامها.


فاق من شروده حين لاحظ غيابها عن الكاميرا، جال بعينيه في الزاوية التي كانت بها، فلم يجدها. كاد أن يلتقط هاتفه ليطمئن عليها، لكنه فوجئ بمن يقتحم المكتب فجأة...


كانت سيلا، وقد فقدت صبرها تمامًا، دفعت الباب دون استئذان، واقفة أمامه تنظر إليه بشراسة.


– آه، قاعد مرتاح طبعًا، ومكيف ومروق، وسايبني تحت الأرض!

ثم قلدت صوته بسخرية "هشغلك معايا، مكانك أعظم من السكرتارية!"

بقى كده يا عاصم؟ دا مكاني عندك؟!


تغيّر صوتها من الغضب إلى رجفة قريبة من البكاء، فتوقّف عن الضحك، واقترب منها بعينين يغمرهما العتاب، يحاول أن يُخفي خوفه الشديد عليها.

لم يكن يريد سوى إبعادها عن المشقّة، من دون أن يُخبرها بما قاله الطبيب بشأن حالتها.

كان يعلم أنها ستغرق في الحزن، وقد قرر أن يلهو معها قليلًا اليوم، لكن يبدو أن طفلته لم تصبر...




– فعلاً... مكانك أعظم عندي،

مش مجرد أرشيف، ولا سكرتارية...وأشار إلى صدره مكانك هنا... وبس.


أنهى كلماته وهو يتأمل شفتيها، ثم انحنى يُقبّلها متذوقًا رحيقها.

فتحت عينيها مذعورة، تحاول الابتعاد وقد أدركت أنهما في مكان العمل، لكنّه لم يسمح لها.


ارتجفت وهي في أحضانه، أنفاسه الساخنة تداعب عنقها،

اندمجت معه وتناسيا كل ما حولهما،

حتى ابتعدا قليلًا، يلتقطان أنفاسهما،

وظلّ يتأمل عينيها، بينما عضّت على شفتيها بحرج،

وهمست بخفوت:


في مكتب المدير، وقف عاصم أمامها بينما كانت هي تلتفت حولها بقلق، همست بصوت مرتجف:


– عاصم... إحنا في الشركة، عيب كده... حد ممكن يدخل!


رفع أحد حاجبيه في مكر، وعيناه تتفحصان ملامحها بشغف:


– مش كل الناس زيك يا حبيبتي تدخل، دا مكتب المدير...


بدت وكأنها تذكرت للتو الغرض الذي جاءت من أجله، ونظرت له بتوتر ممزوج بعتاب. كم هو ماكر، يعرف كيف يشتّت انتباهها:


– ما تنسنيش اللي جايه عشانه يا عاصم... أنا مش هينفع هنا، أنا عايزة أرجع شغلي كصحفية، دا مش مكاني...


اقترب منها خطوة، بينما تراجعت هي إلى أن التصقت بالحائط. قال بمكر، ونظراته لا تفارق عينيها:


– تصدقي؟ كان عندك حق فعلاً إنك تشتغلي سكرتيرتي... إنتي مكانك هنا فعلاً...


انحنى برأسه وطبع على شفتيها قبلة صغيرة، أربكتها، فاندفعت بعناد بعدما أفلتت من بين ذراعيه:


– لأ، أنا غيرت رأيي أنا كمان، ماله الأرشيف! بقول أروح أكمل شغلي، لأحسن المدير عصبي... أنا ماشية، دا ما صدق دا ولا إيه...


كادت تخرج، لكنه سحبها إليه بذراعيه وأعادها إلى الداخل، وهو يضحك:


– تعالي يا بت هنا، رايحة فين؟ قولت خلاص، هشيل الكنبة دي، ملهاش لازمة... خلاص، هتفضلي هنا، في تكييف بقى، معايا وكده...


غمز لها بعينيه وأجلسها أمامه، ثم عاد إلى مقعده. نظرت له وقالت بصوت خافت:


– خلاص يا عاصم، هرجع مكاني، مش عايزة أعطلك...


– لأ، ما إنتي عطلتيني خلاص، أحلى عطلة دي ولا إيه...


أحمرّ وجهها خجلًا من تصرفاته، ومن نظراته التي لا تهدأ، ومن ابتساماته التي تعشقها... كم تتمنى أن تسعده، بل وتحمل في أحشائها طفلًا يشبهه.


ساد الصمت لحظات، ثم بدّد عاصم السكون بصوت جاد:


– سيلا، أنا كنت بعكسك مش أكتر، لكن من بكرة هتلاقي مكتبك هنا، معايا... مقدرش تغيبي عن عيني، بعيد...


نظرت له باندهاش، وتساءلت:


– يا سلام! يعني لو ماكنتش جيت وقلتلك، كنت هتخليني هنا برده؟



ابتسم وطلب منها الاقتراب:


– تعالي بصي كده...


قلب شاشة الحاسوب إلى موقع الأرشيف، ثم قال:


– أنا كنت شايفك من هنا، ومستنيكي تيجي... وأهو حصل.


ضحكت وهي تتذكر أيامهما الأولى:


– أه منك، لسه فيك الحركات دي، برغم إنك تقاعدت عن شغلك خلاص... فاكر يا عاصم لما هربتني من البلد؟ وخطفتني بره؟ وأنا أعمل كل مصيبة والتانية، وتكشفني بسهولة؟ وأنا أبدًا ما أتعلمش؟... أه منك...


قهقهت وهي تردد الذكريات، لكن سرعان ما غيّر نبرته إلى الجدية:


– سيلا، مش عايز أفتكر الأمور دي... أنا اتغيرت بسببك. كنتي المفتاح اللي فتح قلبي، ونور حياتي... كانت لمسة منك كفيلة ترجّع قلبي ينبض من جديد. لما بفتكر اللي حصل، واللي عملته... قلبي بيوجعني، بلاش يا سيلا...


همست، وقد بدا الندم على ملامحها:


– أنا كنت عنيدة يا عاصم... إنت كنت بتحميني، ماكنتش أعرف إني كنت مهددة فعلاً بالتصفية، ما استوعبتش وقتها... كنت شايفة إنك شخص بيبعدني عن أعز صديقة ليا، فهاجمتك، وعاندت... لكن انت كنت بتنفذ واجبك لحمايتي. إحنا عيشنا أوقات صعبة جداً، وعدّينا كتير... الحمد لله على كل حال، مش قصدي أضايقك ولا أوجعك...


تنهدت، وتابعت:


– عاصم، أنا عايزة أقولك... إنك كل حاجة في حياتي، سندي وظهري... بس لما شوفت الكاميرا دي، افتكرت أيام زمان، واللي عشناه سوا... كنا قط وفار...


نهض عاصم وهو يجمع أوراقه، ثم نظر لها قائلاً بابتسامة دافئة:


– طيب، بما إنك طالبة ذكريات، تعالي نروح مطعم نتغدى... أنا جعت، يلا بينا...


بعد قليل، جلسا يتناولان الطعام في هدوء، لكن نظرات العشق التي تبادلاها كانت تفضح ما تخفيه قلوبهما. لم تصدق سيلا أن كل ما مرّ بهما أصبح من الماضي، وكأن حكايتهم لا تُصدّق. عشقهم لو روي، لصنعوا منه كتابًا وسمّوه "جمر الجليد". هو كالجليد، وهي الجمر... لكن الله وضع بذرة صغيرة في طريقهما، تحوّلت إلى نار عشق ولوعة لا تنطفئ.


لاحظ عاصم تغيرات غريبة في ملامحها، فسأل بقلق:


– مالك يا سيلا؟


هتفت الأخرى بنفور مفاجئ من الطعام:


– مش عارفة، مش متقبلة الأكل... حاسة معدتي مقلوبة، أو هو زفر.


ذاق بعض اللقيمات من صحنها ذاته، وقال مطمئنًا:


– لأ، مش زفر خالص. دا مطعم السمك اللي بتحبيه، وذوّقت الأكل، مفيش حاجة... طيب اشربي شوربة السي فود، جميلة.


لكنها أبعدت الطبق في ضيق:


– مش حلو يا عاصم، قولت زفر! كل شوية هعيد كلامي يعني؟ أنا هستناك في العربية لحد ما تخلص.




نهضت غاضبة، وتركت الطاولة مغادرة المكان. دُهش عاصم من تصرفها المفاجئ، فقام سريعًا، دفع الحساب، ثم لحق بها. ركب السيارة، وأدار المفاتيح، وهتف بحدّة:


– ممكن أعرف إيه اللي عملتيه جوه دا؟ أسميه إيه؟


– مش هكرر كلام تاني، الأكل وحش، قالتها وهي تنفخ بضيق.


صاح بصوتٍ عالٍ، وقد بدأ يفقد صبره:


– سيلا، إيه الجنان المفاجئ دا؟ شكلي دلعتك أوي!


أدارت وجهها ناحية النافذة، تستنشق بعض الهواء الطبيعي، فمدّ يده وأغلقها مشغّلًا المكيف. عاندته، ففتحت النافذة من جديد، فزاد غيظه، وأغلقها مرة أخرى، وأعاد تشغيل المكيف. نظرت له من جانب عينيها، وأعادت فتح النافذة، فوقف بالسيارة جانبًا، والتفت إليها قائلًا:


– بت، مالك؟ إيه الجنان دا؟ عارفة يا سيلا، لو شغل الجنان دا عشان أقولك مش هاخدك معايا الشغل تاني، ارجعي شغلك دا بعينك. فنهدأ كده بدل ما أقولك مفيش نزول خالص، ماشي؟!


كانت كلماته الأخيرة مصحوبة بنبرة غاضبة، كأنما فقد السيطرة على أعصابه. وفجأة، انفجرت سيلا في البكاء. انخلع قلبه من هيئتها، وتنهد بضيق، يمرّر أصابعه في شعره من توتره. هدأ حاله قليلًا، ثم التفت نحوها بنبرة حانية:


– يا سيلا، ممكن أعرف مالك؟ أنتي هتجننيني! ما كنا حلوين الصبح... تعالي.


ضمّها إلى صدره، يمسّد على ظهرها ليهدئ من روعها. تطلعت إليه من بين دموعها، وقد تذكرت موقفًا قديمًا جمعهما في السيارة ذاتها، فابتسمت وسط بكائها وقالت:


– فاكر يا عاصم الظابط اللي قفشك في العربية؟ وقالك "رخصك فين؟"، لما كنت معاك كده برضه؟ وقالك "دا فعل فاضح في الطريق العام"...


قهقهت بصوت عالٍ وهي تبتعد عن أحضانه، لا تزال تذكر الموقف، وتضحك رغم ما كانت تشعر به. ضحك معها عاصم، متذكرًا كيف أخرج كارنيه الخدمة الخاص به حينها، وسمح له الضابط بالمرور.


أمسك بياقة فستانها مداعبًا، وقال وهو يضحك:


– يا بنت المجنونة، منين بتعيّطي وبتضحكي؟


ضرب كفّه بكفّه، وأدار المقود، متجهًا إلى منزلهما. ساد الصمت بينهما، إذ لم يفهم بعد ما جرى، حتى وصلا.


دخل إلى الغرفة، أبدل ثيابه بشورت، تاركًا جسده العلوي عاريًا. دخلت بعده وقد أخذت حمامًا باردًا ينعشها بعد يوم طويل. لم تكن تفهم بعد ما يحدث لها. أرادت أن تبكي فبكت، والآن غلبها النعاس بشدة. اقتربت منه، وأسندت رأسها على ذراعيه، فضمّها إليه بحنان، وطبع قبلة على جبينها. لم تمر دقائق، وكانت قد غفت بين ذراعيه، فلم يلحق حتى أن يحادثها...

-

في صباح اليوم التالي، استيقظ مبكرًا كعادته، وجدها لا تزال نائمة، اقترب منها ووضع قبلة خفيفة على جبينها دون أن يوقظها. ثم دلف إلى الحمام، أخذ حمامًا باردًا، وما إن خرج، حتى وجدها جالسة على الفراش، وآثار النوم ما زالت عالقة بجفنيها، تتأوّب بكسل وهي تقول:



– صباح الخير يا حبيبي، هقوم حالًا ألبس.


ردّ عليها وهو يلتقط منشفة صغيرة:


– خليكي كمّلي نوم، وخدي أجازة النهارده. ابدأي من بكرة لو حاسة إنك تعبانة.


نهضت على مهل، واقتربت منه تعانقه وتهمس بدلال:


– لأ لأ، أنا لازم أنزل... أصل المدير بتاعي صعب خالص ومقدرش أغيب عنه، قصدي شغلي...


غمزت بعينيها بعدما طبعت قبلة على وجنتيه، ثم توجهت إلى الحمام. تابعها ببصره وهو يحرك رأسه في صمت، وكأن لا حيلة له أمام مزاجها المتقلّب.


داخل المكتب، كان قد جهّز لها مكتبها الملحق بجانب مكتبه الخاص، وجلس منهمكًا في إنهاء الأعمال المتراكمة، خاصة مع غياب كلٍ من أخيه معتز، وابن عمه وليد. لم يلتفت لها كثيرًا، فانشغل بمتابعة الكشوفات والمحاسبات التي لم تكن تفهم منها شيئًا، مما دفعها للتأفف بصوتٍ خافت.


أسندت ذراعيها على المكتب، ووضعت رأسها عليه، وغفت دون أن تشعر. مرّ الوقت، وعندما انتبه لها، ابتسم تلقائيًا على هيئتها. أنهى ما بيده، ثم نهض مقتربًا منها. اعتدلت من نومتها، تتأوّب وهي تقول:


– خلصت؟ يلا بينا...


– يلا. ليه حاسس إني جايب بنت أختي معايا؟... أووه! مسكتك!!


اختل توازنها فجأة، فأمسك بها قبل أن تسقط، وأسندها برفق حتى صعدت إلى السيارة. ما إن جلست، حتى أرجعت المقعد إلى الوراء، وأكملت غفوتها.


– مش عارف أنا شغل إيه دا بس... ما كانت نامت في بيتها أريح، تمتم بها ساخرًا وهو يقود السيارة في طريق العودة إلى المنزل.


في صباح اليوم الثالث، استيقظ ولم يجدها إلى جواره. أنهى حمامه، وارتدى ملابس أنيقة: بنطال بيج، وقميص أبيض، ثم نثر عطره المفضل، وغادر الغرفة.


وجدها في المطبخ بكامل أناقتها، وقد حضرت الإفطار. استقبلته بابتسامة عريضة قائلة:


– صباح الخير يا حبيبي! شوفت النشاط؟ صاحية قبلك، وجاهزة كمان!


– آه طبعًا، حبيبتي نشيطة جدًا، ردّ وهو يقترب منها يطبع قبلة على جبينها.


– ثواني والقهوة تجهز...


– خلي دادا سعاد تعملها، وتعالي نفطر سوا.


– ماشي.

……… . … .  …… ..  … ….…… ... 

داخل المكتب، جلست إلى جواره، تتابع ما يقوم به، تراقب الأوراق وتدقيقاته، فشرع يشرح لها خطوات عمله. وبإشرافه، بدأت في تنظيم بعض الملفات وترتيبها في أماكنها المخصصة.


– الملف دا كمان، إحفظيه مع التانيين، وخلاص كده شغل النهاردة خفيف.


نهضت لتحفظه، لكن فجأة، شعرت بدوار حاد. تراخت قدماها حتى أصبحتا كالهلام، لم تسعفها يداها لتسند المقعد، فسقطت مغشيًا عليها.




انتفض فزعًا، وهرع نحوها، جاثيًا على ركبتيه، رفعها بين ذراعيه وأجلسها على المقعد محاولًا إفاقتها، يربّت على وجنتيها بلطف وهو يهتف:


– سيلا! سيلا في إيه؟ مالك؟ فوقي يا حبيبتي…


لم ينتظر أكثر. حملها سريعًا بين ذراعيه، وخرج بها راكضًا خارج المكتب، ليقف موظفو الشركة مذهولين من المشهد الذي أمامهم.


فتح باب السيارة، أراحها على المقعد الخلفي، ثم قاد بسرعة جنونية نحو أقرب مشفى. وما إن وصل، حتى تولّى الطاقم الطبي أمرها، وتم نقلها إلى غرفة الفحص، بينما بقي هو بالخارج، يسير ذهابًا وإيابًا في الممر، أعصابه تالفة، يلوم نفسه على إنهاكها اليوم.


وبعد قليل، خرج الطبيب، فهرع إليه عاصم يسأله بلهفة:


– مالها يا دكتور؟ طمّني! فاقت، صح؟


– اطمن، هي بخير. علّقنا لها محاليل، ضغطها كان واطي شوية، وده سبب الإغماءة. بس هي محتاجة تغذية، عندها أنيميا، وده خطر على الجنين…


– تمام، ممكن أشـ…


توقّف فجأة، وكرّر في ذهول:


– قولت إيه؟ جنين؟ متأكد يا دكتور؟!!!


ابتسم الطبيب بهدوء:


– مبروك، المدام حامل في تلات أسابيع. زي ما قلتلك، محتاجة تغذية كويسة جدًا، عندها أنيميا. هسيب لك الروشتة فيها الفيتامينات اللازمة، وتتابع مع دكتور مختص من دلوقتي.


تركه الطبيب ودلف عاصم إلى الغرفة بخطوات متسارعة، فوجدها جالسة على السرير، تمسك بطنها، وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة. اقترب منها واحتضنها بقوة، يُقبّل وجهها في كل موضع وهو يبكي، يهمس بالحمد والشكر، بينما بادلته العناق، تبكي بدورها، شوقًا وفرحًا. طالما دعَت الله في سُجودها، أن يرزقها، وها هو قد استجاب، بعد سبع سنوات من الانتظار.


جلس إلى جوارها، ومسح دموعها بأنامله، ثم أخذ يُقبّل كل دمعة تسيل منها بشغف وامتنان، يردد من قلبه:


– الحمدلله، الحمدلله يا رب... مش لاقي كلام أقوله، ألف حمد وشكر ليك يا رب.


نظرت إليه وهي تهمس بذهول:


– عاصم، أنا مش مصدقة... أنا مش بحلم، صح؟


– لأ، مش حلم. ومش عاوز أشوف دموعك. الحمدلله، ربنا رضانا، وكمان كام شهر، هييجي فرد جديد ينور حياتنا.


– عشان كده كنت متقلبة اليومين اللي فاتوا! جننتيني... تضحكي، تعيّطي، تنامي فجأة... أنا شكّيت فيكي.


– يعني عايز تقول إني مجنونة؟


– وأحلى مجنونة بحبك…


تمت بقلم شروق مصطفى

انتهت حكاية مي ومعتز ماكنش فراقهم لحظة غضب، ولا قرار لحظي... كان نهاية طبيعية لحب اتوجع واتكسر كتير.

مي سامحته كتير، وصبرت أكتر، وشالت فوق طاقتها سنين.

كانت بتشوفه بعين القلب حتى وهو عاجز، فمستحيل كانت هتتخلى عنه وهو مريض.

المشكلة كانت في تفكيره، في أنانيته.

هو اختار نفسه، ومي أخيرًا اختارت نفسها.


دلوقتي مي مش مستعدة تبدأ من جديد.

مش علشان قلبها اتقفل، لكن علشان لسه بتجمع شتاتها،

بتقفل كل باب قديم، وبتلم جراحها واحدة واحدة.

الحب ماينفعش يدخل قلب مكسور، ولا طريق يتبني على أرض لسه بتهتز.


لما تبقى مي قوية تاني، لما تحس إنها فعلاً استردت نفسها،

ساعتها بس ممكن تفكر تفتح باب جديد...

لكن لحد اللحظة دي، حكايتها مع معتز انتهت... وبكرامتها.

بعض القلوب يربطها رباط قوي ومتين، لا يستطيع أحد كسره، وإن ارتخى أحد طرفيه، أمسك الطرف الآخر به بشدة حتى النهاية. فحبّهم هو أقوى ما يجمعهم، مثل عاصم وسيلا.

ورغم توفر المادة، إلا أن بعض النواقص في حياتهما لم تكتمل، لكن رباط الحب ظلّ أقوى.


وهناك من تفرّقوا، لأن الرباط بينهم كان هشًا وضعيفًا، وأنانية أحدهم مزّقته بيديه، ثم ندم على ما اقترفه... كما فعل معتز مع زوجته.


وآخرون، ينعمون ببعض الاستقرار والأمان، مثل همسة ووليد؛ فمركبهم تسير بهدوء وسط بحار الحياة.

تمت 

لمتابعة  الروايه الجديده زورو قناتنا علي التليجرام من هناااااااااا

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات عمل 

متابعه لصفحتنا على فيس بوك هنااااااااااا

الرواية كامله الجزء الاول 1من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثاني 2من هناااااااااا

الرواية كامله الجزء الثالث 3من هناااااااااا

مجمع الروايات الكامله 1اضغط هناااااااا

مجمع الروايات الكاملة 2 اضغط هنااااااا










تعليقات

التنقل السريع